إسلام ويب

أسير في قيد .. دروس وعبرللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الرفق والإحسان إلى الخلق له تأثير عجيب في الدعوة إلى الله عز وجل، وما ذاك إلا لأن المقصود بالدعوة رحمة الناس والإشفاق عليهم، وقد تجلى ذلك صريحاً في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فبرفقه ورحمته دخل الناس في دين الله أفواجاً، والوقائع التي تشهد لذلك يصعب حصرها، ومن تلك الوقائع قصة إسلام ثمامة بن أثال رضي الله عنه.

    1.   

    الدروس والعبر المستفادة من قصة أسر ثمامة بن أثال

    إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً. وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (أسير فى القيد.. دروس وعبر) هذا هو عنوان لقائنا هذا، وسوف أركز الحديث تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: الرفق والإحسان إلى الناس يُحوِّلانِ البغض إلى حب. ثانياً: سيرة حافلة بالدروس والعبر. ثالثاً: عودة واجبة. فأعيرونى القلوب والأسماع. والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

    عظيم أثر الرفق والإحسان في الدعوة إلى الله

    أولاً: الرفق والإحسان إلى الناس يحولان البغض إلى حب. أحبتي في الله! روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبل نجد -أي: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية عسكرية استطلاعية ناحية نجد -وكانت هذه السرية بقيادة محمد بن مسلمة - فجاءت هذه السرية برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربط هذا الرجل في سارية من سواري المسجد -أي: عمود من أعمدة المسجد- وهم لا يعرفونه، وثمامة قيل من أقيال العرب، وسيد من أسياد العرب، وشريف من أشرافهم، أسروه وهو في طريقه إلى العمرة، ولكن كان على الشرك بالله جل وعلا، وأدخلوه إلى المسجد، وربطوه في عمود من أعمدة المسجد النبوي، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم رآه فعرفه، وفى رواية ابن هشام : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ألا تعرفون هذا؟! إنه ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يحسنوا إليه. وفي رواية الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليه فقال: (ماذا عندك يا ثمامة؟! قال: عندي خير يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان الغد خرج عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة ؟! قال: عندي ما قلت لك: إن تقتل تقتل ذا دام، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعد الغد خرج عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي ما قلت لك: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة) أي: لا نريد مالاً ولا نريد شيئاً. فأطلقه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق ثمامة إلى نخل قريب من المسجد النبوي فاغتسل، وعاد إلى المسجد، ورفع صوته وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والتفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهُك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان على الأرض دين أبغض إليّ من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين إليّ، والله ما كان على الأرض بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد إليَّ، ثم قال: يا رسول الله! لقد أخذتني خيلك وأنا أريد العمرة فبماذا تأمرني؟ فبشره النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر. قال الحافظ ابن حجر : بشره بخيري الدنيا والآخرة، أو بشره بالجنة، أو بشره بتكفير سيئاته؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله. فلما دخل مكة قال له قائل: أصبأت يا ثمامة؟! أي: هل تركت دين آبائك وأجدادك وتبعت محمداً على دينه؟! فقال: لا، ولكني أسلمتُ مع محمد رسول الله، ثم التفت إليهم وقال: والله! لا تأتيكم من اليمامة حبةُ حنطةٍ -أي حبة قمح- حتى يأذن فيها رسول الله! وفي رواية ابن هشام : أن ثمامة لما وصل بطن مكة رفع صوته بالتلبية، فكان أول من لبى وجهر بالتلبية في مكة، فلما رأى المشركون رجلاً يتحداهم بهذه الصورة العلنية الجريئة قالوا: من هذا الذي يجترئ علينا ويرفع صوته بالتلبية في بلادنا وديارنا ويردد الكلمات التي يُعَلِمُهَا محمدٌ لأصحابه؟! فانقضوا عليه، وأرادوا أن يضربوا رأسه، فقال أحدهم: ألا تعرفون من هذا؟! إنه ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، وأنتم تحتاجون إلى اليمامة في طعامكم، فخلوا سبيل الرجل، فالتفت ثمامة إليهم وقال: والله! لا تأتيكم حبة حنطة من اليمامة إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم! وفي هذا قال بعض بني حنيفة: ومنا الذي لبى بمكة معلناً برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم أيها الأحبة الكرام! إنه مشهد