إسلام ويب

قصة بناء البيت العتيقللشيخ : محمد المنجد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تكلم الشيخ حفظه الله في هذه المحاضرة عن كرامات ومعجزات وفضائل، أكرم الله عز وجل بها إبراهيم عليه السلام وأهله وذريته، حين أن أطاعوا ربهم واستجابوا لندائه، ومن هذه الكرامات والفضائل: نبوع ماء زمزم.. تفضيل مكة المكرمة ببناء البيت العتيق.. حج بيت الله الحرام.. تشريع الأضحية وغير ذلك. ثم استخرج الشيخ فوائد عدة من رحلة إبراهيم بهاجر وابنه إسماعيل إلى مكة.

    1.   

    نص حديث قصة بناء البيت العتيق

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعــد:

    فالقصة التي سنتحدث عنها في هذه الليلة -أيها الإخوة- قصة قصها علينا النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الأنبياء ممن كان قبلنا لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى [يوسف:111] .

    وهذه القصة هي قصة بناء الكعبة، وما وقع قبلها من الأحداث لإبراهيم الخليل عليه السلام مع أهله.

    وقد ساق الإمام البخاري رحمه الله تعالى هذا الحديث مطولاً، وهذه إحدى روايات الحديث:

    عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شَّنَّة - وهي القربة- فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشَّنَّة فيدر لبنها على صبيها، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة، ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتَّبَعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا كَدَاء نادته مِن ورائه: يا إبراهيم! إلى مَن تتركنا؟ قال: إلى الله، قالت: رضيتُ بالله. قال: فرَجَعَت، فجعلت تشرب من الشَّنَّة ويدر لبنها على صبيها، حتى فَنِي الماء. قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا ، فنظَرَت ونظَرَت هل تحس أحداً، فلم تحس أحداً، فلما بلغت الوادي سعت وأتت المروة -كان بين العَلَمَين الأخضرَين في الصفا والمروة كان يوجد وادٍ سعت فيه هاجر سعياً حثيثاً ومشت المسافة الباقية- فلما بلغت الوادي سعت وأتت المروة ، ففعلت ذلك أشواطاً, ثم قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ ما فعل -أي: الصبي- فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت -يشهق- فلم تُقِرها نفسها، فقالت: لو ذهبتُ فنظرتُ لعلي أحس أحداً، فذهَبَت فصعدت الصفا فنظَرَت ونظَرَت فلم تحس أحداً، حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ ما فعل، فإذا هي بصوت، فقالت: أغث إن كان عندك خير، فإذا جبريل قال: فقال بعقبه هكذا، وغمز عقبه على الأرض، قال: فانبثق الماء، فدهشت أم إسماعيل! فجعلت تحفز -أي: تجمع وتضم هذا الماء- فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: لو تَركَتَه كان الماء ظاهراً.

    قال: فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها، فمر ناس من (جُرْهم) ببطن الوادي، فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذاك، وقالوا: ما يكون الطير إلا على ماء، فبعثوا رسولهم، فنظر فإذا هم بالماء، فأتاهم فأخبرهم، فأتوا إليها، فقالوا: يا أم إسماعيل! أتأذنين لنا أن نسكن معك؟ فبلغ ابنها -أي: إسماعيل شَبَّ- فنكح فيهم امرأة.

    قال: ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله: إني مُطلع تركتي، قال: فجاء فسلم، فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيدُ، قال: قولي له إذا جاء غيِّر عتبة بابك، فلما جاء أخبَرَتْه، قال: أنتِ ذاك، فاذهبي إلى أهلك، قال: ثم إنه بدا لإبراهيم، فقال لأهله: إني مُطلِع تركتي قال: فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته -أي: الثانية-: ذهب يصيد، فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب، فقال: وما طعامكم؟ وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم، فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: بَرَكةٌ بدعوة إبراهيم -صلى الله عليهما وسلم- قال: ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله: إني مُطلِع تركتي، فجاء فوافق إسماعيلَ مِن وراء زمزم يُصْلِح نبلاً له، فقال: يا إسماعيل! إن ربك أمرني أن أبني له بيتاً، قال أَطِعْ ربك، قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه، قال: إذاً أفعل -أو كما قال- قال: فقاما، فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127] حتى ارتفع البناء، وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة، ويقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]) .

    هذه إحدى روايتَي البخاري اللتين ساقهما رحمه الله تعالى في صحيحه.

    1.   

    شرح حديث ابن عباس الطويل في قصة بناء البيت العتيق

    أما الرواية الأخرى فإنها رواية أطول من هذه، وفيها تفاصيل، وسنأتي الآن إلى شرحها، وأخذ العبر والدروس مما يتيسر بمشيئة الله تعالى.

    سبب إيراد سعيد بن جبير لقصة بناء البيت العتيق

    هذه القصة رواها سعيد بن جبير ، وهو تابعي أخذ التفسير عن ابن عباس ، وأخذ الحديث عنه أيضاً، وقد قتله الحجاج ظلماً، ولما حضرت الحجاج الوفاة جعل سعيد يعرض له، يرى الحجاج نتيجة الظلم وهو على فراش الموت، فكان يقول: ما لي ولـسعيد ، ما لي ولـسعيد!!

    سعيد بن جبير من سادات التابعين، ومن كبار العلماء، وكان في ليلة بأعلى المسجد، فقال لمن حوله من الطلاب: [سلوني قبل ألا تروني -ولعله كان رحمه الله يتوقع مَنِيَّتَه، فسأله القوم وأكثروا السؤال لما أحسوا أنه يودعهم- فكان مما سُئِل عنه أن قال رجلٌ: أحقٌ ما سمعنا في المقام -مقام إبراهيم- أن إبراهيم حين جاء من الشام حلف لامرأته ألا ينزل بـمكة حتى يرجع ...] أي: كان بين سارة -أو سارَّة لأنها كانت تَسُرُّ زوجَها إذا نظر إليها تَسُرُّ مَن نظر إليها- كان بينها وبين هاجر غيرة، فإبراهيم عندما أراد أن يذهب من عند سارة من الشام إلى مكة إلى الوادي الذي ترك فيه هاجر كأنه حلف لامرأته ألا ينزل بـمكة حتى يرجع، حتى لا يطيل المقام عند الأخرى، فقرَّبت إليه أم إسماعيل المقام فوضع رجله عليه حتى لا يحنث في يمينه، بل ينزل على الحجر.

    الآن هذا سائل يقول لـسعيد بن جبير : ... هل هذا الكلام صحيح؟ هل قصة المقام هكذا؟- فقال سعيد بن جبير: ليس هكذا، حدثنا ابن عباس وساق الحديث.

    وفي رواية قال: [يا معشر الشباب! سلوني، فإني قد أوشكت أن أذهب من بين أظهركم، فأكثر الناس مسألته، فقال له رجل: أصلحك الله، أرأيت هذا المقام هو كما نتحدث؟ وأورد له سؤالاً مشابهاً، فقال: ليس كذلك] ثم ساق القصة.

