إسلام ويب

كيف تقوي إيمانك؟ (2)للشيخ : نبيل العوضي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإيمان أساس الدين، فلا تقبل الأعمال إلا به، كما أن مراتب الدين الأخرى مبنية عليه. وإن الذين تتشبع قلوبهم بالإيمان، تتوثق صلتهم بالله سبحانه، فلا يأبهون بما سوى ذلك من إغراءات وقوى في هذه الأرض، ويطمئنون في الدنيا والآخرة، فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون. وهنا بحث في علامات ضعف الإيمان، وكيفية تقويته، وأهمية ذلك، مع بعض الفوائد والقصص المتفرقة في ثنايا هذه المادة.

    1.   

    علامات ضعف الإيمان

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه وبعد:

    نتكلم -أيها الإخوة- عن أعظم أمرٍ يحتاجه الإنسان ويطلبه في الدنيا: إنه موضوع الإيمان، وبعض مظاهر ضعفه في الناس، ثم كيف يرفع الإنسان إيمانه؟ كيف يعالج إيمانه؟ كيف يزيد إيمانه؟ لأن من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص، وقد ينقص إيمان الإنسان وهو لا يشعر، فمن الأسباب:

    النظر إلى من هو ضعيف الإيمان

    أن ينظر الإنسان إلى من حوله، هل الناس يضعفون مثله، فيظن أنه على خير، أو أن الكل ضعيف في الإيمان، فيظن أنه قوي الإيمان!

    تجده يُصلي ثلاث أو أربع صلوات في المسجد وبعض الناس لا يصلي في المسجد إلا صلاتين أو ثلاث صلوات، فيظن أنه قوي الإيمان، أو تراه يأتي صلاة الفجر بعد الإقامة، فيظن أن إيمانه قوي؛ لأن بعض الناس لا يصلوا الفجر أصلاً، وهذا أمر عظيم جداً سوف نتكلم عنه، ولعلَّ الكلام لا ينفع إذا لم يتبعه عمل، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:18].

    دخل أبو بكر رضي الله عنه مزرعة أحد الأنصار فوجد فيها طيراً يطير، فخرَّ على ركبتيه يبكي، فقيل له: لماذا رحمك الله؟ قال: [نظرت إلى الطير يطير على الشجر، ويأكل الثمر، ثم يموت ولا حساب ولا عقاب، يا ليتني أكون طائراً] هذا هو أبو بكر الذي بشر بالجنة.

    وهذه قصة رويت عن عمر وأبي بكر، يقول رضي الله عنه: كُلَّما صلى الفجر خرج من المسجد، يقول: فتبعته -لأن عمر كان ينافس أبا بكر في الخير- يقول: فتبعته، فوجدته يدخل بيتاً في ناحية المدينة، فلما خرج دخلت البيت فإذا امرأة عجوز كسيرة حسيرة عمياء -من يدخل عليها؟ خليفة المسلمين- فقلت لها: من أنتِ؟ ومن هذا الرجل يدخل عليك كل يوم؟ قالت: أنا امرأة عجوز كسيرة حسيرة عمياء، وهذا الرجل الذي يدخل عليّ كل يوم لا أعرفه، يدخل علينا يصنع طعامنا، وينظف بيتنا، ويحلب شياهنا، ثم يذهب، فأخذ عمر يبكي، وخرَّ على ركبتيه يبكي وهو يقول: أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر! أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر.

    كان الحسن البصري يبكي كثيراً -قلوب الأوائل ليست كقلوبنا يا إخوة- كان يبكي كثيراً، فلما قيل له: لماذا تبكي كثيراً يا أبا سعيد؟ قال رحمه الله: [أخاف أن يطرحني الله في النار ولا يبالي].

    بعد كل هذا العمل عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:3-4].

    عدم التأثر بالقرآن أو المواعظ

    من علامات ضعف الإيمان في الإنسان: أنه يقرأ القرآن أو يسمع المواعظ ولا يتأثر؛ تقرأ وتتلى عليه الآيات البينات وهو لا يتأثر، لأن المؤمنين كما قال الله عز وجل عنهم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] إذا كان قلبك لا يوجل فاعلم أنه ضعيف الإيمان.

    كان بعض السلف إذا توضأ الواحد منهم أو أذن المؤذن، كان يصفر وجهه من الخوف، يقول: أتدرون بين يدي من أقف؟ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً [الأنفال:2] يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـابن مسعود: (اقرأ، قال: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري، فأخذ - ابن أم عبد رضي الله عنه- يقرأ ويقرأ حتى دخل سورة النساء، فقرأ قوله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41] قال: حسبك! قال: فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان) يبكي عليه الصلاة والسلام.

