إسلام ويب

إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسولللشيخ : سفر الحوالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من مقتضيات الإيمان المحبة لله ولرسوله، ولا يكون الحب صادقاً حتى يكون المحب مطيعاً في كل شيء، ومن ادعى المحبة وخالف من يحب فهو كاذب في دعواه. ولقد تجسدت المحبة الشرعية التي يجب أن تكون لله ولرسوله في واقع الصحابة رضوان الله عليهم، فكانوا يمثلون في ذلك منهجاً وسطاً لا إفراط ولا تفريط، ولعل أرقى منزلة يبلغها المحب هي التي وصل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي منزلة العبودية.

    1.   

    شرك المحبة

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعــد:

    فنحن في زمان قست فيه القلوب، وانقطعت فيه أواصر المحبة، وقلبت فيه المفاهيم، ولبس الأعداء ثياب الأصدقاء، وتبارى المبغضون والمعادون ليتزيوا بزي المحبين والمخلصين، في هذا الزمان نحن أحوج ما نكون إلى الحديث عن المحبة، ولا نعني المحبة التي فقدها الناس فيما بينهم، وإنما: المحبة العظمى، التي لا سعادة ولا راحة ولا طمأنينة للقلوب البشرية إلا بها، وهي محبة الله تبارك وتعالى ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    و المحبة شأنها عظيم وأمرها جليل، فإنها من أعظم أعمال الإيمان، لأن الإيمان قول وعمل كما هو عليه إجماع أهل السنة والجماعة، والمحبة هي أساس كل عمل من الأعمال، كما أن الصدق هو أساس كل قول من الأقوال، فأعظم أعمال القلوب هما: المحبة والصدق، ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الدين النصيحة) والنصيحة تتضمن الصدق والمحبة معاً، فإنك إذا نصحت لأحد أو نصحت أحداً فإنك تحبه وتصدق له، وهذان هما أعظم أعمال القلوب،والمحبة هي أساس جميع الأعمال سواء أعمال القلوب أم أعمال الجوارح.

    فلا دين ولا إيمان لمن لا محبة له، ونعني بذلك المحبة الشرعية أو المحبة الإرادية الاختيارية، لا المحبة الطبعية الفطرية، فهذه المحبة الشرعية الإرادية الاختيارية هي التي وقع فيها الضلال والانحراف، وبسببها عبد غير الله تبارك وتعالى، ووقعت الإنسانية في أعظم ذنب عُصي الله به وهو الشرك به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    فلو تأملنا حقيقة العبادة التي خلقنا من أجلها، وخلق الله تبارك وتعالى الجن والإنس لها، لوجدنا أن العبادة إنما هي درجة من درجات المحبة، فمن عبد شيئاً فإنما عبده لأنه أحبه حباً عظيماً في قلبه اقتضى واستوجب ذلك الحب أن يعبده ويطيعه ويرجوه ويخافه ويصرف له جميع أنواع العبادات.

    شرك المحبة في الجاهلية

    ومن هنا نرى كيف أن المشركين مع أنهم لم يكونوا يشركون بالله تبارك وتعالى شيئاً في الخلق أو الرزق أو التدبير أو الإحياء أو الإماتة ونحو ذلك، إلا أنهم كانوا مشركين بالله تعالى شركاً أكبر وما ذلك إلا لأنهم كما قال الله تعالى فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه [البقرة:165] فبهذا ينحل الإشكال الذي لم يفقهه كثير من الناس في باب الإيمان بالله ومعرفة التوحيد والشرك، وهي أنهم لم يفهموا كيف أن الله تبارك وتعالى يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] فالمشركون كانوا يعدلون بربهم كما نطق بذلك القرآن، وفي الآية الأخرى تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98] فقد وقع من المشركين العدل بالله، فقد عدلوا به غيره وجعلوه مثله، ووقع منهم التسوية بين الله وبين غيره، فكيف نوفق بين هذا وبين إيمانهم بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر كما نطق القرآن في كثير من الآيات بأن الله تعالى متفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة وتدبير الأمر؟

    ومن هنا نقول ونعلم أن سبب ذلك هو المحبة، فإنهم لما عظموا وأحبوا هذه المعبودات، وأعطوها من الإجلال والتقدير والانقياد القلبي مثل ما هو لله عز وجل؛ كانوا بذلك مشركين، ولذلك أرسلت فيهم الرسل لتبين لهم أنه لا تُصرف أي نوع من أنواع العبادة إلا لله وحده، فالحب إذاً لله وحده، وهذا هو الحب الشرعي الاختياري الإرادي.

    أول شرك وقع في المحبة

    وأول أمة ارتكبت الظلم العظيم والشرك بالله هي أمة نوح عليه السلام، وقد قص الله تبارك وتعالى علينا أمرهم، وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، فبداية ذلك الشرك كان بالضلال في المحبة، فقد ضلوا في محبة الصالحين: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح:23] وهؤلاء كما فسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَْهِ وَسَلَّمَ أسماء رجال صالحين من قوم نوح، كان قوم نوح يحبونهم ويعظمونهم لله وفي ذات الله؛ لأنهم يعبدون الله، ولأنهم أولياء الله عز وجل؛ لأنهم يرونهم أقرب إلى الله منهم، فأحبوهم وعظموهم من أجل ذلك، فلما ماتوا قالوا: نخشى أن تموت ذكراهم بموتهم، فقالوا: لا بد أن نتذكرهم لنحبهم ولنحب الله ولنعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما كانوا يعبدونه، فصوروهم، ثم تناسخ العلم وعبدت تلك الصور وأصبحت أصناماً، وأصبحت الصور والأصنام آلهة معبودات من دون الله عز وجل حتى إنه لما بُعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لكل قبيلة من العرب صنمها المسمى بأسماء هؤلاء، كما بين ذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الحديث نفسه.

    فإذاً معرفة حقيقة المحبة ضرورية جداً، والانحراف فيها قد يوقع في الشرك وفي الذنب العظيم الذي يحبط كل طاعة، ولذلك أيضاً نجد أنه لا بد أن يحب العبد ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن يحب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن لم يكن في قلبه حب لله ولرسوله فهذا ليس بمؤمن وليس بمسلم، بل ذلك مقتضٍ لأن يحبط عمله وترد جميع أفعاله وأعماله، وإن كانت حسنة في ظاهرها، والله سبحانه قد بين ذلك من حال المنافقين الذين يزعمون الإيمان ولكنهم كانوا في حقيقة قلوبهم يكرهون ما أنـزل الله ويكرهون أوامره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9] فلما كرهوا ما أنـزل الله أحبط أعمالهم، وفي الآية الأخرى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54]، فالإنفاق والعمل إذا لم يكن عن محبة للمتقرب إليه وهو الله تبارك وتعالى، وإذا لم يكن عن محبة لهذا العمل الذي شرعه الله وأمر به، فإن ذلك لا ينفع صاحبه شيئاً ولا يجدي ذلك العمل مهما كان.

    عاقبة شرك المحبة

    ومن هنا جاء الوعيد الشديد في حق هذه الأمة إن هي ركنت إلى أي صارفٍ أو مُغرٍ أو ملهٍ عن محبة الله ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24] فهذا فسق وعمل يستوجب الوعيد الشديد: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [التوبة:24] وهذا الأمر من أول بداياته أن يُذهب الله تبارك وتعالى النصر والعز والتمكين، ويورث تلك الأمة الذل والخسارة والضياع، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديث الذي يقارب معنى هذه الآية: {إذا تركتم الجهاد وتبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم}، وهذا هو الوهن الذي أخبر عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حب الدنيا وكراهية الموت، لكن إذا كان الله ورسوله أحب إلينا من كل هذه المغريات والشهوات والملهيات فهذه هي حقيقة الإيمان، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً} ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الآخر: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} فهذه هي حقيقة أو ضرورة المحبة، أن يكون قلب الإنسان ممتلئاً بحب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحب ما أمر الله ورسوله به، ولا يكون في قلبه أدنى مثقال ذرة من كره الله، أو كره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو كراهية شيء مما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    وقد وقع في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصة ذكرها الله تبارك وتعالى في القرآن في شأن المنافقين الذين خلت قلوبهم من محبة الله ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -عافنا الله وإياكم من النفاق- يقول الله تبارك وتعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] فهذه الآيات نـزلت في المنافقين لما أظهروا بغض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكرههم واستهزاءهم بهم، فهم لم يستهزئوا بالله عز وجل بعباراتهم التي قالوها، ولم يستهزئوا برسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يظهروا بغض الله عز وجل، أو بغض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما أظهروا بغض الصحابة على طريق الاستهزاء بهم، الاستهزاء الذي ينمُّ عما في القلب من بغضاء وعداوة وحقد يتنافى مع المحبة التي أمر الله تعالى بها له ولرسوله وللمؤمنين، فقالوا: {ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أوسع بطوناً ولا أجبن عند اللقاء}، فهم سخروا واستهزءوا بالصحابة الكرام من القراء، بأنهم يقبلون عند الطعام، ويتأخرون عند الفزع وعند مجيء العدو، وكأن حال المنافقين العكس، وهذا هو أبطل الباطل وأكذب الكذب فماذا كانت النتيجة، أنـزل الله تبارك وتعالى هذه الآيات: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة:65] وهذا الذي وقع، فعندما سألهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: إنما كنا نمزح ونلهو ونخوض ونلعب، ولم نكن نقصد الإساءة إلى الصحابة وإلى هؤلاء القراء، فبماذا رد الله تبارك وتعالى؟

    أرشد الله رسوله وعلمه كيف الرد عليهم: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65] فهم لم يذكروا الله عز وجل في كلامهم ولم يذكروا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: لم يستهزئوا بهما، وإنما استهزءوا بالقراء، ولكن الرد أتى من عند الله عز وجل: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65] ثم يقول: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66] فعملكم هذا لا يغفره عذر، ولا يطهره ما تقولون وما تزعمون، بل هذا مخرج لكم من دين الإسلام -والعياذ بالله-.

    لوازم المحبة

    محبة والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تبع لمحبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومحبة الله من لوازم الإيمان ولا يُحب الله ولا يدعي محبته أحد لا يتابع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قالت اليهود والنصارى كما حكى الله عنهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، فالدعوى المجردة كلٌ يدعيها، حيث يدعي اليهود أنهم أحباب الله، ويدعي النصارى أنهم أحباب الله، ويدعي أصحاب الضلال أو أصحاب البدع أنهم أحباب الله وأحباب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن ما الذي يميز ذلك ويصدقه أو يكذبه؟

    أقول: هنا آية عظيمة قال عنها السلف: إنها آية الامتحان، التي يقضي الله بها على الدعاوى ويبين الحقيقة من الزيف: يقول الله تبارك وتعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] فسماها السلف آية الامتحان: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] فهل الأمر متروك لكل من ادعى دعوى محبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعباده الصالحين، وهل هذه دعاوى تقال أم أنها حقائق تصدقها الأقوال والأعمال- أعمال القلوب وأعمال الجوارح-؟

    لا، فالأمر أعظم من ذلك: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] وهذه الآية من تدبرها وجد فيها دلالة عظيمة على ما بلغه القرآن مما لا يبلغه كلام أي أحد، لأنه كلام الله عز وجل، الذي قال فيه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88] فيها بيان وبلاغة عظيمة؛ لأن هذه الآية تضمنت شرطين في آية واحدة، شرطين اتصل بعضهما ببعض، الشرط الأول وهو: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ [آل عمران:31] فـ(إن) أداة الشرط، و(تحبون الله) الشرط، وجوابه فَاتَّبِعُونِي [آل عمران:31]، ثم جعل جواب الشرط شرطاً وجعل له جواباً آخر قال: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].