    هجرة أم إسماعيل إلى مكة

    القصة الأخرى التي رواها البخاري رحمه الله في السياق الآخر:

    عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال: (أول ما اتخذ النساءُ المِنْطَقَة مِن قِبَل أم إسماعيل -المِنْطَق الذي يُشد على الوسط، لماذا اتخذت أم إسماعيل المنطق؟- قال عليه الصلاة والسلام: اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة ...).

    كانت هاجر أمة لـسارة ، لأن الجبار عندما أراد أن يمس سارة بسوء، أراد أن يأخذها، دعت الله عز وجل فأصيب بالشلل، ثلاث مرات يحاول أن يمس سارة بسوء، والله سبحانه وتعالى يصيبه بالشلل، وفي النهاية قال لمن أتاه بها: إنك لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان، فخلى سبيل سارة وأعطاها هاجر وهاجر كانت عند الجبار الملك الظالم. وعندما رجعت سارة إلى إبراهيم قالت له: أخزى الله الفاجر وأخدم هاجر، ثم إن سارة وهبت هاجر لزوجها إبراهيم، ثم حصل بين سارة وهاجر من الغيرة ما يقع بين النساء، وإن سارة لما اشتدت بها الغيرة خرج إبراهيم بإسماعيل وأمه هاجر إلى مكة لأجل ذلك، وقد أمره الله تعالى بالخروج إلى مكة، واجتمع مع ذلك سبب الغيرة.

    فحتى لا تعرف سارة اتجاه هاجر وأثرها أين ذهبت، اتخذت منطقاً يشد على الوسط. (.. ويزحف وراءها على الأرض ليـخفي أثر مشيـها، فجاء إبراهيم بـهاجر من الشام إلى مكة ، وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت -الكعبة لم تكن مبنية ولا موجودة، وإنما مكان البيت- عند دوحة -أي: الشجرة الكبيرة- فوق زمزم في أعلى المسجد -مكان المسجد الذي لم يكن قد بُنِي حينئذٍ- وليس بـمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاءً فيه ماء -ماء وطعام لأهله الذين تركهم بأمر الله- ثم قَفَّى إبراهيم منطلقاً -أي: وضع هاجر وابنه إسماعيل في هذا المكان الوادي المقفر ورجع إلى الشام - فتبعته أم إسماعيل -لما ولى راجعاً إلى الشام تبعته أم إسماعيل- فأدركته بـكَدَاء ...) كداء موضع معروف في مكة غير كُدَى ، هناك في مكة مكانان: كداء وكُدَى ، وكلاهما مكان معروف، أم إسماعيل لما ولى زوجها إبراهيم خرجت وراءه تطلبه.

    مراجعة أم إسماعيل لإبراهيم وتعرض ولدها للهلاك

    (... فأدركته بـكداء، فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آللهُ الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا... وقالت في رواية: رضيتُ بالله -حسبي يكفيني الله عز وجل- ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية من طريق كداء -الموضع الذي دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة منه، لما بلغ الثنية حيث لا يرونه -لا تراه هاجر- استقبل بوجهـه البيـت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه فقال: رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ... [إبراهيم:37] حتى بلغ: ... يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37] ودعا لهم بأن يرزقهم الله من الطيبات والثمرات، وجعلت أم إسماعيل تُرْضِع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلبط -أي: يتقلب ظهراً لبطن وبطناً لظهر من العطش- فانطلقت كراهيةَ أن تنظر إليه -أي: من الشفقة التي جعلها الله في قلبها تركت ولدها وانطلقت, ما بيدها حيلة، المهم ألا ترى الولد يتلبط ولا تتحمل المنظر- فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه -صعدت على الصفا- ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً.. وفي رواية عطاء بن السائب : والوادي يومئذٍ عميق.

    الآن لا يوجد هناك وادٍ، الوادي أُزِيل وصار فيه بلاط بدلاً منه؛ لكن بقي العَلَمان الأخضران في أول الوادي وآخر الوادي، فنعلم أن ما بين العَلَمَين الأخضرَين كان هناك وادٍ عميق، هاجر عندما نزلت من الصفا مشت إلى الوادي، وانحطت من الوادي وأسرعت. (... فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود -الذي أصابه الجهد والأمر الشاق- حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة ، فقامت عليها -صعدت جبل المروة - ونظرت هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً -لأن الإنسان إذا أراد أن يستكشف هل يوجد في المكان أحد يصعد إلى مرتفع، وهذا ما فعلته رحمها الله صعدت ونظرت- فلم ترَ أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك سعي الناس بينهما..).

    لماذا يسعى الناس بين الصفا والمروة سبع مرات؟

    مثلما سعت هاجر بين الصفا والمروة سبع مرات. وكذلك عندما كانت في الوادي سعت سعياً شديداً، ونحن نسعى سعياً شديداً بين العَلَمَين الأخضرين مكان الوادي.

    بحث أم إسماعيل عن الماء وكرامة الله لها

    قال: (... فلما أشرفت على المروة -في ختام الشوط السابع- سمعت صوتاً، فقالت: صَهْ.. وفي رواية: أنها كانت كل مرة تتفقد إسماعيل، وتنظر ماذا حدث له بعدها وترجع، ولكن لم تقرها نفسُها -أي: لم تتركها نفسها مستقره فتشاهده في حال الموت، وكانت في كل مرة تلقي نظرة على إسماعيل وترجع تأخذ شوطاً وتصعد، وفي نهاية الشوط السابع وهي فوق المروة -سَمِعَت صوتاً فقالت: صَهٍ صَهْ -أي: اسكت، فكأنها من حرصها تقول لنفسها: اسكتي وأنصتي، لعلك تهتدي إلى مصدر الصوت- تريد نفسها -وإلا فصَهْ كلمة تقال لإسكات الشخص المتكلِّم، فهي قالت لنفسها: صَهْ- تريد نفسـها، ثم تسمَّعت فسمعت أيضاً -صوتاً- فقالت: قد أسمعتَ -مصدر الصوت- إن كان عندك غِواث أو غُواث -تريد به هذا المستغيث- فأَغِث -أي: إن كان عندك معونة أغث- فإذا هي بالملك وهو جبريل عليه السلام -وعند الطبري بسند حسن- فناداها جبريل، فقال: من أنتِ؟ قالت: أنا هاجر ، أو أم ولد إبراهيم -أم ولد، أمة إبراهيم أم ولده- قال: فإلى من وَكَلَكُما؟ قالت: إلى الله، قال: وَكَلَكُما إلى كافٍ -أي: يكفيكما- حسبكما مَن وَكَلَكُما إليه -وَكَلَكُما إلى عظيم يكفيكما- فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو قال: بجناحه -شكٌّ من الراوي، هل ضرب جبريل الأرض بمؤخر قدمه وهو العَقِب، أو ضرب الأرض بجناحه؟- لما فعل ذلك جبريل ظهر الماء.. وفي رواية: نبعت زمزم -نبعت زمزم من هذه الضربة- حتى ظهر الماء، ففاض وانبثق، وأول ما رأت هاجر هذا المنظر -من حب التملك، والحرص على الماء ألَّا يذهب- جعلت تحوِّضُه -تجعله مثل الحوض، وتقول بيدها هكذا، تحبس الماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم قال: يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم، أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً) أي: لو أن هاجر تركت زمزم كما هي مثلما ضَرَبها جبريل وانبثقت، لصارت زمزم نهراً جارياً يمتد ويجري على ظاهر الأرض، لكن حرصها الزائد جعلها تحوط الماء، فبقي في مكانه، وإلا لأصبح الآن نهراً يجري، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور -بعد ما تغرف- فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملَك: (لا تخافوا الضيعة -يطمئنها، لا تخافي أن ينفد الماء، لا تخافي الظمأ- فإنها عين يشرب منها ضيفان الله.. وفي رواية: قالت: بشرك الله بخير.. وفي رواية البخاري فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يَبْنِي هذا الغلام وأبوه.. وفي رواية: يبنيه هذا الغلام وأبوه -وأشار إلى موضع البيت على مدرة حمراء -تربة حمراء- قال: أشَّر لها إلى موضع البيت، وقال: هذا بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه -بشرها ببناء البيت العتيق- وكان موضع البيت لم يُبْنَ بعد- وكان البيت مرتفعاً من الأرض ...) يقال: إن آدم قد بناه في هذا الموضع، ولكن البيت قد ذهب بعد ذلك، وأن بعض الأنبياء بعد آدم كانوا يحجون إلى المكان ولا يعرفون موضعه، حتى جاء إبراهيم الخليل فبناه.