    يمر في الليل على الناس، فيسمع عجوزاً تقرأ: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1].. هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] تردد الآية، وهي لا تستطيع أن تكملها، وهو يقول عليه الصلاة والسلام وهو يبكي: نعم! أتاني.. نعم! أتاني.. نعم! أتاني.

    كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم ليلة كاملة بآية يُرددها ويبكي: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118].

    تقول عائشة: (سمعته يبكي في السجود، وهو يقول: أمتي أمتي).

    هذه من علامة ضعف الإيمان! أنك تسمع القرآن فلا تتأثر، تُصلي خلف الإمام ولا تدري ماذا يقرأ؟ بل لعلك تدعو وتستعيذ من النار في السجود ولكن قلبك يُفكِّر في الدنيا.. هذا من علامة ضعف الإيمان.

    أبو بكر رضي الله عنه: انظروا أفضل الناس بعده! أبو بكر، يقول عليه الصلاة والسلام: (مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس، تقول عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر -أبوها- رجل أسيف) لا يتحمل الصلاة، إذا صلى وقرأ القرآن بكى، هذا أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم.

    عمر رضي الله عنه، وما أدراك ما عمر؟

    صلى في الناس صلاة الفجر، فأخذ يقرأ في سورة يوسف، حتى وصل إلى قوله تعالى: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] فتوقف وأخذ يبكي رضي الله عنه حتى بكى الناس من خلفه، هكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

    علي بن الفضيل بن عياض يُقال عنه: إنه كان يُردد الآية عشرين مرة.

    وهذا عمر بن عبد العزيز، قام ذات ليلة من الليالي، فأخذ يقرأ قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1] حتى بلغ قوله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى [الليل:14] فلم يستطع أن يكمل السورة، فأعادها مرة أخرى، حتى وصل إلى قوله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى [الليل:14] فأعاد السورة مرة ثالثة، وأخذ يعيدها ويعيدها، ولم يستطع أن يُكمل السورة، فتركها وقرأ سورة غيرها.

    وورد أيضاً عن أحد السلف أنه كان يقرأ قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ [الأنعام:27] فخرجت روحه، ولم يستطع أن يكمل هذه الآية.. قتلته آية، ولعلَّ الأمر فيه مبالغة، لكن لا نريد هذه السورة إنما نريد من الإنسان -يا إخواني- أن يتأثر.

    علامة ضعف الإيمان أن يقرأ الإنسان كلامه تعالى ... آيات تدك الجبال، قوله تعالى: أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [العاديات:9-11] أتعرف ما في الصدور؟ ما في الصدور مما كنت تُفكِّر من معاصٍ.

    أتعرف ما في الصدور؟

    ما كنت تخفيه بينك وبين نفسك، تعصي وتظن أن الله لا يراك.

    أتعرف ما في الصدور؟

    يُبدى أمام الله عز وجل يوم القيامة، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]. القرآن يا إخوة! تريد أن تعرف علامة أو قوة إيمانك؟ اعرض نفسك على القرآن.. هل تتأثر عندما تقرأ؟

    هل تتأثر عندما تسمع القرآن؟

    هل تتأثر عندما تصلي عند الإمام؟ هل تخشع؟ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23].

    كان عمر بن عبد العزيز يقوم الليل، فأخذ يبكي، فبكى أهله كلهم إشفاقاً عليه، وأبكى الجيران، وفي الصباح سُئِلَ رضي الله عنه: ما يبكيك رحمك الله؟

    فقال: كنت أقرأ قوله تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، وتفكرت! فكنت لا أدري إلى أيهما أصير؟ هل أنا من فريق الجنة، أم من فريق السعير؟

    بل تقول زوجته فاطمة: كان ينتفض من فراشه كما ينتفض العصفور، فَيُصلي فيبكي حتى تقول عنه زوجته: كنت أظن أن روحه سوف تخرج منه فيُصرع، ثم يقوم فيصلي، فيبكي حتى تكاد روحه تخرج منه، تقول: وهكذا يبكي حتى يسمع أذان الفجر، ثم يذهب إلى الصلاة.. انظروا إلى حالهم! أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].

    والله لو أنزل القرآن على جبل لتصدع فما بال هذا القلب! إنها الذنوب.

    أيها الأخوة! أصبح الواحد منا يقرأ القرآن وكأنه يقرأ جريدةً، بل لو سمع قصة لتأثر، أما حين يسمع أحسن القصص فلا يتأثر، لو سمع عن عدو لخاف، أما حين يسمع عن عذاب الله فلا يخاف، يسمع عن النار: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23] إذا سمع آيات العذاب وآيات الوعيد، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] هكذا المؤمن إذا سمع: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً [النبأ:21] اقشعر الجلد! لا يتحمل هذه الآيات .. يخاف، ثم بعد قليل: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً [النبأ:31] يلين الجلد، ويهدأ القلب ويسكن، ويرجو رحمة الله.

    كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام الليل قرأ بسورٍ طويلة -بالسبع الطوال- فإذا مر بآية عذاب استعاذ بالله، وإذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله ... هكذا كان يتفاعل مع الآيات، أما بعض الناس من ضعيفي الإيمان -ونحن منهم نسأل الله العافية- لو تسأله: ماذا صلى الإمام في صلاة العشاء؟ ماذا قرأ! فإنه لا يعرف شيئاً.. منذ متى خلوت بنفسك لتقرأ القرآن وتذكر الله؟ (ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) يبكي من خشية الله.. هل وصلنا إلى هذه الدرجة؟! اعرف إيمانك يا عبد الله.

    كثرة الوقوع في الذنوب والمعاصي

    من علامات ضعف الإيمان: كثرة الوقوع في الذنوب والمعاصي.

    كلما وقع في ذنب قال: صغيرة! وكلما وقع في ذنب قال: الحمد لله! صليت في جماعة إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] يدخل البيت ويفتح التلفاز وهو لا يُبالي ... يستمع إلى الأغاني، يقول: هذه صغيرة ولن تضرني، وإذا مر بالسوق نظر إلى فلانة وعلانة، ويقول: هذه صغيرة، وهذه لا تضر، ثم إذا ذهب إلى بيته جلس يتكلم في فلان، وإذا ذهب إلى المجالس يسمع غيبة في فلان، وينم بفلان، ويتكلم عن فلان، ويستبيح أعراض الناس.

    خل الذنوب صغيرها      وكبيرها ذاك التقى

    واصنع كماشٍ فوق أر     ض الشوك يحذر ما يرى

    لا تحقرن صغيرة      إن الجبال من الحصى

    حتى إذا جاء يوم القيامة: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً [الكهف:49] نظرة نظرتها في السوق لا يغادرها، تلك الليلة عندما فتحت الجريدة لتقرأ الأخبار، فنظرت إلى المرأة، وقلت: صغيرة! تلك الليلة عندما جلست في الغرفة فتحت التلفاز لتستمع إلى الأخبار، وكانت امرأة مُذِيعة، فكنت تنظر إليها، وتقول: أخبار! ذلك المجلس الذي كنت تجلس فيه، وكنت تسمع فيه الغيبة والسخرية والنميمة، وكنت تقول: أنا لم أتكلم، أنا أستمع فقط.

    ذلك اليوم عندما ذهبت إلى السوق لتشتري حاجات، وقابلتك امرأة تبيع وتشتري منها، وأخذت تكلمها وتنظر إليها، وتحادثها، وتضاحكها، وكنت تقول وأنت تحج نفسك فتقول: حاجة وضرورة، أنت مسكين! لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] هكذا ضعيف الإيمان يتهاون في الصغائر، حتى يبلغ به الأمر إلى أن يقع في الكبائر -نسأل الله العافية- إما في الفواحش، أو في الغيبة، أو في عقوق الوالدين، بل لعله يفعل المنكرات العظام، بل يبدأ يجاهر (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) يجلس أمام الناس ويعصي الله ويفعل المنكرات، بل يفتخر أنه فعل كذا وكذا، ويقول للناس: سافرت إلى المكان الفلاني، وفعلت كذا وكذا، فيفتخر أنه كان يعصي الله عز وجل.

    عدم الشعور بالمسلمين

    من علامات ضعف الإيمان: أن الإنسان لا يشعر بغيره من المسلمين، فإذا كلمته عن أحوال المسلمين في دول الغرب -في الدول الشرقية أو الغربية في الشمال أو الجنوب- قال: نحن ما الذي علينا! هذه من علامات ضعف الإيمان، أن الإنسان لا يشعر ولا يُبالي بغيره.

    التكاسل عن العبادات

    من علامات ضعف الإيمان -يا عباد الله- التكاسل عن العبادات.

    في السابق كان أول التزامه أنه كان يصلي في الصف الأول، أما الآن ما باله بدأ يصلي في الصف الثاني أو الثالث أو الصف الأخير.

    ما باله لا يأتي إلا عند الإقامة.

    فلان حاسب نفسك! لا تأتي إلا في الركعة الأخيرة وتظن أنك على خير (لا يزال أقوام يتأخرون عن الصفوف الأول حتى يؤخرهم الله) مسكين! لا يعرف أن من علامات النفاق: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142].

