الطهارة هي رفع الحدث وإزالة النجاسة، وقد أمر الله عز وجل بها وأثنى على أهلها، وقد لخص الشيخ في هذه الخطبة طائفة من الأحكام تختص بالطهارة، وقد اقتصر فيها على القول الراجح، فتناول مسألة التطهير بغير الماء كالمنظفات الكيماوية والشمس والريح، والاستحالة، وتطهير السطوح الصقيلة بمسحها، مفصلاً القول في كيفية تطهير الأرض والسجاد والبئر، ومبيناً حكم السمن إذا وقعت فيه النجاسة، وأردف ذلك بذكر نجاسة الكلب وطهارة الهرة، وفرق بين حكم المني وحكم كل من المذي والودي من حيث الطهارة.
ثم ذكر أقسام الدماء، وشرح كيفية تطهير الخف، وكيفية التطهر من بول الغلام وبول الجارية، وختم خطبته بذم الوسوسة والموسوسين، والتذكير بقبح النجاسة المعنوية كالشرك والنفاق. |
|
|
|
|
|
وهاكم يا أيها المسلمون طائفة من الأحكام لخصتها لكم من كلام أهل العلم، فانتبهوا رحمكم الله لها، قد اختصرت الكلام فيها على القول الراجح مع الدليل ما أمكن. لقد اتفق الفقهاء رحمهم الله على أن الماء المطلق رافعٌ للحدث مزيلٌ للنجاسة، لقوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11] ولحديث أسماء قالت: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة، فماذا تصنع به؟ قال: تحته، ثم تقرصه، ثم تنضحه بالماء، ثم تصلي فيه) متفق عليه. |
|
وقد اتفق الفقهاء على أن هناك نجاسات تزول بالاستحالة، كقولهم في الخمر باعتبار أنها نجسة عندهم: إنها تزول بالاستحالة إذا انقلبت خلاً بنفسها، وكذلك إذا تنجس بالتغير، فزال التغير بنفسه طهر، وجاء في بعض الأحاديث التطهير بالدباغة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه . |
|
|
لكن هل يشترط في إزالة النجاسة الماء، أو يصح بكل مزيل حتى لو لم يكن ماءً؟الراجح أنه يزول ويصح التطهير بأي طريقة، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال العلامة الشوكاني : والحق أن الماء أصلٌ في التطهير، لوصفه بذلك كتاباً وسنة، لكن القول بتعينه وعدم إجزاء غيره يرده حديث مسح النعل، ولم يأت دليل بحصر التطهير في الماء. فبأي مزيل زالت النجاسة أجزأ ذلك، حتى لو كان بالمعقمات والمطهرات الكيماوية، فإن ذلك مجزئ على الراجح. فمادام قد زال وصف النجاسة، فلا ريح ولا طعم ولا لون، فقد صار الشيء طاهراً، وقد كثرت وسائل التعقيم والتكرير، فها أنت ترى في بعض الأماكن تكرير مياه المجاري حتى تعود نظيفة، فهذه إذا زال وصف النجاسة عنها عادت إلى الطهارة، وكذلك بعض المغاسل تنظف الملابس بالمنظفات الكيماوية، فإذا زالت النجاسة وعينها وأوصافها، فهذا يرجع إلى الطهارة، وهذا هو الراجح إن شاء الله تعالى. |
|
|
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم -وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى- أن الشمس تطهر المتنجس إذا زال أثر النجاسة به، إذ أن المقصود هو الإزالة، وكذلك الريح تطهر المتنجس، ولكن مجرد اليبس ليس تطهيراً، بل لابد أن يمضي عليه زمن تزول عين النجاسة منه، ولذلك إذا وقعت النجاسة على ثوب أو أرض، ثم جفت فلابد من غسلها. |
|
|
وأما السطوح المصقولة، كالمرآة والسكين والرخام وبعض البلاط في زمننا هذا، فإنه يكفي دلكه حتى تزول النجاسة منه، فلو تنجست مرآة ثم دلكتها حتى أصبحت واضحة لا دنس فيها، فإنها تطهر على الراجح.وزوال النجاسة بالدلك كذلك اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، وكذلك اختار أن النجاسة لو تحولت فصارت رماداً أو ملحاً فإنها تطهر بهذه الاستحالة، وكذلك اختار ذلك تلميذه ابن القيم رحمه الله، كما في أعلام الموقعين . |
|
|
|
|