    نزول قبيلة جرهم عند أم إسماعيل بمكة

    قال: (فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية -مكان البيت مرتفع كالرابية- تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم -وهي قبيلة مشهورة- فبقيت هاجر على هذا الحال تتغذى وولدها على هذا الماء المبارك ...) ماء زمزم الذي هو طعام طُعْم وشفاء سُقْم، يغني عن الماء. حتى أن أبا ذر رضي الله عنه لما جاء مكة جلس عند زمزم يشرب من زمزم فقط شهراً حتى تكسرت عُكَنُ بطنه، أي: سَمِن حتى ذهبت عُكَنْ بطنه مِن السِّمَن ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن زمزم: (ماء زمزم طعام طُعْم وشفاء سُقْم) يقوم مقام الطعام، وهو سبب للشفاء من الأمراض والأسقام فإذن الله.

    عندما أتى هؤلاء الرفقة من قبيلة جرهم (... مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائراً عائفاً -أي: رأوا طائراً يحوم فوق الموضع- فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء -العرب كانوا يعرفون أنهم إذا رأوا الطائر يدور في موضع معناه: أنه يوجد ماء في هذا الموضع- فاستغربوا -استغرب هؤلاء الجرهميون- قالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، وعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء -متى صار هناك ماء في الوادي، عهدُنا ما فيه ماء- فأرسلوا جَرِيَّاً ...

    قبيلة (جرهم) من العرب كان مكانهم قريباً من مكة ، ويقال: إن أصلهم من العمالقة، هؤلاء عرب يتكلمون العربية، ولما نزلوا جاءوا على عادتهم في التنقل في هذا الموضع ورأوا طائراً عائفاً. ... فأرسلوا جَرِيَّاً -وهو الرسول، أرسلوه ينظر لهم الخبر، وسمي الرسول جَرِيَّاً؛ لأنه يجري مسرعاً في حوائجه ليأتي بالخبر بسرعة- فإذا هم بالماء، فرجع، فأخبرهم بالماء -رجع الرسول وأخبر قبيلة جرهم أن المكان فيه ماء- فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك، فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء -الماء ملكي فقط وليس لكم حق فيه- قالوا: نعم -نرضى وننزل عندكِ، والعرب كانوا ينزلون في المكان الذي فيه ماء. قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أمَّ إسماعيل، وهي تحب الأنس ...) فالأُنس ضد الوحشة، والإِنس جنس هاجر من الإِنس، تحب جنسها، أو تحب الأُنس الذي هو ضد الوحشة، رأت هاجر من مصلحتها أن ينزل هؤلاء عندها، لماذا تبقى وحيدة في الصحراء؟! وافقت على أن ينزلوا عندها وشرطت عليهم أنه لا حق لهم في الماء.

    ... فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم -استدعوا هؤلاء الجرهميون أهاليهم- فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم -من جرهم- وشبَّ الغلام -أي: إسماعيل عليه السلام - وتعلَّم العربية منهم ...) إذاً: إسماعيل بن إبراهيم لم يكن أبوه عربياً ولا أمه هاجر عربية، فتعلم العربية من جُرْهم، لكن عندنا حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (أول مَن فَتَقَ الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل) فكيف نجمع بين هذا وهذا؟!

    نقول: إن إسماعيل تعلَّـم العربية مِن جُـرهم، لكن الله رزق إسماعيل الفصاحة المتناهية في اللغة العربية، ولذلك يقول الحديث: (أول مَن فَتَقَ الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل) فجرهم عرب وعلموه العربية، لكن ليست العربية الفصيحة المبينة.. مَن الذي ألهم إسماعيل العربية الفصيحة المبينة؟ الله عز وجل.

    إذاً: أصل اللغة تعلمها من جرهم، ثم إن الله أَلْهَم إسماعيل العربية الفصيحة المبينة فنطق بها، ولذلك صار إسماعيل أفصح العرب، ثم صارت اللغة الفصيحة بعد ذلك تُتَناقَل.

    لذلك الذين قالوا: إن اللغة العربية مصدرها الوحي لهم حظ من الدليل.

    ويمكن أن يقال: إن أصل اللغة كانت موجودة عند جرهم، لكن مستوى الفصاحة والبيان في اللغة كان بوحي أو بإلهام من الله، هو الذي ألهم إسماعيل وعلمه العربية الفصحى، فالعربية الفصحى إلهام من الله لإسماعيل، وبعد إسماعيل انتقلت هذه العربية الفصحى التي يرفض اليوم بنو قومنا استعمالها، ويصرون على الكلام بالأجنبية، والتاريخ بالأجنبية، والعمل باللغة الأجنبية، وهذه اللغة العربية مصدرها إلهام من الله لإسماعيل، فلماذا العدول عنها؟!

    إبراهيم عليه السلام يتفقد تركته في مكة

    قال: (... وشب الغلام، وتعلم العربية منهم وأنْفََسَهُم -مِن النَّفاسَة، أي: رغبوا فيه، وأعجبهم؛ لأنه صار ينطق بلسانٍ عربيٍ أحسن منهم، تفوق عليهم في اللغة- فلما أدرك -أي: بلغ- زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل -رحمة الله عليها، هاجر ماتت، بعدما تزوج إسماعيل- فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يُطالِع تَرِكَتَه ...) جاء يتفقد مَن تركهم بعد سنوات طويلة.

    يقال: إن إبراهيم ترك إسماعيل رضيعاً وعاد إليه وهو متزوج.

    وقيل: إنه جاء في بعض الروايات: أنه كان إذا أراد أن يأتي ليتفقد التركة، يأتي من الشام على البراق إلى مكة في الصباح، ويقيل في الشام ، يأتي على البراق غُدْوَة من الشام إلى مكة ، ويقيل القيلولة بعد الظهر في الشام مرة أخرى على البراق.

