إسلام ويب

السعادةللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن السعادة أمر يبحث عنه وينشده كل إنسان، ولكن من الناس من بحث عن السعادة في المال، والبعض بحث عنها في اتباع الشهوات وفعل المحرمات، ولكن هؤلاء كلهم -في الحقيقة- لم يجدوا السعادة؛ لأن السعادة قد جعلها ربنا جل وعلا في طاعته وذكره، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فليسع الإنسان إلى طاعة الله، لكي يتذوق السعادة في حياته الدنيا وفي الآخرة.

    1.   

    من هو السعيد

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فيا أيها الأحبة في الله! من هو السعيد الذي امتلأ قلبه بذكر الله؟

    من هو السعيد الذي إذا أمسى وأصبح ليس في قلبه غير الله جل جلاله؟

    من هو السعيد الذي أسعده الله في نفسه فاطمأن قلبه بذكره ولهج لسانه بالثناء عليه؟

    من هو السعيد الذي أقر الله عينه بالطاعات، وأسرَّه بالباقيات الصالحات؟

    من هو السعيد الذي أسعده الله في أهله وماله وولده فرأى قرة العين وحمد الله سبحانه وتعالى على القليل والكثير؟

    من هو السعيد الذي أسعده الله بين الناس، فعاش طيب الذكر، حسن السمعة، لا يذكر إلا بخير، ولا يعرف عنه إلا الخير؟

    من هو السعيد الذي إذا وقف على آخر أعتاب هذه الدنيا وقف بقلبٍ ثابت ولسانٍ ذاكر، وقد رضي عن الله وأرضاه الله؟

    من هو السعيد الذي إذا ذهبت ساعته وحانت قيامته تنزلت عليه ملائكة ربه تبشره بالروح والريحان والرحمة والغفران وأن الله راضٍ عنه غير غضبان؟

    من هو السعيد الذي ختم له بخاتمة السعداء فكان آخر ما نطق به من الدنيا: لا إله إلا الله؟

    من هو السعيد الذي أسعده الله في قبره، وأقر عينه في لحده، حتى إذا أدخل في ذلك القبر وعوتب في ذلك اللحد وسئل -إن ثبت الله له الجنان واللسان- فقال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فنادى منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، ففرش له من الجنان، وفتح له منها يأتيه من الروح والريحان، فقال السعيد: يا رب! أقم الساعة، يا رب! أقم الساعة، شوقاً إلى رحمة الله وحنيناً إلى عظيم ما ينتظره من فضل الله؟

    من هو السعيد الذي إذا بعث من قبره وخرج إلى حشره ونشره خرج مع السعداء، فتتلقاهم الملائكة لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103]؟

    من هو السعيد الذي إذا دنت الشمس من الخلائق، وأذل الله فيه كل عزيز، وأخرس ناطق، واشتد لهيبها وعظم حرها وذهب العرق في الأرض سبعين ذراعاً فاشتد الخطب، فإذا به في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله؟

    من هو السعيد الذي إذا وقف بين يدي ربه وقف موقف الكريم، فأعلى الله شأنه وأنطق بالخير لسانه، ونادى الله عليه بالبشرى بالجنة؟

    من هو السعيد -أيها الأحبة في الله- الذي ينتهي مآله ويكون قراره إلى الجنة دار السعداء ومنزل الأتقياء؟

    1.   

    أسباب السعادة

    أيها الأحبة في الله! إنها السعادة الحقيقية التي يتمناها كل عبدٍ صالح.. إنها السعادة الحقيقية التي إذا فتح الله لك أبوابها لم يستطع أحدٌ أن يغلقها عليك.

    أثر الإيمان في سعادة العبد

    إذا أراد الله أن يسعد العبد كان أول ما يوفقه إليه هو الإيمان بالله جل جلاله، فمن عرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ورزقه الله سلامة الإيمان واستقامة الجنان وصوَّب الأمور كلها للواحد الرحمن، واعتقد من قرارة قلبه ألا ملجأ ولا منجى ولا مفر من الله إلا إليه.

    السعيد الذي ملأ الله قلبه بالإيمان فإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، لا تتبدل أحواله ولا تتغير هدايته، قد جعل الجنة والنار نصب عينيه، فهو يعمل للجنة ويفر من النار.

    إذا أراد الله أن يسعد العبد رزقه انشراح الصدر بذكره وطمأنينة القلب بالإنابة إليه وشكره، فالذاكرون الله كثيراً والذاكرات هم السعداء، وإذا أراد الله أن يسعد العبد رزقه قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، فأصبح لسانه لا يفتر عن ذكر الله جل جلاله، وأصبحت ساعاته وحركاته وسكناته كلها لله سبحانه وتعالى، ينتقل من طاعةٍ إلى طاعة، ومن برٍ إلى بر، ومن خيرٍ إلى خير، لا يسأم ولا يمل، وقلبه متعلق بالله سبحانه وتعالى.

    سعادة المؤمن في ذكر الله، ولقد سبق المفردون (قالوا: يا رسول الله! من هم المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) فإن كلمة واحدة من ذكر الله قد تسعدك إلى لقاء الله، وذكر الله سبحانه وتعالى عظيمٌ عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فمن أكثر من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل وصوَّب الأمور كلها لله فقد كملت سعادته وعظمت هدايته.

    الرضاء بقضاء الله

    إذا أراد الله أن يسعد العبد رزقه الرضا بقضائه، فوالله لو لبس مرقع الثياب وعاش فقيراً مدقعاً فإن الله يملأ قلبه بالغنى، فإن ابتلي وهو يشكر ربه ويحمده يحس أنه لا أسعد منه حينما رضي عن الله، ولو رأى مصائب الدنيا وأهوالها ونكباتها فإنه سيعلم أن الأمور كلها لله سبحانه وتعالى، فلا يضيق عليه قلب، ولا يسأم ولا يمل، ولا يشتكي الرب إلى الخلق، ولا يشتكي من سقمه ولا من مرضه لعلمه أن الله ابتلاه، فيحب أن يري الله من نفسه ما يحب ويرضى، ويحب أن يسمع الله من لسانه ذكره وشكره والإنابة إليه سبحانه، فمن أمسى وأصبح راضياً عن الله أرضاه الله، وكم من غني ألبسه الله ثوب الغنى والعافية، ومع ذلك تنصب عليه الأموال صباح مساء، ولو سألته عن حاله لقال: إني في همٍ وكربٍ وغم!

    المال لا يأتي بالسعادة، ولو كان المال يأتي بالسعادة لكان أسعد الناس قارون، كانت مفاتيح خزائنه تنوء بالعصبة القوية عند حملها، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.

    المال لا يأتي بالسعادة، وكم من غنيٍ كريم أبكاه ماله فطال بكاؤه! وكم من غنيٍ أشقاه ماله فما نال السعادة بعد شقائه!

    السعادة لا تكون إلا بالرضا عن الله، والعلم اليقيني أننا ملكٌ لله، فإذا علم العبد أنه لله توسع عليه ضيق الدنيا، وزال همها وغمها، فأبدله الله الفرح والسرور والكرامة، ومن ظن أن السعادة في الأموال فإنه قد أخطأ.

    حدثني الوالد رحمه الله: أن رجلاً كان غنياً ثرياً، أنعم الله عليه بالنعمة، ووسع عليه بالرزق، قال رحمه الله: لما اشتد الحال بالناس اشترى صفقةً من الطعام، وكانت صفقةً كبيرة، قال رحمه الله: فدخلت عليه وقد أخبره رجل أن سعر الطعام الذي اشتراه قد ارتفع إلى أضعافٍ كثيرة، فلم يتحمل الفرحة فسقط ميتاً على دفتره، قال: ومضت الأيام، وتبدلت الأحوال، فدخلت على رجلٍ من أهل المدينة في كرائم نعمه وقد اشترى صفقةً من نفس الطعام، قال: والله فأتاه الخبر بأن سعر الطعام قد انخفض، فلم يتحمل الصدمة فسقط ميتاً. فقال: سبحان الله! عجبت لرجلٍ يموت عند الغلاء فرحاً، ورجلٌ يموت عند الرخص حزناً!!

    فالسعادة ليست في المال، فوالله كم من غنيٍ ثري يتمنى أنه كالفقير! وكم من غنيٍ ثري أبكته زوجته بسبب المال وأبكاه أولاده وأقاربه بسبب المال!

    فلم أر السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد

    ولربما رأيت الرجل فقيراً مدقعاً قليل المال ولكن الله أغناه بالإيمان والرضا، فإذا دخلت عليه قلت له: كيف حالك؟ قال: الحمد لله، في نعمةٍ من الله وفضل.

    وكم من قويٍ في البدن قد أنعم الله عليه بالعافية، ومع ذلك سلبه الرضا في قلبه، فإذا سئل عن حاله اشتكى وبكى!