وإذا كانت النجاسة مرئية، فإنه يطهر المحل المتنجس بها بزوال عينها، ولو بغسلةٍ واحدة على الصحيح، ولو كانت النجاسة كثيرة، ولا يشترط تكرار الغسل، فلو قال إنسان: كم غسلة نغسل ثلاثاً أو سبعاً؟ فنقول: لم يرد في الشرع تحديد لعدد مرات غسل النجاسات، فإذا زال بغسلةٍ واحدة كفى ذلك، وإذا احتاج الأمر إلى اثنتين غسلت اثنتين، أو إلى ثلاث غسلت ثلاثاً، وهكذا، إلا نجاسة لعاب الكلب كما سيأتي.فأنت تستمر في غسل النجاسة حتى يزول الطعم واللون والريح، فإن عسر زوال اللون، كما يقع كثيراً في غسل الدم عن الثوب، فإنه لا يضر ذلك، فاللون والريح إذا تعسر زوالهما، فإنه لا بأس بترك ما بقي إذا تعسر، والدين مبني على رفع الحرج. عباد الله! إذا أزيلت النجاسة بكل ما حولها من رطوبة ونحوه، كما لو اجتثت اجتثاثاً وقلعت اقتلاعاً، فإنه حين ذلك لا حاجة إلى غسل، لأن الذي تلوث بالنجاسة قد أزيل كله. وإذا علم موضع النجاسة في الثوب مثلاً، فإن غسل موضع النجاسة كافٍ، ولا حاجة إلى غسل الثوب كله. وإن خفيت، فإن كان يمكن غسله كله غسل كله، كالثوب والبقعة الضيقة من الأرض، وإن كان المكان واسعاً، وخفيت النجاسة أو نسيت، غسل ما غلب على الظن ويكفي ذلك. |
|
وإذا طرأت النجاسة على أرض فإنه يشترط لطهارتها أن تزول عين النجاسة، ولو كان بغسلة واحدة كما تقدم، والدليل أن الأعرابي لما بال في المسجد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أريقوا على بوله ذنوباً من ماء) ولم يأمر بعدد، فأريق ذنوب واحد عليه، فإن كانت النجاسة على وجه الأرض، وما اتصل بها من الحيطان والأحواض والصخور، فتكفي غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، وإن كانت النجاسة ذات جرم، فإنه لابد من إزالة عين النجاسة أولاً وجرمها، كما لو وقعت عذرة -وهي الغائط- على مكان فإنها تقتلع أولاً، ثم تتبع بالماء. |
|
|
ويسأل كثير من الناس عن تنظيف سجاد البيوت الملصوق بالغراء على أرض البيت إذا وقعت عليه النجاسة، فكذلك تزال النجاسة من بول وغائط وتقلع، وبعد ذلك نسكب ماءً وننشفه، ونسكب وننشف، وهكذا حتى تزول النجاسة من ذلك المكان، وإذا أمكن اقتلاعه وغسله فعل ذلك، وإلا فهذه الوسيلة كافية.وإذا أصاب الأرض ماء المطر أو السيول، فغمرها وجرى عليها، فكما لو صب عليها الماء، فإنها تطهر، ولا تعتبر النية في ذلك. |
|
|
عباد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن الماء طهور لا ينجسه شيء، وأن الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس، ومعنى ذلك أن الماء إذا لم يزل أحد أوصافه ويتغير بنجاسة، فإنه باق على طهارته، وخصوصاً إذا كان كثيراً كالقلتين: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) وأما إذا حصل تغير في لونه أو طعمه أو ريحه، فإن تطهير المياه النجسة يكون بأشياء، كصب الماء عليها ومكاثرتها بالماء حتى يزول التغير، أو نزح بعض الماء الذي فيه النجاسة حتى يزول التغير، ولو زال التغير بنفسه عاد الماء طهوراً.وقد ذهب العلماء رحمهم الله إلى أن البئر إذا حصلت فيها نجاسة يكاثر بالماء، فيزاد عليه ويصب فيه حتى يزول أثر النجاسة، أو إذا نبع فيه الماء واستمر في النبع حتى زال أثر النجاسة عاد طهوراً وجاز الوضوء منه. وأما الغسالة التي يوسوس فيها كثير من الناس بسبب الماء المنفصل عن الشيء المتنجس إذا غسل، فأقول: إذا غسلنا ثوباً نجساً، فانفصل عنه ماء الغسالة، فإذا كان ماء الغسالة متغيراً بالنجاسة بلون أو طعم أو ريح، فإنه نجس، أما لو نزل من الثوب ماء نظيف ليس فيه أثر للنجاسة، فإن ماء الغسالة في هذه الحالة ماء طهور، فلا توسوس -يا عبد الله- فيما انفصل عن البدن أو الثوب عند غسل النجاسة إذا كان لم يتغير بشيء. |