    قال ابن حجر : وروى الفاكهي من حديث علي بإسناد حسن نحوه، وأن إبراهيم كان يزور إسماعيل وأمه على البراق.

    وعلى هذا فقوله: (... فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل -أي: بعد مجيئه قبل ذلك مراراً، كان يتردد ويتفقد، لكن بعدما تزوج إسماعيل جاء يتفقد التركة- فلم يجد ولده إسماعيل في البيت، فسأل امرأته عنه: أين إسماعيل؟ فقالت: خرج يبتغي لنا -يطلب لنا الرزق- وكان عيش إسماعيل الصيد -يخرج فيتصيد، كان إسماعيل يرعى ماشيته ويخرج متَنَكِّباً قوسه فيرمي الصيد- ثم سألها عن عيشهم -إبراهيم سأل زوجة ابنه في غيابه عن عيشهم وهيئتهم- فقالت: نحن بِشَرٍّ، نحن في ضيق وشدة.. وفي رواية أنه قال لها: هل من منزل؟ قالت: لاهى اللهُ إذاً -لا يوجد منزل- قال: فكيف عيشكم؟ فذكرت جهداً، فقالت: أما الطعام فلا طعام، وأما الشاة فلا تحلب إلا المُصَرَّة -أي: مثل الشخب، تسيل سيلاناً فقط، شيء قليل- وأما الماء فعلى ما ترى من الغِلَظ ...) امرأة متأففة، غير راضية ولا قانعة، وتشكو زوجها إلى الأغراب، لا تعرف من هو هذا الرجل، بمجرد ما جاء وسأل عن عيشهم وقعت في عيشهم: نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه. (... قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً -أحس كأن أحداً جاء- فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم. جاءنا شيخٌ كذا وكذا -وصفته كالمستخفة بشأنه- فسألنا عنك فأخبرته، وسألنا كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاكِ بشيء؟ قالت: نعم. أَمَرَني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقكِ، الحقي بأهلك، فطَلَّقَها ...).

    لماذا كنَّى إبراهيم بالعتبة عن المرأة؟

    وما هو وجه العلاقة بين العتبة والمرأة؟

    عتبة الباب ما هي وظيفتها؟

    حفظ الباب، وصون ما هو داخل الباب، وهي محل الوطء، العتبة محل الوطء، فشبَّه إبراهيم المرأة بعتبة الباب، قال: هذه العتبة لا تصلح، فغيِّر العتبة.

    دعاء إبراهيم عليه السلام لأهل مكة بالبركة

    قال: (.. قال: وتزوج منهم أخرى -تزوج إسماعيل من جرهم امرأة أخرى- فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله -انقطع بعد ذلك إبراهيم ما شاء الله- ثم أتاهم بعدُ، فلم يجده -لم يجد إسماعيل- فدخل على امرأة ابنه، فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ -وسألها عن عيشهم وهيئتهم- فقالت: نحن بِخَيْرٍ وسَعَة -نحن في خير عيش والحمد لله، وعندنا لبن كثير، ولحم كثير، وماء طيب- وأثنت على الله، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذٍ حَب -لا يوجد إلا اللحم والماء، لا يوجد حَب، لا يوجد قمح، لا يوجد أرز، لا يوجد شيء إلا اللحم والماء- ولو كان لهم دعا لهم فيه ...) لا يوجد في مكة إلا اللحم والماء، لو كان فيها شيء آخر لقال إبراهيم: اللهم بارك لهم في مدهم.. في صاعهم.. في كيلهم.. في حَبهم.. في برهم، لا يوجد إلا اللحم والماء.

    قال عليه الصلاة والسلام: (... فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة ، إلا لم يوافقاه ...) يقول عليه الصلاة والسلام: لو اقتصر أحد على اللحم والماء بغير مكة لاشتكى بطنه، أي: يمرض، إلا مكة لا يمرض، لماذا؟

    قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( بركة بدعوة إبراهيم ) لأن إبراهيم دعا وقال: (اللهم بارك لهم في اللحم والماء) صار الآن اللحم والماء في مكة لا يضر، وفي غيرها يضر الاقتصار على اللحم والماء وهذه من خصائص مكة .

    قال: (... فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومُرِيْه يثبت عتبة بابه) وجاء في رواية: قالت: (انزل رحمك الله، فاطعم واشرب، قال: إني لا أستطيع النزول، قالت: فإني أراك أشعث، أفلا أغسل رأسك وأدهنه، قال: بلى، إن شئتِ، فغسلت شِق رأسه وهو على دابته الأيمن والأيسر ثم انصرف، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم. أتانا شيخ حسن الهيئة -تلك ماذا قالت؟ شيخ كذا وكذا- وهذه قالت: أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا، فأخبرته، أنا بِخَيْرٍ، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم. هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تُثْبِتَ عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك).

    قيام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ببناء الكعبة

    جاء في بعض الروايات: (أن إسماعيل لما رجع وجد ريح أبيه، فقال: هل جاءكِ أحد -فهذا الذي أشعره بأن أحداً قد جاء، ولذلك سأل- قال: ثم لبث عنهم ما شاء الله -انقطع عنهم ما شاء الله- ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً -أي: يقلم النبل قبل تركيب النصال والريش عليها يبريها- يبري نبلاً له تحت دوحة قريبة من زمزم -دوحة: أي شجرة قريبة من زمزم- فلما رآه -إبراهيم الآن رأى إسماعيل، تقابلا الآن المرة الثالثة- فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد -من الشوق والحماءة واللقاء الحار، اعتناق، ومصافحة، وتقبيل اليد.. ونحو ذلك.

    وفي رواية معمر قال: سمعتُ رجلاً يقول: بَكَيا حتى أجابهما الطير -كان اللقاء حاراً جداً بعد هذه السنوات الطويلة من الفراق- قال عليه الصلاة والسلام: فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد -بعد طول الغيبة كيف يكون اللقاء حاراً وعناقاً ومصافحةً وتقبيلاً!- ثم قال: يا إسماعيل! إن الله أمرني بأمرٍ، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة -هضبة مرتفعة- على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127] قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت -يبني ويدور.. يبني ويدور- وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127] ...) فقيل: إن إبراهيم بلغ أساس آدم وجعل طوله في السماء تسعة أذرع، وعرضه ثلاثين ذراعاً -ارتفاع البيت وعرض البيت- وجعل الحجر داخل البيت، الآن الحجر خارج البيت كما قلنا في تفصيل القصة في المرة الماضية: إن الحجر الآن هو جزء من الكعبة، لكنه خارج البيت، وأما إبراهيم الخليل فعندما بناها كان الحجر هذا كله داخل البيت (... وكان إبراهيم يقوم على المقام -الذي جاء له به ولده- ولما جاء موضع الركن وضع فيه هذا الحجر الأسود الذي نزل من الجنة -قيل: أتاه به جبريل- وبعد ذلك قام إبراهيم على الحجر، فقال: يا أيها الناس! كُتِب عليكم الحج، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه مَن آمن ومَن كان سبق في علم الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك) .

