إسلام ويب

طفولة النبي عليه الصلاة والسلامللشيخ : محمد المنجد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حياة النبي صلى الله عليه وسلم حافلة بالأحداث العظيمة: (المولد، البعثة، الهجرة...) وللمولد أهمية ينبغي استشعارها بعيداً عن الاحتفالات البدعية التي لم يفعلها السلف في خير القرون، وينبغي أيضاً إدراك أن أحداثاً أخرى كالبعثة تفوق أهمية على المولد، فهي أحق بالاحتفال لو أنزل الله به سلطاناً. وهذه المادة تسلِّط الأضواء على المراحل الأولى من حياة النبي صلى الله عليه وسلم: من رضاعته وانتقاله إلى بني سعد، ووفاة أمه، وانتقال كفالته إلى جده ثم إلى عمه، متضمنة لقصته مع الراهب بحيرا، وفوائدها، ومشاركته صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول. فهذه المادة تتميز بوفرة الأدلة، مع النظر إلى جانب العظة والعبرة في الأحداث والوقائع.

    1.   

    بدعية الاحتفال بالمولد

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أما بعد:

    فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين فقال: (ذاك يومٌ ولدت فيه، ويومٌ بعثت أو أنزل علي فيه) رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى.

    وكذلك فقد جاء عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أنهما قالا: [ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر وفيه مات] هذا هو المشهور عند الجمهور، وقد رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ورجاله رجال الصحيح.

    فإذاً، هو قد ولد يوم الإثنين، ومات يوم الإثنين، وبعث وأنزل عليه يوم الإثنين صلى الله عليه وسلم، وأيضاً هاجر يوم الإثنين.

    ومع كون ولادته يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، فإن ذلك لا يعني بأي حالٍ من الأحوال جعل ذلك اليوم مولداً يحتفل به فيه، فإن هذه بدعة من البدع ما فعلها صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ من أصحابه ولا أحدٌ من السلف رحمهم الله تعالى في القرون الثلاثة، فلم يعرف عنهم الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم.

    وجود أيام أهم من يوم المولد

    وإذا كان قد حدث في يوم الإثنين أحداث كثيرة تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم فليس يوم مولده بأحق من بقية الأحداث، بل إننا لا شك لو سألنا سؤالاً وقلنا: أيهما أعظم يوم بعثته أم يوم مولده؟ ما هو الحدث الأهم للبشرية: يوم ولادته أم يوم بعثته؟ يوم بعثته أهم، لا شك في ذلك، هو اليوم الذي صار فيه نبياً، هو اليوم الذي نزل عليه فيه الوحي، هو اليوم الذي أعلن فيه ميلاد هذا الدين؛ وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

    وإذا عرفنا كذلك أنه هاجر يوم الإثنين فأيهما أعظم بالنسبة للإسلام والمسلمين، وأكثر أثراً وظهوراً: يوم ولادته أم يوم هجرته؟ لا شك أن الهجرة أعظم، فإن الولادة لا تقارن بالنسبة للهجرة، ذلك اليوم الذي كان إيذاناً بانتقال الدين والمسلمين من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة القوة، من مرحلة الإيذاء والاضطهاد إلى مرحلة قيام الدولة، ولا شك أن الهجرة إذاً حدثٌ عظيم مبارك، ومن أجل ذلك جعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه بداية التاريخ الإسلامي.

    المناسبة الحقيقة التي كانت فيها بداية الانطلاقة الكبرى في التاريخ الإسلامي هي الهجرة، لأن ما بعد الهجرة كان قيام الدولة والانتصارات والفتوحات والجهاد، وما بعد الهجرة كانت الانطلاقة في أرجاء الجزيرة العربية في نشر الدين وخارج الجزيرة العربية ، ولذلك لا يمكن أن نقارن يوم الهجرة بيوم المولد ولا يوم البعثة بيوم المولد، فإن يوم الهجرة أعظم من يوم المولد، ويوم البعثة أعظم من يوم المولد، ولكن كثيراً من المبتدعة لا يفقهون ذلك، فيحتفلون بميلاده ويفضلونه على الأيام الأخرى، وليس يوم ولادته بأحق من يوم بعثته ولا هجرته، بل وقد مات في يوم الإثنين.

    ونقول لهم: إذا كنتم ستجعلون احتفالاً بمولده يوم الإثنين فلماذا لا تجعلون مأتماً في يوم وفاته، فإن البدعة واحدة؟ ما دمتم ستفرحون بيوم الإثنين فلتجعلوه مأتماً أيضاً، فإذاً يتبين لك أن القوم لا يسيرون على هدى ولا على طريقٍ مستقيم، وأن الاحتفال بالمولد النبوي إنما هو بدعة من البدع.