    كان في بداية التزامه كان يوجد في جيبه كتيب حصن المسلم، يقرأ الأذكار في الصباح والمساء، أما الآن ما بالك يا فلان! نسيت أذكار الصباح والمساء.. أين ذكر الله يا عبد الله؟! ما بالك تغيرت، كنت في السابق تفتح المصحف في اليوم: الساعة، والساعتين، والثلاث، ما بالك الآن؟ ما الذي حدث؟ ما الذي جرى يا عبد الله؟

    إنه ضعف الإيمان! كنت ليلة من الليالي تقوم الليل بركعتين، أو أربع، أو أكثر، أو أقل، ما بالك اليوم لا تتذكر قيام الليل إلا في رمضان.

    كنت في السابق تصوم الاثنين والخميس، أما الآن فلا تصوم ولا يوماً واحداً في الشهر، ما بالك يا عبد الله! إنها علامة لضعف الإيمان، وأنت لا تشعر.

    عدم إنكار المنكر

    من علامات ضعف الإيمان: أنه يرى المنكر ولا يتحرك، ولا يتغير، ولا يتضجر، ولا يشمئز.

    يرى المنكرات وكأنها ليست بمنكرات، والله عز وجل يقول عن أولئك الذين ينكرون المنكر: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] لأن من علامة قوة الإيمان إنكار المنكر، أما ضعيف الإيمان فكان في السابق إذا رأى المنكر أغلق التلفاز، إذا رأى منكراً لعله تكلم ونصح؛ وإن لم يستطع فإنه يخرج من هذا المجلس، أما الآن فقد ضعف إيمانه، فتراه ينظر إلى المنكرات، بل لعله يفعلها وهو لا يشعر، يمر في الأسواق فيرى المنكرات وكأنه لا يراها، ينظر إلى المنكرات وكأنها معروفاً، بل يجلس في مجلس فيه منكر، فلا تراه يتغير ولا يتحرك ولا يخرج من هذا المجلس، لأن الإيمان ضعيف كما قال عليه الصلاة والسلام: (وذلك أضعف الإيمان) أتعرفون في من هذا؟

    هذا في الرجل يجلس في المجلس، فيرى منكراً ما، فلا يستطيع أن يُغيِّره لا بيده ولا بلسانه، فمن الضيق الذي في قلبه تراه يخرج من هذا المجلس، وهذا من أضعف الإيمان؛ فماذا نقول في من يجلس يا عباد الله؟!

    ماذا نقول في من يذهب برجليه إلى أماكن المنكرات بل هو الذي يفعل المنكرات؟

    يا إخوة الإيمان! ضعفُ في الإيمان والإنسان لا يشعر، حتى إذا جاء يوم القيامة: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:103-104].

    كان بعض السلف يبكي بُكاءً شديداً عندما يقرأ قوله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].

    1.   

    كيفية علاج ضعف الإيمان

    كيف تحيي الإيمان في قلبك؟ كيف تعالج ضعف الإيمان الذي هو الشاهد من الكلام وهو المقصود من هذه الكلمة؟!

    أولاً يا عبد الله! اعلم أن العمر قصير، ولن يكون لك عمر آخر .

    مضى الدهر والأيام والذنب حاصل      وجاء رسول الموت والقلب غافل

    نعيمك في الدنيا غرور وحسرة      وعيشك في الدنيا محال وباطل

    أبو الدرداء رضي الله عنه عند ساعة الاحتضار، أخذ يبكي وهو يحتضر ويقول لمن حوله: [ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه؟].

    أبو هريرة: وأنتم تعرفون من هو أبو هريرة؟

    لسنا نحن -يا عبد الله- الذين أمضوا أيامهم ولياليهم في طاعة الله، إنه طالب العلم، يقول قبل موته وهو يبكي عندما قيل له: ما يبكيك رحمك الله؟

    قال: [ طول السفر، وقلة الزاد، وضعف اليقين، وخوف الوقوع من الصراط في النار ].

    يبكي قبل الموت، ويقول هذه الكلمات، أما نحن فماذا نقول -يا عباد الله- الذي لا تمر علينا ليلة إلا وننتهك فيه الذنوب انتهاكاً.

    التفكر في الموت

    يا عباد الله! لو كان الواحد منا يُفكِّر في تلك اللحظة، والله لا تراه يتجرأ على النظر إلى امرأة في جريدة، أو على فتح التلفاز إذا كان فيه منكر، أو يذهب إلى أماكن المنكرات، فلو كان يُفكِّر حقاً في تلك اللحظة، يقول الله -تبارك وتعالى- عنها: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ [القيامة:26]*وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:27].

    تخيل نفسك والله عز وجل يُخبر عنك في هذه الآية على فراش الموت، ولعل حولك: أبوك، وأمك، وأبناءك، وزوجتك، لعلهم يبكون عليك، لعل ابنك الصغير قد احتضنك وأنت تحتضر، وهو يبكي، ويقول: أبتاه! ما لك لا تجيب؟! وأنت تنظر إلى ساقك ما بالها تيبس؟! ما بال الساق؟ إنها تبرد: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً [النازعات:1-2].

