إسلام ويب

كشف الكربة عند فقد الأحبةللشيخ : علي عبد الخالق القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ما خلق الله الخلق في الدنيا إلا ليعبدوه، وما مشى على وجه البسيطة إلا مصاب حتى ولو بشسع نعله، ولكل داء دواء، ولكل مصيبة دافع، سواء كان حسياً أو معنوياً.

    ولكن ليحذر أصحاب المصائب من أن تجتمع عليهم المصائب مع وزر الجزع على المصاب.

    فهاك أخي القارئ العديد من وسائل كشف الكرب عند المصائب والمحن؛ التزمها واعمل بها لعل الله ينفع بها .

    1.   

    كل الناس مبتلى ومصاب

    الحمد لله المنفرد بالبقاء والقهر، الواحد الأحد، ذي العزة والستر، لا نِدَّ له فيُبارى، ولا شريك له فيدارى.

    كتب الفناء على أهل هذه الدار، وجعل الجنة عقبى الذين اتقَوْا وعقبى الكافرين النار.

    قدَّر مقادير الخلائق وأقسامها، وبعث أمراضها وأسقامها، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً.

    جعل للمحسنين الدرجات، وللمسيئين الدَّركات؛ فحمداً لك اللهم مفرج الهموم، ومُنفِّس الكروب، ومُبدِّد الأحزان والأشجان والغموم، جعل بعد الشدة فرجاً، وبعد الضيق والضر سعة ومخرجاً، لم يخلِّ محنة من منحة، ولا نقمة من نعمة، ولا نكبة ورزية من هبة وعَطِيَّة.

    نحمده على حلوِ القضاء ومُرِّه، ونعوذ به من سطواته ومكره، ونشكره على ما أنفذ من أمره، وعلى كل حالٍ نحمده.

    ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عدة الصابرين، وسلوان المصابين، الكريم، الشكور، الرحيم، الغفور، المُنزَّه عن أن يظلم أو يجور، الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.

    له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.

    يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويحي الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون.

    ونشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وخِيرته من خلقه وأمينه على وحيه، أعرف الخلق به، وأقومهم بخشيته، وأنصحهم لأمته، وأصبرهم لحكمه، وأشكرهم على نعمه.

    أعلاهم عند الله منزلة، وأعظمهم عند الله جاهاً، بعثه للإيمان منادياً، وفي مرضاته ساعياً، وبالمعروف آمراً، وعن المنكر ناهياً.

    بلَّغ رسالة ربه، وصدع بأمره، وتحمل ما لم يتحمله بشر سواه، وقام لله بالصبر حتى بلَّغه رضاه.

    دعانا إلى الجنة، وأرشدنا إلى اتباع السنة، وأخبر أن أعلانا منزلة أعظمنا صبراً، من استرجع واحتسب مصيبته كانت له ذخراً ومنزلة عالية وقدراً، وكان مقتفياً هدياً ومتبعاً أثراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته الأخيار، وسلم تسليماً كثيراً متصلاً مستمراً ما تعاقب الليل والنهار: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    لا أملك أمام ما سمعت إلا أن أقول: اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.

    أما بعد:

    فإن الله تعالى جعل الموت محتوماً على جميع العباد من الإنس والجان وجميع الحيوان؛ فلا مَفرَّ لأحد من الموت ولا أمان: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] ساوى فيه بين العبد والحر، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، والغني والفقير، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:11].

    فالكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والحازم من بادر بالعمل قبل حلول الفوت، والمسلم من استسلم للقضاء والقدر، والمؤمن من تيقَّن بصبره الثواب على المصيبة والضرر.

    أيها الأحبة: كُرُب الزمان وفقد الأحبة عموماً مع أخصية الأبناء والأحفاد والآباء خَطْب مؤلم، وحدث موجع، وأمر مهول مزعج؛ بل هو من أثقل الأنكاد التي تمر على الإنسان.

    نار تستعر، وحرقة تضطرم، تحترق به الكبد، ويفت به العضد؛ إذ هو الريحانة للفؤاد، والزينة بين العباد، لكن مع هذا نقول:

    فلرُبَّ أمر محزن     لك في عواقبه الرضا

    ولربما اتسع المضيق     وربما ضاق الفضا

    كم مغبوط بنعمة هي داؤه، ومحروم من دواء حرمانه هو شفاؤه! كم من خير منشور، وشر مستور! ورب محبوب في مكروه، ومكروه في محبوب! وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [البقرة:216].

    لا تكره المكروه عند حلوله     إن العواقب لم تزل متباينه

    كم نعمة لا يُستهان بشكرها     لله في طي المكاره كامنه

    لو استخبر المنصف العقل والنقل لأخبراه أن الدنيا دار مصائب وشرور، ليس فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بكَدَر؛ فما يُظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب، وعمارتها -وإن حسنت صورتها- خراب، والعجب كل العجب مِمَّن يدُه في سلة الأفاعي كيف ينكر اللدغ واللسع؟!

    وأعجب منه من يطلب ممن طُبع على الضر النفع.

    طُبعت على كدر وأنت تريدها     صفواً من الأقذار والأكدار

    إنها على ذا وضعت، لا تخلو من بلية ولا تصفو من محنة ورزية، لا ينتظر الصحيح فيها إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود إلا العدم، على ذا مضى الناس؛ اجتماعٌ وفرقة، وميتٌ ومولود، وبِشْرٌ وأحزان:

    والمرء رهن مصائب ما تنقضي     حتى يوسد جسمه في رَمسِه

    فمؤجل يلقى الردى في غيره     ومعجل يلقى الردى في نفسه

    هل رأيتم، بل هل سمعتم بإنسان على وجه هذه الأرض لم يُصَبْ بمصيبة دقَّت أو جلَّت حتى في قطع شسع نعله؟ الجواب معلوم: لا. وألف لا، ولولا مصائب الدنيا مع الاحتساب لوردنا القيامة مفاليس، كما ورد عن أحد السلف:

    ثمانية لابد منها على الفتى     ولابد أن تجري عليه الثمانيه

    سرور وهمٌّ واجتماع وفرقة     ويُسْر وعسر ثم سقم وعافية

    1.   

    وسائل كشف الكربة

    أحببت أن أجمع هذه الكلمات اللطيفة في كشف كرب من أصيب بمصيبة، عَنْوَنْتُها بعنوان كتاب في هذا الموضوع هو: كشف الكربة عند فقد الأحبة راجياً من الملك الديَّان أن ينفعني بها وسائر الإخوان، وأن يجعلها تذكرة لأولي الألباب، وتسلية وعزاء لكل مؤمن محزون مصاب، تشرح صدره، وتجلب صبره، وتهون خطبه، وتخفف أمره، ويلحظ بها ثوابه على الصبر وأجره.

    والله تعالى هو المسئول أن يجعل لي ولها القبول، لا رب غيره، ولا إله سواه، هو المأمول، وأحتسب عند الله ثواب من تسلى بهذه الكلمات، وأسأله الدعاء بأن يثبتني الله في ساعة فقري وحاجتي، وألاَّ يحرمني ثواب هذه الكلمات؛ فالمُصاب -حقاً- من حُرِم الثواب، نفع الله بها وأثاب، إنه الكريم الوهاب.

    اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً.

    من وسائل كشف الكربة: التأمل والنظر في الكتاب والسنة

    مما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: التأمل والتملي والتدبر والنظر في كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففيهما ما تقرُّ به الأعين، وتسكن به القلوب، وتطمئن له -تبعاً لذلك- الجوارح مما منحه الله ويمنحه لمن صبر ورضي واحتسب من الثواب العظيم والأجر الجزيل؛ فلو قارن المكروب بين ما أٌخذ منه وما أعطي لاشك أنه سيجد أن ما أُعطيَ من الأجر والثواب أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، ولو شاء الله لجعلها أعظم وأكبر وأجلَّ، وكل ذلك عنده بحكمة، وكل شيء عنده بمقدار.

    فلنقف -أيها الأحبة- مع آية في كتاب الله جل وعلا، وفي أول سورة في كتاب الله جل وعلا، وكفى بها واعظاً، وكفى بها مسلية، وكفى بها كاشفة للكروب. قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]. إنا لله وإنا إليه راجعون، علاج من الله عز وجل لكل من أصيب بمصيبة دقيقة أو جليلة؛ بل إنه أبلغ العلاج وأنفعه للعبد في عاجله وآجله؛ فإذا ما تحقق العبد أن نفسه وماله وأهله وولده ملك لله عز وجل، قد جعلها الله عنده عارية؛ فإذا أخذها منه فهو كالمعير يأخذ عاريته من المستعير؛ فهل في ذلك ضيْر؟! لا والذي رفع السماء بلا عَمَدٍ.

    ثم إنما يؤخذ منك -أيها العبد- المُصاب المُبتلى محفوف بعدميْن، عدم قبله؛ فلم يك شيئاً في يوم من الأيام، وعدم بعده؛ فكان ثم لم يكن؛ فمُلْكُك له متعة مستودعة في زمن يسير، ثم تعود إلى مُعيرها وموجدها الحقيقي سبحانه وبحمده: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62].

    فمصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، لابد أن يُخَلِّفَ الدنيا وراء ظهره يوماً ما، ويأتي ربَّه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا عشيرة ولا مال، ولكن بالحسنات والسيئات، نسأله حسن المآل.

    هل علمت هذا أخي المصاب المكروب؟

    إن علمت حقاً؛ فكيف الفرح الزائد بمتاع الدنيا أيًّا كان؟ ثم كيف الأسى على أيِّ مفقود أيّاً كان؟ يكفيك من ذلك تفكيرك في بداية العبد ونهايته علاجاً وبلسماً لكل همٍّ وغمٍّ وكرب، ومعها: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) فهي الصلاة والرحمة والهدى، ونعم العدلان ونِعْمَتْ العلاوة!

    فهم ذلك السلف حقَّ الفهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- فاسمع لأحدهم وهو عبد الله بن مطرف يوم مات ولده، فقال: والله لو أن الدنيا وما فيها لي، فأخذها الله عز وجل مني، ثم وعدني عليها شربة من ماء لرأيتها لتلك الشربة أهلاً؛ فكيف بالصلاة والرحمة والهدى؟

    إذا ما لقيت الله عني راضياً     فإن شفاء النفس فيما هنالك

    ثم اسمع معي بعض أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ففيها الدواء لما بك من الكروب والأشجان والهموم والأحزان، إن وعيتها كشف الكرب وكأنه ما كان.

    يروي مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: [[سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها؛ إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها } قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: ومن خير من أبي سلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم عزم الله عليَّ، فقلتها -فما الخلف؟- قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خير من رسول الله؟!]].

    صلى عليه الله جل جلاله     ما لاح نور في البروق اللُّمَّع

    وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هم ولا حزن ولا أذىً ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفَّرَ الله بها خطاياه}.

    وفي صحيح ابن حبان عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: {سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل؛ يُبتلى الناس على قَدر دينهم؛ فمن ثَخُنَ دينه اشتد بلاؤه، ومن ضَعُف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس وما عليه خطيئة}. وفي سنن الترمذي : {ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة}.

    وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار إلا تحلة القسم} يشير لقول الله -عز وجل-: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72].

    وأخرج مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: {أَتَتْ امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصبي لها، فقالت: يا رسول الله! ادعُ الله له؛ فلقد دفنت ثلاثة قبله. فقال صلى الله عليه وسلم: دفنت ثلاثة؟! -مستعظمًا أمرها- قالت: نعم، قال: لقد احتظرت بحظار شديد من النار} أي: لقد احتميت بحمى عظيم من النار؛ فما أعظم الأجر! وما أكمل الثواب! وما أجدر أن يُستعذَب العذاب في طلب مثل هذا الثواب!

    وجاء في الحديث الصحيح -كما في السلسلة الصحيحة - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول -وهو أعلم-: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ قالوا: حمدك واسترجع. فيقول الله جلَّ وعلا: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسمُّوه بيت الحمد} يا لها من بشارة بالموت على الإيمان؛ لأن الله إذا أمر ببناء بيت لأحد عبيده لابد لذلك العبد من سكنى ذلك البيت يوماً من الأيام.

    وروى الإمام أحمد من حديث معاوية بن قرة عن أبيه: {أن رجلاً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟ فقال: يا رسول الله! أحبك الله كما أُحبُّه. فتفقده النبي! فقال: ما فعل ابن فلان؟ فقالوا: يا رسول الله! مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه: أما تحب أن تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عليه ينتظرك؟ فقال رجل: يا رسول الله! أَلَهُ خاصة أم لكلنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل لكلِكم}.

    أيها الأحبة: فهم السلف الصالح -رضوان الله عليهم- ذلك فهماً عميقاً؛ فتمنَّوْا أن يُقدِّموا أولادهم وأحبتهم، ثم يرضوا بذلك ويحتسبوا لينالوا الأجر العظيم من الرب الكريم.

    هاهو أبو مسلم الخولاني عليه رحمة الله يقول: لأن يولد لي مولود يُحسن الله نباته حتى إذا استوى على شبابه، وكان أعجب ما يكون إليّ؛ قبضه الله تعالى مني أحب إليّ من الدنيا وما فيها.