    ارتكاب المنكرات في الاحتفال بالمولد

    ونحن قد قرأنا وعرفنا من أخبار الناس في هذه الأيام ما يفعلونه من بدع، حتى وصلت المسألة إلى جعل الرقص -رقص النساء- وبعض الملاهي تعمل حفلات في يوم المولد، حفلة المولد والميلاد، ويجعلون فيه من ألوان الفساد ما الله به عليم، وأخطر من ذلك ما يقرأ من قصائد الشرك في هذا اليوم مثلما تقرأ قصيدة البردة التي فيها الشرك الكبير الأكبر، كما يقول القائل فيها:

    فإن من جودك الدنيا وضرتها     ومن علومك علم اللوح والقلم

    ما هي ضرة الدنيا؟ الآخرة، يقول القائل: فإن من جودك يعني: يا رسول الله، الدنيا والآخرة، ومن علومك: من للتبعيض، من علومك يا رسول الله علم اللوح والقلم، إذاً ماذا بقي لله عز وجل؟!

    ولذلك يتبين لك أنما يقرأ في كثيرٍ من الموالد من القصائد إنما هو شركٌ أكبر، الشرك بالله بعينه، وإذا قال قائل: نستفيد بالسيرة ونذكر أحداث السيرة، فنقول: هانحن نذكر أحداث السيرة في غير يوم المولد، ولن يضيرنا أن نذكرها في غير يوم المولد، ولا يعني أن الإنسان إذا أراد أن يعرف سيرة النبي عليه الصلاة والسلام لا بد من يوم المولد ليعرف السيرة فيعرف السيرة في كل السنة.

    1.   

    رضاعة النبي صلى الله عليه وسلم

    ثانياً: مرضعاته صلى الله عليه وسلم.

    رضاعته صلى الله عليه وسلم من ثويبة

    من مرضعاته عليه الصلاة والسلام ثويبة مولاة أبي لهب مولاة بني هاشم، كما جاء في حديث زينب بنت أبي سلمة : أن أم حبيبة رضي الله عنها أخبرتها أنها قالت: (يا رسول الله! انكح أختي بنت أبي سفيان ، فقال: أو تحبين ذلك؟ أم حبيبة اقترحت عليه أن يتزوج أختها- فقالت: نعم لست لك بمخلية -يعني: أنا قطعاً لست بزوجة وحيدة، لا بد أن يشاركني فيك غيري، وأحب من شاركني في خيرٍ أختي، ما دمت أنه سوف يكون لي ضرائر فلتكن أختي إذاً- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يحل لي، قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: بنت أم سلمة ؟ -يتأكد- فقلت: نعم، فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ) وهذا موضع الشاهد، ثويبة مولاة أبي لهب مولاة بني هاشم هي إحدى مرضعات النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن) والحديث رواه البخاري رحمه الله في كتاب النكاح، باب: أمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وكذلك رواه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: تحريم الربيبة وأخت المرأة، وكذلك رواه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ورواه كذلك النسائي في كتاب: النكاح، باب: تحريم الجمع بين الأختين.

    إذاً، لا يجوز للإنسان أن يجمع بين زوجته وأخت زوجته؛ لأن الله نهى عن ذلك: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ [النساء:23] إلا إذا فارق إحداهما بموتٍ أو طلاق فعند ذلك يجوز أن يتزوج بالأخت الأخرى.

    أما الربيبة وهي: ابنة المرأة التي تزوج بها من غيره، فهي أيضاً محرمة لا يجوز للرجل الزواج بها، وهي تكشف عليه لأنها من محارمه.

    قدوم حليمة إلى مكة تلتمس رضيعاً

    ومن مرضعاته صلى الله عليه وسلم: حليمة السعدية ، فقد جاء في حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قصة عجيبة فيها عبر في رضاع النبي عليه الصلاة والسلام، قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت حليمة بنت الحارث في نسوة من سعد بن بكرٍ يلتمسن الرضعاء بـمكة ، قالت حليمة : فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي قمراء.

    قمراء: اللون الأبيض المائل إلى الخضرة.

    خرجت حليمة التماس الرضعاء في مكة ، وكان أهل مكة يرغبون في جعل أولادهم في البادية حيث يرتضعون من نسائها، ويمكثون فترة في ذلك الجو النقي فيصلب عودهم ويشتد، ويرتضعون من نسائها المعروفات بجودة الحليب واللبن، فلذلك كانوا يرغبون فيه، وكان النساء في البادية يبتغين أجراً من وراء إرضاع الأولاد الصغار لمثل أهل مكة التجار، فجاءت حليمة السعدية مع نسوة لها من أوائل من خرجن من مكة لابتغاء الرضعاء فيها.