    وكم من مريضٍ فقيرٍ طريح الفراش قد يكون مشغولاً في مقعده، تسأله: كيف حالك؟ يقول: الحمد لله، لأن الله ملأ قلبه بالرضا!

    إذا أراد الله أن يسعد العبد أسعده أولاً في نفسه، وظهرت دلائل السعادة بالتوبة والإنابة إلى الله، والبكاء على ما سلف وكان من الذنوب والعصيان، فيسأل الله -دائماً- العفو والغفران، وسيصلح الله من حاله ويبدل من أفعاله ومقاله إلى خيرٍ وبر.

    ثم تأتيك السعادة في الهداية والإنابة إلى الله والرجوع إليه سبحانه وتعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلام [الأنعام:125].

    بر الوالدين والإحسان إليهما

    وكما أن السعادة تكون في النفس بالاستقامة تكون في الأهل والمال والولد، فإذا أراد الله أن يسعدك في قرابتك رزقك رضا أقرب الناس إليك ورزقك الرضا من أقرب الناس إليك وأعظمهم حقاً عليك، فإذا أراد أن يسعدك رزقك رضا الوالدين، فمن أعظم أسباب السعادة: رضا الوالدين، ومن أرضى والديه رضي الله عنه، وكم من ابنٍ بار فتحت أبواب السماء لدعواتٍ مستجابةٍ من والديه، وكم من ابنٍ بار فتح الله أبواب الخير في وجهه عندما أرضى الله في والديه، قال صلى الله عليه وسلم: (رضي الله على من أرضى والديه، وسخط الله على من أسخط والديه) وفي الحديث: (يا رسول الله! أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) .

    فمن أعظم أسباب السعادة بر الوالدين، والله تعالى إذا أراد أن يسعد الإنسان جعل قلبه معلقاً برضا والديه، فإذا كانا حبيبين نظر إليهما نظر الرحمة فيرحمهما عند المشيب والكبر، ورزقه الله انكسار القلب وهو يرى والده في آخر هذه الدنيا ضعيفاً سقيماً كبيراً، فألهمه بره والإحسان إليه، ونظر إلى أمه وهي ضعيفةٌ سقيمة في آخر أعتاب هذه الدنيا، فأحبها من كل قلبه، واشتغل ببرها بسائر جوارحه، ينتظر رضاها الصباح والمساء والعشي والإبكار، حتى يتأذن الله له بتمام الرضا، فكم من حوادث ووقائع رأى أهلها السعادة بفضل الله وحده ثم ببر الوالدين.

    إذاً: بر الوالدين من أعظم أسباب السعادة، حتى ولو كانا ميتين، فإن كثرة الترحم عليهما والاستغفار لهما والصدقة عنهما من أسباب السعادة، ولذلك قال الرجل: (يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ -من رحمة الله أنه لم يقفل عليك هذا الباب الكريم وهو رضا الوالدين، حتى بعد موتهما- قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما) والله لن ترى عبداً يبرُ والديه من أهل الإيمان إلا وجدته سعيداً قرير العين عن الله جل جلاله.

    صلاح الأبناء واستقامتهم على الخير

    وإذا أراد الله أن يسعد العبد أسعده في أولاده، فرأى قرة العين في الولد عند صلاحه، وهذا إنما يكون بكثرة الدعاء للأولاد في أوقات الإجابة أن يرزقهم الصلاح والاستقامة على الخير والفلاح، قال الله عن عباده الصالحين: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74] .

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم قرة العين، وأن يجعل أبناءنا وبناتنا سبب سعادة لنا في الدنيا والآخرة، فإن الولد من أعظم أسباب السعادة، فإذا أردت أن ترى السعادة في الولد فانظر إلى الولد الصالح، فإنك إن نسيت الله ذكرك! وإن ذكرت الله أعانك! وإذا كنت على طاعةٍ ثبتك.

    والولد الصالح أمنية الأخيار والصالحين، لذلك قال الله عن نبيه لما سأله: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38] ولا تطيب الذرية إلا بالصلاح والاستقامة على الخير والفلاح، ولكن من الآن ابدأ في تربيته بدعوته للخير؛ لأنك إن أقمته على طاعة الله من صغره أقر الله عينك في كبره، من تعب الآن بأمر أولاده بالصلاة وتحبيبهم إلى طاعة الله والتقوى والزكاة أقر الله عينه في الكبر، فمن أخلص لله في الصغر مع أبنائه أقر الله عينه عنه في كبره، ومن تساهل معهم وفرقهم فإنه قد ضيع حق الله فيضيعه في ولده، ووالله لن ترى والداً ووالدةً أهملا أولادهما بعد أمرهم بطاعة الله وحثهم على مرضاته سبحانه وتعالى إلا جاء اليوم الذي يبكي فيه كل واحدٍ منهما بكاءً شديداً، ولذلك قلّ أن تجد والدين فرطا أو ضيعا إلا وجدت الأولاد يعقون عند الكبر، نسأل الله السلامة والعافية.

    فمن أسباب السعادة في الأولاد تربيتهم على الصلاة والطاعة والخير والبر، يقول بعض العلماء: إن الولد إذا تعوّد من الصغر على الأمر والحث على الصلاة، وفي كل يوم خمس مرات وأنت تقف على رأسه وتتابعه في صلاته وعبادته، أصبح عنده شعور لا يزول إلى الأبد بالذل لك، والسمع والطاعة، والامتثال بأمرك، ولذلك قلّ أن تجد ذريةً يحاسب والداها على الأمر بالخير إلا وجدتهم عند الكبر مطيعين محبين ممتثلين يهابون الوالدين؛ لأن الله لا يجزي بالإحسان إلا الإحسان، ومن وفّى لله في نعمة الولد وفّى الله له، وأقر عينه عاجلاً وآجلاً.

    بذل المال وإنفاقه في وجوه الخير

    من أسباب السعادة: أن يسعدك الله في مالك، ومن أسباب السعادة في المال بذله في طاعة الله سبحانه وتعالى، فمن أنفق لله أنفق الله عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (يا أسماء ! أنفقي ينفق الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك) من رزقه الله المال الصالح الذي أخذه من حله وكسبه كسباً طيباً حلالاً، ووفقه لتفريج الكربات، وتكفيف دموع الأرامل واليتامى والثكالى؛ فإن الله يسعده في ذلك المال، فإن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتدفع عن العبد البلايا والرزايا، وقلّ أن تجد عبداً كثير الصدقات إلا وجدت الله سبحانه وتعالى يلطف به من حيث لا يحتسب.

    فيا إخواني! الحرص ثم الحرص على الإنفاق! وعلى إدخال السرور على الضعفاء والفقراء والمحتاجين، فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

    ومن أنفق لله بارك الله له في ماله، وجعل هذا المال قرة عينٍ له في الدنيا والآخرة، فعليكم بالحرص على الصدقات؛ لأن الحرص على الإحسان إلى الضعفة والبائسين والمحتاجين من أجلّ نعم الله عز وجل على العبد، ولذلك عندما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب) قال بعض العلماء: إنها تحجبُ البلاء؛ لأنه إذا كانت تطفئ غضب الرب فمعنى ذلك: أن العبد يحفظ من البلاء.

    ثم إن الإحسان إلى الناس سببٌ في الدعوات الصالحة، فقد تأتي إلى أرملةٍ ضعيفة أو مسكينٍ أو يتيمٍ أو بائس فتحسن إليه، وتتفقد حاله فتقضي حاجته، فينظر وإذا به عاجزٌ عن شكرك ورد جميلك فلا يملك إلا أن يرفع كفه إلى الله سائلاً أن يشكرك، فلربما غفرت ذنوبك وسترت عيوبك وفرجت كروبك، قال صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يّسر على معسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن نفّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) .

    فمن أعظم أسباب السعادة في المال: كثرة إنفاقه، ولذلك قال بعض العلماء: إن المال الصالح عند العبد الصالح طريق إلى الجنة.

    في الحديث الصحيح: (أن امرأة جاءت إلى عائشة وكان معها ابنتان، فاستطعمت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها فأطعمتها ثلاث تمرات -ولربما كانت التمرة الواحدة قوتاً للإنسان يومه كله- فأخذت هذه الأم تمرتين فأعطت كل بنت تمرة، ثم أخذت التمرة الثالثة تريد أن تأكلها، فاستطعمتها إحدى بناتها، فأطعمتها تلك التمرة ولم تأكلها، فعجبت عائشة رضي الله عنها وأرضاها! فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبر المرأة، فنزل الوحي من السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها: أتعجبين مما صنعت؟! إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك) هذه -والله- هي السعادة حينما تنفق لله، وأي مالٍ أخرجته مخلصاً لوجه الله عز وجل تحتسب به ما عند الله، فإن الله يخلفه عليك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن الله يخلف عليك بالبركة في مالك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) .