    ولهذا إذا أردتم أن تعرفوا فقه السلف الصالح وفهمهم لكتاب الله، وكيف أحبوا الله ورسوله حق المحبة، وذلك عندما فهموا كلام الله وفهموا حقيقة الإيمان، فانظروا إلى قول القائل منهم: "ليس الشأن أن تُحِب ولكن الشأن أن تُحَب '' كيف هذا؟

    اليهود قالوا: نحن نحب عزيراً، ونحب موسى، ونحب الله، والنصارى ألّهوا المسيح عليه السلام من دون الله، وقالوا هو ابن الله، فهم يحبونه ويدعون ذلك ويزعمونه، ويرون أنه من محبتهم لعيسى أن يقولوا: إنه ابن الله، وأنه إله، فليس الشأن بأن تُحبوا، لكن الشأن بأن تُحَبُّوا أنتم، أي: أن يحبكم الله عز وجل، ويحمد لكم هذه الأعمال التي تزعمونها والمحبة التي تدعونها، والله يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ [آل عمران:31] فيا من تدعون محبة الله، وما من مؤمن ولا مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا وهو يقول أنا أحب الله، ولو كان في قلبه مثقال ذرة مما يضاد ذلك لما كان مؤمناً، فيقولون: نحن نحب الله، إذاً: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران:31] فإذا اتبعناه ماذا يحصل، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] فهذا هو الأساس والغرض وهو أن يحبنا الله عز وجل، فلا يحبنا الله إلا إذا كنا متبعين لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهراً وباطناً.

    أما ادعاؤنا بأننا نحب الله، أو نحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يلزم منه ذلك، فقد ندعي ذلك ونكون غير محبوبين عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن إذا أحبنا الله فلن يحب الله عز وجل إلا من كان حقيقة محباً لله ومحباً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يكون ذلك إلا لمن كان متبعاً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يطابق قوله فعله، ولا يأتمر إلا بأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما كان يفعل الصحابة الكرام.

    1.   

    المحبة الشرعية

    الصديق الأعظم أبو بكر رضي الله عنه، بلغ الدرجة العليا في الصديقية؛ لأن هواه وميوله طابقت ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول، فكان لا يبلغه عن النبي شيء إلا ويقول: [[إن كان قاله فقد صدق]]، قبل أن يسمعه منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر إلا وهو ممتثل.

    محبة أصحاب الرسول له

    ثم الصحابة في ذلك درجات في نفس ذلك الأمر، ولهذا لما قال عمر الفاروق رضي الله عنه وهو ثاني رجل في هذه الأمة في الإيمان وفي الدرجة العليا بعد الصديق الأكبر: '' يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي '' وانظروا إلى صدق الصحابة رضي الله عنهم، حيث كان يقول ذلك وهو صادق، ومن الذي يزعم أنه يحب رسول الله أكثر من أصحابه، فمن قال ذلك فهو كاذب كائناً من كان.

    فهذا الفاروق الذي يلي الصديق في الدرجة يقول: '' لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي -فهل أقره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

    قال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الآن يا عمر '' الآن أصبح عمر عمراً، وأصبح فاروقاً، وأصبح على الدرجة المطلوبة التي ينبغي أن يكون عليها عمر ومن يقتدي بـعمر، وهو أن يكون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إليه من نفسه {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} هذا ما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاتباعه وطاعته وتحكيمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل أمر، هي التي تستوجب ذلك وتقتضيه وهي التي تدل وتترجم هذه المحبة، لأنها -كما قلنا- ليست محبة عاطفية، وليست مجرد ميل قلبي، وإنما هي محبة شرعية إرادية اختيارية، وبلا شك أنها مع ميل القلب ومع إرادته، لكن لا نترك ميول القلب وإرادته تذهب ذات اليمين وذات الشمال وإلا لوقعنا في أمور إما أنها انتقاص لمنزلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإما أنها غلو فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو لم تكن محبة شرعية منضبطة بأمر الله ورسوله، فلا بد إذا خرجت عن ذلك أن تذهب تشطح إما يميناً وإما شمالاً، حتى محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    1.   

    الانحراف في المحبة

    إذا نظرنا إلى واقع الناس، فإن أي إنسان يحب إنساناً مهما كان صادقاً في ذلك الحب وحتى لو كانت أماً تحب أبناءها، لكنها لا تعرف حقيقة هذا الابن، فإنها قد تمدحه بما يسخر منه الناس وتظن أنها تمدحه، والناس يعلمون أن هذا ذم في الواقع، وكذلك محبة أي شخص.

    وقد ورد في أثر إسرائيلي -وكما هو معلوم أننا لا نصدق ولا نكذب هذه الآثار، ولكن المقصود منا هو أخذ العبرة- ورد أن عابداً من عباد بني إسرائيل وكان عمله رعي الحمير، وله حمار يرعاه ولا يعرف هذا الراعي من أحوال الدنيا شيئاً، ولكنه كان مجتهداً في العبادة ومجتهداً في طاعة الله فيما يرى وبقدر ما يعلم، فبلغ في نظره من محبة الله عز وجل عنده أنه قال: يا ربي لو أن لك حماراً لرعيته مع حماري، وهذا من المحبة، وهل هو كاذب في هذا الكلام؟

    لا، فهذه هي درجة تعظيم الله في قلبه، هذا هو ظنه وهذا غاية ما يعتقد، ولذلك نهينا عن طريق المغضوب عليهم وعن طريق الضالين، وأمرنا باتباع الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فطريقنا طريق الاتباع لا طريق الضلال.

    وقد ورد أن الشاعر علي بن الجهم لما قيل له أنت شاعر من شعراء البوادي والصحاري، فلو ذهبت إلى الخليفة ومدحته لأعطاك الجوائز وأصبحت من المعظمين في الدنيا، فقال: أذهب، فذهب إلى الخليفة وأعد قصيدة في نظره أنها لا أمدح للخليفة منها، ولا أشد منها في نظره وفي حدود تعبيره ولغته، ففيها الثناء والتعظيم وفيها التقدير للخليفة، الذي يطمع الشاعر من ورائه بالعطاء الجزل والحياة المترفة في بغداد، فقال له:

    أنت كالكلب في الحفاظ على العهد     وكالتيس في قراع الخطوب

    فضحك منه الناس، كيف تخاطب أمير المؤمنين وتقول أنت كالتيس وكالكلب؟!

    ففعل هذا الرجل هل كان يقصد به الضحك على نفسه؟

    هل كان يقصد أن يسيء إلى الخليفة ويسيء إلى نفسه؟

    لا، أبداً، لم يقصد ذلك، ولكن هذه غاية محبته وغاية ما يستطيع أن يعبر عنه، لذا قال هذه العبارات.

    الغلو في المحبة

    والمقصود أن الأمر ليس أمر عاطفة، كما يقول صاحب البردة:

    دع ما ادعته النصارى في نبيهم     واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم

    فهو يقول: لا تقل ابن الله وقل أي شيء، فهذا ليس من محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا من تعظيم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا من تعزيره وتوقيره الذي أمر الله به، فكل إنسان إذا أطلق سجيته فقد يشطح ذات اليمين وذات الشمال، ولهذا الغالبية من الناس انحرفوا في محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخاصة في القرن التاسع والعاشر والحادي عشر، إلى أن أصبح الحال أنك إذا قرأت ما كتبوه عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقارنته بما تعلم وبما يعلمه المسلمون الذين يقرءون سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المصدر الأول للسيرة وهو القرآن الكريم، الذي فيه سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفاته وكثير من أعماله وأحواله وحدود بشريته وحدود مقامه في القرآن، وأيضاً في الأحاديث الصحيحة، فإذا قارنت ذلك مع ما تقرأه لهؤلاء المتأخرين عن وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطابقته بما تجده في القرآن والسنة تجد الفارق العجيب، تجد أن هؤلاء لا يتكلمون عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك الإنسان المكرم الذي أوحى الله إليه، وأنزل إليه الروح الأمين، وهدى به العالمين، ونشر به وقوم به الملة المعوجة، وفتح به الآذان الصم، والقلوب الغلف، والأعين العمي و....، مما هو معروف من صفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل عن شخصية غريبة أسطورية لا تظن ولا تتوقع أنها وجدت على هذه الأرض أو توجد، فيصفونه بأنه خلق من نور الله، وأنه وجد قبل الكائنات، وأنه حي أبداً، وأنه يحضر كل مكان يقام له فيه محافل بدعية وما أشبه ذلك، وأنه يتكلم ويرى ويسمع ويخاطب، ويُرى في اليقظة، ويأمر وينهى ويشرِّع، ويخاطب الأولياء ويقول لهم أشياء وصفات غريبة، إذا قارنتها بما تعلم من صفات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، علمت أن هذا ليس هو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي نعرف صفته من القرآن ومن السنة الصحيحة، فبلغ بهم الغلو إلى هذا الحد -نسأل الله العفو والعافية-.

    ومع ذلك يزعمون ويدعون أن ذلك محبة واتباع وأن من خالفهم في ذلك فهو عدو للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مبغض له، وهذا هو المعيار الذي جعلوه، أما ما جعله الله في كتابه فهو قوله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] وقوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] فهذا هو الذي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به، وقال: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] وقال في سورة النور: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور:47] وإن ادعوا الإيمان وإن ادعوا المحبة لا يمكن أن يكونوا مؤمنين ولا محبين إذا خالفوا ما أمر الله به وما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    وأعظم ما جاء به المرسلون صلوات الله عليهم هو التوحيد، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] فهذا أعظم شيء جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاهد الناس فيه.

    وقد قال له ربه عز وجل وهو المجاهد في التوحيد وللتوحيد، والذي سد كل الذرائع إلى الشرك: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66] والخطاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إمام الموحدين، المجاهد في ذات الله، وعمره كله في توحيد الله يقول له ربه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] وكما قال من قبل لإبراهيم الخليل، وهو إمام الموحدين قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ.. [الحج:26] فنهاه عن الشرك كما نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن من بعدهما تبعٌ لهما، فإذا كان هذا أعظم ما أمر الله تعالى به وأعظم ما جاء الأنبياء به وعلى رأسهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد ولد آدم يوم القيامة، الذي أظهر الله تبارك وتعالى به الدين القويم، ونشر الله به دينه وأظهره على الدين كله، حتى دانت له الأرض جميعاً إلا ما قل، وإذا كان التوحيد هو أعظم الأمور عند النبي صلى الله عليه سلم فأعدى عدو له هو من يأتي بالشرك، ومن يدعو إلى الشرك، كائناً من كان وزاعماً ما زعم من محبة الله أو محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    فالرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقبل من أصحابه أن يرفعوه فوق منـزلته التي أنزله الله إياها، مع ما كانوا يقدرونه ويوقرونه ويعزرونه وهم أعرف الناس بذلك، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: [[ما كان أحد أحب إلى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أبداً لا يمكن أن يكون أحد، وقال:- وما كانوا يقومون له لعلمهم أنه كان يكره ذلك]] مع هذه المحبة العظيمة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كانوا يتتبعون آثار وضوئه، ويأخذون شعره إذا حلق، ويتمنون أن يصافحوه أو أن يروه، فمجرد رؤيته كانت شيئاً عظيماً بالنسبة لهم، ومع محبتهم العظيمة له كان إذا دخل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرادوا أن يقوموا له -لأنهم يشعرون بالمحبة- ولكن لا يفعلون ذلك لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكره ذلك، وقد نهاهم عنه، وقال: {إنما هذا فعل الأعاجم مع ملوكهم} فهذا ليس من دين الإسلام، وليس من اتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا لا يفعلونه مع شدة محبتهم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تلك المحبة التي كانوا يحتسبونها عند الله على أنها أعظم عمل من الأعمال كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه: {قدم أعرابي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟

    فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما أعددت لها؟

    فقال: ما أعددت لها كثير صيام ولا صلاة ولا صدقة، غير أني أحب الله ورسوله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المرء مع من أحب، يقول أنس رضي الله عنه: فما فرحنا بشيءٍ يومئذٍ فرحنا بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المرء مع من أحب فأنا والله أحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر وأرجو أن أحشر معهم }.