    قالت: "فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي قمراء، ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى -أحد بني سعد بن بكرٍ- ثم أحد بني ناظرة قد أدمت أتاننا".

    الأتان طبعاً هي أنثى الحمار، ومعنى أدمت: يعني حدث في ركب الدابة جروحٌ دامية باصطكاكها، إذاً الأتان الدابة فيها جراح.

    "ومعي بالركب شارف والله ما تبض بقطرة لبن".

    والشارف: هي الناقة المسنة لا يسيل منها قطرة لبن، لا يخرج منها شيء من اللبن أبداً.

    "في سنة شهباء".

    يعني: مجدبة لا خضرة فيها ولا مطر، فخرجت حليمة بأسوأ حال من مضارب قومها في البادية إلى مكة ، أتانٌ قد تجرحت أرجلها من اصطكاكها ببعضها من الهزال والضعف، وناقة مسنة ما يخرج منها قطرة لبن واحدة، في سنة مجدبة قد جاع الناس حتى خلص إليهم الجهد.

    "ومعي ابن لي والله ما ينام ليلنا".

    طيلة الليل يبكي؛ لأنه جائع.

    "وما أجد في يدي شيئاً أعلله به، إلا أنا نرجو الغيث، وكانت لنا غنمٌ فنحن نرجوها، فلما قدمنا مكة ، فما بقي منا أحدٌ إلا عرض عليها محمد فكرهته".

    كل النساء مع حليمة عرض عليهن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ لكن كل واحدة تأبى أن تأخذه من هؤلاء المرضعات من أهل البادية، لماذا؟- فقلنا: "إنه يتيم، وإنما يكرم الظئر ويحسن إليها الوالد" -فهذا يتيم وأبوه ميت وإذا أخذناه فمن يعطينا؟!

    فقلنا: "ما عسى أن تصنع بنا أمه أو عمه أو جده -إذا كان الأب ميتاً- فكل صواحبي أخذ رضيعاً -كل واحدة أخذت ولداً آخر- فلما لم أجد غيره رجعت إليه وأخذته، فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره".

    وليست رغبة في الولد بل لأنه لا يوجد غيره- فقلت لصاحبي -وهو زوجها الذي معها، والعرب تطلق على الزوج صاحباً، قال الله تعالى: وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ [المعارج:12] فالصاحبة أيضاً الزوجة.

    "فقلت لصاحبي: والله لآخذن هذا اليتم من بني عبد المطلب فعسى الله أن ينفعنا به، ولا أرجع من بين صواحبي ولا آخذ شيئاً -أرجع إلى البادية بدون ولد أرضعه أمام الناس- فقال: قد أصبت، قالت: فأخذته، فأتيت به الرحل، فوالله ما هو إلا أن أتيت به الرحل فأمسيت وقد أقبل ثدياي باللبن" -هذا أول شيء، مجرد ما أتت به رحل قومها (المكان الذي نزلوا به) أقبل الثديان باللبن.

    حتى أرويته وأرويت أخاه الذي جئت به يبكي، وقام أبوه إلى شارفنا -أبوه صاحب اللبن، قام إلى تلك الناقة المسنة يلمسها- فإذا هي حافل باللبن -مليئة- فحلبها فأرواني وروي، فقال: يا حليمة تعلمين والله لقد أصبنا نسمة مباركة، ولقد أعطى الله عليها ما لم نتمن -ما لم يكن يدور بالبال أعطانا أكثر- قالت: فبتنا بخير ليلة شباعاً، وكنا لا ننام ليلنا مع صبينا.

    يعني: من قبل ما ننام الليل من بكاء الصبي الذي معنا، الآن هذا الصبي المبارك جاء وأشبعني وأشبع زوجي، وأشبع الولد وأشبع الناقة، وجاء الخير والبركة.

    "ثم اغتدينا راجعين إلى بلادنا أنا وصواحبي، فركبت أتاني القمراء -أنثى الحمار التي أصابتها الدماء من اصطكاك رجليها- فحملته معي، فوالذي نفس حليمة بيده لقطعت الركب حتى أن النسوة ليقلن: أمسكي علينا، أهذه أتانك التي خرجت عليها؟ فقلت: نعم، فقالوا: إنها كانت أدمت حين أقبلنا فما شأنها؟ قالت: فقلت: والله حملت عليها غلاماً مباركاً".

    لاحظوا أيها الإخوة النبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره، حتى ولادة النبي عليه الصلاة والسلام ملفتة للنظر، وطفولته ملفتة للنظر، الله عز وجل يقيض من الأحداث ما يسلط به الضوء على النبي عليه الصلاة والسلام منذ طفولته كأن هذا الغلام سيكون منقذ البشرية.