|
|
وإذا وقعت النجاسة في شيء جامد كالسمن، فإن النجاسة ترفع وما حولها وتطرح، ويكون الباقي طاهراً، لقول ميمونة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: (ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم) رواه البخاري رحمه الله.وإذا وقعت النجاسة في مائع، فإنه ينجس ولا يطهر عند جمهور الفقهاء، وذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى عدم التفريق بين المائع والجامد وأن الزيادة التي وردت في التفريق ضعيفة. |
|
|
وأما ولوغ الكلب، فإذا ولغ الكلب بلسانه في إناء، أو لحس ثوباً أو شيئاً، فطهارته بسبع غسلات أولاهن بالتراب، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) رواه مسلم .وهذا يفيد كثيراً، فأما لو أمسك الكلب بفيه صيداً، فإن ذلك مما عفي عنه شرعاً، هذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، ولا يجب غسل ما أصاب فم الكلب عن صيده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا ولغ، ولم يقل: إذا عض. وهذه الأحكام تفيد الذين يستعملون الكلاب، ككلب الزرع والصيد والماشية، والذين يستعملونها لشم المواد الضارة كالمخدرات لاكتشافها وتتبع أثر المجرمين ونحو ذلك. أما كلاب البيوت وكلاب الألعاب، وكلاب الذين يتشبهون بالكفار والذين يصحبونها للنزهة -وقد رأيناهم بأعيننا يمشون بالكلاب، فرأينا كلاباً تقود كلاباً- فإن اتخاذ ذلك حرامٌ ولا شك، ينقص من عمل صاحبه قراريط، وهو يداوم على اتخاذها، وهؤلاء لا من الله يستحيون، ولا من خلقه أيضاً، فهم على إزعاجهم قائمون مستمرون، يتخذون الكلاب في البيوت، وهناك وسائل كثيرة للأمن والحراسة، ومع ذلك يتخذونها، وكثير منهم يفعل ذلك تشبهاً بالكفرة. أما ولوغ الهر في الإناء فلا يضره، لأنه من الطوافين علينا الذين يكثر تطوافهم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. |
|
|
وأما ما لا نفس له سائلة فإنه لا ينجس بالموت، فلو وقعت الخنفساء أو العقرب أو البق أو البعوض أو الجراد أو الذباب في ماء وماتت فيه، فإنه لا ينجس، وكذلك بول وروث ما أكل لحمه، كبول الإبل والبقر والغنم والغزلان والأرانب وذرق الحمام، يقول بعض الناس: كنا نمشي إلى المسجد فأصابنا شيء مما سقط من الحمام، فنقول: هو طاهر، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها لما أصابتهم الحمى، وأذن صلى الله عليه وسلم بالصلاة في مرابض الغنم، مع أنها لا تخلو من بولها وروثها. |
|
|
والعفو عن يسير جميع النجاسات قول مبني على قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج [الحج:78] وهو مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ويستدل أيضاً بأن الشريعة لا توجب غسل الأثر الباقي بعد الاستجمار، ومعلوم أنه لو استجمر فلابد أن يبقى أثرٌ، وربما حصلت رطوبة أو عرق في المكان، ومع ذلك فإن هذا كله لا يضر ولله الحمد، وكذلك أهل الحمير الذين يمارسونها يشق عليهم التحرز من كل شيء. |
|
|