بالغ الروعة، وأنا اعترف بداية أنني أعجز عن أن أصور روعته وعظمته وجلاله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة والنعمة المسداه، لا للموحدين فحسب بل للمشركين وللعالمين، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (رسول الله رحمة للبار والفاجر، فمن آمن به تمت له النعمة، وتمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن كفر به أمن من عذاب الدنيا حتى يلقى الله في الآخرة، مصداقاً لقول الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]). وتدبر هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة قالت: يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لقد لقيت من قومك ما لقيت يا عائشة ! وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال) وهو شريف من أشراف أهل الطائف، ولكنه رفض دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وسلط الصبيان والسفهاء على الحبيب، فرموه بالحجارة حتى سالت الدماء من جسده الطاهر، (فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب) وهو مكان يبعد عن الطائف بما لا يقل عن خمسة كيلو مترات، (فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، ولقد أرسل الله إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئت فيهم يا رسول الله! فناداني ملك الجبال فسلم عليّ وقال: يا رسول الله! لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت. فقال المصطفى: لا، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً)، وفي رواية مسلم لما قيل له: ادع على المشركين. قال: المصطفى صلى الله عليه وسلم (إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة). أيها المسلمون! تدبروا كيف حَوَّل الرفق والإحسان البُغض المتأصل في قلب ثمامة إلى حب جياش فياض!!. ثمامة بن أثال دبر لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة خرج إلى مكة ليعتمر قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك! فأبى الله جل وعلا إلا أن يلبي تلبية الموحدين، فسبحان من بيده القلوب يحولها كيف يشاء! قال تعالى:وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]. ثمامة أُسر ورُبط في المسجد، وقد ترجم عليه البخاري باباً يُجوّز فيه أن يدخل المشرك إلى المسجد، وأبى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يظل ثمامة فى المسجد النبوي؛ ليرى ثمامة بعينيه، وليسمع بأذنيه عظمة هذا الدين.. ليرى النبي بنفسه، وليسمع كلام النبي، وليرى أخلاقه، فلما رأى ثمامة رفق النبي صلى الله عليه وسلم وإحسانه وأخلاقه؛ تحول البغض في قلبه إلى حب فياض، فهو الذي قال: (والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي!). أيها المسلمون! لابد من أن نعي هذا الدرس، ونعلم أن العنف يهدم ولا يبني، والشدة تفسد ولا تصلح، وأن الرفق والإحسان إلى الناس هو الذي يحول البغض فى القلوب إلى محبة صادقة فياضة، فما أحوجنا إلى أن نعي هذا الدرس! قد يأتي شاب شرح الله صدره للالتزام فيعفي اللحية، ويقصر الثوب، ويحافظ على مجالس العلم، ولا زال أبوه بعيداً عن طريق الله، ولا زالت أمه بعيدة عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجعل هذا الشاب من البيت حريقاً محرقاً مدمراً، يسيء إلى والده، يسيء إلى أمه، ويسفه أباه، ويحتقر أمه، ويضرب إخوانه، يسيء إلى أخواته! فيظن أهل البيت أن الالتزام نار مشتعلة، وأن الالتزام سوء أخلاق وأدب، وأن الالتزام غصب مستمر! فنقول: يا أخي! أنت أسأت إلى الإسلام من حيث لا تدري، وأسأت إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة من حيث لا تشعر، ففرقوا أيها الشباب! وأيها المسلمون! بين مقام الجهاد الذي يحتاج إلى الغلظة والقسوة والشدة، وبين مقام الدعوة الذي يحتاج إلى اللين والحكمة والرحمة، كما قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]. بل وخاطب الله نبيين كريمين هما: موسى وهارون، وأمرهما أن يقولا لفرعون الذي طغى وبغى قولاً ليناً، فقال سبحانه: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:43-44] قرأ سيدنا قتادة رحمه الله هذه الآية فبكي، وقال: سبحانك ما أحلمك! تأمر موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولاً ليناً! فإن كان هذا هو حلمك بفرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، فكيف يكون حلمك بعبد قال: سبحان ربي الأعلى؟! ثمامة تأصلَّ البغض في قلبه، ونحن نعلم أن البغض للإسلام الآن متأصل في قلوب كثيرة في الشرق والغرب والداخل. وأرجو أن نعي الدروس التي أود أن أسوقها سوقاً كريماً من خلال هذا الحدث الرائع لرسول الله مع ثمامة ، تأصل البغض في قلب ثمامة للنبي، ولدين النبي، ولبلد النبي، ثم تحول هذا البغض بالرفق والإحسان والحكمة والرحمة واللين إلى حب، هذه هي متط