    أحداث عام الفيل

    ولذلك متى ولد عليه الصلاة والسلام ولد في عام الفيل الذي حدثت فيه المعركة العظيمة بين الله عز وجل وأبرهة ، وانهزم جيش أبرهة وولوا الأدبار، وتسامعت العرب أجمعين في كل الجزيرة بل وخارج الجزيرة بالكارثة العظيمة السماوية التي أصابت أبرهة وجيشه، وحجارة من السماء لا شك أنه شيء مستغرب للغاية وعجيب، فاتجهت أنظار العالم إلى المكان الذي حدثت فيه هذه القارعة، وهو مكة ، وصارت الأضواء متجهة إلى مكة والكعبة وقريش في عام الفيل، فالله عز وجل جعل أنظار الناس تتجه إلى مكة في عام الفيل؛ لأن هناك حدثاً آخر سيتم في هذا العام وهو ولادة النبي عليه الصلاة والسلام.

    فصارت ولادته في عام الفيل الذي اتجهت أنظار العالم كله إلى مكة بسبب حادثة أبرهة ؛ لأن حادثة أبرهة كانت شيئاً فوق الوصف،كانت شيئاً عجيباً، طير تحمل حجارة ترجم أفيالاً وتهلك الأفيال ومن عليها، ولذلك كان شيئاً قيظه الله تعالى لتأتي الأضواء والناس يعظمون الكعبة، وتصبح لقريش مكانة؛ لأن من قريش سيبعث النبي الذي سيدعو قريشاً ويدعو العرب وفي مكة ، ولذلك كانت بداية توجيه الأنظار توطئة لحادثة الفيل لكي يولد النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك العام، ويحفظ الناس ذلك العام جيداً وكل أحداث العام، وفيه الولادة النبوية، ثم بعد ذلك تأتي حليمة لتأخذه، وتأتي هذه الخيرات والبركات، ويصبح أمره عليه الصلاة والسلام منتشراً منذ صغره، هكذا يسير الله تعالى الأحداث لكي تتركز الأذهان، والأنظار تتجه إلى الأحداث المتعلقة بهذا النبي الكريم وتاريخ النبي الكريم منذ ولادته.

    حلول البركة بحليمة وأسرتها

    قالت حليمة : فخرجنا فما زال يزيدنا الله في كل يومٍ خيراً، حتى قدمنا والبلاد سنة -يعني قحط- ولقد كان رعاتنا يسرحون ثم يريحون فتروح أغنام بني سعدٍ جياعاً، وتروح غنمي شباعاً بطاناً حفلاً.

    أي: كانت سنة قحط لكن لما جئنا بالمولود كان رعاة بني سعد يذهبون كلهم ويرجعون جياعاً، ما وجدوا خيراً ولا كلأ ولا شيئاً، وأغنامي ترجع شباعاً بطاناً حفلاً، أي: شبعانة سمينة، الثدي محمل باللبن.

    فنحتلب ونشرب، فيقولون: ما شأن غنم الحارث بن عبد العزى ؟ -وهو زوج حليمة - وغنم حليمة تروح شباعاً حفلاً وتروح غنمكم جياعاً، ويلكم اسرحوا حيث تسرح غنم رعائهم، اجعلوا غنمكم تذهب مع المكان الذي تسرح فيه غنمهم، ربما يصير لكم مثلما حصل لهم، فيسرحون معهم فما تروح إلا جياعاً كما كانت وترجع غنمي كما كانت حفلاً سمانا.

    قالت: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشب شباباً ما يشبه أحدٌ من الغلمان، يشب في اليوم شباب الغلام في الشهر يعني: ينمو ويزيد في اليوم ما ينموه الغلام العادي في شهر، ويشب في الشهر شباب السنة، فلما استكمل سنتين أقدمناه مكة أنا وأبوه فقلنا: والله لا نفارقه أبداً ونحن نستطيع.

    يعني: انتهت مدة الرضاعة سنتين حيث كان أهل البادية يأخذون غلمان أهل مكة إلى البادية سنتين للرضاعة؛ ويشب الغلام قوياً في ذلك الجو الصافي النقي.

    ومع انتهاء السنتين تعلقت حليمة بالولد تعلقاً شديداً، وقالت هي وزوجها: والله لا نفارقه أبداً ونحن نستطيع، فلما أتينا أمه قلنا: أي ظئر! والله ما رأينا صبياً قط أعظم بركة منه، وإنا نتخوف عليه من وباء مكة وأسقامها فدعينا نرجع به حتى تبرئي من داءك، فلم نزل بها ملحين مقنعين حتى أذنت، فرجعنا به فأقمنا أشهراً ثلاثة أو أربعة، بعد هذه الأشهر الثلاثة أو الأربعة حدثت حادثة غريبة للغاية.