    حسن الخلق ونقاء القلب والسريرة

    أيها الأحبة في الله! إذا أراد الله أن يسعد العبد بين الناس أسعده بحسن الخلق، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم)، وأخبر صلى الله عليه وسلم (خير المؤمنين وأكملهم إيماناً أحسنهم أخلاقاً)، فإذا أراد الله أن يسعدك طيَّب شمائلك وأخلاقك، فأحبك الناس من قربك وفعلك، من رزقه الله حسن الخلق عاش سعيداً، ومات حميداً، ورضي الناس عنه وشهدوا له بكل خير، ولربما بقي حياً بعد موته في الذكر الجميل، فالأخلاق والآداب الطيبة ومعاشرة الناس وتوطئة الكنف من أعظم أسباب السعادة.

    إذاً: مما ينبغي على الإنسان إذا أراد أن يكون سعيداً مع المسلمين أن يكون نقي القلب والسريرة، فلا سعادة إلا إذا أخرج العبد من قلبه الشحناء والبغضاء، والحسد واحتقار الناس، وآفات القلوب جميعها، وأسلم لله قلبه، واستحيا من الله أن ينظر إلى قلبه وفيه غلاً على مسلم، واستحيا من الله أن ينظر إلى قلبه وفيه الحسد أو البغضاء أو الشحناء، لقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً بالجنة فانطلق مع هذا الرجل عبد الله بن عمرو بن العاص ، وبات معه ثلاث ليالٍ ليرمق عبادته، وينظر أقواله وأفعاله، فلم يجد كثير صيام ولا قيام! ثم قال له في اليوم الثالث: (إني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة فكنت هو، فأخبرني عن أرجى عملٍ تعمله، فقال ذلك الصحابي المبشر بالجنة وهو يمشي على وجه الأرض قال: أما إنه ليس عندي كثير صيامٍ ولا قيام، ولكني لا أمسي وأصبح وفي قلبي غلٌ على مسلم) .

    إن القلوب إذا تغيرت، والنفوس إذا تبدلت، أظهر الله ما في السرائر على الظواهر.

    ومن أسر سريرة الخير أظهر الله للناس خيره، ومن أسر سريرة السوء والشر أظهر الله للناس عورته.

    فأول ما ينبغي على الإنسان لكي يكون سعيداً مع الناس: أن ينزع من قلبه الحسد والبغضاء، وإياك أن تحتقر مسلماً لقلة ماله أو مركزه أو وظيفته، فالمسلمون جميعاً يجب أن تحب لهم ما تحب لنفسك، وترضى لهم ما ترضى لنفسك، وينبغي أن تحسن بهم الظن كما ينبغي عليهم أن يحسنوا بك الظن أيضاً، فإذا سلم صدرك سلمت جوارحك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ووالله لن يصلح القلب إلا بالسلامة لله عز وجل من أذية المؤمنين.

    وإذا أردت سعادة مع الناس: فعليك أن تسلم الناس من لسانك، فلا يسمعون منك إلا الطيب؛ لأن المسلم طيب سلم لله لسانه وجنانه وجوارحه وأركانه.

    ولقد وصف الله أهل الجنة بأنهم طابوا، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويسلمون عليهم، ويقول الله عز وجل: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73] فلما طابت أقوالهم وأفعالهم كانوا من أهل الجنة، فمن أراد أن يكون من السعداء فليحفظ لسانه عن الناس، وإذا أراد أن يعيش بين الناس عيشةً هنية رضية فليحفظ لسانه عن عورات المسلمين وأذية إخوانه المؤمنين، وأن يعطي إخوانه المسلمين من الكلام ما يحب أن يأخذه منهم.

    كذلك من أسباب السعادة مع الناس: الحرص على مجالستهم ومباسطتهم ومؤانستهم، فإن ذلك من أسباب السعادة، فإن من نعم هذه الدنيا التي ينعم الله بها على عباده الصالحين مجالس الذكر والخير، فإذا جلست مع الناس فتفقد أحوالهم، فإذا رأيت المهموم بدلت همومه بكلمةٍ طيبة، وإذا رأيت القلق الحيران أرشدته في حيرته ووجهته من غفلته وذكرته بالله، فإنها كلماتٌ طيبات يعظم أجرها في الدنيا وفي الآخرة بعد الممات.

    من أراد أن يعيش سعيداً مع الناس حرص على أمرهم بالخير ودلالتهم عليه، فإذا فعل ذلك طيب الله ذكره ومجالسه، وقذف في قلوب الناس حبه وحب الجلوس معه، حتى ولو كانوا من جيرانك الأقربين إذا زرتهم وتفقدت أحوالهم، فإن رأيت تقصيراً كملته، وإن رأيت عيباً دللتهم ونبهتهم عليه، وأرشدتهم إليه، وأخذت بمجامع قلوبهم إلى الله، واحتسبت الأجر عند الله.

    الدعاء

    أيها الأحبة في الله! لا تنال السعادة إلا بتوفيق الله جل جلاله، فأول ما ينبغي على من أراد أن يسعده الله في الدنيا والآخرة فعليه أن يكثر من الدعاء بأن يسأل الله عز وجل أن يحييه حياة السعداء، وأن يميته موتة الشهداء، وأن يرزقه مرافقة الأنبياء، فإن الله كريم، فلا تستكثر على الله أن يسعدك في أهلك ومالك وولدك، فإن الله مقلب القلوب والأحوال، وكم من شقي قلبه الله سعيداً في طرفة عين! فالله على كل شيءٍ قدير.

    ولذلك جاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الكفر فأسلم في آخر لحظة، ثم حمل سيفه فقاتل وجاهد في سبيل الله فاستشهد، فقال صلى الله عليه وسلم: (عمل قليلاً وأجر كثيراً) .

    فالسعادة من الله، وإن فتح لك الله بابها فلا يستطيع أحد أن يغلقه عليك مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2] فأكثر من الدعاء، وإذا نظر الله إليك وأنت تفتقر إليه بأن يرحمك فإن الله سيجزيك ويجيب دعوتك، قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] .

    ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا السعادة، وأن يتأذن لنا ولكم بالخير والزيادة.

    قراءة القرآن وسير الأنبياء والسلف الصالح

    كذلك من أسباب السعادة: أن يكثر الإنسان من تلاوة القرآن، فإن الله جل وعلا أسعد أهل القرآن، فطوبى ثم طوبى لمن جعل الله القرآن ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب همه وغمه، وسائقه وقائده إلى رحمته ورضوانه.

    من أسباب السعادة: قراءة سير الأنبياء، والتدبر والتأمل فيها ، وكثرة النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف كان مفوضاً الأمور كلها إلى الله، يحتسب الأجر من الله سبحانه وتعالى.

    من أسباب السعادة: قراءة سير السلف الصالح من العلماء العاملين والأئمة المهديين، ومن سار على نهجهم من الأخيار والصالحين، فإن ذكر الصالحين والنظر إلى أحوالهم وما كانوا عليه من الاستقامة والثبات على الحق والخير وحبه مما يقوي القلوب على طاعة الله وعلى مرضاته.

    حضور حلق الذكر

    فمن أسباب السعادة التي ييسر الله عز وجل بها للعبد سبيلها: طلب العلم وغشيان حلق الذكر، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن مجالس الذكر: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) .

    فمن أمارات السعادة وأسبابها ودلائلها: أن يوفق الله العبد لحب مجالس العلماء وغشيان حلق الذكر.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا وإياكم سعادة الدين والدنيا والآخرة.

    اللهم إن نسألك سعادةً لا نشقى بعدها أبداً، اللهم إن نسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلوبنا، وتصلح بها أحوالنا، اللهم إنا نسألك رحمة تتأذن لنا بها منك بالمزيد، وتؤمننا بها يوم السطوة والوعيد يا ذا الأمر الشديد!

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    تحذير المسلمين من فتنة النظر إلى ما حرم الله

    السؤال: يظن كثير من الناس أن السعادة تحصل بالنظر إلى الأفلام والمسلسلات، وسماع الأغاني وغيرها، عن طريق القنوات الفضائية والدشوش، ولهذا ربما يتفاخر الناس في المجالس بما يشاهدونه بالدش أو عن طريق التلفاز وهذا معلومٌ؛ لأنه لم يعد يخلو منه بيت، حتى ظن بعض الآباء أنه لا يمكن أن يعيش في بيته بدون هذه الدشوش، أو بدون مشاهدة الأفلام عن طريق الفيديو أو غير ذلك. فنرجو من فضيلتكم تصحيح هذا الظن، وبيان انعكاسه وآثاره على المجتمعات الإسلامية؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    أولاً: لا ينبغي أن يعمم الإنسان في الحكم، أو يقول: إن كثيراً من البيوت فيها كذا وكذا، لا زال -ولله الحمد- الخير موجوداً، ولا يزال في الناس بقية خير، والخير موجود إلى قيام الساعة، ولقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة يوجد المنافقون والمرجفون، وكان يرى ابتلاء المؤمنين؛ لكي يظهر صدق الصادقين، وثبات الموقنين، ويظهر -والعياذ بالله- فساد المفسدين: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة [الأنفال:42].