    قال ابن حجر : روى الفاكهي بإسناد صحيح من طريق مجاهد عن ابن عباس، أن إبراهيم عندما انتهى من بناء البيت نادى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27] نادى من مكانه بدون مكبرات، أو أي شيء آخر: يا أيها الناس! كُتِب عليكم الحج.

    فالله عز وجل تكفل بإبلاغ صوته إلى الناس كلهم في الأرض في ذلك الوقت، سمع صوتَه كل أهل الأرض، وليس فقط ذلك، وإنما أسمع الله من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه كل مَن كتب الله له أن يحج إلى يوم القيامة، قائلين حتى الذين في أصلاب الرجال، حتى الذين ما خُلِقوا بعد، أجابوا: (لبيك اللهم لبيك) بقدرة الله عز وجل.

    هذه قصة بناء البيت العتيق.

    1.   

    فوائد مستفادة من قصة بناء البيت العتيق

    هذه القصة فيها فوائد كثيرة جداً، وسوف نذكر بعض هذه الفوائد، فمن ذلك:

    الحرص على سؤال أهل العلم

    أولاً: الحرص على سؤال العلماء، وأن العلم يُفْقَد بموت العلماء، وأن سعيد بن جبير عندما قال: [سلوني فإنه يوشك أن تفقدوني] أنه يجوز للعالم أن يقول للناس: سلوني، ويجيب بما علمه الله، والذي لا يدري عنه يقول: الله أعلم.

    الغيرة بين النساء

    في هذا الحديث أيضاً: أن الغيرة بين النساء تقع حتى بين الصالحات، سارة مع أنها حُرَّة وهاجر أَمَة؛ لكن صار عند سارة غَيرة من هاجر ، فـهاجر أنجبت وسارة تأخر إنجابها، حتى أنجبت إسحاق ، تأخَّر إنجابها حتى حصلت الغَيرة.

    المباعدة بين الزوجتين حل من حلول الغيرة

    مِن حكمة الزوج أن المباعدة بين الزوجتين حلٌّ مِن حلول الغيرة، المباعدة بين الزوجتين حلٌّ من الحلول لمواجهة الغيرة، والغيرة من شأن النساء، وأن غيرة المرأة لا تقدح في صلاحها إذا لم تتعدَّ حدود الله، وأن المرأة يغتفر لها من الغيرة ما لا يغتفر لغيرها: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] لأن المرأة أحياناً تكون خارجة عن إرادتها.

    لما جيء للنبي عليه الصلاة والسلام وهو عند عائشة بإناء فيه طعام من إحدى زوجاته، بمجرد ما رأت عائشة الإناء قالت: في بيتي؟ -ترسله في بيتي- فأخذت الإناء ورمته في الأرض، وانكسر، والنبي عليه الصلاة والسلام بكل حكمه، لَمْلَمَ الطعام وجمعه، وأخذ فلقتَي الإناء، وقال: (كلوا، غارت أمُّكم ) أي: عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأخذ من بيت عائشة إناءً، وأرسل به إلى تلك بدل الإناء المكسور، واحدٌ بواحد، وقال: (كلوا، غارت أمُّكم) ولا عنَّف ولا شتم ولا سب ولا هجر.

    وكذلك عائشة رضي الله عنها لها مشاهد كثيرة، تغار فيها غيرة شديدة، وغارت من خديجة مع أن خديجة ميتة، ماتت قبل عائشة بزمن، ومع ذلك تقول: [ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة] ، وكانت تقول: (ما تريد من عجوز حَمْراء الشِّدْقَين، قد أبدلك الله خيراً منها -كل شيء خديجة .. وخديجة .. وخديجة - قال: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد).

    فالغيرة تقع حتى بين كبار الصالحات، وهكذا وقع بين سارة وهاجر غَيرة، لكن الأمر المهم هو التصرف الحكيم للزوج، هو الذي يضع الأمور في نصابها، رأى إبراهيم بحكمته أن يباعد بينهما، فوضع سارة في الشام وهاجر في مكة .

    مسئولية الحفاظ على الأهل والأولاد

    كذلك في هذا الحديث: أن الإنسان لا يضيع أهله، مع أن إبراهيم مأمور بأن يضع هاجر في مكة : (آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم) أمر من الله، لكن مع ذلك وضع عندها جراباً من تمر، وسقاءً فيه ماء، ولما ولى وابتعد عنهم دعا لهم الله عز وجل.

    فمسئولية شعور الزوج والأب بمسئوليته نحو زوجته وولده، هذا الذي يجعل الأمور تسير سيراً حسناً.

    أما إذا كان الإنسان مهملاً -كما هي عادة بعض الأزواج- لا يحسب حساب زوجته ولا أولاده، وربما أنهم يأخذون الطعام من الجيران، أو لا يجدون شيئاً في البيت ولا الطعام ولا حتى الخبز، يسافر ولا يترك لهم لا مالاً ولا أكلاً.

    تقول إحدى النساء: يأتي إلى البيت بنماذج وعَيِّنات من الأكل تنتهي بعد يومين أو ثلاثة أيام، ويقول: هذا حق شهر، وربما أنه لا يجد طعاماً في البيت فيأكل في المطعم ويترك زوجته جائعة، هناك أناسٌ عندهم طباع عجيبة، البخل والإهمال في البيت في أسوأ ما يكون.

    إبراهيم الخليل ترك جراباً من تمر وسقاءً من ماء، ودعا الله لهما.

    قوة الثقة بالله عز وجل

    كذلك في هذا الحديث: الثقة بالله تعالى، والثقة بالنفس لا تجوز، وإنما الثقة بالله، ويظهر إيمان هاجر عندما قالت له: (آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا. وفي رواية قالت: رضيت بالله) ولا يتم هذا الكلام إلا إذا كان هناك إيمان قوي بالله عز وجل، وإلا فإن الإنسان ربما ينهار ويموت ويُجن ويصاب بما يصاب به، لكن الذي يثق بالله تعالى وبأمر الله ما دام الأمر من الله إذاً الله لن يضيعهم، لأنه لا يمكن أن يقول لإبراهيم: ضعهم في مكان حتى يموتوا من الجوع! لا، ليس هذا من حكمة الله، ولذلك أمر إبراهيم أن يضع هاجر وإسماعيل في مكان ويتركهما، وهذا من عظيم الابتلاء.

    ابتلاء الأنبياء

    إبراهيم ما صار أبو الأنبياء، ولا خليل الله، ولا أفضل نبي بعد نبينا عليه الصلاة والسلام إلا بصبره، ابتلاه الله بابتلاءات عظيمة وصبر، فكون الواحد يترك زوجته وولده في وادٍ غير ذي زرع، لا يوجد فيه أحد، ويمشي وقلبه متعلق بالولد، ويؤمر بتركه ويمشي، هذا ابتلاء عظيم، ولا يصبر عليه إلا من رزقه الله الصبر، وهذا درس آخر.

    وابتلاه الله بذبح هذا الولد، ابتلاه الله بتركه في صحراء ما فيها أحد وهو رضيع، ولما كبر وبلغ معه السعي وشَبَّ ابتلاه الله بذبح ولده.