    حادثة شق الصدر

    قالت حليمة : فبينما هو يلعب خلف البيوت هو وأخوه من الرضاعة في بهمٍ له، النبي عليه الصلاة والسلام نشأ مع الغنم منذ صغره يلعب مع البهم، إذ أتى أخوه يشتد، جاءنا أخوه الذي كان يلعب معه، وأنا وأبوه في البدن؛ مع الجمال، فقال: إن أخي القرشي أتاه رجلان عليهما ثيابٌ بيض فأخذاه وأضجعاه فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه يشتد لإدراك الغلام الذي شق بطنه، فوجدناه قائماً قد امتقع لونه -تغير- فلما رآنا أجهش إلينا وبكى، قالت: فالتزمته أنا وأبوه، فضممناه إلينا، فقلنا: مالك بأبي أنت؟ فقال: أتاني رجلان وأضجعاني فشقا بطني وصنعا به شيئاً ثم رداه كما هو، فقال أبوه: والله ما أرى ابني إلا وقد أصيب، أي: حدث له شيء مكروه، الحقي بأهله فرديه إليهم قبل أن يظهر له ما نتخوف منه، قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمه، فلما رأتنا أنكرت شأننا، لأنهم ألحوا عليها وطلبوا منها في البداية ولما سمحت لهم يرجعون بعد ثلاثة أو أربعة أشهر بهذه السرعة وقالت: ما أرجعكما به قبل أن أسألكماه وقد كنتما حريصين على حبسه؟ فقلنا: لا شيء إلا أن قد قضى الله رضاعه وسرنا ما نراه، وكنا نئويه كما تحبون أحب إلينا، فما اقتنعت آمنة فقالت: إن لكما شأناً فأخبراني ما هو؟ فلم تدعنا حتى أخبرناها، لما رأى الصبي الآخر من قدوم اثنين وشق صدره وبطنه وصنعا به شيئاً ورداه كما هو، فقالت: كلا والله، لا يصنع الله ذلك به، إن لابني شأناً أفلا أخبركما خبره؟

    إني حملت به فوالله ما حملت حملاً قط كان أخف عليَّ منه، ولا أيسر منه، ثم أريت حين حملته أنه خرج مني نورٌ أضاء منه أعناق الإبل بـبصرى -قصور بصرى البعيدة عن مكة- نور عظيم أضاء أعناق الإبل بـبصرى ، ثم وضعته حين وضعته فوالله ما وقع كما يقع الصبيان، لقد وقع معتمداً بيديه على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء، فدعاه عنكما، فقبضته وانطلقنا. الحديث رواه ابن حبان والطبراني والبيهقي وأبو يعلى من طريق ابن إسحاق وقد صرح ابن إسحاق بالسماع في رواية السيرة، وقال الهيثمي في المجمع : رواه أبو يعلى والطبراني بنحوه، ورجاله ثقات، ولكثير من مقاطع الحديث شواهد تقويها فلعله يكون حسناً بشواهده.

    وأما حادثة شق الصدر فقد جاءت من أحاديث أخرى، ومن ذلك حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ قال: كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهمٍ لنا ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت: يا أخي اذهب فائتنا بزادٍ من عند أمنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم فأقبل طيران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني إلى القفا، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي، فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماءٍ وثلج، فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد، فغسلا به قلبي، ثم قال: ائتني بالسكينة، فذراها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه، فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة، فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفه، واجعل ألفاً من أمته في كفة، فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي، أشفق أن يخر علي بعضهم -يعني هو رجح بهم وصاروا فوقه- فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا وتركاني، وفرقت فرقاً شديداً، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيته، فأشفقت علي أن يكون ألبس بي -جن تلبس بي- قالت: أعيذك بالله، فرحلت بعيراً لها فجعلتني أو فحملتني على الرحل وركبت خلفي، حتى بلغنا إلى أمي -التي هي آمنة - فقالت حليمة : أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيته فلم يرعها ذلك، فقالت لي: رأيت خرج مني نورٌ أضاءت منه قصور الشام) الحديث رواه أحمد والحاكم في المستدرك ، والطبراني في الكبير ، والدارمي في المقدمة باب: كيف كان أول شأن النبي صلى الله عليه وسلم، جميعاً من طريق بقية حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن ابن عمرو السلمي ، وبقية صرح بالتحديث، وإذا روى عن بحير فهو معتدٌ به ومقبول وموثق، وقال الحاكم : حديثٌ صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي ، وقال الهيثمي في المجمع : إسناد أحمد حسن، والحديث لا زال له شواهد.

    حادثة شق الصدر وقعت مرة أخرى في الإسراء والمعراج فكانت هذه من الصغر تمهيداً للرحلة السماوية، إعداداً أرضياً للرحلة السماوية، حادثة شق الصدر إذاً حدثت مرتين.