    فهم كانوا يعرفون المحبة ويحتسبونها كأعظم عمل من الأعمال، ويرجون بها أن يبلغوا من المنـزلة والدرجة ما لا تبلغه أعمالهم من المنـزلة والدرجة، ولكن مع ذلك ورغم هذه المحبة وعمقها، هل كانوا يخالفون أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى فيما يتعلق بتعظيمه؟

    لا، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سد جميع الطرق والذرائع التي تؤدي إلى ذلك.

    الغلو والتفريط في محبة الرسول

    وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين: {من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله.. أدخله الله الجنة على ما كان من العمل} والشاهد فيه قوله: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله)، فهذه هي الشهادة التي استهان بها من ضل في محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: كل الناس يقولون هو عبد الله ورسوله، ونحن نريد شيئاً جديداً وخيل إليهم أنهم بغير ذلك يعظمونه ويعزرونه ويوقرونه، وكأن هذا لا يكفي، مع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما نص عليه، ولهذا قال العلماء في شرح هذا الحديث: إن هذا الحديث تضمن الرد على الطائفتين المنحرفتين في شأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الطائفة التي غلت فيه، والطائفة التي قصرت في حقه وفي محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذه فكلمة ( عبده وسوله) عظيمة غير هينة، كيف ذلك؟

    أقول: قوله (عبده): هذه الكلمة هي أعظم مدح يمدح به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أن يكون عبداً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع تضمنها ألا يزاد عن قدره، لأنه مهما كان فهو عبد، فالعبودية هي أخص أوصافه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا قيل عبد الله ورسوله فهو ينصرف إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث الشفاعة، عندما قال عيسى عليه السلام عندما جاءه الناس يستشفعون به: {اذهبوا إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر}، ولما خير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين العبودية والرسالة وبين الملك والرسالة، فاختار أن يكون عبداً رسولاً، فالعبودية أكبر من الملك وأكبر من كل شيء، قد وصفه الله بالعبودية في أعظم وأشرف أحواله، فقال جل شأنه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء:1] فلم ينل أحد من المخلوقين الدرجة التي نالها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة الإسراء، فهذه الحادثة العظيمة العجيبة التي لم يبلغها أحد، قال الله في وصفه وهو يخبر عن هذا الحدث العظيم: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] أي: كامل العبودية الذي استحق هذه المنقبة وهذه المفخرة العظيمة التي لم ينلها أحد غيره. وهذا في مقام التعظيم.

    وفي مقام الدعوة قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن:19] أي الذي لا عبد له سواه، والحقيقة أن المقصود منها أي: لا عبد كامل العبودية أو لا عبد وصل إلى كماله الذي وصله في كمال العبودية.

    فإذاً العبودية أمرها عظيم، فإذا وصفت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه عبد الله ورسوله فقد وصفته بأخص أوصافه وأعظم أوصافه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك يُشعر هذا الوصف بأنك لا تتجاوز به حده، فهو عبد مهما ترقى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو يترقى في مقام العبودية، وما أكرمه الله تعالى به من شيء، أو أطلعه على شيء من الغيب، أو سخر له شيئاً مما في السماوات أو في الأرض، أو امتن عليه بأي أمر خارق عظيم، فهو بتحقيقه للعبودية ولبلوغه كمال العبودية.

    فمن دعاه أو استغاث به مع الله أو من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو من قال أنه يتصرف في الكون كما يشاء، أو أنه يعلم الغيب كله، أو أن بيده مقاليد كل شيء، ويعلم متى تقوم الساعة، وغير ذلك مما قاله المفترون والمبطلون، فهذا معتقداً أن محمداً عبد الله، لأنه أعطاه وأصبغ عليه صفات الألوهية، فهذا ناقض لقوله (عبده) هذا طرف.

    والطرف الآخر: هم المفرطون المقصرون في محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي اتباعه، فكلمة (ورسوله) توحي بأنه لا رسول له إلا هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الحقيقة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرسول الكامل الرسالة الذي بعث لجميع العالمين، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] وقال: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28] وبدين عام شامل لكل ما يحتاج إليه الإنسان مما يقربه إلى ربه، ومما يحقق له السعادة في معاشه وفي دنياه، فالرسول الكامل الرسالة هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن لم يحب هذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو لم يشهد أنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن اتبع شرعاً غير شرعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو لم يشهد أن محمداً عبده ورسوله،قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] فمن قصر في متابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن قدّم قول أحد على قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كائناً من كان؛ فإنه لم يشهد حقيقة الشهادة بأن محمداً رسول الله، لأن مقتضى ذلك ومعناه أن يُحبَّ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر حتى من النفس، قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6] فيحب ويعطى الأولوية حتى على النفس؟

    وكونه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقتضي أن يصدق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل خبر يخبر به، دون أن نعرض ذلك الخبر على رأي فلان أو فلان، أو أي مقياس من المقاييس، وأن نطيعه في كل أمر ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وأن نبتعد عن كل ما نهى عنه وزجر، وألا نعبد الله تبارك وتعالى إلا بما شرع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو العبد الكامل العبودية، والرسول الذي بين الدين وأكمل الله به الرسالة وختمها، فنعبد ربنا كما شرع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نبتدع في دين الله ولا نزيد ولا ننقص ولا نضل ولا ننحرف، فبذلك نكون قد حققنا الشهادة، وهي أن محمداً عبده ورسوله، وهذا هو أكمل وأخص أوصافه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    مظاهر الانحراف في المحبة

    والأمة الإسلامية قد وقعت في كلا طرفي الانحراف، فوجد منها من غلا في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أخرجه عن العبودية فجعله إلهاً معبوداً من دون الله تبارك وتعالى، وهذا ماحصل من كثير من الطوائف وحصل حتى مع غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عباد الله من الصحابة، كما فعل مع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، أو الحسين أو من التابعين أو من بعدهم من عباد الله الصالحين، أو من يدعي صلاحهم، فحصل الغلو وفتح هذا الباب الذي هو باب هلاك، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما هلك الذين من قبلكم بالغلو} لما غلو في الدين وغلو في أنبيائهم فغلت هذه الأمة تبعاً لهم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذه بالقذه حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} فرفع هؤلاء أنبياءهم فوق حقيقتهم، ورفعت طوائف من هذه الأمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوق حقيقته التي هي معلومة بصريح القرآن وصريح السنة، وهذا ما وقع وعَمَّ به البلاء، وواجب على كل من يؤمن به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحبه -جعلنا الله وإياكم منهم- أن يدافع عن التوحيد ويسد الذرائع المفضية إلى الشرك، بأن يبين للناس منزلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحقيقية، ويحذرهم من الوقوع في الشرك ومن الغلو فيه.

    والجانب الآخر: وقع فيه أكثر المسلمين من العامة، بل حتى من العلماء وغيرهم، وهو أنهم قصروا في متابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدموا أحوال غيره على أحواله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت مصيبة المسلمين في العشرة القرون الماضية أنهم يقدمون أقوال بعض العلماء على قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتعصبون لهم، وهذا بخلاف ما أمر به أولئك العلماء الأجلاء أنفسهم، وكان ذلك يُعدُّ -وهو كذلك- تقديماً بين يدي الله ورسوله، وإساءة للأدب مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    ولما ناظر ابن القيم رحمه الله أحد هؤلاء ممن يأتيه الحديث الصحيح فيرده لأن فلاناً قال كذا، فقال له: أرأيت لو أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيٌّ الآن يخاطبنا بأمرٍ وقال: افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا، أكنت تأتمر بأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو تقول: أعرض هذا الأمر على قول فلان، أو هذا الأمر يخالف ما قاله فلان من الناس؟

    قال: بل أمتثل وأبادر تواً وفوراً، قال: فما الفرق؟

    فإذا كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد لحق بالرفيق الأعلى فسنته وأمره بعد وفاته كأمره في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد من التأدب مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتأدب مع سنته كما كان التأدب مع شخصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته، بألا يقدم أحد بين يدي الله ورسوله، ولا يرفع صوته فوق صوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكذلك يجب أن يتأدب معه بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بألا يرفع رأياً فوق سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    فهذه كانت مصيبة الأمة الإسلامية التي حلت بها إلى أن جاءنا الغزو الفكري الحديث، وجاءنا الضلال الكبير الذي وقعت فيه الأمة في الأزمنة الأخيرة، وهي أنها قدمت القوانين الوضعية والأحكام البشرية على كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعرضت عما جاء به من الكتاب والسنة والهدي، فحصل بذلك الضلال العظيم، وحصل الكفر المبين لكثير من الناس الذين شَرَّعوا هذه القوانين وسنوها وألزموا الناس بها -نسأل الله العفو والعافية-.

    فلم يعد للمسلمين في كثير من البلاد شيء يتمسكون به إلا أنهم يؤدون بعضاً من الشعائر التي تشابه ما يؤديه النصارى من الشعائر، أما حقيقة الإيمان والاتباع الكامل وحقيقة الإذعان الذي هو حقيقة الشهادة بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد أشرك به غيره، وأصبح الاتباع لغيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمناهج التعليم، ومناهج الحياة، ومناهج الاقتصاد كل هذه تؤخذ من غير شرعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم مع ذلك يقولون: نحن نحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ويوجد فيهم من يقول: إنه يحب الله ورسوله، فيأكل الربا أو يستحله ويزعم أنه يحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ويوالي أعداء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليهود والنصارى والمجوس والبوذيين ويزعم أنه يحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!

    إذا ما نظرنا إلى واقعنا اليوم -مثلاً- التاجر الذي يستقدم العمال الكفرة، هل هذا في الحقيقة محققاً لمحبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!

    لِمَ لا يأتي بالمسلمين؟

    يأتي بمن لو سأله عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقال: دجال كذاب مفتري -والعياذ بالله- فيأتي به ويكرمه ويعطيه المبالغ العظيمة التي ربما كانت أكثر مما يعطي المسلم، ثم يقول: أنا أحب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل هذا حق؟!