    وكان للمحدث إبراهيم الحربي عليه رحمة الله ابنٌ له إحدى عشرة سنة حفظ القرآن، ولقنه من الفقه جانباً كبيراً، ثم مات هذا الولد، قال محمد بن خلف : فجئت أعزيه، فقال: الحمد لله، والله! لقد كنت على حبي له أشتهي موته، قال: فقلت له: يا أبا إسحاق ! أنت عالم الدنيا تقول ذلك في صبي قد حفظ القرآن، ولقنته الحديث والفقه؟ قال: نعم أو يخفى عليك أجر تقديمه؟ -أو كما قال- ثم قال: وفوق ذلك فلقد رأيت في منامي كأن القيامة قامت، وكأن صبياناً بأيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس، فيسقونهم، وكان اليوم حارّاً شديد حره، قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء. قال: فنظر إليَّ وقال: لست أبي. قال: قلت: من أنتم؟ قال: نحن الصبية الذين مِتْنا، واحتسبنا آباؤنا ننتظرهم لنسقيهم، فنسقيهم الماء. قال: فلذلك اشتهيت موته، والحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

    وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صَفِّيَه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة}. يا له من جزاء! فعندك اللهم نحتسب أصفياءنا وأصدقاءنا وأحبابنا وآباءنا وأمهاتنا، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

    أخي المصاب: أخي المكروب! هذه بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُدِّمَت بين يديْك؛ فلعل لك فيها سلوى، ولعلها كشف لكربتك، ولا أظنك إلا قد سلوت وكشف ما بك؛ فاحمد الله، وأحسن نيتك، واحتسب مصيبتك، وارضَ بما قسم الله لك؛ فلعل لك عند الله منزلة لا تبلغها بعمل؛ فما يزال الله يبتليك بحكمته بما تكره، ويصبرك على ما يبتليك عليه حتى تبلغ تلك المنزلة التي سبقت لك من الله عز وجل فاحمد الله حمداً حمداً، وشكراً له شكراً، ورضاً بقضائه رضاً ولهجاً بـ (إنا لله وإنا إليه راجعون) فهي الصلاة والرحمة والهدى:

    يا صاحب الهم إن الهم منفرج     أبشر بخير فإن الفارج اللهُ

    اليأس يقطع أحياناً بصاحبه     لا تيئسنَّ فإن الكافي اللهُ

    الله يحدث بعد الكرب ميسرةً     لا تجزعنَّ فإن الكاشف اللهُ

    إذا بُليت فثق بالله وارض به     إن الذي يكشف البلوى هو اللهُ

    واللهِ مالك غير الله من أحد     فحسبك الله في كلٍ لك اللهُ

    من وسائل كشف الكربة: تذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم

    ومن وسائل كشف الكربة: تذكُّر المصيبة العظمى بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل مصيبة دون مصيبتنا بموته صلى الله عليه وسلم تهون؛ فبموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وبموته انقطعت النبوات، وبموته ظهر الفساد بارتداد العرب عن الدين؛ فهو أول انقطاع عُرَى الدين أو نقصانه، وفيه غاية التسلية عن كل مصيبة تصيب العبد أو تحلُّ بأمة الإسلام جمعاء.

    وهاهو صلى الله عليه وسلم يطلب منا أن نذكر بمصائبنا موته وفراقه، وبذلك تهون علينا المصائب والخطوب؛ فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه الألباني في السلسلة : {إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي؛ فإنها أعظم المصائب}. إي والله! ما من عزيز أو حبيب أو قريب أو صديق فقدناه إلا وذاق القلب من لوعة فراقه وحرقة وداعه ما الله به عليم؛ فهل شعرنا بشيء من هذا، ونحن نستشعر فراق وموت النبي صلى الله عليه وسلم؟

    ماذا لو فقد الرجل أسرته كلها، وقد احترق فؤاده، وأٌدمي قلبه، وأنبتت دموعه الأسى، ثم تزوج بعد فترة، ثم رزق بأبناء، وعقب سنوات مات أحد أبنائه؛ كيف يكون حزنه وألمه إذا قورن بالمصاب الأول؟ أليس الخطب أهون؟ أليست المصيبة أقل؟ بلى. فهكذا ينبغي أن نعزي أنفسنا كلما أصابتنا المصائب بذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو أعظم المصائب.

    إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما من مسلم إلا وأصيب بموته وفراقه، ويتمنى أن يفتدي رؤيته بالدنيا جميعها، يخاطبنا، فيقول كما في صحيح سنن ابن ماجة : {يا أيها الناس! أيُّما أحد من الناس -أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحداً من أمتي لن يُصاب بمصيبة بعدي أشدَّ عليه من مصيبتي}.

    ولو تأملنا كلمة: فليتعزَّ؛ لوجدنا فيها العلاج والدواء، إنها حروف يُستطبُّ بها الفؤاد، وتُربُّ بها الأكباد.

    ماذا لو فقد الإنسان أبويْه الحبيبيْن في حادث سيارة؟! ألا يظلُّ أثر المصيبة في قلبه مدى الدهر؟!

    إن المصيبة ينبغي أن تعظم إذا سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم -كما روي البخاري ومسلم -: {لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين}. وكأن المعنى بعد هذا النص سيكون: لا يؤمن أحدكم حتى يكون موتي أعظم مصيبة من موت ولده ووالده والناس أجمعين. فأين هذا الإحساس؟! وأين بربكم هذا الشعور؟!

    إن فقْدَ النبي صلى الله عليه وسلم من مصائب الدين، وإن أي إنسان فقدتَه ليهون أمام فقدان النبي صلى الله عليه وسلم.

    يا نفس بعد المصطفى أفتطمعي     في الخلد كلا ما إليه سبيل

    هل فقدت أمك يوماً ما، وتذكرت عند موتها، وأنت تتألم لفقدها أنها -بإذن ربها- أخرجتك من ظلمات البطن إلى نور الدنيا، ورعتك وربَّتك؟ فهل تنسى في خِضَمِّ ذلك الشعور أن الله أخرجك بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى والتوحيد، وهذا -بإذن الله- إنقاذ لك من الخلود في النار؟ فهل بلبن أمك وحنانها وعطفها وعنايتها ورعايتها تُنقَذ من الخلود في النار؟ لا والله؛ فلو كان لكل واحد منا ألف أم بحنان أمِّه وعطفها ومُتْنَ في يوم واحد ما ينبغي أن يُحزن عليهن أكثر من الحزن على موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فإذا فقدت ابنك، فإذا فقدت حبيبك، فإذا فقدت صديقك، فتألمت وبكيت، ثم زاد ألمُك، وزاد بكاؤك، وزادت لوْعتُك بتذكر عونه ومساعدته وعطفه وبرِّه وصلته؛ فاعلم -والله الذي لا إله إلا هو- أن كل ذلك لن يبلغ ما قدمه لك صلى الله عليه وسلم من هدى ونور يدخلك -بعون الله- جنة عرضها السماوات والأرض لتخلد فيها وتُنعَّم.

    نُمتع بعون الأبناء وعطفهم سنوات سرعان ما تمضي، لكن التمتع في الجنة لا نهاية له ولا آخر؛ أفلا يستحق رسول الله صلى الله عليه وسلم منا أن نحزن على موته أكثر ممن سواه، ونتعزَّى به عن فراق من سواه، ونذكره فنتمسك بسنته، ونمضي على شرعته لننعم بعدها في صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟! ولعل من فقدته في ركبهم فعندها يجمع الله الشتيتيْن.