    وفعلاً: فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] استسلما لله: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] وقلبه على وجهه ليذبحه من القفا حتى لا يرى آلام إسماعيل على الوجه وهو يذبح، فربما يتردد، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] وقلبه وبدأ في الذبح، فإذا بالله تعالى يبطل مفعول السكين: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات:104-105] وبعد ذلك فداه الله بذبح عظيم، وشُرِعت لنا الأضحية.

    بسبب إبراهيم شرعت لنا عبادات:

    - الحج: من إبراهيم.

    - بناء البيت: من إبراهيم.

    - السعي بين الصفا والمروة: من هاجر أَمَة إبراهيم.

    - زمزم: من إبراهيم، بسبب ما تركه هناك، رزق الله ولده وأمه زمزم، وبركة زمزم.

    - الأضحية: صيغة الخليل إبراهيم عليه السلام.

    السعي في بذل الأسباب

    وكذلك في هذا الحديث من الفوائد: السعي في الأسباب؛ لأن هاجر عندما انتهى ما عندها من الزاد قالت: لو ذهبتُ فنظرتُ لعلي أحس من أحدٍ، وذهبَت صعدت الصفا ثم صعدت المروة سبع مرات بينهما تجري وتستنصت، وهي امرأة لا تملك شيئاً، لكنها فعلت كل ما في وسعها، ولم تقل: أبقى في مكاني حتى ينزل الله عليَّ من السماء رزقاً، ولذلك لا بد من الأخذ بالأسباب.

    والله تعالى قادر على أن ينزل على مريم الرُّطَب من النخل بدون أن تهز النخل، لكنه قال: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً [مريم:25-26]

    إذاً: أمرها بهز النخلة، مع أنه -بالعقل- النخلة من أقوى الأشجار، لا يمكن للرجال أن يهزوها، كيف تهزها امرأة؟! كيف إذا كانت المرأة في وضعٍ بعد وضع الولد؟! أضعف ما تكون: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً [مريم:24] السَّرِي: النهر: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:25] كيف تهز بجذع النخلة؟! لتعليم العباد الأخذ بالأسباب، والله قادر على أن ينزل عليها الرطب من غير هز.

    وهذه هاجر رحمها الله تتطلب الأسباب، وتذهب وتصعد وتنظر وتستنصت لعل الله سبحانه وتعالى أن يقيِّض لها شيئاً.

    الفرج بعد الشدة

    في هذا الحديث أيضاً: أن الفرج يأتي بعد الشدة، وأنه إذا بلغ الأمر منتهاه في الشدة جاء الفرج، قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5-6] .

    والإنسان إذا وصل إلى حالة يأس جاء الفرج من الله، وجاء الملَك، وليس بعد المرة الأولى أو الثانية، بل بعد المرة السابعة، وتعب، وسعي الإنسان المجهود بين الصفا والمروة، تصعد جبلاً وتنزل جبلاً سبع مرات، وتصعد جبلاً وتنزل جبلاً، وتجري في الوادي جرياً، وجاء بعد ذلك الفرج، وهذه من عادة الله تعالى أن يأتي بالفرج بعد أن يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].

    حرص الإنسان قد يمنعه من زيادة الخير

    وكذلك في هذا الحديث: أن حرص الإنسان ربما قد يمنعه من مزيد من الخير، (ولو أن أم إسماعيل تَركَتَها لكانت عيناً معيناً لا ينضب يمشي) نهراً جارياً يمشي.

    من حكمة الرجل كتم القلق عن أهله

    كذلك فإن في هذا الحديث: أن راعي الأسرة من حكمته أن يكتم القلق عن أهله، فقد تكون عنده أسباب وبواعث للقلق كبيرة، لكن لا تكون الحكمة أن يخبرهم بها فيزدادوا قلقاً.

    فهذا إبراهيم متى دعا؟ لما ترك أهله، وانطلق حتى إذا كان عند الثنية بحيث لا يرونه.. استقبل بوجهه البيت ودعا، ولو أنها رأته يدعو وهو يظهر الحاجة ربما ازدادت قلقاً؛ لكن أخفى عنهم ذلك، وهذا أيضاً من إخلاصه، ولكن عندما يتماسك أمامها ويظهر لها التجلد، ثم إن إبراهيم عندما مشى لم يرجع إلى الوراء، وإنما انطلق وذهب، حتى إنها ذهبت وراءه، ولم تدركه إلا عند كداء.

    تقييض الله لصاحب النية الحسنة من يعينه ويؤنسه

    وكذلك في هذا الحديث: أن الله سبحانه وتعالى يقيض لصاحب النية الحسنة من يعينه ويؤنسه، ولهذا قيض جرهم قبيلة كاملة لأجل هاجر يؤنسوها وينزلوا عندها، والماء ملكها، تعطيهم وتأخذ منهم مقابله أشياء.

    حنان الأم وعطفها البالغ

    كذلك في الحديث حنان الأم وعطفها البالغ، عندما رأت الولد ينشغ للموت لم تستطع أن تتحمل هذا المنظر، وذهبت تبحث عن حل، ورجعت تطمئن، وما تحملته وذهبت تبحث عن ماء ولكنها ذهبت بمفردها وكانت تعود لتطمئن عليه.. وهكذا.

    وبعض النساء اليوم تترك الولد عند الخدامة ولا تدري عنه شيئاً، أهو صاحٍ؟ أهو نائم؟ أهو جائع؟ أهو شبعان؟ أبه مرض؟ أصحيح هو أو غير صحيح؟ أحي أم ميت؟ لا تدري عنه شيئاً، فأين هذا من هذا؟! ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير نساء ركبن الإبل صالحوا نساء قريش، أحناه على ولدٍ في صغره) من ميزات صالحات نساء قريش: أنهن أحناه على ولدٍ في صغره.

    والآن مع وجود الخادمات ووجود السخط في الأسواق والمناسبات والزيارات، بعض النساء -فعلاً- فرطن في الأولاد، فلذلك لا تعرف عن خبر ولدها إلا كما يعلم البعيد عن البيت، وعهدن بالأولاد إلى الخادمات، ولذلك صار من القصور في التربية، وحتى الشفقة والحنان التي هي مدعاة وسبب للاستقرار النفسي عند الولد قليل جداً.

    تقول الدراسات الطبية الآن وتثبت: أن لبن المرأة وضم المرأة لولدها إلى صدرها ومناجاتها له وهو صغير رضيع من الأسباب التي تشبع غريزة العطف والحنان، إظهار العطف والحنان من أسباب الثبات والاستقرار النفسي للولد، وترك الولد وتضييعه مما يسبب نشأته من الصغر على حال من فقدان الحنان وفقدان الاستقرار النفسي، فتنشأ الاضطرابات النفسية عند الأطفال منذ سن مبكرة، والسبب هو ترك الولد عند الخادمة والذهاب للأسواق والمناسبات.. تعطي الولد حليب صناعي؛ لأنها تريد أن تحافظ على شكلها ومنظرها.