    1.   

    سيرة حافلة بالدروس والعبر

    دروس غالية يجب أن نقف أمامها طويلاً، فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حافلة بالدروس، وهذا هو عنصرنا الثاني: سيرة حافلة بالدروس والعبر، لكننا بكل أسف أصبحنا نتعامل -إلا من رحم الله- مع سيرة النبي لمجرد الثقافة الذهنية، أو لمجرد الاستمتاع والدراسة النظرية، وكأن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت وفقط!! فوالله ما أرسل الله نبيه! وما جعل الله حياة نبيه وسيرته وسنته ماضياً فحسب، بل يجب أن تكون سيرته شعلة توقد شموس الحياة، ودماءً تتدفق في عروق مستقبلنا وأهلنا. سيرة النبي سيرة حافلة، وهذه السيرة ليست للدراسة النظرية، بل لنحولها في حياتنا إلى واقع حياة، وإلى منهج عملي يتألق سمواً وروعة وجلالاً على قدر سمو وروعة وجلال سيرة الحبيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلنتعلم هذا الرفق، وهذه الرحمة، وهذه الأخلاق، وصدق ربي إذ يقول:وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34-35] وصدق المصطفى إذ يقول -كما في الصحيحين-: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله) فتعلموا هذا يا شباب! وفي لفظ مسلم : (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه) وفي صحيح مسلم من حديث عائشة (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه).

    أثر رفق النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه

    ٍوتدبروا هذا الدرس الذي رواه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم -أي: في الصلاة- فقلت له: يرحمك الله، أي: وهو في الصلاة؛ لأنه لا يعلم الحكم. يقول معاوية رضي الله عنه: (فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إليّ، فجعلوا يضربون على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكتّ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني وإنما قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ..). ومن حديث أبي هريرة وأنس يقول أنس : (بينما نحن في المسجد مع رسول الله إذ جاء أعرابي فدخل المسجد فبال في المسجد، فقال أصحاب النبي: مه مه -يعني: ماذا تصنع- تبول في مسجد النبي؟! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه، دعوه) أي: لا تقطعوا عليه بوله. فتصور يا أخي! وتذكر هذه الكلمات النبوية الغالية: (لا تزرموه) فأنهى الرجل بوله مطمئناً، ثم نادى عليه نهر الرحمة وينبوع الحنان ومعلم الحكمة، نادى عليه بأبي هو وأمي وقال له: (إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما جلعت لذكر الله عز وجل وللصلاة ولقراءة القرآن) وفي رواية ابن ماجة بسند صححه شيخنا الألباني رحمه الله: أن هذا الأعرابي أصبح فقيهاً بعد هذه الكلمات فقال: بأبي هو وأمي قام إلي، فلم يؤنب، ولم يسب، ولم يضرب. ثم تأثر هذا الأعرابي بأخلاق الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، فقام يدعو للنبي في الصلاة، كما في رواية البخاري في كتاب الأدب من حديث أبي هريرة أنه قام يدعو للنبي ويقول : (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً! فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: لقد حجرت واسعاً) أي: ضيقت ما وسع الله جل وعلا، فالله سبحانه يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]. ولكنها انفعالة تلقائية طبيعية بهذه الأخلاق السامقة، بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.