    وكيف تقرأ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يبغض الزنا، والربا، والنفاق، ثم تأتي ويقع منك الزنا والربا والنفاق والغيبة والنميمة والإساءة إلى الجار والخيانة، كل ذلك مما يتنافى مع دعوى محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا لا يرضاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو رأى ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لغضب أشد الغضب، وتألم أشد الألم، ثم يفعله من يفعله ويقول: أنا أحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!

    فهذا هو المعيار، وبهذا نعرف أين نحن من محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا حكمنا غير شرعه وأطعنا غير أمره، وصدقنا غير خبره، وعبدنا الله بغير سنته، فماذا بقي لنا من محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!!

    والواقع كثير، وظلامه كثيف، والانحرافات كثيرة، ولكن هذا كله لا يعفينا من أن نقول الحقيقة، وأن ندعو إليها، وأن نبدأ بأنفسنا، وأن نعرف أين نحن من الشهادة لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعبودية والرسالة التي أمرنا الله بها، وهل محبتنا وهوانا وقلوبنا وخيرتنا تبعاً لما يقضيه الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أم أنها تتبع الهوى وإن ضربنا بما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفحاً؟

    فهذا هو المحك، وهذا هو المعيار.

    نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، ونكتفي بهذا المقدار، وفي أسئلتكم ما يذكرنا بما أنقصنا ولا بد أننا أنقصنا، فالحديث عن محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طويل وعظيم، ونحن دون أن نوفيه حقه، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم من المحبين له حق المحبة، المطيعين له حق الطاعة، إنه سميع مجيب.

    1.   

    الأسئلة

    حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره ورده السلام على الناس

    السؤال: لقد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون} وثبت عنه: {ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه} وثبت عنه: إن الله وكل ملكاً أعطاه سمع العباد فما من مسلم يصلي علي إلا وبلغني منه الصلاة} أو كما قال، فما نوع هذه الحياة التي امتاز الأنبياء عن غيرهم بها إن كنا نقول إنها حياة برزخية؟

    ثم كيف نوفق بين هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وإذا ردت روحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه فهل يعني هذا أن روحه لا تزال مردودة في الليل والنهار، لكثرة من يسلم عليه في مشارق الأرض ومغاربها؟

    وهل يسمع هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السلام عليه عند قبره؟

    وإن كان الجواب بالنفي، فلماذا شرع لزوار القبور السلام على الموتى؟

    الجواب: الجواب يحتاج إلى رسالة، ولكن نوجز مراعين الإفادة، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا شك عندنا في موته، وقبل أن نتحدث عن حياته بعد الموت نقرر أولاً: هل مات أم لا، فقد قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] وقال: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144] فقد مات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما في صريح القرآن والسنة وإجماع الأمة، ومن زعم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يمت فهو كافر، إذاً فقد مات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: مات الميتة التي كتبها الله على من عاش هذه الحياة الدنيا التي نحياها نحن اليوم، والتي سنموت كما مات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد كتب الله تعالى الموت على جميع النفوس، الصالح منها والطالح.

    ثم صح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه بعد موته يرد السلام على من يصلي ويسلم عليه، إذاً هناك شيء آخر، بل هنالك آية في كتاب الله عز وجل، تقول: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169] إذاً الشهداء أحياء والأنبياء أحياء، فأي الحياتين تكون أكمل وأعظم؟

    حياة الأنبياء بلا شك هي أعظم من حياة الشهداء، ونقول في الموت: ميتة الحياة الدنيوية، والحياة الأخرى لا نعلم كنهها ولا حقيقتها إلا لما يأتينا من نص فنؤمن به، ولا نتردد في ذلك، ولا نعارضه بعقولنا وآرائنا، فإذاً هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ولا تعارض بين الأحاديث ولله الحمد في ذلك.

    أما كونه يرد السلام على من يسلم عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون معنى ذلك أن روحه ما تزال مترددة، نقول ما دمنا قررنا أنها حياة برزخية لا نعرف كنهها، فكيف نجادل فيما لا نعرف؟

    فهل ترجع روحه وترد السلام، ثم تذهب ثم ترجع؟

    نحن لا نعرف نوع الحياة أصلاً لكن الواجب علينا فيها هو أن نسلم ونؤمن بهذه الأحاديث ولا نبحث ولا نخوض فيما وراء ذلك، هذا هو مقتضى الإيمان به وبكل ما يخبر عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    وأما سماعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن يسلم عليه عند قبره، أو غيره من الموتى، فهذا أيضاً لا يتعارض مع ذلك، فالمسلم إذا سلم وأسمع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الموتى ذلك فهذا نفس الشيء، وهو أنه راجع إلى نوع الحياة البرزخية التي يحيونها، ولولا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرع لنا ذلك ما فعلناه، ولما زرنا القبور، ولما سلمنا على الموتى، فما دمنا نسير في حدود ما شرع، وما دمنا متبعين لما جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلن نضل ولن نشقى.

    أما إذا قيل: إنه ما دام حياً إذاً ندعوه، ونستغيث به، ونتوسل به، فنقول: لا، هذا خطأ، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كانوا يتوسلون بدعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستسقوا بدعائه في حياته، ولما مات استسقوا بعمه العباس، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجود ولكن لم يقولوا أنه حي، وعرفوا أن هذا العمل يكون من الأحياء وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بموته لا تلحقه الأحكام التي كانت له في حياته ولكن في حدود ما ورد فقط، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح أمر عمر أن يطلب من أويس القرني وهو تابعي، أن يستغفر له، فلماذا يطللب منه وهو من التابعين ولا يطلب ذلك من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

    نقول: هكذا شرع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعد وفاته لا نتقرب ولا نعمل أي عمل إلا بما ورد عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط، والكلام في هذا كثير، وحسبنا ذلك.

    التوحيد والفرقة

    السؤال: هناك شبهة تقول إن الدعوة إلى التوحيد ونبذ البدع يؤدي إلى تشتيت الأمة وفرقتها رغم أنها بحاجة إلى الاتحاد والتعاون؟

    فما رأيكم في ذلك؟

    الجواب: الحقيقة أن الأمة الإسلامية اليوم مفرقة، لا يماري في ذلك أحد، فلا تكاد تجد رجلين على قلب واحد، فهي أمة مفرقة ممزقة، والذي يدعوها إلى الكتاب والسنة لا يفرقها -وهي في الواقع مفرقةٌ أصلاً- وإنما يدعوها إلى ما أمر الله سبحانه به حين قال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] فلم يقل واتحدوا، ولم يقل ولا تفرقوا -فقط- بل قال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] أي تمسكوا بصراطه المستقيم ولا تفرقوا عنه، فليس الأمر مجرد اجتماع، فهل يرضى أي مسلم أن تجتمع الأمة على الشرك والبدع؟!

    إذاً: فلا بد أن نجتمع على الكتاب والسنة، وهل هذه الدعوة مسموعة مقبولة؟

    لو دعوت الناس أنت للاجتماع على الكتاب والسنة، أو إذا دعوت أمة الإسلام إلى الاجتماع على الكتاب والسنة، هل دعوتك مسموعة؟

    في الواقع لا، وإنما سيتبعك ويسمع منك ويتعاون معك البعض، وبعض منهم لن يقبل ذلك، لماذا؟

    لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أنها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقه، فأنت تطلب المحال إذا أردت أن تجعلها فرقة واحدة حقيقةً وواقعاً، لأنها ثلاث وسبعون، لكن أن تطمع في ذلك وترجوه بأن تدعوها إليه فنعم، فنحن أمرنا أن ندعو اليهود والنصارى إلى التوحيد مع علمنا بأن منهم من سيبقى على كفره ويموت عليه، فذلك مطلوب منا شرعاً، وإن كان لم يتحقق واقعاً، لكن المقصود هنا من العبرة أنه مادام أن ذلك غير متحقق واقعاً فلا نخرج عن الشرع بل ندعو إلى ما أمر الله تعالى أن ندعو إليه شرعاً.

    القراءة في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي

    السؤال: قرأت كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، فوقعت في مشكلة تتمثل في الجانب التصوفي أو الجانب الروحي الذي تحدث عنه الإمام، فهو يستدل بالكتاب والسنة فأين الحقيقة من ذلك؟

    الجواب: الإمام الغزالي رحمه الله، يقول فيه بعض العلماء: أمرضه الشفاء -وهو الكتاب الذي ألفه ابن سينا- فكتب الإحياء، فجاء قوم يريدون الحياة لقلوبهم عن طريق الإحياء، فنخشى أن يميتهم الإحياء، لأن الأمر ليس كما ذكره الأخ وهو أنه يستدل بالكتاب والسنة فقط لا، فالإمام الغزالي رحمه الله -ونحن نتكلم عن الإحياء بالذات فيه من التخليط والغلط الشيء الكثير- مع أنه يستدل بالكتاب والسنة لكنه يأتي بالأحاديث الموضوعة والضعيفة وبأقوال أهل التصوف وبكلام لا أصل له في الكتاب ولا في السنة، على ما فيه من فوائد لا تنكر، وعلى ما فيه من استنباطات، وعلى ما فيه من عبر جعلت بعض العلماء يوجزه ويلخصه ويستخلص منه الفوائد المفيدة ويترك ما عدا ذلك، هذا في خصوص الإحياء، وأما الإمام الغزالي في ذاته، فإنه في آخر أمره مات وصحيح البخاري على صدره، وعرف في الأخير أن الطريق الوحيد للحق وللوصول إلى الله سبحانه هو اتباع الكتاب والسنة، ولهذا مات وهو يقرأ في صحيح البخاري وهو أصح كتاب بعد القرآن، ونرجو الله أن يجعل ذلك مغفرة له وأن يغفر لنا جميعاً، لكن الإحياء يجب ألا يقرأه الشاب المبتدئ الذي يريد أن ينمي جانب التقوى أو الجانب الروحي، فعندنا كتاب الله عز وجل فيه العبرة والعظة، وعندنا ما صح من كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي كتاب الرقائق في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم وفي غيرهما من الكتب فيها من العظة والعبرة ما يغني عن الإحياء وغير الإحياء.

    كيف تنال شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

    السؤال: هناك من يدعي أن محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستشفع به، فكيف تردون على هذا؟

    الجواب: الذين يطمعون ويريدون ويرغبون في شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويأملونها -ونحن منهم وأنتم منهم نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لذلك- كثير ويريدون ذلك، والله سبحانه كريم فهل ضيق الله سبحانه هذا الأمر وهذا الطلب الذي يحبه عباده المؤمنون؟

    فالله من كرمه ومنَّه وفضله على هذه الأمة أن جعل الوسيلة والثمن المقدم لشفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمراً ميسوراً متكرراً يغفل عنه أكثر المسلمين، ثم يذهبون ويقعون في الشرك الذي يخرجهم من الدين،ويخرجهم من محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويظنون أنهم بذلك ينالون الشفاعة، لا والله، فشفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تنال بالشرك وإنما تنال بأمر هين ولكنه عظيم، هين لا مشقة للنفس والجسد إذا عملت به، وعظيم إذا أخذناه بقلب صادق وعملنا به بقلب صادق، والتزمنا بفعله، فبماذا ننال شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إذا أذن المؤذن وقلنا ما صح وما ورد مما تحفظونه جميعاً، فقد وعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من قال ذلك بقوله: {كنت له شفيعاً يوم القيامة} سبحان الله! فلا يوجد مسوغ للذهاب إلى الشرك والبدع، فهذا الذكر هو مما يؤهلنا لنيل شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    انظروا كيف يكون حال أهل البدع مشابهاً لحال اليهود الذين يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ففي ديننا فسحة وسعة، حتى التوسل إلى الله سبحانه بأسمائه وصفاته ما أعظم ذلك وما أكثره، حجبونا عن ذلك كله على كثرة ما جاء في القرآن والسنة، وقالوا لا يوجد غير التوسل بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعلوا الوسيلة التي أمر الله تعالى بها في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] التي هي كل عمل صالح يقرب إلى الله حصروها هم فقط في الذوات، أن تتعلق بذوات المخلوقين من نبي أو ولي، فانظروا كيف يحجرون رحمة الله الواسعة، وكيف يخرجون الأمة من الطريق المستقيم السهل إلى الأساليب التي تخرجهم إما عن الصراط المستقيم وإما عن الدين بالكلية، عافنا الله وإياكم.