    ثانياً: ليعلم كل من ابتلي بالنظر إلى ما حرم الله أن الله سائلك عما ترى، ومحاسبك على نعمة البصر التي أنعم بها عليك، الله أعلم كم من كفيفٍ للبصر يتمنى لحظةً يرى فيها أهله وولده! الله أنعم عليك بهذه النعمة وهو سائلك ومحاسبك ومجازيك بين يديه، فعليه أن يتقي الله في نفسه؛ وأرجو من الله ألا يكون فينا من ابتلي بهذا الشيء، ونسأله أن يحيينا على السلامة، ولا نزكي أنفسنا على الله فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن.

    هذا البلاء وهو بلاء النظر، سواء كان في رؤية هذه الأشياء أو في غيرها، فلربما يفتن الإنسان في بصره وهو في طريقه إلى مسجده، فعليك أن تعلم أن البصر نعمة، وأنه لن تزول قدمك بين يدي الله حتى يسألك عن جميع ما أبصرت عيناك، وتراها أمام عينيك في يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.

    ثم اعلم -أخي في الله- أن النظر يؤثر على القلب، وإذا تعرض العبد للفتنة فقد يزيغ قلبه فلا يهتدي أبداً والعياذ بالله، فاحذر من الفتن، فلربما فتنةٌ واحدة تهلك الإنسان دهره كله، نسأل الله السلامة والعافية، وإياك أن تقول: إنها لحظات يسيرة! وساعات قليلة! فإن الله سبحانه وتعالى إذا غضب على عبدٍ أهلكه: وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [طه:81] الله يغضب على البصر والجوارح والأركان، يغضب على بصرك إذا نظرت إلى الحرام، ويغضب على لسانك إذا تكلمت بالآثام، ويغضب بسبب جوارحك وأركانك إذا اقترفت الحرام، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها أبعد ما بين المشرقين في نار جهنم) وفي روايةٌ له: (يهوي بها في النار سبعين خريفاً) .

    كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر

    والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوفاً على الخطر

    يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور جاء بالضرر

    على المسلم أن يحمد الله إذا نجاه من ذلك الجهاز، ثم إذا تساهل في ذلك وأدخله على أهله وأولاده فإن الله يحاسبه وسيقف بين يدي الله في كل فتنة أدخلها على أهله وولده، والله لن تزول قدمه بين يدي الله حتى يتعلق به أولاده، ويقولون: يا رب! سل أبانا كيف أدخل علينا هذا البلاء؟ ولربما نظر الولد -وهو حديث السن- إلى نظرةٍ واحدة فتنت قلبه إلى الأبد.

    إن الشهوات أضرارها عظيمة، ومن زلق في الشهوات هلك، فعلى المسلم أن يعلم أن الأولاد أمانة في عنقه، والله عز وجل سائله عنهم ومحاسبه بين يديه عنهم، وإذا أشقى ولده بالسوء والفتنة فإنه يحمل وزره بين يدي الله عز وجل: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13]، فعلى المسلم أن يتقي الله ويحمده على العافية، فكم من أمور تسر بها العيون من ذكر الله وطاعته وتربية الأولاد على الخير.

    إن هذه الأشياء التي يفتخر بها ويبتهج بها وهي -والله- شقاء وبلاءٌ وعناء، وهذا الذي يراه من المعصية والسوء والدعوة إلى الإثم بلاءٌ على العبد في دينه ودنياه وآخرته.

    فينبغي على المسلم أن يتقي الله في نفسه وفي أهله وولده، وأن يحفظ هذه الرعية التي استرعاه الله إياها، قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راعٍ وهو ومسئول عن أهل بيته).

    فليتق الله كل من ابتلي بهذا البلاء، وإذا كان مبتلىً ولا بد فليحفظه عن أولاده وعن زوجته، حتى لا يبتلى بغضب الله عز وجل عليه، وحتى لا يحمل أوزارهم.

    نسأل الله العظيم بعزته وجلاله وعظمته وكماله في هذه الساعة المباركة أن يمن بالهداية على ضال المسلمين، اللهم اهد قلوبهم واشرح صدورهم، اللهم أصلح شباب المسلمين.

    صدق اللجوء إلى الله سبب في الهداية

    السؤال: من ظن أن السعادة في إشباع الرغبات والشهوات والإعراض عن طاعة الله، ثم علم بعد ذلك أن السعادة في غير ما سبق، فكيف يترك هذه المعاصي، مع أنه شُقي بها دهراً طويلاً وهو يظن أنه يحسن العمل؟

    الجواب: أخي في الله! إذا أراد الله لعبده خيراً رزقه قوة الرجاء والإيمان به سبحانه وتعالى، فالشيطان قد قعد لك على طريق التوبة، يقول لك: لم تتوب؟ ولم تترك هذه المعاصي ما دمت قد ألفتها؟ ولكن والله ثم والله -وأقسم موقناً بالله- أنك إن صدقت مع الله صدقك الله، وأنك إن تركت شيئاً لله أبدلك الله خيراً منه.

    فمن ابتلي بالشهوات والفتن والملهيات ثم أعرض عنها لله وفي الله فإن الله لا يخيبه، وسيعوضه إيماناً يجد حلاوته في قلبه وحاله، وسيجد عاقبة ما فعل من الخير.

    أخي في الله! لا تيأس ولا تظن أن هذه المعاصي والفتن تمنعك وتحول بينك وبين الله، ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي، يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي) فالرجاء واليقين في الله سبحانه وتعالى، كم من أناس نعلمهم وقد أسرفوا في المعاصي ولكن الله منّ عليهم في آخر اللحظات بقلوب أقبلت بالصدق واليقين، فبدل الله أحوالهم، فلا إله إلا الله كيف بدلت سيئاتهم حسنات! وكيف تأذن الله بغفران الخطيئات وزيادة في الدرجات وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41] لا تعجز، وكن قوي الإيمان بالله جل جلاله.

    وإني أعرف رجلاً كنت معه وهو في السبعين من عمره، حدثني وهو صائم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه كان مبتلىً بشرب الخمر -أعاذنا الله وإياكم- منذ كان عمره الخامسة عشرة حتى بلغ الأربعين، فدخل ذات يومٍ على طبيب فوجد أن الخمر قد استنفذ جسمه والعياذ بالله، فقال له الطبيب: يا فلان! لا دواء لك وذلك بسبب الذي كنت فيه، فوقف المريض عاجزاً حائراً، قال: فلما قال لي ذلك كأنني انتبهت من المنام، وقلت له: ليس عندك علاج؟ قال: نعم، ليس لك علاج عندي، قال: فنزلت من ساعتي تلك، وأعلنتها توبةً لله، وصليت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وانطلقت إلى بيتي فلبست إحرامي تائباً إلى الله، ومضيت إلى مكة -وكان بينه وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام- قال: فلما وصلت إليها في ظلمة الليل قبل السحر أديت العمرة، ولما فرغت منها التجأت إلى الله وبكيت وتضرعت، وقلت: يا رب! إما أن تشفيني وإما أن تقبض روحي وأنا تائب، فشعرت في نفسي أن شيئاً يحركني إلى أن أشرب من ماء زمزم، فنزلت إلى زمزم، فأخذت دلواً ومن شدة الظمأ شربته كاملاً، فلما شربت هذا الدلو إذا ببطني تتقلب، فشعرت بالقيء -أكرمكم الله- فانطلقت فلم أشعر إلا عند باب إبراهيم وقد قذفت ما في بطني وإذا بها -أكرمكم الله- قطعٌ من الدم مظلمة، فلما قذفتها شعرت براحة عظيمة، وشعرت بعظمة الله جل جلاله، وأيقنت أنه من التجأ إلى الله لا يخيب، وأن الله بيده من الخير ما لم يخطر على بال.

    يقول: فرجعت مرةً ثانية في يقينٍ أكثر وإيمانٍ أعظم، فدعوت وابتهلت وسألت الله وبكيت بين يديه، وقلت: يا رب! إما أن تشفيني وإما أن تتوفاني على هذه التوبة، قال: فإذا بنفسي تحدثني بزمزم مرةً ثانية، فشربت الدلو مرةً ثانية، وحصل لي ما حصل في المرة الأولى، فانطلقت حتى بلغت الباب فقذفت -أكرمكم الله- فإذا بالذي قذفته أهون من الأول، ثم رجعت مرةً ثالثة، وإذا بي بإيمانٍ ويقينٍ أكثر -لأنه نظر إلى عظمة الله وجلاله وقدرته سبحانه وتعالى- دعوت وابتهلت، فإذا بي أشعر أنني أحب الشرب، فنزلت وشربت من زمزم مرة ثالثة فتحرك بي كما في الأولى، فقذفت فإذا به ماء أصفر.