    وهذا الحديثٌ رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإسراء، ورواه غيره أيضاً من حديث أنس : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طستٍ من ذهب بماء زمزم، ثم لئمه -الخياطة وهذه هي العملية الجراحية القديمة- ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو ممتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره) الحديث.. رواه مسلم .

    وهذا أيضاً يثبت قصة شق الصدر في صحيح مسلم والنبي عليه الصلاة والسلام صغير، ولما كان يلعب مع الغلمان حدث له حادثة شق الصدر، ولما كان قبل الإسراء والمعراج حدثت حادثة الشق الثانية.

    1.   

    وفاة آمنة بنت وهب على الشرك

    نعود إلى قصة وفاة أم النبي صلى الله عليه وسلم التي رواها ابن إسحاق وقال: إن أم النبي صلى الله عليه وسلم توفيت وهو ابن ست سنين بـالأبواء بين مكة والمدينة ، كانت قد قدمت به على أخواله من بني علي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به من مكة ، لكن مع الأسف ماتت على الشرك.

    ولذلك جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت) رواه مسلم رحمه الله في صحيحه.

    طبعاً حاول بعض الوضاعين والكذابين أن يفتعلوا حديثاً فيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام طلب من ربه أن يحيي أمه وأباه، فأحياهما له، ثم عرض عليهما الإسلام فأسلما ثم ماتا.

    وحاول الصوفية وغيرهم أن يروجوا لهذا الحديث، ولكن ينبغي أن يعلم أن الميزان عند الله ميزان العقيدة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام مع عظم مكانته لكن ما نفع أباه ولا أمه وقد ماتا على الشرك، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه أعرابي قال: (أين أبي؟ قال: في النار، فولى الأعرابي منزعجاً، فدعاه فقال: أبي وأبوك في النار) رواه أبو داود وهو حديث صحيح.

    معناه: أن أباه عليه الصلاة والسلام مات في الجاهلية على الشرك، فهو في النار، وأمه استأذن ربه أن يستغفر لها فلم يؤذن له؛ لأنها ماتت على الشرك، ونحن عواطفنا تهفو إلى أن تكون آمنة في الجنة، وأنها آمنت وأسلمت، لكن العواطف شيء والحقائق العلمية شيءٌ آخر، فـآمنة ماتت على الشرك، والنبي عليه الصلاة والسلام لأنها أمه استأذن الله عز وجل أن يدعو الله بأن يغفر لها، فلم يقره على ذلك، ولم يأذن له به.

    فهذا فيه أن مسألة العقيدة ليست واسطة، وأن الإنسان لا ينفعه إلا دينه وتوحيده، وإلا فلو كان ولده أعظم نبي فإنه لا ينفعه، فهذا ولد نوح مات كافراً، وهذا أبو إبراهيم مات كافراً، وهذه أم النبي عليه الصلاة والسلام وأبوه ماتا على الكفر، فلا مجاملات في مسألة التوحيد والشرك.

    كفالة عبد المطلب للنبي صلى الله عليه وسلم

    وبعد موت أمه وكان أبوه قد مات من قبل كفله جده عبد المطلب ، وكان يحبه حباً شديداً، وجاء في حديث قنديل بن سعد : (حججت في الجاهلية، فإذا رجلٌ يطوف بالبيت وهو يبتدر ويقول:

    رب رد راكبي محمداً     رده لي واصطنع عندي يدا

    قلت: من هذا؟ قال: عبد المطلب بن هاشم ، ذهبت إبلاً له فأرسل ابن ابنه في طلبها فاحتبس عليه ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها -يعني: من بركة النبي عليه الصلاة والسلام ما أرسل في شيء، في ضالة، في إبل تائهة، في مالٍ مفقود، إلا ووجده ورجع به- قال: فما برحت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل معه، فقال عبد المطلب : يا بني لقد حزنت عليك كالمرأة، حزناً لا يفارقني أبداً) والحديث رواه الطبراني وغيره، وقال الهيثمي : رواه أبو يعلى والطبراني وإسناده حسن.

    دروس من رعي الأغنام في حياة الأنبياء

    وكان عليه الصلاة والسلام في صغره أيضاً قد رعى الغنم تهيئة للرعي الأكبر بعد ذلك، وتمهيداً لسياسة الرعية الأعظم، فهو تعلم في سياسة الغنم تمهيداً لسياسة الرعية الكبرى بعد ذلك، فقد جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ) رواه البخاري . فالنبي عليه الصلاة والسلام اشتغل وهو صغير، وأجر نفسه، وكان يأخذ قراريط من أهل مكة أجرةً مقابل أن يرعى أغنامهم.