    مدح النبي صلى الله عليه وسلم

    السؤال: إذا قيل أن من معاني محبة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التغني بشمائله وصفاته الخلقية وسماته الجمالية، إلى درجة العشق، فكيف تردون على هذا؟

    الجواب: نعم هذا واقع، من الناس من لا يقرأ من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا صفاته الخَلْقية، ويغفل عن صفاته الخُلقية وهي في الدرجة العليا، فالله اصطفاه واختاره حتى في خلقته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن ليس معنى هذا أننا نشتغل بهذا الجانب ونتغنى به ونردد فيه الأشعار والقصائد ونترك الجانب الأعظم والأمر المهم.

    انظروا كيف كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وهم الذين عرفوا محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن أعظم ما اهتموا به هو طاعته واتباع أمره، والاقتداء بسنته ولم يغفلوا أيضاً الجانب الآخر، لكن يجعلون لكل شيء قدره الشرعي الصحيح.

    ولننظر إلى شعب الإيمان، ولنقس على هذا لتقريب كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} فشعب الإيمان أي: درجات منها ما هو أعلى ومنها ما هو أدنى، فإماطة الأذى عن الطريق لا نستهين بها ولا نحتقرها فهذا خطأ، وكذلك من الخطأ أن نجعلها في درجة الحياء، أو أن نجعلها في درجة شهادة لا إله إلا الله.

    وأضرب مثلاً لتقريب ما أقول: وذهبت إلى أمريكا لكي أدعو الأمريكان إلى الله، وقلت لهم إننا كنا أمة جاهلية في ضلال وفي كذا وكذا...، كما كان العرب في الجاهلية، فبعث الله تعالى فينا رسولاً، أغر الثنايا، أكحل العينين، أجردٌ أزهرٍ... وذكرت كل ما جاء في صفاته الخَلْقية، هل أنا في الحقيقة بهذا العمل أُعرِّف الإسلام حقيقةً، وأُعَرِّف دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا لا شك أنه مما جاء من صفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن عندما وصفته لهم بهذا الشكل أكون مسيئاً؛ لأنني وضعت الشيء في غير موضعه، بل عليَّ أن أصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأعظم أوصافه، فيما دعانا إليه من التوحيد، وبما أنقذنا به من الضلالة، وبما أخرجنا به من الظلمات إلى النور، وما أمرنا به، فإذا تعرضت له في ذاته ولأخلاقه أذكر كرمه وحلمه وصدقه وأمانته، ثم أتعرض بعد ذلك لصفاته الخلقية، فلابد أن نضع الشيء في موضعه الصحيح، كذلك عندما نعلم أبناءنا وأنفسنا ونقرأ سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونهتم بها، فإن علينا أن نهتم بأعظم شيء وهو ما دعا إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو توحيد الله ومحبه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووجوب التزام أمره، وكيف كان يعبد ربه عز وجل فنعبد ربنا كما عبده، ثم بعد ذلك نبين صفاته وشمائله، أما أن يأت قائل ويقول: القمل لا يؤذيه والذباب لا يقع عليه، وكان وكان.. حتى ينتحل هذه الأشياء، فالقوم أتوا بما لم يرد، ويظنون أنهم يعظمون بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنهم يعرضون له قدوة حسنة أمام الناس، وأن ذلك مما يجعل المسلمين يحبونه، ويجعل الكافرين يتبعونه ويؤمنون به، فهذا مثل ما تقدم عن عابد بني إسرائيل، ومثل ما قلنا عن علي بن الجهم عندما وصف الخليفة، فهؤلاء يتكلمون بالشيء الذي يظنون أنه غاية في المدح، وهو في الحقيقة إن لم يكن فيه ذنب -كما وجد من بعض من وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأقل ما فيه أنه ليس هو الذي يوصف به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحقيقة.

    محبة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

    السؤال: من معاني محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محبة أهل بيته حتى ولو كانوا على غير هداه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كيف تردون على هذا؟

    الجواب: محبة أهل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هي تبع لمحبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي مما يقره أهل السنة والجماعة ويؤمنون به، وإمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لما ضربه المعتصم وعذبه وآذاه في ذات الله عز وجل، حتى أنه ضُرب فانفتقت خاصرته وخرجت منها أمعاؤه، وكاد أن يقضى عليه، فجاءه بعض أصحابه وأصفيائه، وقالوا له: يا إمام! لم لا تدع الله على هذا الظالم؟

    وكان الإمام أحمد معروفاً عنه في أصحابه وفي من عاشره أنه كان مجاب الدعوة لصلاحه ولفضله ولاقتدائه بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا يرون أنه لو دعاء على هذا الظالم لاستجاب الله تعالى دعوته، هكذا ظنهم في الإمام أحمد، لما يرون فيه من شدة التمسك بالسنة، فقالوا: ادع الله على هذا الظالم -أي المعتصم- فقال الإمام أحمد: ''لا أفعل ذلك، فإنني قد استغفرت له، ودعوت الله أن يغفر له لقرابته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'' فانظروا إلى محبة أهل السنة لآل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى وهو يفعل ذلك؛ فلقرابته من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلته يقول أنا أغفر للمعتصم ذلك، ولا أطالبه بشيءٍ ولا أدعو عليه؛ بل لا أطالبه أمام الله عز وجل لقرابته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأكثر الناس حباً -المحبة الحقيقية الشرعية- لآل البيت هم أهل السنة والجماعة.

    وأما غيرهم فإنه: إما عظمهم وألههم، وإما كفرهم وفسقهم -والعياذ بالله- لكن من خرج من آل البيت عما شرعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه لا ينفعه ذلك فهذا عمه أبو طالب الذي حمى الدعوة ونصرها وأيدها، لمّا لم يذعن لأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشهادة، لم يكن من المؤمنين، فكل من خرج عن دين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينفعه ذلك، ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا فاطمة بنت محمد يا كذا يا كذا لا أغني عنك من الله شيئاً، فكل من خرج عن ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهما كانت قرابته فإن ذلك النسب لا ينفعه أبداً، ولا ينفعه إلا أن يكون على ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأولى الناس بأن يقتدوا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يدافعوا عن سنته وأن يمنعوا الابتداع في الدين هم آل بيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    فنحن نعرف لهم حقهم وقدرهم، كما أوصانا بذلك نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونطيع وصيته فيهم، ولكن أيضاً نوصيهم وندعوهم ونأمرهم بما أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به من تقوى الله والتمسك بالسنة وعدم الخروج عليها، فهذا أيضاً من حق آل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا، فإذا جيء بمن ألحد أو أشرك منهم فلا كرامة له حينئذٍ لأننا عرضناه على ميزان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجدناه بريئاً منه تمام البراءة فإذاً نحن كذلك نتبرأ منه.

    الانتساب إلى آل البيت

    السؤال: هل بقي من آل البيت أحد؟

    الجواب: لم ينقطع آل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم موجودون، لكن لو كان السؤال: هل ادعى أحد أنه من أهل البيت وليس منهم؟

    نقول: نعم، وأكبر مثال على ذلك أولئك المجوس الملاحدة العبيديون الذين يقولون نحن فاطميون، يدعون أنهم من ذريه فاطمة رضي الله عنها، وهم في الحقيقة يهود مجوس من الفرس، وثبت ذلك عند الأمة، والعلماء في ذلك محاضر ودونوا ذلك في الكتب، وأنهم ليسوا من ذرية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغيرهم يشابههم كثير، فهذا واقع، لكن ذلك لا يعني أنه لم يبقِ من آل بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد، فهم موجودون ومعروفون والنسب الصادق واضح، وهم معروفون سواء في هذه البلاد أو في غيرها.

    ثبوت أن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار

    السؤال: قال بعض الناس في الحديث الذي يقول فيه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عندما جاء رجل يسأله عن أبيه، فقال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أبي وأبوك في النار}، فقال هذا الرجل: إن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك وهو عضبان، ولكن نرجو أن يكون أبُ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنة؟

    الجواب: هذا الكلام من التأويل الباطل الذي يفسد الحديث، لأن الله سبحانه قد برأ نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن يقول الكذب، حتى وإن قلنا أنه قال قولاً وهو غضبان، لأن الله سبحانه يقول: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4] فمن يؤول ذلك ويقول أن حديث {أبي وأبوك في النار}، قال ذلك وهو غضبان فهذا كذب، ولو أن شخصاً قال لك -حتى وهو غضبان- سأعطيك كذا لو فعلت كذا وكذا، وتبين لك خلافه، فتعتقد أنه كذب عليك، وإن كان قالها وهو في حالة غضب، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينطق عن الهوى.

    ولهذا لما كان بعض الصحابة يكتب حديثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال بعضهم الآخر: {تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم -فهل قال: اكتبوا عني في الرضا؟ ولا تكتبوا في الغضب؟- قال: اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج مني إلا الحق} ثم إن الحديث ليس فيه غضب: {أبي وأبوك في النار} هذا الحديث ليس فيه غضب ولا ما يستدعي الغضب، فلا يرد كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الواضح الصريح بأقاويل الناس كائناً من كان.

    وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم

    السؤال: يقول البعض إن محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقتضي اتباعه، لكنها أيضاً أمر عاطفي زائد على الاتباع، فما حكم الإسلام في هذا؟

    الجواب: نقول: نعم، فهي ليست أمراً عاطفياً فحسب، فالمحبة عمل قلبي من أعمال القلوب؛ بل كما قال السلف أساس كل عمل من أعمال القلوب والجوارح المحبة، كما أن أساس كل قول من أقوال القلوب والجوارح هو الصدق، فالمحبة والصدق هما أساس أعمال القلوب، كما أوضحنا ذلك في المقدمة، فإذاً محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمل من أعمال القلوب، ومقتضاه انقياد القلب وانقياد الجوارح، فهي بذلك أمر زائد على ذلك، هذا الذي رأيته وتأملت فيما جاء في الكتاب والسنة والله تعالى أعلم.