    قال: فشعرت براحةٍ عجيبة ما شعرت بها منذُ أن بلغت، ثم رجعت ودعوت الله سبحانه وتعالى وابتهلت إليه فألقى الله عليَّ السكينة فنمت وما استيقظت إلا على أذان الفجر، فقلت: والله لا أفارق هذا البيت ثلاثة أيام، فما زال يبكي، ويسأل الله العفو والمغفرة، ويشرب من ماء زمزم.

    قال: ثم رجعت إلى المدينة بعدها، فلما استقر بي المقام أتيت إلى الطبيب المداوي، فوقفت عليه، فنظر في وجهي فإذا به قد استنار -والحمد لله- من الهداية، فلما جاء كشف عليّ اضطربت يده وهو لا يصدق ما يرى، ثم التفت إلي وقال لي: يا عبد الله! إن الله قد أنعم عليك بشيء عظيم، يعني: هذا الشيء الذي أنت فيه -بعرف الأطباء- لا يمكن أن يصل إليه طبيب، ولكن الله هو الذي تولاك، ثم استقام هذا الرجل من ذلك الوقت لمدة ثلاثين عاماً، يقول لي: وأنا أحدثك اليوم صائمٌ وأنتظر من الله حسن الخاتمة. وقد توفي رحمه الله على خير.

    منذُ الخامسة عشرة إلى الأربعين وهو يشرب الخمر، وأنتم تعرفون فتنة الخمر وبلاءها، ومع ذلك تاب إلى الله فتاب الله عليه، لا إله إلا الله! والله أعلم كم من أبواب رحمةٍ فتحها على المعذبين، الله أعلم كم من أبواب برٍ وإحسان أغدقها على عباده الموقنين، أيقن بالله وثق بأن الله سبحانه وتعالى سيعطيك فلن يخيب الله رجاءك.

    من هذا الذي وقف بباب الله فطرده عن بابه؟ ثق ثقة تامة أنك عندما تعلنها توبة إلى الله، فإن الله يحب منك ذلك، ووالله ما دعوت ربك ورجوته، وملأت قلبك بحبه إلا أراك الله السعادة في الدنيا والآخرة، فقد قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (من أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً) ويفرح بتوبة التائبين سبحانه، رغم أن العبد مذنب ومخطئ ومسيء، ولكن الله يفرح بتوبته! ما أرحمه وما أكرمه سبحانه لا إله إلا هو! يفرح بتوبة التائبين، والتوبة لنا فلن نبلغ ضره فنضره أو نبلغ نفعه فننفعه (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) .

    اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، ونسألك أن تتوب علينا وعلى عبدك هذا وعلى جميع عبادك المؤمنين.

    اللهم تب علينا في التائبين، وانشر لنا من رحمتك يا أرحم الراحمين، واغفر لنا إنك أنت خير الغافرين. والله تعالى أعلم.

    أسباب تعين على قيام الليل

    السؤال: إن من أسباب السعادة أن يوفق العبد لقيام الليل، وإني كلما حاولت القيام لا أستطيع رغم بذل الأسباب، فهل من كلمة توجهها إليَّ؟

    الجواب: قيام الليل من أجلّ الطاعات وأشرف القربات التي يرحم الله بها المؤمنين والمؤمنات، وانظر إلى نصوص الكتاب والسنة وما فيها من الدلائل العجيبة التي تدل على فضل هذه العبادة؛ لأن الله أوحى لنبيه وأمره بقوله: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2]، فكان أول ما أمره أن تنتصب قدمه بين يدي الله في جوف الليل، وقد نامت العيون وهدأت الجفون، وقام العبد بين يدي الله يتلو كتاب الله ويرجو رحمته، فهي ساعات الصالحين، وأمنية المتقين، وشعار عباد الله المفلحين.

    ما رزق أحد قيام الليل إلا أفلح ونجح وربحت تجارته في الدنيا والآخرة: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18] ، أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] .

    وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما العبد إذا كان في جوف الليل وقام ليتهجد وترك زوجته وحبه، فقال الله: يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه؟ فيقولون -والله أعلم- يرجو رحمتك ويخشى عذابك، فيقول الله: أشهدكم أني أمنته من عذابي وأصبته برحمتي) .

    قيام الليل خيرٌ كثير، فهو شأن الصالحين وعباد الله المفلحين، ما حبب قيام الليل إلى عبد إلا رزقه الله عز وجل الصلاح والفلاح، وكم من دعوةٍ استجيبت في ظلمات الليل! قال: (يا رسول الله! أيُ الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر) جوف الليل الأظلم، إذا نامت العيون، وهدأت الجفون.

    ثم إن هذه العبادة تربي في الإنسان الإخلاص لله جل جلاله، فلا أحد يراك ولا يعلم بك إلا الله، وإنما تتقلب بين يديه، وهذه العبادة تعين الإنسان على كثيرٍ من الخير إذا أصبح، فمما يعين على أمور الدنيا إحياء الليل في طاعة الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءته فاطمة -كما في الحديث الصحيح- تسأله خادماً: قال لها: (أولا أدلك على خير من ذلك؟ إذا آويت إلى فراشك، تسبحين الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدينه ثلاثاً وثلاثين، وتكبرينه أربعاً وثلاثين، فذلك خيرٌ لكِ من خادم) فإن هذا الذكر من المجرب أنه إذا تركه الإنسان وجد أثره في رزقه وحاله.

    فذكر الله في الليل فيه خير كثير، ثم إن الإنسان إذا أصبح يتلألأ وجهه من نور الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة نور، والصدقة برهان) فمن أكثر من قيام الليل تلألأ وجهه بنور العبادة سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ [الفتح:29] أي: سيما نور العبادة، قال بعض السلف: (كان الرجل من الصحابة إذا أصبح كأن وجهه الشمس من نور العبادة). يتقلب بين يدي الله في جوف الليل، فلا يزال العبد بخير إذا أقام الليل وذكر الله في ليله وفي جوف الليل الأظلم سأل الله في الساعة التي تستجاب فيها الدعوة.

    وأما بالنسبة لأعظم الأسباب التي تعين على ذلك فأعظمها وأجلها وأولها: كثرة الدعاء، بأن يرزقك الله عز وجل قيام الليل.

    والأمر الثاني: أن تكثر من تلاوة القرآن، فإن القرآن يحبب في الطاعة كلها وبالأخص في قيام الليل.

    ثم إن مما يعين على قيام الليل: علم الإنسان بعظيم أجره وجزيل ثوابه، فإن الركعة في جوف الليل الأظلم لها أجر كبير، خاصةً إذا كانت على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فأطال قراءة القرآن، وتلذذ بمناجاة الحليم الرحمن، قال صلى الله عليه وسلم: وهذا أحد الصحابة قرأ سورة الكهف، فجاءت سحابةٌ أو غمامة، فقال رسول الله: (اقرأ فلان فيك السكينة تنزلت لقراءة القرآن) وإذا نزلت السكينة على العبد ثبت الله قلبه، ولذلك قلّ أن تجد إنساناً يحافظ على قيام الليل إلا وجدته في الصباح غالباً مأموناً من الفتنة بإذن الله عز وجل. فاحرص بارك الله فيك على هذا الخير.

    أما ما يمنع الإنسان من قيام الليل: قال سفيان الثوري رحمه الله: (أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل ستة أشهر). فإن عقوق الوالدين وقطيعة الرحم -نسأل الله السلامة والعافية- والغيبة والنميمة وسب الناس واحتقارهم من أعظم الآفات التي تحول بين المهتدي والهداية، وكم من شابٍ مهتدٍ التزم بدين الله، فكان في بداية هدايته عفيف اللسان والجنان والجوارح والأركان، فكان من أكمل الناس إيماناً، ولما غيّر غيّر الله ما في قلبه، فأصبح يتكلم في زيدٍ وعمرو وينتقص زيداً وعمراً، ولربما تكلم في عالمٍ أو داعية أو نحو ذلك، فبلي بالفتنة على قدر ما أصاب من الذنوب.

    فليتق الله الإنسان وليتفقد نفسه، فـ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].

    نسأل الله العليم أن يرزقنا السداد والرشاد. والله تعالى أعلم.