    ومن حديث جابر رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بـمر الظهران نجني الكباث فقال: عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه) وهذا النوع من الثمار لا يعرفه إلا من كان يرعى الغنم؛ لأنه من الأشياء التي تنبت في البراري وفي الأماكن التي ترعى فيها الأغنام، ولذلك قالوا له: (وكنت ترعى الغنم يا رسول الله؟ قال: نعم، وهل من نبي إلا رعاها؟!).

    وهذا من إعداد الله للأنبياء، لأن سياسة الغنم ورعي الغنم تتطلب المحافظة عليها وصونها وحراستها عن الذئاب، وإيرادها المراعي الحسنة، والذي يتأمل يجد تشابهاً كبيراً بين رعي الغنم وسياسة الرعية يكون فيه إعداد الراعي في محافظته وحراسته، وجلب المنافع للغنم، وهذه تحتاج إلى علاج، وهذه تحلب، وهذه فيها جرب، وهذه عرجاء، وهذه ضعيفة وهزيلة، ولذلك رعاية الغنم فيها إعداد للاهتمام بالرعية والإشفاق على الرعية وحراستهم، وأن يأتي بالرعية إلى المكان الذي فيه فائدة لها، ويحرس الرعية عن كل ضار، وفيه تعليم وتحمل المسئولية.

    حفظ النبي صلى الله عليه وسلم من قبائح أهل الجاهلية

    وقد جاء من حديث علي رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما هممت بقبيحٍ مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر، كلتيهما يعصمني الله منهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام ٍ لأهله يرعاها: أبصر إلى غنمي حتى أسمر هذه الليلة بـمكة كما يسمر الفتيان، قال: نعم -وافق- فخرجت فجئت أدنى دارٍ من دور مكة ، سمعت غناءً وضرب دفوفٍ ومزامير، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلانٌ تزوج فلانة، رجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا حر الشمس، فرجعت فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، نام في الحفلة، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ففعل، فخرجت فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثلما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي فقال: فما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته) والحديث رواه أبو نعيم في الدلائل والبيهقي وابن حبان ، وقال البوصيري : رواه إسحاق بن راهويه بإسنادٍ حسن، وقال ابن حجر : هذه الطريق حسنة جليلة، وما روي في شيء من المسانيد الكبار إلا في مسند إسحاق هذا وهو حديث حسن متصل ورجاله ثقات، قال الهيثمي في المجمع : رواه البزار ورجاله ثقات.

    إذاً، كان فتيان مكة ، يسمرون على خمر وعلى فواحش، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذهب ليرى سمرهم وهو صغير قبل البعثة، انشغل بحفلة زفاف والتهى بها حتى نام، والمرة الثانية نفس الشيء دخل مكة فحفلة زفاف دخل بها فالتهى بها، ولم يذهب إلى حيث يذهب فتيان مكة ، ولم يكن يتعاطى ما كانوا يتعاطون ويفعل ما كانوا يفعلون.

    1.   

    قصة بحيرا الراهب

    ثم حدثت بعد ذلك قصة مهمة جداً ألا وهي قصة بحيرا الراهب ، وقد جاءت هذه القصة من حديث أبي موسى الأشعري قال: (خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخٍ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا، فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يسيرون فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، قال: فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجرٌ ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل، قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، هو يمشي والغمامة فوقه صلى الله عليه وسلم فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة -النبي عليه الصلاة والسلام لما دنا من الجماعة لأن الراهب طلب أن يستدعوا هذا الغلام الذي معهم، جاء عليه الصلاة والسلام فإذا هم قد سبقوه الكبار إلى فيء الشجرة- فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، فبينما هو قائمٌ عليهم وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم فإن الروم إذا عرفوه فسيقتلونه، فالتفت فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم بحيرا الراهب هذا، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جاءنا أن هذا النبي خارجٌ في هذا الشهر، فلم يبق طريقٌ إلا بعث إليه بأناس، وإنا قد أخبرنا خبره فبُعثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلفكم أحدٌ هو خيرٌ منكم؟ قالوا: إنما اخترنا خيره لطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحدٌ من الناس رده؟ قالوا: لا، قال: فبايعوه وأقاموا معه، قال: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب ، فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وبعث معه أبا بكر وبلالاً وزوده الراهب من الكعك والزيت) الحديث أخرجه الترمذي وابن أبي شيبة وغيرهم، ورواه الحاكم ، وقال الذهبي : أظنه موضوعاً وبعضه باطل، وقال في مكانٍ آخر: منكرٌ جداً، وقال ابن حجر في الإصابة : رجاله ثقات، وذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ، بحيث تنازع العلماء في ثبوته، الذهبي أنكره، ولكن ابن حجر قال: ليس كله منكراً، فقط ذكر أبي بكر وبلال غير محفوظ، ونقل الشيخ الألباني تصحيحه ومال إلى تصحيحه في تعليقه على فقه السيرة وقال: وسنده صحيح ورجاله ثقات، وذكر بلال وأبي بكر فيه غلطه واضح كما قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد ، ولعلها مدرجة فيه ووهم من أحد الرواة كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله.