    أيها المصاب: تذكر هذا جيداً لتحس بمصيبة فقده صلى الله عليه وسلم؛ فتهون مصيبتك، ثم تساءل: ماذا لولا ما حباك الله به من هديِه وسنته؟ ماذا لو دخلت النار -أجارك الله-؟ ماذا لو حُرمت الجنة -أعاذك الله-؟ ماذا لو عُذِّبت في القبر -حماك الله-؟ من الذي ينفعك؟ وما الذي ينقذك؟! الأحباب؟! الأصحاب؟! الأبناء؟! الأحفاد؟! لا والله، إلا الإخلاص في اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فاصبر لكل مصيبة وتجَّلدِ     واعلم بأن المرء غير مخلدِ

    واصبر كما صبر الكرام فإنها     نُوَبٌ تنوب اليوم تُكشَف في غد

    أوَما ترى أن المصائب جمة     وترى المنية للعباد بمرصدِ؟

    من لم يُصب ممن ترى بمصيبة     هذا سبيل لست عنه بأوحدِ

    فإذا ذكرت مصيبة ومصابها     فاذكر مصابك بالنبي محمد

    صلى الله عليه وسلم.

    من وسائل كشف الكربة: العلم بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه

    ومن وسائل كشف الكربة: أن يعلم المكروب المصاب علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:22-23] إن من تأمل هذه الآية وتدبرها وجد فيها شفاء وتبديداً لجميع الكرب والأدواء: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].

    كم من عليلٍ قد تخطاه الردى     فنجا ومات طبيبه والعُوَّد

    ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله، ولذلك الذين علموا وتدبروا هذه الآيات عرفوا كيفية التعامل مع المُصاب؛ فها هي إحدى المكروبات المصابات تقول -عند مصيبتها بأحد أبنائها-: الحمد لله على السراء والضراء، والعافية والبلاء، والله ما أحب تأخير ما عجل الله، ولا تعجيل ما أخَّره الله، وكل ذلك في كتاب، إن ذلك على الله يسير.

    فما أبرم الله لم ينتقض     وما نقض الله لم يبرم

    ومات ولد لـأنس بن مالك -عليه رحمة الله ورضوانه- فقال أنس -عند قبره-: [[الحمد لله، اللهم عبدك وابن عبدك، وقد رُدَّ إليك؛ فارْأف به، وارحمه، وجافِ الأرض عن بدنه، وافتح أبواب السماء لروحه، وتقبله بقبول حسن ثم انصرف، فأكل، وشرب، وادَّهن، وأصاب من أهله]] ولسان حاله: إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70].

    وكان أبو ذر -رضي الله عنه- لا يعيش له ولد، فقيل له: [[إنك امرؤ لا يبقى لك ولد. فقال: الحمد لله، كل ذلك في كتاب، الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء، ويدَّخرهم في دار البقاء]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.

    وتموت ابنة لـعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وكان راكباً في طريقه إلى مكة ليأتيه الخبر، فنزل عن دابته، وصلى ركعتيْن، ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: [[الحمد لله، وإنا لله، عورةٌ سترها الله، ومئونة كفاها الله، وأجرٌ ساقه الله]] ثم ركب، ومضى في رعاية الله.

    والله يفعل ما يشاء     فَكِلِ الأمور إلى القضاء

    ومات لـعبد الله بن عامر سبعة أبناء في يوم واحد، والأمر -كما تعلمون- مهول ومزعج وفظيع؛ فكيف استقبله هذا الرجل؟ قال: الحمد لله، إني مسلم مُسَلِّم.

    يمضى الصغير إذا انقضت أيامه     إثر الكبير ويولد المولود

    والناس في قسم المنية بينهم          كالزرع منه قائم وحصيد

    وفي سلوة الحزين: يُذكر أن أعرابية فقدت أباها، ثم وقفت بعد دفنه، فقالت: يا أبتِ! إن في الله عوضاً عن فقدك، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصيبتك أسوة، ثم قالت: ربِّ لك الحمد، اللهم نزل عبدك مفتقراً من الزاد، مخشوشنَ المهاد، غنيّاً عمَّا في أيدي العباد، فقيراً إلى ما في يدك يا جواد، وأنت يا رب خير من نزل بك المُرمِلون، واستغنى بفضلك المُقِلُّون، وولج في سعة رحمتك المذنبون. اللهم فليكن قرى عبدك منك رحمتك، ومهاده جنتك. ثم انصرفت راضية محتسبة مأجورة بإذن الله غير مأزورة.

    فإذا ابتليت بمحنة فاصبر لها     صبر الكريم فإن ذلك أسلم

    وإذا ابُتليت بكربة فالْبسْ لها     ثوب السكوت فإن ذلك أسلم

    لا تشكوَنَّ إلى العباد فإنما     تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

    ويقف محمد بن سليمان على قبر ابنه وفلذة كبده بعد ما دفنه قائلاً: كل ذلك في كتاب، الحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم إني أرجوك له، وأخافك عليه. اللهم فحقِّقْ رجائي فيه، وآمِنْ خوفي عليه. حاله:

    أبكيه ثم أقول معتذرا له     وُفِّقْتَ حين تركت أَلأَمَ دارِ

    جاورتُ أعدائي وجاور ربَّه     شتان بين جواره وجوارِي

    يا كوكباً ما كان أقصر عمره     وكذاك عمر كواكب الأسحارِ

    دُرَّتْ عليك من الغمام مراضع     وتكنَّفتْك من النجوم جَوارِي

    فيا أيها المصاب: يا أيها المكروب! المصيبة واقعة؛ فوطِّنْ نفسك على أن كل مصيبة تأتي إنما هي بإذن الله -عز وجل- وقضائه وقدره، فسلِّم الأمر له؛ فإنه كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء أو يضروك بشيء لم ينفعوك ولم يضروك إلا بشيء قد كُتب لك أو عليك، ولو كان لرجل مثل أحد ذهباً ينفقه في سبيل الله لم يقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإن مات على غير هذا أُدخل النار.

    ما قد قُضى يا نفسي فاصطبري له     ولكِ الأمان من الذي لم يقدر

    ثم اعلمي أن المقدَّر كائن     حتماً عليكِ صبرتِ أم لم تصبري

    من وسائل كشف الكربة: الاستعانة بالله على الكربة

    ومما يكشف الكربة: الاستعانة بالله، والاتكال عليه، والرضا بقضائه، والتسليم لقدره.

    روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: {ألا أحدثكم بحديث لا يحدثكم به أحد غيري؟ قالوا: بلى. قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسًا، فضحك، ثم قال: أتدرون مما ضحكت؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! فقال صلى الله عليه وسلم: عجبت للمؤمن إن الله عز وجل لا يقضي قضاءً إلا كان خيراً له}.

    فليعلم المكروب أن حظَّه من المصيبة ما يحدث له؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.

    من رضى بقضاء الله جرى عليه، وكان له أجر، ومن لم يرضَ بقضاء الله جرى عليه، وحبط عمله. فقضاء الله نافذ كالسيف، وأمره واقع لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه، ولكن العبد هو الذي يربح أو يخسر بحسب رضاه أو سخطه.

    جعلنا الله وإياكم من الراضين بقضاء الله وقدره.

    1.   