    من مقومات السعادة الزوجية

    السؤال: كيف يكون الرجل سعيداً مع زوجته، مع العلم أني سعيدٌ مع زوجتي، لكنها -بطبعها- قليلة الكلام، وأنا أجد في نفسي السآمة والملل عندما لا تتحدث معي، فما هي مقومات السعادة الزوجية؟

    الجواب: الحقيقة أنه لا سعيد إلا من أسعده الله، وإذا أراد الله أن يسعد الزوج بزواجه والزوجة بزواجها رزقهما الدعاء قبل الزواج، وقبل أن يتحمل المسئولية ويبتلى بالأمانة يلهج بالدعاء، ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك له في زوجته وأهله وأن يصلح بعله، ولذلك قال الله عز وجل عن نبيه زكريا: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَه [الأنبياء:90] فالذي أصلح لزكريا وأصلح لمن قبله يصلح لك زوجك، فأعظم أسباب السعادة: كثرة الدعاء.

    الأمر الثاني: حسن النية في الزواج، ألا يتزوج الإنسان لشهوته، ولكن يتزوج لكي يعف نفسه عن الحرام ويبتعد عن الفواحش والآثام، ويأخذ بينه وبين الله أن يبارك له في هذه الزوجة فيغض بصره عما حرم الله، ويحصن فرجه عما نهاه الله عز وجل عنه، وإذا حسنت نيته بارك الله له فيه؛ لأنه يكون له عبادة طاعةً.

    ومما يعين على السعادة الزوجية: الاهتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في تألفه ومودته ومحبته لزوجه وتواضعه وإخلاصه وجميع شمائله.

    كان صلى الله عليه وسلم خير زوجٍ لزوجه، يقول صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) فشهد -وهو الصادق- صلى الله عليه وسلم أنه خير الناس لأهله وزوجه.

    كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت لا يدخل وفي قلبه على أهله شيء، حتى كانت أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها تقول: (كان إذا دخل لا يدخل من وجه الباب). وكان إذا دخل عليه الصلاة والسلام ابتدأ بالسواك حتى لا تشم منه إلا رائحة طيبة؛ لأنه طيب قد طيبه ربه، فكان يتفقد المشاعر والأحاسيس. كان إذا خرج عليه الصلاة والسلام إلى الأمة وقف على منبره فأخشع القلوب لربها، وقاد جحافل الإيمان لنصرة القرآن والدين صلوات الله وسلامه عليه، فكانت لا تأخذه في الله لومة لائم، وإذا دخل إلى بيت الزوجية دخل أكرم بعل وأكرم زوج على أهله صلوات الله وسلامه عليه، دخل بشيءٍ من الألفة والمحبة، لا يدخل وهو يشعرهم أنه عظيم وكبير، وإذا هو بذلك وتلك الألفة يرسم النموذج العالي للزوج، فالحياة الزوجية تحتاج إلى شيءٍ من الحذر وإلى شيء من التوقي وتلمس المشاعر، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينادي عائشة رضي الله عنها ويقول: (يا عائش !) يرخم مع النداء حتى إذا نادى لها رضي الله عنها وأرضاها.

    وما عاب طعاماً بين يديه قط صلوات الله وسلامه عليه، ولا سب ولا شتم امرأة، بل ولم يسئ إلى أحدٍ بلسانه صلوات الله وسلامه عليه، إن وجد خيراً حمد الله ورد الجميل بأجمل منه، وإن وجد غير ذلك شكر وصبر وذكر الله جل جلاله.

    يأتي إلى أم المؤمنين ويقول لها: (هل عندكم طعام؟ قالت: لا والله، قال: إني إذاً صائم) ولو أن رجلاً منا نادى وقال: هل عندكم طعام؟ فقالت امرأته: لا ما عندنا طعام، لأقام الدنيا وأقعدها فضيق الله عليه، وأساء فرأى عاقبة السوء فما سميت السيئة سيئة إلا لأنها تسيء إلى صاحبها، وإذا جرحت مشاعر الأهل بالسيئة ساءتك السيئة التي خرجت من لسانك.

    كان يحذر صلوات الله وسلامه عليه في كلامه وخطابه وندائه، وإذا وضعت عائشة رضي الله عنها الطعام والشراب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه- إذا به يقسم عليها أن تشرب قبله صلى الله عليه وسلم، فتشرب قبل نبي الأمة وأحب الخلق إلى الله صلى الله عليه وسلم.

    إن كريم الأصل من طاب وطابت شمائله وآدابه، الرجال العظماء والفضلاء لا يرتفعون إلا بالتواضع فالزوج إذا دخل إلى بيت الزوجية وهو يرى نفسه أنه فوق المرأة والمهيمن والمسيطر فإن هذا ينعكس على مشاعره وأحاسيسه، يدخل كما دخل نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، ويعاشر كما كان يعاشر صلوات الله وسلامه عليه، فإذا جاءت المناسبات والأفراح أدخل السرور على أهله وعلى زوجه.

    ففي الصحيحين: لما قام الأحباش يلعبون يوم العيد في المسجد، سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله أن تنظر إليهم فما كسر خاطرها صلى الله عليه وسلم وما قال لها: أقف لك وأنا نبي الأمة حتى تنظري؟ بل قام صلى الله عليه وسلم ونعم القيام قيامه، فوقف ووقفت أم المؤمنين تنظر إليهم وهم يلعبون من وراء ظهره صلوات الله وسلامه عليه، فيقول: (هل فرغت؟ تقول: لا بعد، فيقول: هل فرغت؟ تقول: لا بعد) فانظر إلى طيب وقوفه! وانظر إلى إصرارها وطول وقوفها موقفها رضي الله عنها وأرضاها! تعلم رحمته وشفقته، تقول له: لا بعد، لا بعد، تجملت من الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعمره صلوات الله عليه في الستينات وهي صبية، وتقول: اقدروا قدر الصبية الجهلاء.

    الواحد منا يريد من زوجته أن تكون موطأة الكنف كثيرة الإحسان والتبعل لزوجها، ولكن لا ننظر ما الذي قدمناه لزوجاتنا، وبمجرد أن يفكر الواحد منا في حسن العشرة جاءه الشيطان من شياطين الإنس أو الجن، فأقام له الدنيا وأقعدها، وقال له: إن أحسنت إلى زوجتك فإنها تؤذيك في مستقبلك، إنك إن تواضعت لها ركبتك، وإن تذللت لها أهانتك، فلا يزال القلب يمتلئ بسوء الظن في الأهل حتى لا يستطيع الإنسان أن يتواضع لأهله، نسأل الله السلامة.

    ومن الناس من يدخل بيته يدخل بيته وهو دائم الأذية.. شديد الصراخ.. كثير الكلام، حتى إنك لتعجب والله من الرجل منا إذا جلس مع الناس تبسم وتهلهل وجهه وتحبب إلى الناس، ولربما جاءه رجل فأساء إليه فيسعه بحلمه ويبدي له الصبر، ولكن ما إن يدخل إلى بيته -نسأل الله السلامة والعافية- إلا كشر عن أنيابه وغير وجهه فأضر وآذى أهله، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما أولئك من خيراكم) أي: الذين يضربون نساءهم، فخيار الأمة خيارهم للأهل.

    ما الذي نريد؟ نريد هدي النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الهدي الكريم الذي جمعه الله في آيةٍ واحدة: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] فالكلمة الطيبة تلمس المشاعر والأحاسيس.

    ومما يوصى به لاستقامة بيت الزوجية وسعادته: أنك تتذكر دائماً أنك لست الأولى بالفضل، وهذه من الحكم المعروفة المأثورة وهي: أن الرجل الكريم لا تطيب شمائله إلا إذا تواضع للناس.. ألا تستوجب على الناس شيئاً، ولذلك أي إنسان أعطاه الله نعمة وأحس أن له فضلاً على الناس؛ تعالى على الناس وأهانهم وأذلهم وظلمهم حقوقهم، نسأل الله السلامة والعافية، لقد كان بعض العلماء يقول: إذا حضرت المسجد فرأيت الناس قد اجتمعوا قلت: فضل عليَّ لهم أنهم جاءوا، فلا يرى أنه ذاك العالم الذي جاء الناس لعلمه.

    وللرجل القوامة على المرأة كما قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34] ولكن هناك آداب وشمائل زين الله بها أهل التقوى، فإذا لم نكن طيبين بأخلاقنا وشمائلنا لأهلنا فلمن نكون؟!! وإذا لم تكن بيوتنا مبنية على المحبة والألفة فأين تكون الألفة والمحبة؟!!