أما إذا سألت يا عبد الله عن أثر الجنابة في الثوب، وقلت: أصاب الثوب منيٌّ، فماذا نفعل به؟فنقول لك: افعل به كما حدثت عائشة رضي الله عنها: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابساً، وأغسله إذا كان رطبا) ولا فرق في ذلك بين مني الرجل والمرأة، والراجح أن مني الآدمي طاهر، ومنه خلق الأنبياء والأولياء وسائر الناس، والأصل في الأشياء الطهارة، وعائشة رضي الله عنها كانت تفرك اليابس من مني النبي صلى الله عليه وسلم وتغسل الرطب منه، ولو كان نجساً ما اكتفت بذلك، ولوجب غسله حتى لو كان يابساً، ولكن لما اكتفت بالفرك علمنا أن المني طاهر بخلاف دم الحيض مثلاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحته ثم تقرصه بالماء) فإذا جف على ثوبها تحتّه؛ وتفركه وتزيل أثره، ثم بعد ذلك تقرصه بالماء، أي: تغسله بالماء، ثم تنضحه ثم تصلي فيه، وكذلك ريق الإنسان ومخاطه وعرقه وبلغمه ودمعه ولعابه كل ذلك طاهر. ورطوبة فرج المرأة وما يسيل منها أثناء حملها، الراجح أنه طاهر أيضاً. أما المذي والودي: المذي: سائل أبيض رقيق لزج يخرج عند الشهوة واللمس والنظر، بلا دفق ولا شهوة أثناء خروجه، ولا يعقبه فتور، وربما لا يحس الإنسان بخروجه. أما الودي: ماء أبيض كدر ثخين يشبه المني، ولا رائحة له بخلاف المني، وهو كدر بخلاف المني فإنه صافٍ، وهذا الودي يخرج عقيب البول من بعض الناس في بعض الحالات، أو عند حمل شيء ثقيل فاتفق العلماء على نجاستهما. وقد جاء في حديث علي : كنت رجلاً مذاءً، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة المقداد ، فقال عليه الصلاة والسلام: (يغسل ذكره ويتوضأ) رواه البخاري ومسلم ، وغسل الأنثيين عند أبي داود . والودي يخرج عقب البول فهو ملحق بالنجاسات فهذه السوائل تغسل وجوباً بخلاف المني، وقد بينا الفرق بينهما، فلا تلتبس عليك يا عبد الله. ونجاسة المذي مخففة لحديث سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة وعناءً، وكنت أكثر منه الاغتسال، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنما يجزيك من ذلك الوضوء، فقلت: يا رسول الله! كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح به ثوبك، حيث ترى أنه قد أصاب منه) فإذاً لو نضحه كان ذلك كافياً عند بعض أهل العلم لهذا الحديث. |
|
|
وأما الدماء فإن العلماء قالوا: إن الدماء على ثلاثة أقسام: دم نجس لا يعفى عن شيء منه كدم الحيض وكالدم الخارج من السبيلين، وثانياً: دم نجس يعفى عن يسيره، وقد ضرب له جمهور العلماء مثلاً بدم الآدمي الذي يخرج من الجرح، والقول القوي أن دم الآدمي طاهر ما لم يخرج من السبيلين لأدلة كثيرة، والثالث: الدم الطاهر وهو دم السمك مثلاً؛ لأن ميتته طاهرة، والدم اليسير الذي لا يسيل، كدم البعوضة والبق والذباب عند قتلها مثلاً، فلو تلوث الثوب بشيء منه فهو طاهر لا يجب غسله.ويستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه) ومعلوم أن غمسه يسبب قتله، ومع ذلك قال: (فليطرحه، وليطعمه بعد ذلك إذا أراد). وكذلك الدم الذي يبقى في الشاة المذبوحة مثلاً بعد ذبحها وتذكيتها، والدم الموجود في العروق والقلب والطحال والكبد، فكل هذا طاهر قليله وكثيره، ودم الشهيد طاهر؛ حتى إن أكثر من يقول من العلماء بنجاسة دم الآدمي يقولون بطهارة دم الشهيد، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل دمائهم، وأمر أن يزملوا بها، لأنهم يبعثون بها يوم القيامة، ولها رائحة كرائحة المسك. ويغسل الدم النجس حتى يزول، وإن بقي له أثر فلا يضر ذلك، إذا اجتهد الإنسان في غسله. |
|
|
|
فإن قلت: فما حكم بول الغلام والجارية؟ فاعلم رحمك الله أنه يجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام، لم يأكل الطعام بشهوة ولا إرادة منه، وإنما لا زال على رضاع أمه، فإن نجاسة بوله نجاسة مخففة، ولو كان يلعق العسل أو الشيء اليسير، لحديث أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله، وقال صلى الله عليه وسلم: (ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية) فبول الغلام إذا أصاب ثوبك يكفي أن ترشه بالماء، وبول الجارية -وهي البنت الصغيرة- لا يجزئه إلا الغسل. |