    فوائد من قصة بحيرا

    لكن قصة بحيرا الراهب هذه فيها فوائد:

    أولاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان مكتوباً عندهم في الكتب المتقدمة، وأن بحيرا الراهب عرفه بسيماه وذهب بنفسه ودخل بينهم حتى رأى الغلام قال: هذا رسول الله يعني: في المستقبل.

    وأن سجود الشجر والحجر استرعى انتباه الراهب لما جاءت القافلة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

    ودفاع بحيرا الراهب عن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء جنود الروم وقد عرفوا أنه سيخرج في هذا الشهر، وسيكون في هذا الطريق وسيأتيهم في هذا المكان، فدافع عنه حتى ردهم.

    بطلان استغلال المستشرقين لهذه القصة

    لكن هذه القصة قد استغلها بعض المستشرقين ليقولوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام علمه القرآن بحيرا الراهب ، قالوا: هذا الذي أوحاه يعني: الوحي هذا قرآن جاء من بحيرا الراهب لما التقى به.

    نقول: أولاً القصة عرفنا ماذا قيل في ثبوتها، لكن لنقل أنها ثابتة، هل يمكن لغلام التقى بهذا الراهب مدة وجيزة جداً أن يتعلم منه قرآناً كاملاً يحفظه ويسكت عنه، لا يعرف له أثر حتى يبلغ أربعين سنة ثم يقسطه عليهم على ثلاثة وعشرين سنة؟!

    وهل كان الراهب سيعلم بحديث قصة خولة بنت ثعلبة مع زوجها أوس بن الصامت قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] قبل حصول الظهار وقبل حصول حادثة خولة بنت ثعلبة بأكثر من أربعين سنة يعلمها بحيرا الراهب يقولها له في قرآن كامل يحفظه منه في فترة وجيزة، التقى به فيها لما اطلع قال: أروني غلامكم، ويحفظه القرآن ثم يسكت عنه أربعين سنة ما يجيب آية واحدة ثم يقول: اقرأ .. سنعلم عند ذلك أن هذا الكلام الذي قالوه هراء، ولكنهم قالوه من عداوتهم للمؤمنين قالوا: هذا القرآن كله من بحيرا الراهب.

    ويعرف طبعاً بحيرا الراهب قصة بدر وأنهم سينتصرون، ويعرف قصة أحد وأنهم سينهزمون، ويعرف الأحزاب وأن بني قريظة والمنافقين سيتحالفون، ويعرف قصة وقصة وقصة، طبعاً هذا الهراء لا يمكن أن يصدقه أحد.

    مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول

    هذه بعض الأحداث التي حصلت في طفولته عليه الصلاة والسلام نختم الكلام فيها بحادثة أخيرة وهي مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول، فقد جاء في حديث عبد الرحمن بن عوف قال عليه السلام: (شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أمكثه) طبعاً سمي بحلف المطيبين؛ لأنهم وضعوا الطيب في إناء ووضعوا أيديهم فيه، غمسوا أيديهم في الطيب وتعاهدوا على نصرة المظلوم، ولذلك سمي بحلف المطيبين.

    وحلف الفضول كما قال محمد بن إسحاق: وتداعت قبائل من قريش إلى حلفٍ فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وكان حلفهم عنده بنو هاشم وبنو عبد المطلب وبنو أسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة، فتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه هذه خلاصة حلف الفضول- وكانوا على من ظلمه حتى يردوا عليه مظلمته، فسمت قريشاً ذلك الحلف حلف الفضول.

    وحديث: (شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام فما أحب أن لي حمر النعم وأني أمكثه) رواه أحمد وأبو يعلى والبزار وقال الهيثمي : رجال حديث عبد الرحمن بن عوف رجال الصحيح.

    فهذه أبرز الأحداث التي كانت في طفولة النبي صلى الله عليه وسلم من ولادته، وقلنا: كيف أن الله سبحانه وتعالى قيظ الأحداث التي ركز فيها على مكان ولادته وسنة ولادته، وكيف كان الغلام مباركاً لأول أمره كما دلت على ذلك قصة حليمة ، وكيف أن الله رعى نبيه من الصغر، ووقعت حادثة شق الصدر لإعداده للمستقبل، ونزع من قلبه حظ الشيطان منه، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم صار في كفالة جده بعد أمه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755941968