    ومهما بدرت من زوجتك إساءة فاصبر عليها، وانظر لنفسك بعين النقص، فلا تحس أن لك كمالاً على الناس، فإذا دخلت البيت ووجدتها قد طبخت طعاماً، قلت لها: جزاك الله كل خير، وقلت الكلمة الطيبة: بارك الله فيك، أحسن الله إليك، هذه الدعوات الصالحة تجد أثرها وخيرها عليك في بيتك (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)، فاحمد الله أنك وجدت امرأةً تطبخ لك، وكم من امرأةٍ تمردت على زوجها بسبب سوء أخلاقه، وإذا رأيتها غسلت ثوبك أو أحسنت إليك أو جاءتك بالشيء، قلت لها: جزاك الله كل خير فتثني عليها أمام أولادها، حتى يجلونها وتقابلك هي بالإجلال، فإذا بأولادك يحبونك ويحبونها، ويكرمونك ويكرمونها، وإذا بالبيت تنتشر فيه الرحمة، وينتشر بين أهله الحب والود الذي ينبغي أن تقوم عليه بيوت المسلمين، وأما إذا أصبح الرجل يرى أنه ذلك المستحق للاحترام، وأن أقلّ خطأ من المرأة لا يغفر، وأنه إذا زلت بلسانها قام فسبها وشتمها وربما أمام أولادها.

    من أعظم العيب وأقبحه أن تكون المرأة بنت خمسين أو ستين سنة وإذا بزوجها يكفكفها أمام أولادها! من أقبح العيب والله أن يكسر خاطرها ويهين كرامتها أمام أولادها! وهذا والله ليس من العشرة بالمعروف.

    راقب أفعالك وتصرفاتك، فالسعادة تحتاج منك إلى ثمنٍ كبير، وإلى تضحية، كان الصالحون يتأذون من زوجاتهم، ويضطهدون فلا يسمع منهم إلا الخير، وقيل: إن زكريا عليه السلام كانت امرأته تشتمه وتهينه، ومع ذلك كان صابراً، فالمرأة ابتلاء من الله، ولربما يبتليها الله بك حتى بالاحتقار.

    كان هناك عالم من علماء المدينة، قال لزوجته ذات يوم -وقد كانت تهينه- تعالي إلى المسجد وانظري فجاءته إلى المسجد ونظرت وإذا بالأمة قد أصغت إليه، فالمرأة لأنها تنظر إلى زوجها بعينٍ ناقصة تهين زوجها، فالمقصود: أنه لا بد من الصبر، ومن التحمل واحتساب الأجر، يبتليك الله بزوجتك لدرجةٍ في الجنة لا تبلغها بكثرة صلاة ولا صيام.

    عندما تدخل إلى البيت فإن سمعت خيراً قلت: الحمد الله الذي رزقني زوجة تخاف الله، وإذا رأيتها غير ذلك، قلت: اللهم لا حول ولا قوة إلا بك، اللهم اهدها، اللهم أصلحها.

    يقولون عن رجلٍ من العلماء: أنه دخل عليه أحد طلابه، فوجد عنده ابناً باراً عجب من بره، فقال له: أتعجب من بره؟ والله لقد عشت مع أمه عشرين أو ثلاثين عاماً ما تبسمت في وجهي قط، فصبرت فعوضني الله ما ترى.

    الذي يريد السعادة يدخل إلى بيته بقلبٍ واحد، ما رأى من خيرٍ شكره، ويشعر أهله بأنه زوج كريم، فعندما تضع زوجتك الطعام فتشكرها، فيسمعك أولادك فيعتادون شكر الناس على الإحسان، وإذا رأوك كريماً مع زوجتك تعلموا كيف يعيشون مع الناس كراماً؛ لأن البيت مدرسة، وعلينا أن نتقي الله في أفعالنا وأقوالنا وخاصةً أمام الأبناء والبنات.

    فالسعادة الزوجية لا تكون ولن تكون إلا إذا عرف المسلم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فطبقه وسار على نهجه واحتسب الأجر عند الله عز وجل.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسعدنا وإياكم في الأهلين. والله تعالى أعلم.

    تحذير من القنوط من رحمة الله

    السؤال: أنا شاب ظاهري الصلاح، ولكن أحس بقسوةٍ في قلبي وأحب فعل الطاعات وأعزم على فعلها، ولكن سرعان ما أقع في المعصية، وأجد تأنيباً من نفسي، حتى أني أخشى على نفسي من القنوط واستحواذ الشيطان على قلبي، فهل من علاج لهذه المشكلة؟

    الجواب: لا زال الخير موجوداً في قلبك ما دمت أنك تندم وتتألم، وأبشر بالخير، وكل من عصى الله وابتلي بالمعصية فإن الله إذا أراد به خيراً ألهمه حسن الظن بالله، فإذا ابتليت بالمعصية -ولو مئات المرات أو آلاف المرات- فتب إلى الله، فإن الله يفرح، والله يحب منك أن تقول: اللهم إني تائبٌ إليك، ويفرح بذلك -وهذا أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم- فرحاً حقيقياً يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى: (لله أفرح بتوبة عبده) فإذا ابتليت بالمعصية إياك أن تقنط! واعلم أنه لو بلغت ذنوبك عنان السماء، واستغفرت الله لغفرها لك ولا يبالي، ولو أتيت بقراب الأرض خطايا وتبت إلى الله توبة نصوحاً أتاك الله بقرابها مغفرة ولا يبالي.

    وانظر هذا النداء: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] الذين أسرفوا، فمهما بلغت ذنوبك، فأحب ما يكون من العاصي أنه بعد المعصية يتوب إلى الله عز وجل، وإذا تبت إلى الله فإنك تغيظ الشيطان، والذي أوصي به: من وقع في أي ذنب بعد التزامه وهدايته ألا يقنط، فإن الشيطان يقول له: إن الذنب منك ليس من غيرك، وأنت الآن ملتزم ومطيع فكيف تفعل هذه المعصية؟ أنت لا خير فيك ولو كان الله يحبك ما جعلك تعصيه، فالشيطان خبيث، فإذا قال ذلك فقل: اخسأ عدو الله، فإن رحمة الله واسعة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق منك حينما قال: (لله أفرح بتوبة عبده) فتتوب إلى الله من ذلك، واعلم أن هذا الذي تفعله من توبة تغيظ به إبليس، فما أوصيك إلا بحسن الظن بالله، وأن تعلم أن الله يحب منك التوبة، ونسأل الله العظيم أن يتوب علينا وعليكم وهو أرحم الراحمين. والله تعالى أعلم.

    كيفية بر الوالدين بعد موتهما

    السؤال: كيف تكون الصلاة على الوالدين بعد موتهما؟

    الجواب: الصلاة تطلق على معنيين: الصلاة التي هي الصلاة على الميت، ومن حق الوالد على ولده أن يشهد جنازته وأن يصلي عليه وأن يدعو له في هذه الصلاة؛ لأن هذا من أقرب الدعاء؛ لأن الشفقة والحنان الذي بينه وبين والديه تدعوه إلى الدعاء بإخلاص وصدق.

    أما المعنى الثاني: وهو الذي فسّر به جمعٌ من شراح الحديث: أن الصلاة بمعنى، الدعاء، ومنه قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103] أي: ادع لهم، ولذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (الصلاة عليهم والاستغفار لهم) قيل: من باب عطف الخاص على العام، فالاستغفار نوعٌ من الدعاء، فعطف الاستغفار لفضله وشرفه، فأفضل ما تقول أن تقول: ربِّ اغفر لي ولوالدي وارحمهما كما ربياني صغيرا. سبحان الله! كلمة يسيرة، ولربما يكون الوالد أو تكون الوالدة الآن في قبرها وهي أحوج منك إلى دعوة.

    البر أصدق ما يكون بعد الموت؛ لأنك لا تحابي ولا تجامل، وبرك من الأمور الكريمة الطيبة التي وجدنا من آثارها الحميدة وعواقبها الحميدة خيراً كثيراً.

    إن كثرة الدعاء للوالدين بعد الممات من الأمور الجليلة الكريمة؛ لأنه قد يكون في كربة وفي ضيق من ضيق القبر ينفس الله عنه، بفضله سبحانه ثم بدعائك كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث -وذكر منها- ولد صالح يدعو له) فتذكر لو أنك أنت الميت ما فتر لسان الوالد ولا فتر لسان الوالدة من الدعاء لك، فلا تشغلك الدنيا عن والديك، وما الذي تخسره وأنت جالس تقول: رب اغفر لي ولوالدي وارحمهما كما ربياني صغيراً، وتسأل الله لهما أن يوسع لهما القبر، وأن يهون عليهما السؤال في القبر، وأن يهون عليهما الحساب، واعلم أنك -والله- ما ذكرتهما بدعوةٍ صالحة وهم في القبور وضيقها إلا سخر الله لك من يدعو لك كما دعوت لهما وخاصةً الأم؛ لأن حقها كثير، وفضلها كبير، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) .