    والله سبحانه وتعالى يقول: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا [البقرة:233] أي: لا يجوز للمرأة أن تفطم الولد دون مشاورة الأب.. مشاورة أهل الخبرة: عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا [البقرة:233] من الأبوين، وَتَشَاوُرٍ [البقرة:233] مشاورة أهل الخبرة، ليس على مزاج الأم أن تفطم الولد في أي وقت تريد! لا، فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً [البقرة:233] فطام الولد: عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا [البقرة:233] اثنين: وَتَشَاوُرٍ [البقرة:233] بعد ذلك تفطم الولد، وحليب الأم مهم للولد.

    ولذلك هاجر رحمها الله عندما جلست عند ولدها كانت تأكل وتشرب وترضع ولدها، قال في الحديث: (فجعلت تشرب من الشَّنَّة ويدر لبنها على صبيها) .

    الأخذ بالقرائن والإشارات وتفقد الأولاد

    وفي هذا الحديث: الأخذ بالقرائن والإشارات، وأن جرهم عرفوا أن هناك ماءً نتيجة رؤية الطير الذي يحوم، وهذا فيه العمل بالقرائن والأدلة.

    وكذلك في هذا الحديث: تفقد الأولاد، وأن إبراهيم كان يأتي من الشام يسافر عدة مرات يتفقد تَرِكَتَه، وعدم تضييع الأولاد، ويؤخذ هذا بالنسبة للإخوان من العمال الذين يعملون في هذا البلد وتركوا أهاليهم وأولادهم في بلدهم، أن عليهم ألا تأتي فرصة يستطيعون فيها الذهاب إلى زوجاتهم وأولادهم في بلادهم إلا وينتهزوها لتفقد الأولاد والنساء.

    لأن المرأة إذا تُرِكت فإن تركها لوحدها سنة أو أكثر بعيدة عن زوجها يسبب أموراً منها:

    أولاً: أنها تشعر بالخوف، المرأة تشعر بالأمان مع الزوج، وبدون زوج كيف يكون وضعها؟

    ثانياً: ربما احتاجت إلى الناس ومدت يدها إليهم، ليس عندها أحد يأتي لها بالأغراض وما تحتاجه.

    ثالثاً: ربما يكون فيه مدعاة للفساد، خصوصاً في هذا الزمن، وكم حدثت من كوارث.

    ثم: الولد والأولاد إذا كبروا والأب غير موجود، الأب يعمل في السعودية صحيحٌ، لكن الأولاد كيف ينشئون؟! ولذلك بعض الناس عندما يرجع قد يجد ولده صار مدخناً، وبعضهم أصبح يستعمل المخدرات، وبعضهم يعمل المنكرات؛ لأنه لا يوجد أب بجانب الأولاد، صحيحٌ أن المادة مهمة؛ لكن أيضاً بقاء الأب بجانب الأم والأولاد أهم.

    فعلى الإنسان ألا تأتيه فرصة إلا وينتهزها للذهاب إلى أهله.

    ولا يجوز للإنسان شرعاً أن يترك زوجته أكثر من أربعة أشهر أو ستة أشهر إلا برضاها، إذا قالت: أنا لا أرضى أن تتركني أكثر من أربعة أو ستة أشهر، فعند ذلك لها أن تطلب الطلاق أو يرجع إلى زوجته.

    نعم. هناك صعوبات تكون في بعض الأحيان ليس للإنسان فيها يد، يريد أن يجتمع بزوجته ويأتي بزوجته، لكن يحول بينه وبين ذلك عوائق، لا يكون له يد فيها، فيشكو أمره إلى الله، ويأخذ بأقل المفاسد، إن كان أقل المفاسد أن يعمل بعيداً عنهم يعمل، وإن كان أقل المفاسد أن يذهب إليهم يذهب.

    وربما كان العيش على شيء من الضيق وهو مع أهله وأولاده خير من توفير ثمن أرض أو بناء وهو تارك لأهله، يعني: الراعي بعيد عن الرعية.

    سعي الزوج لإعطاء العائلة والأولاد

    كذلك: إسماعيل عليه السلام كان يخرج ليصيد، وهذا يؤخذ منه سعي الزوج لإعطاء العائلة والأولاد والأهل حقهم والقيام عليهم، وبعض الناس كسالى، يقول بعضهم لزوجته: اذهبي واشتغلي أنتِ ليأخذ راتب الزوجة وهو نائم، يوجد أناس كسالى فعلاً، الواحد تقول له: ما هو دخلك؟

    يقول لك: راتب زوجتي، ما شاء الله! وأنت أين دخلُك؟! فهناك أناس من كسلهم أنهم يعيشون على مرتبات زوجاتهم، ولو أنه لم يجد وظيفة، أو أنه حاول، لقلنا: هذا معذور، لكن أن يتكاسل ويجلس فلا.

    هذا إسماعيل عليه السلام يبري النبل ويذهب ليصيد.. يخرج يبتعد مسافة ويأتي فيها أبوه ويرجع ولم يره.

    انتقاء الزوجة الصالحة

    كذلك في هذا الحديث: الحث على انتقاء الزوجة الصالحة القنوعة التي تعرف النعمة وتشكر الزوج، ولذلك المرأة الأولى قالت: نحن بِشَرٍّ.. نحن بضيق.. نحن في كذا، وتشتكي، فهذه امرأة سيئة الخُلُق، ولم تكرم الغريب، ولم تقدم له خدمة، ولما جاء غريب إليها شَكَتْ زوجها إليه، ما هذه المرأة التي تشكو زوجها إلى الغريب؟!

    لو شكت زوجها إلى أبيه وهي تعرفه أنه أبوه، لقلنا: إنها تريد حلاً في نطاق الأسرة والعائلة، لكنها تشكو زوجها إلى الغريب، هذه امرأة خير فيها من جهة حق الزوج، ولذلك أمره أن يطلقها.

    حكم أمر الأب ابنه بطلاق زوجته

    هنا نأتي إلى مسألة وهي: ما هو الحكم الشرعي فيما لو أمر الأب أو الأم الابن بطلاق زوجته هل يجب عليه الطلاق أم لا؟

    لو أمر الأب أو الأم الولد بطلاق زوجته، هل يجب عليه تنفيذ الأمر أم يكون من عقوق الوالدين إذا رفض؟

    الجواب فيه تفصيل:

    - إن كانت الزوجة سيئة الدين، سيئة الخُلُق؛ وجب عليه أن يطيع أبويه، مثل إسماعيل، لما رأى إبراهيم سوء خُلُق زوجته، قال: غير عتبة بابك.

    فإذا كانت الزوجة سيئة الخُلُق.. تتبرم.. لا يعجبها شيء، وتشتكي زوجها إلى الأغراب، ولا كرم عندها، ولا عندها شيء، فهذه تُغَيَّر، مثلاً: زوجة لا تصلي.. زوجة ترى المنكرات.. زوجة تقول: انظر! إما أنا وإما التلفاز، أي: أعطني تلفازاً أجلس معك، وإذا لم تعطني تلفازاً فسأرمي لك الأولاد وأمشي، فهذه عندها استعداد أنها تضحي به وبأولاده من أجل التلفاز، أين السكينة؟ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا [الروم:21] أين السكن والسكينة والإيمان؟ مفقود، فربما يكون له من الخير أن يطلقها، كيف يحتفظ بامرأة مثل هذه! هذه ستكون وبالاً عليه وجحيماً في الدنيا.