|
|
وكذلك يسأل بعض الناس عن آنية الكفار وملابسهم، فاعلموا أن هذه الأعيان الأصل فيها الطهارة، فإنها طاهرة مادمنا لا نعلم فيها نجاسة، واستثنى العلماء السراويل التي تلتصق بأجسامهم، لأنهم أناس لا يتوقون النجاسات، فلا تستخدم إلا بعد غسلها، وأما الآنية فإنه يكره استخدامها لحديث أبي ثعلبة الخشني ، قال: قلت: يا رسول الله! إنا بأرض أهل الكتاب، أنأكل في آنيتهم؟ قال: (لا تأكلوا في آنيتهم إلا ألا تجدوا بدا، فإن لم تجدوا بداً فاغسلوها وكلوا فيها).فهذه الأواني -أواني الكفار- تغسل قبل استخدامها، والملابس التي عليهم إذا كانت خارجية، فإنه لا بأس باستعمالها، ومن الأدلة على أن الأصل الطهارة في أواني الكفار أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة امرأة مشركة. |
|
|
وأما المصبوغ بالنجاسة، فإنه لا يطهر بغسله، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يطهر بغسله وإن بقي لونه.وأما اللحوم المطبوخة بالنجاسات، كما يفعل بعض الكفرة في الطبخ بدهن الخنزير أو يخلطون الخمر معه، فقد ذهب عدد من أهل العلم إلى أنه لا سبيل إلى تطهيرها، وقال بعضهم: تغلى وتغلى ويسكب عليها الماء الطهور وتغلى إلى أن يخرج منها كل شيء. |
|
|
والنجاسات -يا عباد الله- إذا لم تخرج خارج الإنسان فلا حكم لها، فلا يكلف الإنسان بغسل ما بداخله من النجاسة، مادامت لم تخرج، ولو أحس بانتقال شيء من البول ولم يخرج خارج الذكر فلا غسل، ولا وجوب لإزالة النجاسة، وكل آدمي داخله نجاسة، ألم يقل القائل: أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وفيما بين ذلك بول وعذرة؟! ففي داخل كل إنسان نجاسات، لكن لا يكلف بها إلا إذا خرجت، وهذا علاج ناجع للوسوسة والموسوسين الذين يحاولون إدخال الأشياء لإخراج النجاسة أو غسلها ونحو ذلك، وهذا تنطع لم يأت في دين الله تعالى.هذه طائفة من أحكام النجاسات، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لتطهير قلوبنا وتطهير أبداننا وثيابنا من سائر النجاسات. ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في دينه واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم. |
|
|
|
|
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو الملك الحق المبين، شرع لنا هذه الشريعة، وأنزل علينا الكتاب، وأرسل إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم، أشهد أنه رسول الله، وحجة الله على خلقه، علمنا فأحسن تعليمنا، وأدبنا فأحسن تأديبنا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى ذريته والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.عباد الله: إن ما ذكرنا بصحة الاهتمام بغسل النجاسات لا يصح أن يدفع أبداً إلى الوقوع في الوسوسة التي مرض بها كثير من الناس، حتى صار الواحد منهم يغسل ويفرك ويتأكد من وصول الماء إلى بدنه، ثم يشك بعد ذلك أنه تطهر، وربما مكث الساعات الطوال في دورة المياه والحمامات والمراحيض، وربما فاتته تكبيرة الإحرام، أو فاتته صلاة الجماعة، وأحياناً فاتته الصلاة كلها، ولبعضهم أفعال كأفعال المجانين، لا يمكن أن نصدق أنهم عقلاء، وهم يقومون بها. واعلموا أن الشريعة قد جاءت بالأدلة البينة على ذم الوسوسة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيء فأشكل عليه أخرج منه شيئاً أم لا، فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) رواه مسلم . فإذاً لا تجوز الوسوسة بحال، وهي اتباع للشيطان، ولعلاجها نُهينا عن البول في المستحم؛ وهو المكان الذي نغتسل فيه، لأجل قطع الوسوسة، وكذلك أرشدنا إلى نضح ما أمام مكان خروج النجاسة بالماء ورشه، حتى إذا حس الإنسان ببلل، قال: هذا من الماء الذي رششته قبل قليل، وكذلك فإنه ينهى عن الإسراف في استخدام الماء الذي هو شعار الموسوسين. قال محمد بن عجلان رحمه الله: الفقه في دين الله إسباغ الوضوء وقلة إهراق الماء، وقال الإمام أحمد : كان يقال: من قلة فقه الرجل ولَعه بالماء. واعلم يا عبد الله أن الوسوسة داء لا علاج له إلا بإهماله وقطعه. |