    بدأ ملك الموت ينتزع الروح وأنت إلى الآن لم ترجع الأمانات إلى أهلها .. إلى الآن لم تتت من تلك المعاصي .. إلى الآن عليك حقوق للناس لم ترجعها .. إلى الآن لم أتب من النوم عن صلاة الفجر .. إلى الآن لم أتب عن المعاصي والذنوب.. إلى الآن يا رب! رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] وقال تعالى: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26-27] ينادي الأب: من يداوي ابني؟ وينادي الولد: من يداوي الأب؟ وتنادي الزوجة: من يداوي هذا الزوج؟ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:27-28] إنه يعلم ومتيقن أنه سوف يُفارق هذه الدنيا .. البيت إلى الآن لم يكمل أثاثه .. والسيارة لم يشترها.. إلى الآن قد حجز التذاكر لكنه لم يسافر .. إلى الآن هو في السنة الأخيرة من الدراسة ولم يأخذ الشهادة .. إنه يستعد للزواج .. إنه ينتظر الولد .. إلى الآن لم يتم نعيمه في الدنيا وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:28-30].

    يقول عليه الصلاة والسلام: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) أكثر -يا عبد الله- فإن الدنيا لا تساوى شيئاً، ملايينك لم تستفد منها شيئاً، والله إن هذه الأموال وهذه الدنيا والبنون والأهلون لن ينفعوك بشيء، فكل شيء يذهب ويبقى العمل الصالح، فعليك أن تتفكر في هذه اللحظة وعندها والله لا تتجرأ على الذنوب.

    التفكر في وقوفك بين يدي الله

    أيضاً -يا عبد الله- تفكر في موقفك بين يدي الله عز وجل، إذا جئت أمام الله:

    مثل وقوفك يوم الحشر عريانا     مستعطفاً قلق الأحشاء حيرانا

    النار تزفر من غيض ومن حنق     على العصاة وتلق الرب غضبانا

    اقرأ كتابك يا عبدي على مهل     انظر إليه ترى هل كان ما كانا

    لما قرأت كتاباً لا يغادر لي     حرفاً وما كان في سر وإعلانا

    نادى الجليل! خذوه يا ملائكتي     مروا بعبدي على النيران عطشانا

    هل تفكرت في تلك اللحظة؟!

    قال الله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمران:30] في تلك الليلة التي أغلقت فيها على نفسك الباب، وأطفأت الأضواء، وفعلت فعلتك التي فعلت، وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه [آل عمران:30] تلك اللحظة التي قالت لك أمك: يا بني! فقلت لها: لا. ذلك الموقف الذي أمرك فيه أبوك فقلت له: لا. تتذكره يوم القيامة تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30] هل تفكرت في هذا الموقف؟!

    محاسبة النفس واستشعار رقابة الله

    يقول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزن عليكم] قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18].

    يا عبد الله! حاسب نفسك الليلة إذا رجعت إلى البيت، وقبل أن تنام، وبعد أن تصلي الوتر، أو تصلي ركعتين، أو تتطهر، أو بعد أن تأتي بأذكار النوم.

    تفكر يا عبد الله! ماذا قدمت لله عز وجل؟! ضع حسناتك في كفة، وسيئاتك في كفة، ثم حاسب نفسك، وانظر أيهما تُرجِّح.

    يا عبد الله! حاسب نفسك! لا تأتِ يوم القيامة وأنت من الذين قال الله فيهم: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:3-4] لا تكن كمن قال الله فيهم: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] قال عليه الصلاة والسلام: (ليأتين أقوام من أمتي يوم القيامة معهم أعمال كجبال تهامة بِيضٌ يجعلها الله هباءً منثوراً، قال ثوبان: من هم يا رسول الله؟) صفهم لنا يا رسول الله؟ جَلِّهم لنا! ألا نكون منهم؟ كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون أن يكونوا من الذين يأتي الله عز وجل بأعمالهم يوم القيامة فيجعلها الله هباءً منثوراً، قال علي: [لو علمت أن الله قبل مني حسنة لاتكلت] حسنة واحدة، لو علمت أن الله قبلها مني لاتكلت عليها، لأن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].

    فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـثوبان ومن معه: (ألا إنهم يصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ويأخذون من الليل كما تأخذون -حتى قيام الليل يقومون لكن ما بالهم؟- لكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) أمام الناس رجل صالح! لكنه بينه وبين نفسه في البيت، إذا جلس في الغرفة ولا أحداً يراه ارتكب المعاصي.. إذا ذهب إلى السوق وليس هناك من يراقبه يفعل ما يريد ... يسافر إلى بلاد الغرب -بلاد الكفر والإباحية- حيث لا أحداً يراه، غريب يفعل ما يشاء أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14] يأتي الله عز وجل بأعماله كلها يوم القيامة، بل إذا رأى جهنم يوم القيامة تزفر، يتذكر كل أعماله في الدنيا .. يتذكر ذنوبه كلماته .. خطراته قدميه، إلى أين مشت؟ كما قال الله عز وجل: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:23-24] يقول طالب العلم: يا ليتني تكلمت في الناس! ويقول صاحب العلم: يا ليتني أنكرت المنكرات! يا ليتني تكلمت! ما بالك يا طالب العلم؟! يمنعك الخجل.. يمنعك الحياء.. يمنعك الجهل.. يمنعك الخوف.

    ما بالك يا عبد الله لم تقم المقام الذي أمرك الله به .. في مجلس من المجالس ويستهزأ فيه على الله ويُتكلم فيه على الدعاة والمصلحين وأنت ساكت! تتذكر هذا الموقف يوم القيامة، فتقول: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24] يا ليتني! تكلمت ولم أبال بالناس! يا ليتني أنكرت المنكرات! يا ليتني تكلمت في الناس ونصحت ولم أبال بكلام الناس! يا ليتني ويا ليتني! يقول ذلك الرجل، بعد أن يأتي يوم القيامة، فينظر إلى ذنوبه، فيتذكر من كان السبب! إنه صاحبه في الدنيا: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي [الفرقان:27-29] يتذكر صاحبه في الدنيا، كان أصحاب الصلاح وأصحاب الخير يقولون له: ائتِ معنا في مجالس الخير .. لنذهب إلى العمرة .. إلى مجالس الخير .. إلى الدروس .. إلى بيوت الله، ولكن صاحب السوء كان يأتيه فيقول له: أنت شاب، تمتع بالشباب .. لا تذهب مع أولئك المعقدين .. لا تذهب مع أولئك المتزمتين المتطرفين، ليس عندهم ضحك، ولا لعب، ولا دنيا، ولا حياة.

    ائت معنا نتمتع بالدنيا.

    يتذكر هذه المواقف يوم القيامة، فيعض لا على إصبعه أو يده فقط، بل يدخل يديه كلتيهما في فمه فيعض عليهما من الندم وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً [الفرقان:27] هذا الموقف -يا عبد الله- إذا تذكرته ازداد إيمانك، وقوي شيئاً قليلاً.

    التفكر في الخسارة الكبرى أو الفوز العظيم

    يا عبد الله! إذا أردت أن يقوى الإيمان عليك أن تتذكر الموقف الثالث، الذي فيه يأمر الله عز وجل بالناس إما إلى الجنة وإما إلى النار، فيأتي الرجل، وتخيل نفسك حين يناديك الله عز وجل يوم القيامة باسمك، وكنت بين الناس في المحشر، بعد خمسين ألف سنة، والشمس تدنو على الرءوس مقدار ميل، والناس قد أنهكهم التعب والحر، فيفصل الله عز وجل بينهم، فينادى بك: أين فلان بن فلان؟ ينادى باسمك فترتعد الفرائص، وتضطرب الجوارح، وتكاد تسقط على ركبتيك فتجرك الملائكة جراً إلى الله .. إلى الجبار .. إلى الملك .. إلى العزيز .. إلى القهار، وأنت تتذكر الذنوب كلها، تتذكر يوم أن نمت عن صلاة الفجر، وتتذكر يوم أخرت صلاة العصر.

    تتذكر يا عبد الله! يوم كان الصالحون يأمرونك بالمعروف وكنت تصد، كنت تقرأ الآيات وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278] ولكنك كنت تصر على الربا، كنت تعرف أن عليك مسئولية أن تأمر بناتك وزوجاتك بالحجاب، ولم تكن تفعل، يُؤتى بك أمام الله يوم القيامة فيذكرك الله عز وجل بالذنوب، فإن كنت ممن تاب وأصلح حاله في الدنيا، يقول الله عز وجل له يوم القيامة، بعد أن يقرره بالذنوب، وبعد أن يقول: (أي ربِّ! هلكت، فيقول الله له: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتابه بيمينه، فيذهب إلى الناس، فيقول لهم: هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20]) يذهب ليبشر الناس، يقول: انظروا إلى كتابي! انظروا إلى صحيفتي! انظروا إلى مجالس الخير! انظروا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! انظروا إلى قيام الليل .. إلى صيام النهار .. إلى الصدقة .. إلى البذل .. إلى المعروف .. إلى الإحسان إلى الناس .. إلى العمرة تلو العمرة .. إلى الجهاد في سبيل الله .. انظروا!