    قصص لمن سلموا للقضاء والقدر

    ولنعِشْ -أيها الأحبة- مع الراضين دقائق غالية قليلة لنتخذهم قدوة وأسوة ومثلاً، من باب:

    سيروا كما ساروا لتَجْنُوا ما جَنَوْا     وتشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم

    عمر بن عبد العزيز وجلده في المصائب

    قال أبو الحسن المدائني -عليه رحمة الله- دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك في مرضه -رحمهما الله جميعاً- فقال: يا بني! كيف تجدك؟ قال: تجدني -أبتاه- في الموت. قال: يا بني! لأن تكون في ميزاني أحب إليَّ من أن أكون في ميزانك، فقال الابن: يا أبتِ! والله لأن يكون ما تحبُّه أحبُّ إليَّ من أن يكون ما أحبُّه، ثم مات -عليه رحمة الله-.

    ويروي الإمام أحمد في الزهد عن زياد بن أبي حسان أنه شهد عمر -رحمه الله -حين دفن عبد الملك ابنه قد استوى قائماً عند القبر، وأحاط به الناس، فقال: والله -يا بني- لقد كنت بارّاً بأبيك، والله ما زلت مسرورًا بك منذ وهبك الله لي إلى أن استودعتك الله في المنزل الذي صيَّرك الله إليه، فرحمك الله، وغفر ذنبك، وجزاك بأحسن عملك، ورحم كل شافعٍ يشفع لك بخير شاهد أو غائب، رضينا بقضاء الله، وسلمنا لأمر الله، والحمد لله رب العالمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون. ثم انصرف ورجع إلى مجلسه. وكان قبل وفاة عبد الملك قد هلك أخوه سهل -وهو من أحب إخوته- وهلك مولاه مزاحم وهو عزيز عليه، كل ذلك في أوقات متتابعة، فلما استوى في مجلسه جاء الربيع بن سبرة -عليه رحمة الله- فقال: عظَّم الله أجرك يا أمير المؤمنين، ما رأيت أحداً أصيب بأعظمَ من مصيبتك؛ ما رأيت مثل ابنك ابناً، ولا مثل أخيك أخاً، ولا مثل مولاك مولى قط. فطأطأ رأسه عمر -رحمه الله- فقال أحد الحاضرين: لقد هيَّجت عليه، قال: ثم رفع رأسه، فقال: كيف قلت يا ربيع ؟ أعد. قال: فأعدت عليه، فقال: لا والذي قضى عليهم الموت ما أحب أن شيئًا كان من ذلك لم يكن.

    فيا أيها الكون منه استمع     ويا أذن الدهر عنه افهمي

    وروى ابن أبي حاتم بسنده عن خالد بن يزيد عن عياض عن عقبة أنه مات له ابن يقال له: يحيى ؛ فلما نزل في قبره قال له رجل: والله! إن كان لسيد الجيش فاحتسبه، فقال والده: وما يمنعني أن أحتسبه وقد كان من زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات.

    فلله ما أحسن فهمهم! ولله ما أحسن تعزيتهم لأنفسهم وثقتهم بما أعطى الله -عز وجل- من ثواب للصابرين!

    معاذ بن جبل وصبره على الطاعون

    ولا يُنَسى إن نُسي أمرٌ يوم وقع الطاعون بأرض الشام -كما في السير للذهبي- فخطب الناس عمرو -رضي الله عنه- فقال: إن هذا الطاعون رجس؛ ففروا منه في الأودية والشعاب، فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة -رضي الله عنه- فغضب، وجاء يجرُّ ثوبه، ونعلاه في يده، قائلاً: لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسمعوا: [[الطاعون رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، يستشهد الله به أنفسكم، ويزكي أعمالكم]].

    فبلغ ذلك معاذاً -رضي الله عنه، وهو يتوق إلى الشهادة في سبيل الله- فقال: [[اللهم اجعل نصيب أهل بيت معاذ الأوفر منه]]؛ لأنه يعلم أن من أصيب به له مثل أجر الشهيد، فتصاب ابنتاه الاثنتان، وتموتان، فدفنهما في قبر واحد، وحمد الله واسترجع، ثم أصيب ابنه عبد الرحمن -وهو من أعز أبنائه- فقال معاذ لابنه: كيف تجدك؟ قال: أبتاه! الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [آل عمران:60]. فقال معاذ -رضي الله عنه-: ستجدني إن شاء الله من الصابرين. ثم توفي -رحمه الله- ثم أصاب الطاعون كفَّ معاذ -رضي الله عنه وأرضاه- فجعل يقبلها، ويقول: [[لَهِيَ أحب إليَّ من حمر النعم، ثم يُغشى عليه فإذا سرِّيَ عنه قال: يا رب! غُمّ غمك، واخنق خنقتك؛ فوعزتك إنك لتعلم أني لأحبك]] ثم لقي الله جل وعلا بعد أن احتسب أهل بيته جميعاً؛ فما كان إلا الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره.

    وقبل ذلك لـمعاذ يروى عن المعاف بن عمران عن شهاب بن خراش عن عبد الرحمن بن غنم قال: دخلنا على معاذ -رضي الله عنه- وهو قائم عند رأس ابن له، وهو يجود بنفسه؛ فما ملكنا أنفسنا أن ذرفت أعيننا، وانتحب بعضنا، فزجره معاذ ، وقال: [[مه! فوالله لأن يعلم الله برضائي بهذا أحب إليّ من كل غزاة غزوتها، من كان عليه عزيز وبه ضنين، فصبر على مصيبته واحتسب أبدل الله الميت داراً خيراً من داره، وقراراً خيراً من قراره، وأبدل المصاب الصلاة والرحمة والمغفرة والرضوان]] قال: فما برحنا حتى قضى الغلام، فقام فغسله وحنَّطه وكفَّنه وصلينا عليه، ثم نزل في قبره ووضعه، ثم سوَّى عليه التراب، ثم رجع إلى مجلسه، فدعى بدهن فادَّهن، وبكحل فاكتحل، وببردة جميلة فلبسها وأكثر من التبسم -ينوي ما ينوي- ثم قال: [[إنا لله وإنا إليه راجعون، في الله خلف من كل هالك، وعزاء من كل مصيبة، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون]]. لسان حاله:

    كل ما كان من قضاء فيحلو     بفؤادي نزوله ويطيب

    أيها الأحبة: لا زلنا في رياض الراضين بالقضاء نعيش لنعتبر ونتعظ ونسلو ونرضى.

    الفضيل بن عياض ورضاه بالقدر

    يقول أبو علي -رحمه الله- صحبت الفضيل بن عياض -رحمه الله- ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكاً متبسماً إلا يوم مات ابنه علي -رحمه الله-، فقلت: ما هذا؟ قال: إن الله -سبحانه- أحب أمراً، فأحببت أن أحبَّ ما أحب الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

    وضحك أحد السلف يوم مات ابنه، فقيل له: أتضحك في مثل هذا الحال؟! قال: نعم. أردت أن أرغم الشيطان، وقضى الله القضاء، فأحب أن أرضى بقضائه؛ فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    ويشتكي ابن لـعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم- فيشتدُّ وجده عليه حتى قال بعض القوم: لقد خشينا على هذا الشيخ إن حدث بهذا الغلام حدث، وشاء الله، فمات الغلام، فخرج ابن عمر في جنازته، وما رجل أبدى سروراً إلا ابن عمر ، فقيل: ما هذا، قد خشينا عليك يا بن عمر ؟! قال: [[إنما تلك كانت رحمة به؛ فلما وقع أمر الله رضينا به]] لا تعجبوا، ولا تدهشوا إنه ابن عمر بن الخطاب ، والفرع للأصل ينسب رضي الله عن الجميع، الذي قال يوماً ما: [[ما من أهل ولا مال ولا ولد إلا وأنا أحب أن أقول عليه: إنا لله وإنا إليه راجعون إلا عبد الله بن عمر ؛ فإني أرجو أن يطول عمره لعلمي بمنفعته للناس، والأعمال بالنيات]] ولكل امرئ ما نوى.