    حسن التصرف وحسن المعاملة يستميلان القلوب

    وتدبروا! أيضاً هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد من حديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح حنيناً قسم الغنائم، وأعطى المؤلفة قلوبهم، وزاد لهم في العطاء، ولم يعط الأنصار شيئاً من الغنيمة ، فغضب الأنصار الأطهار الأبرار وقالوا: يغفر الله لرسول الله؛ يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا لا زالت تقطر من دمائهم؟! وفي رواية ابن إسحاق بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري أن بعض الأنصار قال: والله! لقد لقي رسول الله قومه -أي: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه من قريش- فأعطاهم ونسينا، فلما سمع ذلك سعد بن عبادة انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قاله الأنصار، فقال النبي المختار: (اجمع لي الأنصار يا سعد! فإن اجتمعوا فأعلمني) فانطلق سعد بن عبادة فجمع الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اجتمعوا عن آخرهم أعلم النبي وأخبره، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: (يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟! فسكت الأنصار. فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟! فقالوا: ماذا نقول؟ وبماذا نجيبك يا رسول الله؟! المن لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: والله! لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاًٍ فواسيناك، وخائفاً فأمناك، ومخذولاً فنصرناك، فقال الأنصار: المن لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فالتفت المصطفى إليهم وقال بلغة الإحسان والرفق والرحمة والحنان: يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وترجعون أنتم إلى رحالكم برسول الله؟! -يا لها من غنيمة- وجدتم عليَّ في أنفسكم في لعاعة -أي: في أمر تافه- من الدنيا تألفت بها قلوب قوم أسلموا حديثا، ووكلتكم إلى إيمانكم بالله ورسوله؟! يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وترجعون أنتم إلى رحالكم برسول الله؟! ثم التفت إليهم مرة أخرى وقال: يا معشر الأنصار! والله لو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت رجلاً من الأنصار، ثم رفع يديه وقال: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) فبكى الأنصار حتى اخضلت لحاهم من البكاء أمام هذا الإحسان والرفق وحسن التصرف والمعاملة.

    قصة إسلام زيد بن سعنة حبر اليهود

    وأختم هذه الدروس بدرس جميل آخر رواه الطبراني من حديث عبد الله بن سلام بسند رجاله ثقات أن حبر اليهود زيد بن سعنة قال: والله ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه النبي حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أعرفهما فيه الأولى: يسبق حلمه جهله، والثانية: لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، قال: فانطلقت يوماً فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقبل عليه رجل يركب راحلته وهو يقول: يا رسول الله! إن قومي من قرية كذا أو من بني فلان في قرية كذا كانوا قد دخلوا الإسلام، وكنت وعدتهم أنهم إن دخلوا الإسلام أن يأتيهم الرزق رغداً، وقد أصابتهم اليوم شدة، فأخشى أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا في الإسلام طمعاً، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء من المال؛ لتغيثهم به فعلت، وجزاك الله خيراً. فالتفت النبي إلى علي بن أبى طالب الذي كان معه وكأنه يريد أن يسأل: هل عندنا من المال من شي؟ فالتفت علي إلى النبي وقال: (والله ما معنا من المال شيء)، يقول زيد بن سعنة : فأقبلت على محمد صلى الله عليه وسلم وقلت: يا محمد! هل تبيعني تمراً في حائط بني فلان إلى أجل معلوم؟ أراد أن يعطيه مالاً إلى أجل معلوم فقال النبي : (صلى الله عليه وسلم نعم، لكن لا تسمى حائط بني فلان) فقال زيد بن سعنة : قبلت، قال: فأعطيت النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين مثقالاً من ذهب، فدفعها كلها إلى الرجل وقال: (أغث بهذا المال قومك) ومن المعلوم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فانطلق الرجل بالمال كله، يقول زيد : وقبل أن يحل وقت السداد رأيت محمداً في نفر من أصحابه، يجلس إلى جوار جدار، بعد أن صلى على جنازة رجل من الأنصار، فأقبلت عليه، وأخذته من مجامع ثوبه، وقلت له: أد ما عليك من دَيْنٍ يا محمد! فوالله ما علمتكم يا بني عبد المطلب إلا مُطْلاً في سداد الديون! فانتفض عمر والتفت إلى هذا الحبر اليهودي -وهو لا يعرفه- وقال: (يا عدو الله! تقول لرسول الله ما أسمع، وتفعل برسول الله ما أرى، والله لولا أنني أحذر غضبه صلى الله عليه وسلم لضربت رأسك بسيفي هذا!! وزيد بن سعنة يراقب وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكلماته، ويريد أن يسمع ماذا سيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الرهيب العصيب، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر وقال: (لا يا عمر ! لقد كان من الواجب عليك أن تأمرني بحسن الأداء وأن تأمره بحسن الطلب! ثم قال: يا عمر ! خذه وأعطه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمر جزاء ما روعته) يقول زيد : فأخذني عمر فأعطاني حقي، وزادني عشرين صاعاً من التمر. فقلت له: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله أن أزيدكها جزاء ما روعتك. فقال زيد بن سعنة : ألا تعرفني يا عمر ؟! قال: لا، قال: أنا زيد بن سعنة قال عمر : حبر اليهود؟! قال: نعم. قال عمر : فما الذي حملك على أن تفعل برسول الله ما فعلت؟ قال زيد : يا عمر ! والله ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أعرفهما فيه: الأولى: يسبق حلمه جهله، والثانية: لا تزيده شده الجهل عليه إلا حلماً؛ أما وقد عرفتهما اليوم فإني أشهدك أني قد رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً! وعاد حبر اليهود مع عمر بن الخطاب إلى المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وشهد مع رسول الله بعد ذلك كل المشاهد والغزوات، وتوفي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر، رضي الله عنه وأرضاه. أيها المسلمون! أيها الأحبة الكرام! ألم أقل: إن الإحسان إلى الناس يحول البغض في القلوب إلى حب؟! فليت الأمة تعي هذا الدرس بحكامها، وعلمائها، ورجالها، وشبابها، ونسائها. وليت الأمة تعود إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتحول هذه السيرة العطرة والأخلاق الزاكية في حياتها إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة فوالله ما تعلقت القلوب برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لهذه الأخلاق السامية.