|
وقد ابتدع البعض إجراءات عجيبة لأجل الطهارة من البول بزعمهم، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله، فقال: يفعلون بعد البول عشرة أشياء: السلت، والنتر، والنحنحة، والمشي، والقفز، والحبل، والتفقد، والوجور، والحشو، والعصابة، والدرجة.فأما السلت: فهو عصر الذكر ليخرج منه البول، والنتر: نفضه ليخرج ما بداخله بزعمهم بعد الاستنجاء، والنحنحة لإخراج الفضلة، والقفز بالارتفاع عن الأرض ثم الجلوس فجأة وبسرعة، والحبل يتخذه بعضهم يتعلق به حتى يكاد يرتفع ثم يقعد، والتفقد النظر في المخرج، هل بقي فيه شيء أم لا، والوجور: أن يفتح الثقب ويصب الماء فيه، والحشو: أن يدخل قطناً ونحوه، والعصابة: أن يعصبه بخرقة لئلا يخرج منه شيء، والدرجة أن يصعد في السلم قليلاً ثم ينزل بسرعة. فهذا هراء، وهو من استدراج إبليس، ولا شك أنه فعل المجانين، والشريعة لم تأمر بذلك، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وذلك كله وسواس وبدعة، فأنت تغسل ما خرج فقط. عباد الله: إذا وطئ الإنسان على نجاسة جافة وهو جاف فهو لا ينجس، يقول الفقهاء: جاف على جاف طاهر بلا خلاف، فانظر كم من الناس يوسوسون وينشغلون بهذا. |
|
|
|
|
|
|
|
|
ومن النجاسات المعنوية نجاسة الميسر والأوثان وسائر المعاصي لقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30] نجاسة المعاصي والآثام، قال بعض السلف: لو كان للذنوب رائحة ما طاق الجلوس إلي منكم أحد، وهذا من تواضعه، فالذنوب لو كان لها رائحة، ماذا يكون حالنا نحن؟ لو كان للذنوب رائحة كرائحة العذرة التي تخرج من الدبر، ماذا يكون حالنا نحن؟ وكيف تكون روائحنا أيها المسلمون؟إن بعض الناس قطعاً متلطخ بالآثام والأوزار ما يكون أشدَّ من تلطخ الإنسان بالبول والعذرة من رأسه إلى أخمص قدميه لكن من الذي يحس بالقاذورات المعنوية؟ الناس يتخلصون من القاذورات الحسية، وبعضهم لا يتخلص حتى من القاذورات الحسية، فيعملون هذه المراحيض المعلقة على الجدران لقضاء الحاجة، يبول ثم يرفع أحدهم الثوب والبنطلون كما يفعل الكافر، وهؤلاء يضع أحدهم أماكن قضاء الحاجة والشطاف بجانبه، وتعجب معي كيف ينتقل من كرسي قضاء الحاجة إلى الشطاف، حتى الفرنجة في أماكن قضاء الحاجة فعلناها كما فعلوها. فالشاهد -أيها المسلمون- وجوب النظافة من القذارات الحسية والمعنوية: الكذب، والنظر الحرام، شهادة الزور، أكل المال الحرام، ونحو ذلك من القاذورات، كم يا ترى على آكل الربا من القاذورات وهو لا يشعر؟ نسأل الله السلامة والعافية، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن أعنتهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا ممن أصلحت بواطنهم وظواهرهم، اللهم اجعلنا من المتطهرين، واجعلنا من عبادك المخلصين، وانصر المجاهدين، واقمع أعداء الدين، واجعلنا في بلداننا آمنين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك الأمن في الأوطان والدور، والإرشاد للأئمة وولاة الأمور، والمغفرة لنا يا عزيز يا غفور! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. |
|
|