    ابتداع المولد

    السؤال: يقول الأخ: من هو أول من ابتدع الاحتفال بذكرى المولد وقد سمعت شريطاً للشيخ القطان أنه أبو سعيد الكبري، أو قريب من هذا الاسم، وقال إنه من القرن السابع أو السادس، فما صحة هذا جزاكم الله خيراً؟

    سؤال آخر: نريد جواباً حول المولد من أول من ابتدعه، وما حكم فعله؟

    الجواب: نقول إذا بينا أنه مبتدع فقد اتضح لكم حكمه، ثم إن المحقق أن أول من ابتدأ الاحتفال بما يسمى المولد النبوي هم العبيديون الفاطميون، وهم -كما أسلفنا- عبيديون من يهود الفرس، فهم يهود ومجوس، أرادوا تدمير الإسلام وهدم الدين، وتعاونوا مع الصليبيين الذين جاءوا لاحتلال بلاد الإسلام، وسيرتهم معروفه، وما قاله فيهم علماء الإسلام الثقات معروف ومذكور، فكانوا زنادقة ملاحدة، كما قال فيهم الإمام الغزالي، وصدق هذه العبارة ابن تيمية: كان ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، أي ظاهراً هم رافضة شيعة، لكنهم واقعاً كانوا ملاحدة زنادقة، فهذا هو القول الصحيح في أول من ابتدع المولد، لكن لماذا فعلوا ذلك؟

    هنا تختلف آراء وتحليلات المؤرخين.

    فبعضهم يقول: إنهم احتفلوا بالمولد ليصرفوا الناس عما يعلمونه فيهم من الإلحاد ومن البدع ومن الزندقة والضلال، فيخدعون العوام ويقولون لهم: إننا نحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن نسبنا إليه حقيقي بدليل أننا نحتفل بمولده ونعظم ذكرى مولده، هذا قول أو موجز للقول الأول.

    القول الثاني: قال بعض المحللين: لا، هؤلاء القوم يهود، ويبغضون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويبغضون دين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويعلمون أن جدتهم اليهودية قد وضعت السم في ذراع الشاة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأكل منه، فقطع أبهره فكان ذلك سبب وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم يحتفلون بذكرى مولده في الثاني عشر من ربيع الأول، وهي ذكرى وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهي ذكرى موت عدوهم اللدود الذي طردهم من المدينة وأجلاهم منها، وأذهب دينهم وملكهم ومجدهم، وانتقمت منه جدتهم اليهودية بهذا العمل فيخلدون ذكرى هذه الجدة اليهودية، ويريدون أن يحتفلوا بذكرى موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويجعلونها عيداً يتفاخرون به.

    والواقع أننا إذا نظرنا إلى كلا التحليلين ونظرنا إلى واقع العبيديين فإننا نجد أنه لا تعارض بينهما، وأن القول الثاني أقرب، لأن العبيديين كانوا كما ثبت، والآن قد اتضحت كتبهم ونشرها أتباعهم الذين إلى اليوم يسمون بالفاطميين، وهم فرقتان الأغاخانية والبهرة، وكلا الفرقتين نشرت كتبهم، وما ثبت وصح عنهم عن الحاكم العبيدي وغيره: أنه كان لا يؤمن بالله ولا يؤمن باليوم الآخر ولا يؤمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنهم كانوا أعدى أعداء المسلمين، فقد افتعلوا هذا الاحتفال لأنهم وجدوا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد لقي ربه ومات في هذا اليوم، فيحتفلون بذلك، هم في أنفسهم جعلوه عيداً لذكرى وفاة عدوهم الأعظم، وبالنسبة للأمة المخدوعة جعلوه ملهاة لهم، ويزعمون أنهم يحبون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنهم من ذريته، فيجتمع فيهم كلا الأمرين، وهذا هو أصل هذه البدعة.

    ثم فيما بعد انتشرت في البلاد، ثم وضع وأدخل فيها ما أدخل، حتى تحولت في كثير من الأحيان من مجرد بدعة إلى أن أصبح فيها الشرك الأكبر -والعياذ بالله- كأن يقال فيها أو في أناشيدها:

    يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم

    وما أشبه ذلك من قراءة الموالد البدعية التي في بعضها إخراج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حد العبودية ومقامها، إلى درجة الألوهية.

    حكم الطعام الذي يقدم في الموالد

    السؤال: يزعم أصحاب البدع أن الطعام يكثر في الموالد مع أنه قليل الكمية وذلك ببركة الموالد وهذا الزعم يصدقه العامة؟

    الجواب: على كل حال إذا صدق العامة بالبدعة من أساسها، فلا غرابة أن يصدقوا بلوازمها وتوابعها، فيقال: إن الطعام يكثر؛ لأنه أقيم في هذه البدعة، وهذا الطعام مما لا يجوز تناوله فكيف يبارك الله عز وجل في أمر مبتدع، ولا يجوز للمسلم أن يشارك فيه؛ لأنه ما عمل إلا من أجل هذه البدعة، فالعوام لا عبرة بما يفعلون.

    الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

    السؤال: في يوم الجمعة والإمام يخطب وأنا أصلي، والإمام ذكر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل أصلي عليه أم عندما أنتهي من الصلاة؟

    الجواب: الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجبة، وعلى القول الصحيح هي ركن من أركان الصلاة، وهذا يدل على أن المؤمن يصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل صلاة من صلواته، غير ما يصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ذُكر، وغير السنن الواردة في المواضع التي يصلى فيها على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكل ما كان الإنسان أكثر التزاماً بالسنة وأكثر اتباعاً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أكثر صلاة عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن لا نصلي عليه إلا بما ورد، وفي المواضع التي وردت -أي بالتقييد-، فمثلاً: إذا كان الإنسان يصلي فإنه لا يقطع قراءته في الصلاة ليصلي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما يصلي عليه في موضعها من صلاته، ثم يصلي عليه بعد سلامه، ويكثر من الصلاة عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا من أعظم القربات ومن أعظم الأذكار، كما روى الإمام أحمد رضي الله عنه: {أنه ما جلس قوماً في مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا كان حسرة عليهم يوم القيامة} حسرةً وندامة لأنهم لم يذكروا الله ولم يصلوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    حكم كتابة (ص) بدل صلى الله عليه وسلم

    السؤال: الاكتفاء بحرف الصاد في الكتابة عند الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

    الجواب: الذي ينبغي أن نعمله وأن نبادر إليه هو أن نصلي عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفظاً كاملاً ونكتب ذلك كاملاً، ولكن لو أن أحداً لم يكتب ذلك أصلاً عندما كتب الكتاب واكتفى بالصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باللفظ فإن ذلك جائز، ولذلك نجد بعض المخطوطات من كتب السلف، ليس فيها هذا الشيء مكتوباً، ولا نظن فيهم أنهم لم يقولوه لفظاً أبداً، فالواجب علينا ونحن نقرأ ذلك إذا قرأنا ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلفظنا به كما هو ظننا بـالسلف الصالح أنهم تلفظوا به، هذا والله أعلم.

    حكم شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

    السؤال: ما حكم زيارة المدينة؟

    وكيف يكون السلام على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

    وما حكم اصطحاب النساء معنا في الزيارة؟

    الجواب: النساء يسافرن السفر الواجب والمسنون مع الشروط الشرعية مع ذي محرم، فالمرأة التي تسافر للحج إذا كان واجباً عليها كحجة الإسلام، وكذلك إذا كان الحج أو العمرة تطوعاً فلها أن تسافر، وتشد الرحل لأنه في عمل طاعة، وكذلك زيارة مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي من الطاعة ومن القربات، فللمرأة أن تسافر مع محرمها لزيارة مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شيء في ذلك، بل لها الأجر كما لمحرمها أو وليها -إن شاء الله تعالى-.

    أما زيارة القبور إذا وصلت إلى المدينة، فليس لها أن تذهب إلى البقيع، وإلى قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتزاحم الرجال، وتذهب إلى قبور أخرى، وإذا كنا نحن الرجال يجوز لنا أن ننوي بالزيارة زيارة مسجده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا زيارة قبره، فما بالك بالنساء اللاتي نهين عن زيارة القبور على أصح قولي العلماء.

    وأما الرجل فإنه يزور القبور كما أمر وشرع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى عند السلام على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يسلم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى صاحبيه بأدب وبتوقير، كما كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يفعل: [[السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه]]، ويسلم على أهل البقيع بما ورد، ويسلم على شهداء أحد كما ورد، ويزور القبور كما نفعل نحن في مكة قبل أن نرحل ونسافر، ولا نتجاوز ما ورد في ذلك.

    وأما زيارة قبور النساء فقد ورد النهي فيها، ولهذا قلت: على أصح قولي العلماء، فلو أنها - مثلاً- في مكة، فعلى القول الراجح الصحيح لا تزور القبور في مكة، ولكن البعض يفهم أنه لا تشد الرحال لزيارة المدينة، فنقول: لا، إذا شددت الرحل لزيارة مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يجوز، ولو أن أحداً من الرجال شد الرحل لزيارة قبر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يكون مبتدعاً، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد} أي: لزيارة المسجد لا القبر، فالمرأة حكمها بذلك حكم الرجل، فهذا سفر سنة، وشد الرحل سنة وقربى من القربات، فتذهب معه إلى المدينة، وتزور معه المدينة وتزور مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتصلي فيه كالرجل، لكن لا تذهب إلى القبور، بل يذهب الرجل وحده وهي لا تذهب.

    فعل الكبائر ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم

    السؤال: هل يكون فعل المعاصي الكبائر كانت أو الصغائر، منافياً لمحبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} علماً بأن اقتضاء محبة الله طاعته في كل أمر ونهي؟

    الجواب: نعم، مقتضى محبته وطاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا ترتكب الكبائر، فمن ارتكب هذه الكبائر الموبقات فإن ذلك دليل على أنه غير محبٍ للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وانتفاء ذلك كلياً إن استحلها، وإما ناقص المحبة إن لم يستحل ذلك، لكن يأتي الإشكال في قول بعض الناس: إن الرجل الذي كان يدعى حماراً والذي جلده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شرب الخمر وهو من الصحابة، {فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تلعنوه، فإنه يحب الله ورسوله} فإذا قال قائل هذا يحب الله ورسوله ومع ذلك شرب الخمر، فهل هذا ينافي ما تقولونه من أن محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تستلزم وتقتضي ألا يعصى أمره وألا ترتكب الكبائر؟

    نقول: لا منافاة، لأن هذا الرجل نطق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق وأخبرنا أنه يحب الله ورسوله، مع أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث آخر لما جاء سعد بن مالك يزكي رجلاً قال: {يا رسول الله، إن علمناه لمؤمناً، فقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مسلماً، فيكررها: إن علمناه لمؤمناً، فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مسلماً} فهو يزكيه والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقلل من ذلك ولا يجعله في درجة المؤمنين بل في درجة المسلمين وهي أقل، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلعه الله أن هذا ليس بمؤمن بل مسلم، وأطلعه على أن هذا وإن شرب الخمر فإنه يحب الله ورسوله.

    فنقف عندما أخبرنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذه خصوصية له، ونحن لا نعلم القلوب ولا نعلم الغيوب، ولكن نحن نرى الظاهر، فظاهر من عصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدل على أن قلبه خال من محبته الكاملة أو من محبته بالكلية -عافانا الله وإياكم من ذلك- هذا بالإضافة إلى ما قيل أن هذا الرجل كان بدرياً، وأصحاب بدر تعلمون حالهم وشأنهم، فإذاً القاعدة على عمومها، كل من عصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخالف أمره فلا بد أن ذلك نقصاً في محبته له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن ادعى من المحبة ما ادعى.