    كثرة الدعاء للوالدة والترحم عليها بقولك، اللهم اغفر لها.. اللهم ارحمها.. اللهم سامحها.. اللهم اغفر لأبي.. اللهم ارحمه.. اللهم تُب عليه.. اللهم سامحه.. اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة ونحو ذلك من الدعوات الطيبة، والله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولربما تقول: اللهم افسح لأبي في قبره ونور له فيه، فيفسح له في قبره إذا دعوت بهذه الدعوة، أو ربما تسأل الله لوالديك رحمةً في القبر فيستجيب الله لك، فالله الله في كثرة الدعاء للوالدين والاستغفار لهما.

    وكذلك الصدقة عنهما مستحبة؛ لأن سعداً رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح قال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها -يعني: ماتت ولا أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم) فأوصاه أن يتصدق عنها فتصدق سعد رضي الله عنه ببستانٍ كامل عن أمه، رضي الله عنه وأرضاه، وكانت التمرة الواحدة يتغذى منها الرجل يوماً كاملاً، فما بالك ببستانٍ كامل؟!! قدّمه للآخرة ورآه قليلاً يسيراً أمام فضل أمه عليه، وقد كان من أبر الناس بأمه رضي الله عنه وأرضاه.

    فعلى الإنسان أن يحرص على الدعاء وألا يغفل عن الوالدة، ونحن كلنا فينا غفلة إلا أن يرحمنا الله برحمته، فيحرص الإنسان على كثرة الدعاء للوالدين وخاصةً بعد الموت، بأن يترحم عليهما، وأن يجعل لهما شيئاً من صدقة، ينظر إلى مكهول أو إلى أيتام ويجعل لهم قسطاً في الشهر، فيأخذ من طعامه ويجعلها صدقة جارية على والديه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وهذا هو الذي ينفع، والمعروف لا يبلى، والخير لا ينسى، ومن زرع خيراً وجده، ومن التزم بالمعروف أحبه الله.

    نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل. والله تعالى أعلم.

    من علامات قبول الأعمال

    السؤال: إذا عمل الإنسان عملاً صالحاً، فما هي علامات قبول هذا العمل؟ وكذلك إذا تاب، هل هناك علامات لقبول توبته؟

    الجواب: أما بالنسبة لأمارات القبول فهو غيبٌ لا يعلمه إلا الله سبحانه، الله وحده هو الذي يعلم من المقبول وغير المقبول، كان علي رضي الله عنه إذا كانت آخر ليلة من رمضان صاح وبكى، وقال رضي الله عنه: (ألا ليت شعري من هو المقبول فنهنيه، ومن هو المحروم فنعزيه) فقد يكون الذنب سبباً لعدم قبول العمل، فنسأل الله أن يتقبل منا ومنك.

    انظروا إلى نبي الله الخليل حبيبه وصفيه عليه الصلاة والسلام، لما بنى القواعد من البيت وهو في العمل الصالح يقول: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، فكان يسأل الله القبول.

    ومن أمارات القبول: أن الإنسان يكون حاله بعد الطاعة أفضل من حاله قبل الطاعة.

    ومن علامات القبول: أن الإنسان بعد الطاعة يحسُ بانشراحٍ لعمل طاعةٍ للرب، فأنت -مثلاً- إذا تبت إلى الله ثم وجدت بعد ذلك انشراحاً لزيارة أرحامك، فتخرج من صلة رحمك لينسأ لك في أثرك، ويبسط لك في رزقك، ويزاد لك في عمرك، فتخرج تحتسب الأجر من الله، وما أن تفرغ من بر الوالدين إلا وصدرك ينشرح، فبدلاً من أن تذهب إلى بيتك لتذهب إلى محاضرة أو مجلس ذكر أو موعظة، فتجد أن الطاعات تتبع بعضها بعضاً، فلا يزال العبد المقبول يدخل في رحمات الله جل جلاله من بر إلى بر، ومن طاعة إلى طاعة، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.

    ومن علامات قبول الأعمال الصالحة: ظهور آثارها على العبد، فإن الصلاة لها أثرٌ عظيم، ومن ذلك أنها تحفظ صاحبها -بإذن الله- من الفحشاء والمنكر، فإذا خرج المصلي من المسجد يغض بصره عن محارم الله، ويكف لسانه عن أذية المسلمين، ويحفظ فرجه عن حدود رب العالمين، فليعلم أن صلاته -إن شاء الله- مقبولة، تجده بعد فعل الطاعة، إذا جاء دافع الشهوة يقول: أعوذ بالله! أعوذ بالله! فيخشى ويخاف، فمثل هذا يرجى له القبول، ونسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، والله أعلم.

    أسباب قسوة القلوب

    السؤال: إن الله تعالى يقول: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22] وإن الناظر في أحوال الناس يرى أن القلوب بدأت تتحجر ولا تخشع، ولا العيون تدمع عند سماع آيات القرآن، فهلا ذكرت لنا موعظة لتلين قلوبنا وتدمع أعيننا، وما هي أسباب قسوة القلوب؟

    الجواب: لا حول ولا قوة إلا بالله! والله المستعان! إن الوعظ والتذكير مسئولية عظيمة، وتذكير الناس ووعظهم ليس بكلمات تذكر فقط، بل تحتاج إلى حضور قلب، وأحتاج قبل أن أعظكم أن أعظ نفسي، وأحتاج قبل أن أذكركم أن أذكر نفسي، والله من أصعب الأسئلة عليَّ وأعظمها عليَّ أن يقال: عظنا! من أنا حتى أعظ؟! الكل يحث ويذكر بالله جل جلاله.

    كم من أناس كانوا معنا في العام الماضي، أين هم الآن؟ كم من أناس كانوا في نعمة وأصبحوا في نقمة! فالليل يذكر بالله، والنهار يذكر بالله، وكل شيءٍ في هذا الوجود إلا وهو يعظكم، ما من شيء منذ طلوع الشمس إلى غروبها إلا وهو يذكرك بغروبك من الدنيا وخروجك منها، فقط موقف تقفه إذا دنت الشمس من الغروب، أتتأمل تلك الساعة، كانت الشمس في قوتها ووهجها، يسقط الناس من حرارتها، وإذا بها عند الغروب قد أسلمت لله وذلت له جل جلاله، فإذا بذلك الشعاع ينكسر، وإذا بتلك القوة تنحسر وتنفطر، وإذا بها تؤذن بالغروب، يذكرك الله جل جلاله أن هذه النعمة التي تعيشها -إن كنت في قوتك- ستزول وتنتهي وتسلم الروح له جل جلاله، كل شيءٍ يذكر بالله، ولكي تكون قلوبنا حية فلنتأمل في كل شيء، بيتك الذي تدخله ومسكنك الذي تسكن فيه الآمن الجديد الجميل وإذا به يصير إلى هدم وإلى حالة أسوأ مما كان عليها، يجدده الليل والنهار، ويغيره العشي والإبكار، فكل شيء يذكر بالله جل جلاله، يوم أن توجه نظرة في هذا الوجود إلا ويصيبك شيء من التأمل.

    أما قسوة القلوب فمن آثار الذنوب، وكل الذي يصاب به الإنسان هو بسبب الذنوب، فعليك ألا تقول وتعمل إلا خيراً، وعلى المسلم أن يتذكر قول الله عز وجل: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:8].

    ثقل الموازين بالطاعات والحسنات، وليتذكر الإنسان لماذا خلق؟ ولماذا أوجده الله؟ فكل لحظة ينبغي أن تسخرها لهذا الأمر فتسبح.. وتحمد.. وتهلل.. وتكبر.. وتذكر الله جل جلاله لعل الله أن يثقل موازينك، فكم من كلمة يسيرة من ذكر الله جل جلاله ثقل الله بها الميزان ورفع بها الدرجات.

    فعلى المسلم أن يكون دائماً ذاكراً لله سبحانه وتعالى، فمن عبرة إلى عبرة: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] وإذا حاول المسلم تغيير ما في قلبه من شر إلى خير فإن الله يوفقه ويسدده إلى كل خير، وهذه من الأسباب التي تزيل قسوة القلب، كذلك من الأسباب كثرة تلاوة القرآن، ولو أن الإنسان لا يحفظ إلا الفاتحة فليكررها؛ لأن قراءة القرآن من أعظم أسباب لين القلوب، وكم من حافظٍ للقرآن إذا تلاه كتبت لها ملايين الحسنات، إن هذا مما يلين القلوب بالله جل جلاله.

    كذلك أيضاً مما يلين القلوب لذكر الله سبحانه وتعالى: أن يبتعد الإنسان عن الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يصبر نفسه على الخير.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرحمنا برحمته.

    اللهم إننا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.

    اللهم تب علينا في التائبين، وارحمنا برحمتك وأنت أرحم الراحمين.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم ألا يفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وأجر مرفوع، وعمل صالح مقبول مبرور.

    وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755978988