    أمَّا إن كنت من الصنف الآخر -فنسأل الله العافية والثبات- فيقال له بعد أن يقرره بذنوبه: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة:30] إنها علامة الرسوب لا عمر آخر، ولا حياة أُخرى، ولا رجوع إلى الدنيا، وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا [السجدة:12] بعد أن يُقِر بالذنوب، يقول: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا [السجدة:12] ماذا يريد الآن؟ فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12].

    يا رب! أرجعنا إلى الدنيا نعمل الصالحات!

    يا رب! أرجعنا فوالله إنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فلا يفارق بيت الله! ليظل ساجداً إلى أن يموت، والله لا يبقي فلساً واحداً في جيبه إلا ويتصدق به! يتمنى كل هذا، ولكن: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32] كما قال الله عز وجل: يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ [القمر:48] فعندما يقترب من النار، فإذا بالنار قد فتحت أبوابها، فيدخل إلى جهنم فإذا هي سوداء تزفر وتنادي فتقول: هَلْ مِنْ مَزِيد [ق:30] ماذا ينظر؟ إنه ينظر إلى أصحابه في النار، إلى رفقائه في الدنيا ينظر إليهم وهم في النار، كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الأعراف:38] ينظر إلى رفقائه فيقول: يا رب! هو الذي أضلني.

    يا رب! كان يأخذ بيدي إلى الأسواق.

    يا رب! كان يقول لي: اذهب معنا لنسافر إلى بلاد الغرب لنفعل ونفعل، كان يقول لي: إياك أن تذهب مع الصالحين، أو أن تذهب إلى المساجد، كان ينهاني عن الطاعة ويأمرني بالمعصية، [عجبت للنار كيف نام هاربها، وعجبت للجنة كيف نام طالبها].

    كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تذكروا تلك المواقف، كما قال الله عز وجل عنهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] لا ينام أحدهم الليل عندما يتذكر النار، أو يتذكر الوقوف أمام الله عز وجل، أو يتذكر موقفه عند الاحتضار، أو يتذكر ذلك الموقف إذا خرج من قبره والناس يخرجون من أسفل منه، يخرجون من القبور للعرض أمام الله عز وجل، فيتذكر هذه المواقف.

    كان أحدهم لا ينام الليل، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة:16] يقوم أحدهم الليل! لماذا يا إخوان؟ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].

    التزود من التقوى وعدم الإسراف في اللهو والضحك

    دخل عليه الصلاة والسلام على أصحابه وقد أسرفوا في الضحك، فقال لهم: (لو تعلمون ما أعلم! لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رءوسهم ولهم خنين) أخذوا يبكون.

    أما نحن فيُقرأ علينا القرآن في رمضان كله من أوله إلى آخره والقلب لا يخشع .. دمعة واحدة لا تنزل .. لا نتأثر .. لا نتغير .. لا نتدبر!! على قلوب أقفال، نسأل الله العافية.. ما الذي أقفلها؟ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] النظرات .. الكلمات .. الخطرات .. الأفعال!! الذنوب والمعاصي أماتت القلوب حتى أصبحت لا تتأثر بكلام الله ولا بآيات الله، الواحد منا يذهب إلى جنازة، ويحملها على كتفه، بل يمر في جنازة، ويمر بين القبور وكأنه يمر بين الصخور، يذهب إلى الجنازة فيخرج وهو يضحك.

    قال الحسن البصري لأحدهم بعد أن مر في جنازة: [لو أن هذا رجع إلى الدنيا ماذا كان يتمنى؟ قال: أن يُصلي ركعتين، قال: فإن لم يكن هو فكن أنت يا عبد الله].

    يا عبد الله! كل يوم يقبض الله روحك وأنت نائم ثم يرجعها إليك، ومع هذا تقوم من نومك، فتقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، ثم لا تتوب، ولا تتفكر! آيات وعبر.. كم من صاحب لك قد فارق الدنيا؟!

    كم من قريب لك قد فارق الدنيا؟!

    اقرءوا الجرائد تجدون صغار السن والشباب -الآن- يموتون أكثر من الكبار.

    يا عبد الله! والله لا تأمن على نفسك أن تخرج من البيت فتركب السيارة أن تنزل منها، بل لا تأمن على نفسك أنك إذا نمت أن تستيقظ، بل لا تأمن على نفسك الآن أن ترجع إلى البيت، بل لا تأمن على نفسك الآن أن تخرج من هذا المجلس، بل لا تأمن على نفسك أنه إذا خرج نفسك أن يرجع إليك.