    شريح القاضي واحتسابه الأجر

    ويروى أن شريحاً القاضي مات له صبي، فجهزه وغسله ودفنه بالليل، ولم يشعر به أحد، ولما جلس للقضاء من الغد جاء الناس على حسب العادة يعودونه ويسألونه عنه، فقال: الحمد لله، الآن فقد الأنين والوجع، ففرح الناس وظنوا أنه قد عوفي من مرضه، فقال -وهو يضحك-: احتسبناه في جنب الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

    من عجائب الصبر

    ويذكر ابن الجوزي -عليه رحمة الله- في عيون الحكايات قال الأصمعي : خرجت أنا وصديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق؛ فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق، فقصدنا نحوها، فسلمنا؛ فإذا عجوز ترد السلام، ثم قالت: من أنتم؟ قلنا: قوم ضللنا الطريق، وأَنِسْنَا بكم، وقوم جياع. قالت: ولُّوا وجوهكم حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل. ففعلنا، وجلسنا على فراش ألْقَتْهُ لنا، وإذا ببعير مقبل، عليه راكب، وإذا بها تقول: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ولدي، وأما راكبه فليس بولدي. جاء الراكب، وقال: يا أم عقيل! السلام عليك.. أعظم الله أجرك في عقيل، فقالت: ويحك! أوقد مات عقيل؟ قال: نعم. قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر، فقالت: انزل، ودفعت له كبشاً، ونحن مدهوشون، فذبحه وأصلحه، وقرَّب إلينا الطعام، فجعلنا نتعجب من صبرها؛ فلما فرغنا قالت: هل فيكم أحد يحسن من كتاب الله -عز وجل- شيئاً فقلنا: نعم. قالت: فاقرءوا عليَّ آيات أتعزَّى بها عن ابني، قال: قلت: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157] قالت: آللهِ إنها لفي كتاب الله؟ قلت: والله إنها لفي كتاب الله. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، صبراً جميلاً، وعند الله أحتسب عقيلاً. اللهم إني فعلت ما أمرتني به؛ فانجزني ما وعدتني، ولو بقي أحد لأحد لبقي محمد صلى الله عليه وسلم لأمته.

    قال: فخرجنا، ونحن نقول: ما أكمل منها ولا أجزل! لما علمت أن الموت لا مدفع له ولا محيص عنه، وأن الجزع لا يجدي نفعاً، وأن البكاء لا يرد هالكاً؛ رجعت إلى الصبر الجميل والرضا بقضاء السميع العليم، فاحتسبت ابنها عند الله -عز وجل- ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة.

    فما أجمل الرضا بقضاء الله في كشف محن المصاب ومكروباته! هذه سجايا السلف؛ صبرٌ واحتسابٌ، وتجلُّدٌ وتحمُّلٌ، ورضا واسترجاعٌ، وبُعْدٌ عن الجزع والتسخُّط والتذمُّر عند المصاب.

    لهم قدرهم باعتبار الرجال     وسمعتهم في ذرى الأنجم

    أنتم كهُم ومن يشابهْ     أبه فما ظلم

    موقف النبي صلى الله عليه وسلم في وفاة ابنه إبراهيم

    وليُعلم أن البكاء الذي لا صوت معه ولا تسخط لا يعارض الرضا؛ فأشد الناس حرصاً على رضا مولاهم هم الأنبياء، وأرضاهم وأرضى الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بكى يوم مات ابنه إبراهيم رأفة ورحمة منه للولد ورقة عليه، وقلبه صلى الله عليه وسلم ممتلئ بالرضا، ولسانه مشتغل بحمد الله وذكره، وهذا هو أكمل هدي وأتم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم حملته الرحمة بالطفل على البكاء، ومحبة الله على الرضا، وخير الهدْي هديُه صلى الله عليه وسلم.

    ففي الصحيحين : {أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم ، وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله؟! قال: يا بن عوف! إنها رحمة، إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لَمحزونون}.

    وفي الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم -وأشار إلى لسانه صلى الله عليه وسلم-} وفي الصحيح -أيضاً- عن أسامة بن زيد : {أن النبي صلى الله عليه وسلم رُفع إليه ابن ابنته، وهو في الموت نفسه تُقعقع، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد : ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة جعلها الله -تعالى- في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء}.

    1.   

    عودة إلى وسائل كشف الكربة

    أيها الأحبة: الله يقضي؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. ومن استعان بالله، وشكر الله في السراء والضراء، ورضي بقدر الله انكشف كربه، ورضيت نفسه؛ فهو في حياة طيبة على كل حال؛ إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

    من وسائل كشف الكربة: العلم بأن الجزع لا يرد المصيبة

    ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: العلم اليقيني أن الجزع لا يرد المصيبة؛ بل يضاعفها؛ فالجازع يزيد مصيبته، ويُشمِّتُ أعداءه، ويسوء أصدقاءه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه.

    أما إذا احتسب وصبر ورضي أخزى شيطانه، وأرضى ربه، وسرَّ صديقه، وساء عدوه، وحمل على إخوانه فعزاهم قبل أن يعزوه. هذا هو الثبات في الأمر؛ فنسأل الله الثبات في الحياة وفي الممات.

    يقول بعض الحكماء: العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام سلى سلوَّ البهائم، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى.

    إذا أنت لم تَسْلُ اصطباراً وحسبةً     سلَوْتَ على الأيام مثل البهائم

    وكل أحد لابد أن يصبر على بعض ما يكره؛ فإما باختيار، وإما باضطرار؛ فالكريم المؤمن يصبر مختاراً لعلمه بحسن عاقبة الصبر، وأنه يُحمد عليه، ويُذَمُّ في المقابل على الجزع، ويعلم أنه إن لم يصبر لم يُعِدْ عليه الجزاء فائتاُ، ولم ينتزع منه مكروهاُ، والمقدور لا حيلة في دفعه، وما لم يُكتب لا حيلة في تحصيله؛ فالجزع ضرُّه أقرب من نفعه؛ فما دام أن آخر الأمر الصبر، والعبد معه غير محمود؛ فما أحسن أن يُستقبَلَ الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره.

    إن علم المصاب بما يعقب الصبر والاحتساب من اللذة والمَسَرَّة أضعاف ما يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه لكان كاشف لكربه لو تأمل ذلك.