    إطلاق لفظ سيدنا على الرسول صلى الله عليه وسلم

    السؤال: ما رأيكم فيمن يقول: سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

    الجواب: الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صح عنه في حديث الشفاعة أنه قال: {أنا سيد ولد آدم يوم القيامة} ولا شك عندنا في أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو سيد ولد آدم كما أخبر، وسيد الأولين والآخرين، وهو سيدنا نعم.

    لكن الخلاف بيننا وبين أهل البدع ليس في أننا لا نقول: سيدنا، وهم يقولون: سيدنا، لا الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين أهل الضلالة والشرك أن أهل السنة والجماعة يقولون: عبد الله ورسوله، ويثبتون له السيادة دون أن يدخلوها في الصلاة أو في الأذان ولكنها ثابتة له، وأما أولئك فإنهم يؤلهونه.

    فحقيقة الخلاف هي في: هل هو إله أم بشر؟

    لا بكونه سيداً أو غير سيد، يريدوننا أن نقول إنه إله، لكن لا والله لا نقول: ذلك، وإن غضبوا مهما غضبوا، وإن اتهمونا بأننا نكرهه -والعياذ بالله-، لا والله لا نقول بأنه إله، وإنما أمرنا أن نعبد الله وحده فقط، وأمرنا كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له} هو بُعث لذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الذي دعا إليه ونحن ندعو إليه مع قوله: {وكتب الذل والصغار على من خالف أمري} فنحن نؤمن بذلك ونقول: كل من خالف أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو اتنقص قدره فهو الأذل، وهو الصاغر وهو الأبتر: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر:3] وكل من أبغض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نصيب له في الإسلام أبداً، ولكن لا نقول إنه إله، حاشا والله.

    فهذه الكلمة نقولها ونستخدمها، ولكن هل نقول في صلاتنا ونحن في التشهد: اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، لا نقول ذلك، فإن قيل: لماذا تكرهون الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، -عياذاً بالله-؟

    فنقول: إن هذا لم يرد، وما علّم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه الصلاة عليه بهذه اللفظة، بل كان يعلمهم ذلك كما يعلمهم السورة من القرآن، فهل علمهم فيها (سيدنا)؟

    لا، لم يعلمهم، إذاً فلا نقولها، فإذا كنت أنا أتكلم وأخطب في مكان وقلت: وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، أو مثلاً: هذا ما قاله سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا لا شيء فيه، فهذا الكلام خارج مواضع القيد والمواضع التي يجب علينا أن نتعبد فيها.

    ثم نعود للقضية من جانب آخر، وإن كانت قد لا تستحق، لكن لأنها تدلكم على أصل الموضوع بين أهل السنة وبين أهل البدعة، وهي وصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسيادة، فهل فيه توقير وتعزير له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورفع لشأنه أكثر من وصفه بالعبودية والرسالة؟

    انظروا إلى حال العرب في الجاهلية، كيف كانت منـزلة أبي جهل في قريش؟

    تقول: كان سيد قريش، وكيف كانت منزلة فرعون في قومه؟

    كان سيد قومه، وهتلر سيد النازية، وفلان سيد الشيوعية، فكلمة سيد بذاتها لا تقتضي مدحاً ولا ذماً، ولهذا نقول -مثلاً- إن سعد بن معاذ كان سيد قومه، وهو من أفضلهم ومن أبرهم ومن أتقاهم، ونقول: عيينة بن حصن سيد غطفان كان سيد قومه وهو شرهم قبل أن يسلم، فالمسألة أن السيادة في ذاتها لا تقتضي مزيد اختصاص ومدح، ولهذا الذين يقولون هذه اللفظة ويجادلون فيها يقولون: سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسيدنا أبو بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان، وسيدنا علي، وهذا لفظ يشترك معه فيه الصحابة وغيرهم، كما يقولون أيضاً سيدنا الشافعي، وسيدنا أبو حنيفة، فهم الآن جاءوا بألفاظ يشترك فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره معه، ونحن إذا قلنا: عبده ورسوله، جئنا بوصف لا يشاركه فيه أحد، إذاً أي الطائفتين أحق بمدحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبتوقيره وبإنزاله منـزلته؟

    بلا شك أن الجواب واضح.

    حكم لفظة (والنبي..)

    السؤال: ما رأيك في قول: والنبي، ليس بنية الحلف، وإنما معناها عند قائلها لو سمحت، كما تقول: والنبي أعطني القلم؟

    الجواب: الحلف بغير الله عز وجل شرك، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك} فالحلف بغير الله لو أتى على لسانك بغير قصد، نقول: كفرِّها كما كان أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكفرون، فعندما أسلم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا في جاهليتهم يحلفون باللات والعزى وكان يسبق أحياناً على لسان أحدهم أن يقول: واللات والعزى، لأنهم بشر وحديثو عهد بإسلام، والقلوب تحتاج إلى تنقية وجهاد، فعلمهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فعلوا ذلك أن يقولوا: {أشهد أن لا إله إلا الله}، فقل: لا إله إلا الله، ووحد الله لتتخلص من شائبة الشرك التي وقعت فيها حينما حلفت بغير الله، وأرغم نفسك وجاهدها على ألا تقع في الشرك، ولو كان ذلك في شرك الألفاظ، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لاجتناب الشرك دقيقه وجليله.

    حكم انتقاص أهل العلم

    السؤال: ما حكم من يسب أحد رجال العلم وأئمة الإسلام وشيوخه ويدعي أنهم كاذبون، وكيف يعامل مثله؟

    الجواب: هؤلاء الذين يسبون علماء المسلمين المشهود لهم بالخير والفضل والمكانة، والذين لم ترتفع كلمتهم عند الأمة إلا لتعظيمهم لأمر الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ألم تسمعوا ما ذكرناه من حال الذين أنزل الله تبارك وتعالى فيهم: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65] فهم استهزءوا بالقراء، فالذين يستهزئون بعلماء الإسلام الأجلاء المجمع على فضلهم ومكانتهم واتباعهم لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحرصهم على ذلك، ويحتقرونهم، وينتقصونهم، إن كان ذلك منهم احتقاراً لما هم عليه من التوحيد ومناقضة البدعة، فهذا عين ما وقع فيه المنافقون، فيقال لهم ما قاله الله تعالى لأصحابهم -نسأل الله العفو والعافية-.

    وإن كان لصفة شخصية أو عيب في الخلقة، أي: لا لدينه ولا لعلمه ولا لدعوته إلى السنة، فإن هذا يعد كبيرة، لأن الاستهزاء بالمسلم كبيرة، أيُّ مسلم: {بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم} فإذا كان أخاك المسلم: أخاك، أو جارك، أو زميلك تحقره فهذه كبيرة، فكيف إذا احتقرت علماء الإسلام واستهزأت بهم؟!

    وهذا يشعر الناس بأنه احتقار لما هم عليه من العلم والدين، فأمر هؤلاء الناس -نسأل الله أن يعافينا وإياكم من حالهم- دائر بين النفاق القلبي المحض وبين الوقوع في كبيرة من الكبائر، ونرجو الله سبحانه أن يعافي قلوبنا وقلوبهم وقلوب المسلمين من ذلك، وأن يقدر الإنسان حق قدره ولا نظلمه كائناً من كان، فإننا أمرنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ [المائدة:8] وفي آية أخرى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135] فلو كان رجل من أهل البدع وله حسنات، وله باع في العلم وله باع في الجهاد، وله باع في إنكار المنكرات الظاهرة، ولكن مع ذلك فيه بدع، لما جاز لنا نحن أهل السنة أن نغمط قدره، ونجحد علمه، ونجحد إنكاره المنكر وجهاده، فهذا لا يجوز، فنحن أمرنا بالعدل ونحن أمة العدل، فإذا لم تعدل الأمة الإسلامية فمن يعدل؟!

    لكن هناك أناس أكل الحقد قلوبهم فأعماهم وأصمهم عن العدل، فتجدهم يجحدون كل فضائل الإنسان، لأنه يقول: قال الله وقال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا قال ذلك وسمعه الناس ظنوا فيهم أنهم على بدعة وهم كذلك، فهذا لا يجوز منهم نسأل الله أن يهدينا وإياهم.

    إطلاق لفظة (عبقري) على النبي صلى الله عليه وسلم

    السؤال: يقال إن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبقري فهل هذا الكلام صحيح؟

    أليس مقولتنا هذه تجعله مثل العباقرة الذين ظهروا في التاريخ؟

    الجواب: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسبه من الأوصاف والثناء ما أثنى به عليه ربه عز وجل، فإذا جاءنا أحد وقال هذا عبقري أو عبقرية محمد، أو كان محمد رجلاً محنكاً داهيةً سياسياً ذكياً، وصنع كذا، وحقيقة فإن هذا ما يكتب فيه المستشرقون، ويقع فيه بعض المؤرخين من المسلمين أو من يدعي الإسلام، فتجدون أن هذه الصفات تتجرد وتخلو عن وصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة وبالنبوة في الأعم الأغلب، هذا يقول: عبقرية محمد، وهذا يقول: بطل الأبطال، وهذا يقول: الرجولة عند محمد، وكل ذلك يقتضي ولو بالتلميح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس السر فيما حقق وأنجز هو الوحي الذي أوحاه الله إليه، واختصه به، واصطفاه به دون العالمين، إنما هو عبقري والعباقرة كثير، فلو ترجع لكلامهم تجدهم يقولون: حمورابي عبقري، حتى فرعون عندهم عبقري، وأديسون عبقري، وهتلر عبقري، وماركس ولينين، إذاً العبقرية وصف إنساني، وهو وصف عام مشترك، فهذا لا يجوز.

    فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو رسول الله، والله سبحانه قد وهبه كمال العقل ووهبه كمال الخلق، ولكن أعظم وصف له، وسبب كل ما ناله من الله تعالى وأظهره على يديه من الخير؛ هو أنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصطفاه بذلك وأظهره على العالمين، وشريعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليست نتاج عبقريته، فهو لم يشرع الحدود ويشرع كذا لأنه عبقري، لا، إنما هي وحي: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45] فهذا حكم الله وهذا أمر الله، وانظروا إلى سورة النور وفيها الحدود العديدة: حد الزنا، وحد القذف، وما أشبه ذلك، ماذا قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا [النور:1] فالذي شرع هذه الحدود هو الله، وقال في الآية الأخرى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] فالأمر فيها لله، والذي حكم بها وقضى فيها هو الله، وليس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس ذلك هو نتاج عبقريته.

    جهاد النفس في عمل الطاعات

    السؤال: أخ يقول: أنا أحب الله عز وجل وأحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر من كل شيء، ومصدق لكل ما جاء به، ولكني في بعض الأحيان لا أعمل بفضائل الأعمال لكسل مني فهل هذا يجرح في محبتي هذه؟

    الجواب: هنيئاً لهذا الأخ أنه يحب الله ويحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر من كل شيء، ونسأل الله سبحانه أن يثبته على ذلك، وأن يجعلني وإياكم ننال هذه الدرجة.

    ونقول لهذا الأخ: جهاد النفس لا بد منه، فـحنظلة وجد ذلك في نفسه، {فمر بـأبي بكر وهو يبكي فقال مالك يا حنظلة قال نافق حنظلة يا أبا بكر نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنه رأي عين فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة نسينا كثيرا قال فوالله إنا لكذلك، فذهبا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}.