    شهادة الأعداء بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم

    لقد كرم النبيَّ أعداؤه قبل أصحابه وأصدقائه. وشهد الأعداء لرسول الله -على الأقل بينهم وبين أنفسهم- بالصدق، والنبل، والرجولة، والأخلاق، والحق ما شهدت به الأعداء. فهذا عروة بن مسعود الذي ذهب ليفاوض النبي في الحديبية لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ورأى أخلاقه ورأى حب الصحابة له عاد إلى قومه ليقول: يا قوم! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي فوالله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما رأيت أصحاب محمد يعظّمون محمداً! لقد تعلقت قلوب أصحابه به لنبله وخلقه، بل إن الأعداء صدقوه وإن كانوا كذبوه كبراً وعناداً، كما قال تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] قال عروة : والله ما تنخم محمد نخامة إلا ووقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده! ووالله ما توضأ إلا وكادوا يقتتلون على وضوئه! وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم وإذا أمرهم ابتدروا أمره، ولا يحدون الطرف إليه تعظيماً له وإجلالا!! إن الأمة الآن تتعامل مع هذه السيرة تعاملاً نظرياً ذهنياً، وتستمتع بالسيرة استمتاعاً سالباً!! ووالله ما كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ماضية، بل يجب أن تكون سيرته شعلة توقد شموس الحياة لنا ، ويجب أن تكون سيرته دماءً تتدفق في عروق مستقبلنا وأجيالنا؛ لنحول هذه السيرة في حياتنا إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر هذا اللقاء، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    وجوب العودة والرجوع إلى الله واتباع نبيه