    يروى عن أنس -رضي الله عنه وأرضاه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { تُنصَبُ الموازين يوم القيامة، فيُؤتى بأهل الصلاة والصيام والزكاة والحج، فيُوَفَّوْن أجورهم بالموازين، ثم يُؤتى بأهل البلاء، فلا يُنصب لهم ميزان، ولا يُنشر لهم ديوان، ويُصبُّ عليهم الأجر صباً بغير حساب، ثم قرأ قول الله جل وعلا: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] } وفي الترمذي مرفوعاً: {يودُّ أناسٌ لو أن جلودهم كانت تُقرض بالمقاريض لِما يَروْن من ثواب أهل البلاء} فسبحان من يرحم ببلائه!

    قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت     ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

    هاهي امرأة من السلف قد مات ابنها، فجاءوا يعزونها، ويقولون: يا أمة الله! اتقي الله واصبري. فقالت: الحمد لله، وإنا لله، مصيبتي أعظم من أن أفسدها بالجزع. لسان حالها:

    كلما ازدادت عليَّ المِحَن     وتوالت إِحَنٌ لا تَهِنُ

    وكروب تُصطفى في زمن     فلِتطهيرٍ وتدريب عميق

    واختبار الذهب الصرف الحقيقي

    فالجزع -وإن بلغ غايته وإن بلغ نهايته- فآخر أمر الجازع إلى الصبر اضطراراً وهو غير محمود ولا مثاب؛ فإنه استسلم للقدر رغم أنفه، وهذا ليس من الصبر.

    على هذا يُذكر أن أعرابياً مات له ولد، فبكي عليه بكاء عظيماً، وجزع عليه جزعاً عظيماً؛ فلما همَّ أن يسلو عن هذا مات له ابن آخر، فقال:

    إن أَفِقْ من حزن هاج حزن     ففؤادي ما له اليوم سكن

    فكما تبلى وجوه في الثرى          فكذا يبلى عليهم من حزن

    فطوبى للصابرين ثم طوبى ثم طوبى.

    من وسائل كشف الكربة: العلم بأن النعم زائلة

    ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: العلم بأن النعم زائرة، وأنها -لا محالة- زائلة، وأن السرور بها إذا أقبلت مشوب بالحذر من فراقها إذا أدبرت، وأنها لا تُفرح بإقبالها فرحاً حتى تُعقب بفراقها تَرَحاً؛ فعلى قدر السرور يكون الحزن، والمفروح به اليوم هو المحزون عليه غداً، ومن بلغ غاية من يحب فليتوقع غاية ما يكره، ومن علم أن كل نائبة إلى انقضاء حَسُن عزاؤه عند نزول البلاء، سُنة الله ولن تجد لسُنة الله تبديلاً.

    من وسائل كشف الكربة: العلم بتفاوت المصائب

    سابعاً: ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: العلم بتفاوت المصائب؛ فإن كانت المصيبة بعيدة عن الدين؛ فإنها هيِّنة سهلة يسيرة؛ لأن مصيبة الدين هي أعظم وأفدح مصيبة. ومصائب الدنيا كذلك تتفاوت، فإذا حصَّلت الأدنى من المصائب فتسلَّ بذلك عن ما هو أعلى وأعظم واحْمَدِ الله على ذلك. قال السفاريني -عليه رحمة الله-: المصائب تتفاوت؛ فأعظمُها المصيبةُ في الدين -نعوذ بالله من ذلك- فإنها أعظم من كل مصيبة، والمسلوب من سُلب دينه.

    وكل كسر لعل الله جابره     وما لكسر قناة الدين جُبرانُ

    فإذا رأيت إنساناً لا يبالي بما أصابه في دينه من ارتكاب الذنوب والخطايا، من فوات للجمعة والجماعة وأوقات الطاعة، من ولوغ في المحرمات، من انتهاك للحرمات، ومن انتهاك لحدود الله وتجاوز لها؛ فاعلم أنه المُصابُ حقّاً، ثم اعلم أخرى أنه ميت لا يُحس بألم المصيبة ولا يشعر: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ [الروم:52].

    وبعد مصيبة الدين المصيبة في النفس، ثم في الأهل، ثم في المال، وكلها تتفاوت بحسب ضخامة المصاب فيه وحقارته، فتندرج إلى أن تكون المصيبة في الشوكة وفي قطع شسع النعل، وشسع النعل في غاية الخسة كما تعلمون.

    ولذا يقول شريح -عليه رحمة الله-: إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله -عز وجل- عليها أربع مرات؛ أحمده إذا لم يجعلها أعظم مما هي عليه، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها والاحتساب، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني؛ فإن من كل شيء عوضًا إلا الدين.

    من كل شيء إذا ضيعته عوض     وما من الدين إذا ضيعت من عوض

    من وسائل كشف الكربة: العلم بأن الدنيا فانية

    ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: العلم بأن الدنيا فانية زائلة، كل ما فيها يتغير ويحول ويضمحل ويفنى ويزول؛ لأنها إلى الآخرة طريق، وهي مزرعة للآخرة على التحقيق، إنها ألم يخفيه أمل، وأمل يحققه -بإذن الله- عمل، وعمل يقطعه الأجل، وعندها يُجزى كل امرئٍ بما فعل.

    إنها الدنيا إن حَلَتْ أَوْحَلَتْ، وإن كَسَتْ أَوْكَسَتْ، وإن دَنَتْ أَوْدَنَتْ، وكم من ملكِ فيها رُفعت له علامات فلما علا مات.

    هي الأيام لا يبقى عزيز     وساعات السرور بها قليله

    إذا نشر الضياء عليك نجم     وأشرق فارتقب يوماً أُفُولُه

    إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرَّت يوماً أحزنت شهوراً، وإن متَّعت يسيراً منعت طويلاً.

    لا يبقى لها حبور     ولا يدوم فيها ثبور

    اليوم عندك دلُّها وحديثها     وغداً لغيرك كفُّها والمِعصمِ

    قال الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20] ما أدقَّ التعبير القرآني! يوم يشير إلى أن الحياة الدنيا يوم تُوزن بموازين الدنيا تبدو أمراً عظيماً هائلاً ضخماً، لكنها حين تُقاس وتوزن بموازين الآخرة تبدو شيئاً تافهاً زهيداً حقيراً، بل هو لعبة أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة من جد تنتهي إليه المصائر بعد لعبة الحياة الدنيا، لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر، ثم تأتي الصورة القرآنية المبدعة لتصور الدنيا كزرع يعجب الزُّراع نباته، ينمو شيئاً فشيئاً حتى يكتمل، ثم يهيج، فتراه مصفراً جاهزاً للحصاد؛ فهو موقوت الأجل ينتهي عاجلاً، ويبلغ أجله قريباً، ثم يكون حُطاماً، وينتهي شريط الحياة بمشهد الحُطام، ويا لها من نهاية!

    وأما الآخرة فلها شأن وأي شأن! يستحق شأنها أن يُحسب حسابه، ويُنظر إليه ويُستعد له: وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20] فهي لا تنتهي في لمحة كالحياة الدنيا، وهي لا تنتهي إلى حطام كالنبات البالغ أجله؛ بل حساب وجزاء ودوام يستحق الاهتمام.

    وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20] متاع يستمد قوامه من الغرور الخادع يُلهي وينسي، وينتهي بأهله إلى غرور خادع؛ فما أحوج المؤمن إلى الاستعلاء على هذا الغرور الخادع ليحقق عقيدته، ولو اقتضى أن يضحي بالحياة الدنيا جميعها؛ فما هي إلا حطام أو كظلٍ أو سراب.