    فالنفوس مثل الترمومتر ترتفع وتنخفض، فإذا حصل لك نقص وشعرت بشيء من هذا فحاول أن تقوي إيمانك وأن تحافظ عليه في الدرجة العليا، فلو أن الإيمان إذا وصل إلى درجة عالية يبقى على ذلك لكنا في غاية السعادة؛ لأنه ما من مؤمن ولا عبد لله عز وجل إلا ويمر به حالات يحس فيها بطعم الإيمان وبلذة الإيمان، لكن لا تدوم لنا، هذه هي المشكلة أو هذه هي المصيبة أنها لا تدوم لنا، فتسمع كلام الله عز وجل فيرق قلبك وتدمع عينك، وتتذكر الآخرة، وتنظر إلى ملكوت الله عز وجل، فتشعر بأنك في درجة من اليقين تتمنى ألا تذهب عنك، لكن ما الذي يحصل لك بعد فترة؟

    تسمع نفس الآيات ولا تشعر بذلك الشعور، وتنظر نفس النظر في الكون فلا تشعر بذلك الشعور، وتتأمل وتفكر وتجاهد نفسك وإذا بك تشعر أن إيمانك ليس بذلك، فهذا هو دور الجهاد، وهنا محل الجهاد ومحل السباق بين المؤمنين، فعلينا أيها الإخوة الكرام -أوصي نفسي بهذا أولاً وأوصي إخواني وأنصحهم لله عز وجل- أن نبذل جهدنا ما استطعنا بأن نرفع درجة إيماننا ومحبتنا لله ومحبتنا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله سبحانه يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] فنرجو أن يحقق الله لنا ذلك بجهادنا له.

    شبهة القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من نور وأنه أول المخلوقات

    السؤال: ما مدى صحة قول بعض الناس: إن نور الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلق قبل خلق الكون، أو أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول المخلوقات وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: هذا من الغلو، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله} وهذا الغلو نقله أولئك الناس عن الأديان الباطلة، ومن المعلوم لمن قرأ دين المجوس أنهم هم الذين يعتقدون في أحد أنبيائهم أنه مخلوق من النور، وأن نوره من نور الله، وأنه خلق قبل المخلوقات، فاتبعنا في ذلك من كان قبلنا -والعياذ بالله- أما رسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما من عاقل من مسلم أو كافر إلا ويعلم أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إلى آخر النسب المعروف، وأن أمه فلانة، وأنه ولد في مكة، وإذا قلت له: أنه وجد قبل نوح، أو بين عيسى وموسى، يقول لك: لا إنما وجد بعد عيسى، فكيف يكون إذاً أول المخلوقات؟

    فهذا كلام كل العقلاء في العالم، لكن من شروط أصحاب الخرافة والغلو والضلالة عندهم حتى تكون خرافياً أن تلغي عقلك أولاً، فلو استخدمت العقل فلن تخرف أبداً، فأي واحد يستخدم عقله لا يخرف، فإذا قلت له: لماذا يحتفل بالمولد، ومولد من هو؟

    يقول لك: مولد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولماذا؟

    لأنه ولد في هذا اليوم فنحن نحتفل بهذا اليوم، ومتى؟

    قال في عام الفيل. فنقول له: أثناء كلامك في الموالد أنت تقول إنه خلق قبل الكائنات، وأنت تحتفل في ذكرى ميلاده أنه في عام الفيل، أليس في هذا تناقض؟!

    لو كانت هناك عقول تفكر. فالمسألة ليست داخلة تحت نطاق العقل، بل قد خرجت من نطاق العقل إلى نطاق الخرافة، والإنسان إذا ألغى عقله فإنه لا يحده حد من الاعتقادات الباطلة والخيالات الكاذبة.

    الجواب على من يقول: ليس كل بدعة ضلالة

    السؤال: كيف نرد على الذين يقولون: ليس كل بدعة ضلالة؟

    الجواب: الردود كثيرة وليست رداً واحداً، وحسبك في كل بدعة أن تعلم من أوجدها، ومتى أسست؛ لتعرف هل فعل ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم لا، فأي دليل يريده هذا الذي يجادل ويخاصم والذين يكذبون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {كل بدعة ضلالة} فـ(كل) لفظ كلي، فمن قال: إن بعض البدع حسنة فقد أخطأ، فإذا أتينا إلى الفصل -مثلاً- وقلنا: كل الطلاب حاضرون، ثم قال بعض الإخوان: لا، بعض الطلاب لم يحضروا، أليس هذا نقضاً للكلام الأول؟

    فإذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل بدعة ضلالة، ثم يأتي من يقول لا هناك بدعة حسنة، ويستدل بأدلة قياساً أو إما استحساناً، فيلتمس وينتحل من الأدلة التي لا دلالة فيها لقوله ليعارض بذلك وليكذب الدليل الصريح القطعي الذي كان يكرره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبه، وهو: كل بدعة ضلالة، فهو يقر أن هذه عملت بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقرون لكنه يتحمل لها أدلة أخرى، وهذا هو حال أهل البدع، نسأل الله أن يعافينا وإياكم.

    واعلموا بأننا لم نكلف بأن يهتدي أهل البدع ولا أهل الشرك، ولا يقل أحدكم تعبت معهم فلم يهتدوا، وإنما أمرنا أن نقيم الحجة عليهم، وأن ندعو إلى الله وأن نبلغ الحق، وإلا فرسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أحد أبلغ منه ولا أحد أنقل للدعوة منه ولا أفضل من صفاته وأخلاقه، مع ذلك فقد كفر به من كفر، وكذبه من كذبه،حتى قاتلوه في بدر وفي الأحزاب وغير ذلك، فنحن ليس علينا إلا البلاغ، فإذا كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه البلاغ فقط، فنحن من باب أولى علينا ذلك، وليس علينا أن يقتنع أولئك، وشبهاتهم لن تنقضِ؛ لأن الدافع لهم ليس الدليل، وإنما مرض في القلب لن ينتهِ إلا إذا تابوا، فمرض القلب دائماً يبحث ويتنقل من دليل إلى دليل، ومن شبهة إلى شبهة حتى ولو لم يجد شيئاً، نسأل الله أن يعافينا وإياكم.

    كيفية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

    السؤال: لقد نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته عن اتخاذ القبور مساجد فكيف رضي السلف بأن يدخلوا قبره في مسجده، خصوصاً أن ذلك فتح باباً لم يسد إلى الآن؟

    الجواب: إدخال القبر في المسجد حدث في زمن قرب المائة أو بعد الثمانين من الهجرة، وهو لم يدخل في الحقيقة وإنما أدخلت حجرات أمهات المؤمنين، وبقي القبر محاذياً، ثم مع الزمن توسع المسجد وصار من حوله فراغات، ومع الزمن وضعت عليه قبة، وهكذا تدرج الأمر كحال غيره من الانحرافات التي وقعت فيها الأمة، فهذا لم يقره السلف الصالح، وإذا أردتم تفصيل ذلك فأقرءوا كتاب الجواب الباهر لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، فإنه تحدث في هذا الموضوع وأفاد وأجاد رحمه الله.

    وعلى أية حال فإن كل تغيير حادث يتنافى مع ما أمر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن محبتنا له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإيماننا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوجب علينا أن نغير ذلك وألا نقره، لكن الأمر حدث بتدرج وحصل بملابسات، وإن فتح باباً لأهل الأهواء لكن الأمر لا يقتضي وقوع ذلك، ولكنهم يتلمسون أن يدخلوا من أي باب، وكتاب الجواب الباهر فيه الغنية.

    حكم تخصيص ليلة إسبوعية لدراسة السيرة

    السؤال: هل هناك فرق بين تخصيص ليلة أسبوعية لقراءة ودراسة سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين عمل مولد كل أسبوع أو شهر، دون تقيد بزمان يعتقد فيه فضل معين له؟

    الجواب: عمل مولد، سواء جعلناه مرة في السنة أو مرة في الشهر أو مرة كل يوم، فهذه الكلمة في ذاتها تشعركم وتدلكم على أن الأمر بدعة، لأنه لم يأت هذا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن الصحابة، لكن لو أردنا -مثلاً- درساً في الحديث أو درساً في السيرة، فهل الدروس وطلب العلم بدعة، أو تحديدها بيوم معين بدعة؟ هذا ليس فيه شيء، بل كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في صحيح البخاري يحدث كل خميس، وكان يقول: [[أكره أن أملكم فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتخولنا بالموعظة]] فهذا لا يدخل في البدع، فإذا أردنا أن نعلم الناس في المسجد ونقرأ عليهم سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعرفهم بسننه وآدابه وشمائله الكريمة، فلا بأس سواء أكان يوماً أم يومين أو في أي وقت، بل كل ما استطعنا إلى ذلك، بل نقول: إن مما يجب على الأمة الإسلامية أن تجعل سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مادة إجبارية في جميع مراحل التعليم ولا نقيد ذلك ونقول: حسب الإمكانيات! ويجب على كل المسلمين أن يتعلموا ما استطاعوا من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته وآدابه.

    وبهذه المناسبة يوجد أناس يقولون: لا بد أن نعلم أولادنا محبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واقترحوا يوماً في السنة في المدارس الابتدائية لذكرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولتعلم سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وظنوا أنهم جاءوا بجديد وأنهم عظموا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -نعوذ بالله من الانتكاس- إذا انتكس عقل الإنسان وانتكس إيمانه، فأصبحت محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنده وغاية طلبه أن يجعل يوماً في السنة لذلك، مع ما في ذلك من مضاهاة لأهل البدع في المولد، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: {البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي} فبالله عليكم! أي بخل تصفون به من يقول نخصص للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً من السنة في المدارس؟ فهذا هو أبخل البخل، نحن نقول لو طالبت أو طالب أي إنسان أن تكون مادة السيرة يومياً لقلنا هذا موضوع قابل للدراسة، ونرجو من المدارس أن تحققه، ثم يجب أن نذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاتنا ونصلي عليه، ونذكره إذا سمعنا الأذان، ونذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخلنا المسجد، نذكره في أوقات كثيرة غير ما ورد من ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المطلق، بل يكون ذكره صلى الله عليه وسلم بالامتثال بسنته -فمثلاً- إذا رأيت شاباً مؤمناً يتمثل في مظهره سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنك تذكر في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رأيت القرآن تذكرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه هو الذي جاءنا بهذا القرآن، فمتى يغفل المؤمن عن ذكرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى نقول: يكون له يوم في السنة.

    فيجب علينا أن تكون محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تملك شغاف قلوبنا، وكل أمر من أمورنا نزنها بميزانه، ونطبقه على سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكون تذكرنا له في الحقيقة في كل وقت، وفي كل عمل، فإذا نظرت في الشارع إلى امرأة فأتذكر أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرني أن أغض بصري فأغضه، وإذا سمعت صوتها فأتذكر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن أن أسمع صوت النساء، وهكذا في كل أمر من الأمور أجد أنني ملزم باتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومقتدياً به فيه.

    وحسبنا الله ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون، وأسأل الله أن يكتب لنا الأجر، ولعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتيح لنا فرصة أخرى فنجيب على بعض الأسئلة أو نتحدث عن هذا الموضوع، فإننا لم نوف محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقها، مهما قلنا ومهما تحدثنا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756364987