    وإذا كانت سيئة في الدين ربما تكون عليه -أيضاً- جحيماً في الآخرة، لِمَا تَجُرُّ عليه من المعاصي والمصائب.

    - أما إذا كانت المرأة حسنة الدين.. حسنة الخُلُق، جاء الأب قال لولده: طلقها، لماذا؟ قال: لأنها لا تعطيني حذائي، أنا أدخل البيت ولا تأتي لي بحذائي وتمشي ورائي!! والآن أنا أطلق الزوجة، وأخرب البيت، وأشرد الأولاد لأنها لا تأتي لك بالحذاء وتمشي وراءك؟! فبعض الآباء عندهم عقد نفسية وعناد وعصبية وعنجهية، وكأنه لا يبالي أن الولد يخرب بيته وتتفكك أسرته؛ لأن مزاج الأب أنه لا بد على الزوجة أن تمسح نعليه وتحملها، ولذلك لا يطاع الأب في مثل هذه الحالة.

    وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سئل سؤالاً مشابهاً عن امرأة تأمر ولدها بطلاق زوجته مع أن الزوجة صاحبة دين؟

    قال: هذه الأم من جنس هاروت وماروت، لماذا هاروت وماروت؟ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [البقرة:102] وقبلُ ماذا قال؟ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102] هذا السحر.

    ولذلك هذه المرأة التي تقول: أنا غضبانة عليك إذا لم تطلق زوجتك.. لماذا؟

    لسبب تافه.

    أو تقول: فقط مزاج، لا تناقشني، طلق! هذه من جنس هاروت وماروت.

    ولذلك لما جاء رجل إلى عمر بن الخطاب قال: [إن أبي يأمرني بطلاق امرأتي، فسأله عن امرأته وحال امرأته، ثم قال: لا تطلق، قال: إن إبراهيم لما قال لولده طلِّقْها طلَّقَها، قال: حتى يكون أبوك مثل إبراهيم] عندما يصير أبوك بمستوى إبراهيم في الحكمة، وبُعد النظر، ووزن الأشياء بميزان الشرع بعد ذلك عليك أن تطبق الكلام.

    هذا هو الحكم بالنسبة إذا قال لولده: طلق زوجتك، يَعتمد على دين المرأة وخُلُق المرأة.

    المرء مدني بطبعه

    وكذلك في هذا الحديث من الفوائد أيضاً: أن الإنسان مدني بطبعه، وأن الإنسان الوحيد المنعزل إنسان غير عادي (غير طبيعي) ولذلك (ألْفَى أمَّ إسماعيل وهي تحب الأُنس فنزلوا) وبطبيعة الحال وافقت أن ينزلوا عندها.

    وفيه كذلك: أن العربية الفصحى كانت من نطق إسماعيل عليه السلام.

    الكنابة في الطلاق

    وكذلك في هذا الحديث: أن بعض العلماء استدلوا على أن الإنسان لو قال: غَيَّرتُ عتبةَ بابي أنه إذا قصد الطلاق أنه يقع طلاقاً، لأن هذا اللفظ من ألفاظ الكناية.

    الطلاق له ألفاظ صريحة، لو قال: أنتِ طالق، فهذا طلاق صريح.

    ولو قال: أطعمتكِ حنظلاً، هذا كناية، يحتمل الطلاق ويحتمل عدم الطلاق، فالمرجع فيه إلى نية الشخص.

    لو قال: أطعمتك خبزاً، لا يحتمل الطلاق.

    ولو قال: احتجبي مني، يحتمل الطلاق.

    غَيَّرْتُ عتبةَ بابي، بناء على هذا الحديث فهو لفظ يحتمل الطلاق، من الكنايات.

    طاعة الوالدين في الخير والإتيان بالطيب مكان الخبيث

    وكذلك: فيه طاعة الوالدين في الخير، عندما قال: (أمرني أن أفارقكِِ، الحقي بأهلك فطلقها) .

    وكذلك: أن الإنسان عليه أن يستبدل بدل الخبيث بالطيب، ولا يجلس من غير زواج، لأن بعض الناس يطلق زوجته، وفعلاً يكون فيها شر، ثم يجلس عَزَباً بدون زوجة، وهذا خطأ، فإسماعيل عليه السلام طلقها وتزوج أخرى مباشرة، لا يصبر الإنسان بدون زواج خصوصاً في هذا الزمان، وهذا يفضي إلى الفساد.

    وفي عدد من الحالات بعض الناس طلق زوجته فبقى بغير زوجة، ثم لعب الشيطان بعقله، وبعد ذلك مشى في الحرام وصار لا يريد يتزوج، وهذا الإنسان حكمه في الشريعة الرجم؛ لأنه قد تزوج وأُحْصِن ثم زنا.

    فضل مكة وبر الوالد والاعتناء به والعطف على الولد

    وكذلك في هذا الحديث: فضل مكة، وأن من يأكل اللحم والماء فيها لا يصاب بالضرر كما يصاب في غيرها.

    وفيه: بر الوالد والاعتناء به والعطف على الولد، كما قال في الحديث: (كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد) .

    التعاون على البر والتقوى

    وفي هذا الحديث كذلك: التعاون على البر والتقوى، لأن إسماعلي قد أعان إبراهيم على بناء البيت الحرام.

    وكذلك فيه: مساعدة الأب في العمل، فإن إسماعيل كان يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، ولما شق على إبراهيم البناء أتاه إسماعيل بالمقام (الحجر) قام عليه وصار يبني، فما هو مقام إبراهيم؟ الحجر الذي وقف عليه إبراهيم حتى يعتلي ويبني.

    كان المقام مُلْصَقاً بالكعبة، والناس يصلون خلف المقام: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البقرة:125] في عهد عمر بن الخطاب اشتد الزحام، وكثُر الحجاج والطائفون، فاستخار عمر اللهَ، واستشار الصحابة أن يؤخر الحجر عن مكانه إلى الخلف، حتى يتمكن الطائفون أن يطوفوا والناس يصلون خلف المقام، وفعلاً هذا ما حصل، وأُخِّر الحجر (مقام إبراهيم) وكان ملتصقاً بالكعبة، حينما كان إبراهيم يقف عليه ويبني، أُخِّر إلى الخلف، وصار بعيداً عن جدار الكعبة: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) .

    عدم الاغترار بالأعمال الصالحة

    وفي الحديث كذلك: أن الإنسان إذا عمل الصالحات عليه أن يبقى على وجل أن الله لا يقبل منه، ولا يغتر بعمله، ولذلك في الحديث قال: (وهو يناوله الحجارة وهُما يقولان: (( رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )) [البقرة:127]) .

    إذاً: الإنسان إذا عمل أعمالاً صالحة فعليه أن يَسأل الله القبول.

    وفي الحديث فوائد كثيرة، ولكن نكتفي بهذا القدر منها.

    والله أعلم.

    وصلى الله على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755772796