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أيها الأحبة الكرام! قد يكون من اليسير جداً أن نقدم منهجاً نظرياً في التربية والأخلاق، ولكن هذا المنهج النظري سيظل حبراً على ورق ما لم يتحول في حياة الناس إلى واقع عملي ومنهج حياة، بل قد لا يساوي قيمة المداد الذي كتب به ما لم يتألق في دنيا الناس سمواً وروعةً وجلالاً، ولقد نجح النبي صلى الله عليه وسلم في أن يجعل من الأعراب ومن العرب المنبوذين في أرض الجزيرة، الذين لا ذكر لهم ولا كرامة قبل الإسلام، استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل من هؤلاء الحفاة العراة جيلاً قرآنياً فريداً، لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً على الإطلاق؛ وذلك يوم أن نجح المصطفى صلى الله عليه وسلم في أن يطبع آلاف النسخ من المنهج التربوي الإسلامي، ولكن المصطفى لم يطبع هذه النسخ بالحبر على صحائف الورق، وإنما طبعها على صحائف القلوب بمداد من النور، فحول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج النظري في التربية والأخلاق إلى واقع عملي يتألق عظمة في دنيا الناس، فرأت البشرية كلها نبلهم وصدقهم، ورأت منهج الله يمشي على قدمين في دنيا الناس، كما قالت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان خلقه القرآن). لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً متحركاً في دنيا الناس، وكذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمتثلون أمر الله ورسوله، ويجتنبون نهي الله ورسوله، ويقفون عند حدود الله جل وعلا التي يعلمهم إياها رسوله صلى الله عليه وسلم. ووالله! لن نكون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حقاً إلا إذا عدنا فسرنا على طريقه ودربه صلى الله عليه وسلم، وعلى كل نفس تدعي الإيمان بالله ورسوله، وتدعي الحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم أن تنظر أين هي من حقيقة الإيمان وحقيقة المحبة وصدق الاتباع؟ فالعودة إلى الله ورسوله ليست نافلة ولا تطوعاً ولا اختياراً، وإنما هي عودة واجبة، بل إننا أمام شرط الإسلام وحد الإيمان، إما إيمان باتباع المصطفى والسير على طريقه، وإما كفر بالانحراف عن منهج الله، وعن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] وقال تعالى في حق المؤمنين الصادقين: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور:51-52] وقال في حق المنافقين الذين يسمعون ويعرضون.. يسمعون وينحرفون.. يسمعون ويهزءون ويسخرون.. قال الله في حقهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:60-61]. إذا: المؤمن هو الذي يسمع ويطيع للنبي صلى الله عليه وسلم فمن أطاع النبي فقد أطاع الله، ومن عصى النبي فقد عصى الله، فسيرة النبي ليست من أجل الثقافة، ولا من أجل والمجادلات، وإنما من أجل أن تحوّلها الأمة في حياتها إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة. فلابد من العودة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لا سيما في هذه الأيام، فوالله! لن تعود الأمة إلى مكانتها إلا إذا عادت إلى المنهج الذي رفعها من أسفل سافلين إلى أعلى عليين، ألا وهو منهج رب العالمين، ومنهج سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم. هل تعلم أن مجرد رفع الصوت على النبي صلى الله عليه وسلم يحبط العمل؟! وهل تعلم أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كادا أن يقعا في الهلاك لمجرد أنهما رفعا أصواتهما فوق صوت النبي؟! فـأبو بكر وعمر العظيمان في هذه الأمة - بعد نبيها- تعرضا للهلاك، والحديث في صحيح البخاري عن أبن أبي مليكة وفيه: (كاد الخيران أن يهلكا). فـأبو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما أقبل وفد بني تميم على الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر : أَمِّرْ عليهم القعقاع بن معبد يا رسول الله! قال عمر : لا، بل أمر عليهم الأقرع بن حابس يا رسول الله! فقال أبو بكر لـعمر: ما أردت إلا خلافي يا عمر ! وقال عمر : ما أردت خلافك يا أبا بكر ! فهذه هي الكلمات بنصها فقط، وهذا هو الحوار الذي دار، فأسألكم بالله ما الذي جرى؟! وما الذي وقع؟! أبو بكر يقول: أَمِّرْ القعقاع بن معبد ، وعمر يقول: أمر الأقرع بن حابس ، فيرد الصديق : ما أردت إلا خلافي يا عمر ! ويرد عمر : ما أردت خلافك يا أبا بكر ! فما الذي حدث؟! الجواب: لا شيء، إلا أن الصوت قد علا عند النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فنزل القرآن يحذر من ذلك، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]. أيها المسلمون! إذا كان مجرد رفع الصوت على النبي يحبط العمل، فكيف بتنحية شرع النبي؟! واتهام شريعته بالقصور، والجمود، والرجعية، والتخلف؟! وزعم عدم قدرتها على مسايرة مدنية القرن العشرين أو مدنية القرن الحادي والعشرين؟! إن الأمة الآن -إلا من رحم ربك- لا تعرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد رأينا الأمة تحتفل بميلاد رسول الله، وبذكرى الإسراء والمعراج! فالأمة تحسن الاحتفالات الفارغة الجوفاء! ولا تحسن أن تعود عوداً حميداً جاداً على أرض الواقع إلى منهج هذا النبي العظيم؛ لتحول شريعته إلى واقع، فالأمة الآن تحكم القوانين التي وضعها مهازيل البشر! وقد نحت -في الوقت الذي تحتفل فيه بمولد رسول الله- شريعة سيد البشر، فهل هذا حب؟! وهل هذا صدق في المحبة؟ قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]. وقال الشاعر: من يدعى حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهةٌ وهراءُ فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء

    قصة فيها درس

    وأختم بهذه القصة اللطيفة التي طالما ذكرت بها؛ لأبين أين نحن من المحبة الصادقة؟! فلقد جاء تلميذ إلى أستاذه وقال: يا أستاذي! علمت أنك ترى رسول الله في رؤياك . قال: وماذا تريد يا بني؟ قال: علمني كيف أراه؛ لأنني في شوق لرؤياه؟ فقال أستاذه: أنت مدعو لتناول العشاء معي في بيتي في هذه الليلة؛ لأعلمك بعد ذلك كيف ترى حبيبك رسول الله، فذهب التلميذ إلى أستاذه، ووضع الأستاذ العشاء بين يدي تلميذه، وأكثر فيه الملح، ومنع عنه الماء! فطلب التلميذ الماء مراراً، فأبى عليه أستاذه، بل وأصر عليه أن يزيد في الطعام! ثم قال له: نم، وإن استيقظنا قبل الفجر -إن شاء الله- فسأعلمك كيف ترى النبي في رؤياك، فنام التلميذ يتلوى من شدة العطش! ويتألم من الظمأ! فلما استيقظا قال له أستاذه: أي بني! قبل أن أعلمك كيف ترى النبي أسألك: هل رأيت الليلة شيئاً في النوم؟ قال: نعم. قال: ماذا رأيت؟ قال: رأيت الأمطار تمطر، والأنهار تجري، والبحار تسير!! لأنه نام وهو يتلوى من شدة العطش فرأى الماء في كل رؤياه! فقال أستاذه: نعم، يا بني! صدقت نيتك فصدقت رؤيتك، ولو صدقت محبتك لرأيت رسول الله!

    لا يرفع ما حل بالأمة إلا بالرجوع إلى منهج الله عز وجل

    ما أيسر الادعاء! وما أسهل الزعم! وما أرخص الكلام! لكن أين نحن من الاتباع الحقيقي؟! وأين نحن من العودة الصادقة إلى سيرة وحياة النبي صلى الله عليه وسلم. والله إن المصائب التي حلت بالأمة ليس لها من دون الله كاشفة، إلا إذا عادت الأمة مرة أخرى إلى منهج الرب العلي، وإلى سيرة وحياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتحول هذه السيرة العطرة، إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة. أسأل الله جل وعلا أن يرد الأمة إليه رداً جميلاً. اللهم رد الأمة إلى الحق رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الحق رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الحق رداً جميلاً. اللهم ارزقنا الرفق في الأمر كله، اللهم ارزقنا الرفق في الأمر كله، اللهم رزقنا الحكمة في الأمور كلها. اللهم املأ قلوبنا رحمة، اللهم املأ قلوبنا حكمة، اللهم املأ قلوبنا حلماً، اللهم املأ قلوبنا حلماً. اللهم خلقنا بأخلاق الحبيب المصطفى، اللهم خلقنا بأخلاق الحبيب المصطفى. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين. اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أونسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقي به في جنهم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755963544