    تزود من التقوى فإنك لا تدري     إذا جنَّ ليلٌ هل تعيشَ إلى الفجر

    فكم من فتى أمسى وأصبح لاهياً     وقد نُسجتَ أكفانه وهو لا يدري

    وكم من صغار يرتجى طول عمرهم     وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر

    وكم من عروسٍ زينوها لزوجها     وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر

    1.   

    بعض قصص التائبين

    ختاماً يا عبد الله! اسمع إلى هذه القصة: (جاء رجل كبير في السن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سقط حاجبه على عينيه من كبر سنه، وهو متكئ على عصا، فقال: يا محمد! إن لي ذنوباً لو وُزِّعت على أهل الأرض لأهلكتهم فهل لي من توبة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: إذاً يبدلك الله بها حسنات -الله أكبر! السيئات كلها تنقلب إلى حسنات- فقال الرجل: وغدراتي وفجراتي؟ قال: يُبدلك الله بها حسنات، فولَّى الرجل وهو يقول: الله أكبر الله أكبر) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135] فاحشة: أي كبيرة من الكبائر أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135] أي: صغيرة من الصغائر، ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135] تَذَكَّر الذنوب وتَذكَّر رحمة الله، فتاب ورجع إلى الله ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:135] بشرط: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] بشرط -يا عبد الله- أنك بعد هذا المجلس لا تصر على الذنوب والمعاصي.. لا تصر على نظرك إلى النساء، أو استماعك للأغاني، أو النوم عن صلاة الفجر، أو الغيبة والنميمة، أو بعض المعاصي التي تعرفها ولا يعرفها غيرك من الناس، لا تصر على الذنوب والمعاصي فهو شرط من شروط التوبة، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح من طريق أبي بكر رضي الله عنه: (ما من رجل يذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر، فيصلي ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، إلا غَفَرَ الله له ذنبه)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (لا يحدث بهما نفسه) أي: يصلي ركعتين فيخشع فيهما ويتدبر، ويتوب إلى الله عز وجل من هذا الذنب (إلا غفر الله عز وجل له ذنبه) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:70].

    يُروى أن رجلاً كان يفعل المنكرات والمعاصي، وكان يشرب الخمور، وكانت عنده جارية تعني وغلام يعزف، وكان عند هذا الرجل قارب، وفي يوم من الأيام أرد أن يركب القارب ليتعدى النهر إلى الضفة الأخرى، فرأى شاباً عند ضفة النهر، أراد أن يعبر النهر، فقال: اركب معي، وكان هذا الشاب صالحاً فركب معه، وفي الطريق، بعد أن أكل الرجل الطعام وكان غنياً ثرياً، وأكل معه ذلك الغلام، أمر العبد والأمة أن يعزفا ويغنيا له، فبعد أن انتهيا من الغناء والعزف وشرب الخمر، قال لذلك الشاب: هل عندك مثل هذا؟ أي: مثل هذه الأغاني والعزف والطرب، قال: نعم، عندي أحسن من هذا، فظن الرجل أنه سوف يغني له، فأخذ يقرأ كلاماً من آيات الله عز وجل حتى إذا انتهى من قراءته، قال: حسبك! فشهق ذلك الرجل شهقة خرجت بها نفسه -الرجل الغني، صاحب الأغاني، صاحب الطرب- تاب إلى الله توبة خرجت بها نفسه، ويقال: إن المرأة -الجارية- تابت توبة نصوحاً، فأخذت تقوم الليل في كل ليلة، حتى وصلت إلى سورة الملك ففاضت روحها إلى الله عز وجل.

    توبة يا عبد الله صادقة! إذا أردت أن تتوب فاعزم من الآن أنك إذا رجعت إلى البيت أن تترك جميع المعاصي والذنوب، كف عن الذنوب صغيرها وكبيرها، لا تقل: عندما يأتي رمضان، أو عندما أحج إن شاء الله، أو عندما أتزوج، أو عندما أترك هذا العمل أو أترك هذه الوظيفة بعد ذلك أتوب! لا يا عبد الله، لا تأمن على نفسك الموت، لا تأمن على نفسك أن تخرج روحك وأنت على هذه الذنوب والمعاصي.

    بادر بالتوبة .. بادر بالرجوع إلى الله عز وجل، واعلم أنك سوف ترجع إلى ربك الذي يفرح بعبده العاصي إذا رجع إليه، طالما أذنبت وعصيت والآن يفرح بك.

    الله أكبر! ما أرحمه، وما أوسع مغفرته تبارك وتعالى، وما أرأفه بعباده، إذا عصيته ثم رجعت فرح بك بل أشد مما يفرح ذلك الرجل الذي أضاع ناقته ودابته وعليها طعامه وزاده، وأيقن بالموت ثم رجعت إليه، ففرح فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح، الله أفرح بعبده إذا رجع إليه من هذا الرجل بدابته.

    أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756277192