    روى الترمذي وابن ماجة بإسناد حسن قال: قال صلى الله عليه وسلم: {مالي وللدنيا! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قَالَ في ظل شجرة، ثم راح وتركها}.

    أحلام نوم أو كظلٍ زائلٍ     إن اللبيب بمثلها لا يُخدعُ

    يقول بعض أهل العلم: لَنِعَم الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه منها فيما بسط لنا فيها؛ ذلك أن الله لم يرضَ لنبيِّه الدنيا؛ فلأن أكون فيما رضي الله لنبيه وأحبَّ له أحبُّ إليّ من أن أكون فيما كره له وسخط.

    وأجمل بقول ابن القيم -عليه رحمة الله- من قول، يوم قال يشبه الدنيا: أشبه الأشياء بالدنيا الظل تحسب له حقيقة ثابتة، وهو في تقلُّص وانقباض، تتبعه لتدركه؛ فلا تلحقه.

    وأشبه الأشياء بالدنيا السراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه والله سريع الحساب.

    وأشبه الأشياء بالدنيا المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره؛ فإذا استيقظ علم أن ذلك لا حقيقة له.

    ترجو البقاء بدار لا ثبات لها     فهل سمعت بظل غير منتقل

    حياتها رصدٌ وشربها كدرٌ     وعيشها نكد وملكها دُوَلُ

    من ذا الذي قد نال راحة فكره     في عسره من عمره أو يُسره؟

    يلقى الغني لحفظه ما قد حوى     أضعاف ما يلقى الفقير لفقره

    فيظل هذا ساخطاً في قُلِّه     ويظل هذا ناصباً في كُثرهِ

    سُنَّ البلى ولكل شمل فرقة     يُرمى بها في يومه أو شهره

    والجن مثل الإنس يجري فيهم     حكم القضاء بحلوِه وبمرِّه

    أوَما ترى الرجل العزيز بجنده     رهن الهموم على جلالة قدره

    فيسرُّه خير وفي أعقابه همٌّ     تضيق به جوانب صدره

    وأخو التجارة لاهث متفكر          مما يلاقي في خسارة سعره

    وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الـ     رجل الوحيد كمينة في صدره

    ولرُبَّ طالب راحة في نومه     جاءته أحلام فهام بأمره

    والطفل من بطن أمه يخرج إلى     غُصَص الفطام تروعه في صُغره

    ولقد خبرت الطير في أوكارها     فوجدت منها ما يُصاد بوكره

    والوحش يأتيه الردى في برِّه     والحوت يأتي حتفه في بحره

    ولربما تأتي السباع لميت     فاستخرجته من قرارة قبره

    تالله لو عاش الفتى في دهره     ألفاً من الأعوام مالك أمره

    متلذذاً معه بكل لذيذةٍ     متنعماً بالعيش مدة عمره

    لا يعتريه النقص في أحواله     كلا ولا تجري الهموم بفكره

    ما كان ذلك كله في أن يفي     بمبيت أول ليلة في قبره

    كيف الفعال أيا أخي فيما ترى     صبراً على حُلوِ القضاء ومرِّه

    صبراً فغمسة في الجنة تُنسي كل شقاء وبؤس وبلاء، وغمسة في النار -عياذًا بالله- تنسي كل لذة ونعيم.

    لكل شيء إذا ما تمَّ نقصان     فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسان

    هي الأمور كما شاهدتها دول     من سرَّه زمن ساءته أزمان

    كم من مؤملٍ أدركه الموت قبل تحقيق أمله! وكم من زرعٍ عاش ومات زارعه! فاسمع:

    لما حضرت الوفاة سيبويه النحوي -رحمه الله- وضع رأسه في حجر أخيه، ثم أغمي عليه، فقطرت قطرة من دموع أخيه على خده، فأفاق من غشيته متمثلاً بقول القائل:

    يؤمِل دنيا لتبقى له     فمات المؤمِل قبل الأمل

    وبات يروِّي أصول النخيل     فعاش النخيل ومات الرجل

    ثم قال لأخيه: أخيين كنا، ففرق الله بيننا إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهر، ثم لقي الله عز وجل.

    هذه هي الحياة الدنيا، والآخرة هي الحياة لو كانوا يعلمون.

    إنما الدنيا هبات وعَوارٍ مستردة     شدة بعد رخاء ورخاء بعد شدة

    من وسائل كشف الكربة: تذكر ما في البلاء من فوائد

    ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: تذكُّر ما في البلاء من لطائف وفوائد، منها على سبيل المثال:

    أولاً: تذكير العبد بذنوبه؛ فربما تاب إلى الله عز وجل، فلتوبته إلى الله عز وجل أعظم عزاء له من كل شيء. يقول بعض السلف: [[إن العبد لَيُصاب بالمصيبة، فيذكر ذنوبه، فيخرج من عينه مثلُ رأس الذباب دمعاً من خشية الله، فيغفر الله عز وجل له]].

    ثانياً: زوال قسوة القلب مع حدوث رقة القلب وانكسار العبد لله عز وجل، وذلك ملاحظ في المصائب، وذلك -والله- خير من كثير من طاعات الطائعين؛ فانكسار المذنب خير وأعظم من صولة المطيع.

    ثالثاً: البلاء يوجب من العبد الرجوع إلى الله عز وجل، والوقوف ببابه، والتضرع له، والاستكانة والدعاء، وذلك من أعظم فوائد البلاء؛ ففي بعض الآثار: {إن الله ليبتلي العبد -وهو يحبه- ليسمع تضرُّعَه ودعاءه}.

    رابعاً: البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين، ويوجب له الإقبال على الخالق وحده لا شريك له؛ فالمشركون -وهم مشركون- حكى الله عنهم إخلاص الدعاء له عند الشدائد: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65] فكيف بالمؤمنين؟!.

    خامساً: رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم؛ فإن العبد إذا أحس بألم المصيبة رقَّ قلبه لأهل المصائب والبلايا ورحمهم.

    أخيراً: معرفة قدر نعمة العافية؛ فإن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فَقْدِها؛ فلا يعرف نعمة إلا من ذاق مرارة ضدها، وبضدها تتميز الأشياء.

    من وسائل كشف الكربة: لطيف التعزية

    فمن تأمل هذه اللطائف زال ما به، وانشرح صدره، وانفرج همُّه بإذن ربه.

    ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: لطيف التعزية عند فقد الأعزة؛ فإن الكلمة الطيبة للمصاب يُثبَّت بها -بإذن الله- ويعان، ويغدو الصبر عليه سهلاً يسيراً؛ فإن المؤمن -كما تعلمون- قليل بنفسه كثير بإخوانه، ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، شديد بأعوانه؛ فإذا وجد هذا يُعزِّيه، وهذا يُسليه سهلت عليه الأمور العظام، وكُشِفَ ما به بإذن الله رب الأرض والسماء.

    ولذا فإن الشارع -بحكمته البالغة- شرع لنا التعزية لأهل المصيبة والدعاء لهم بالثبات والأجر والخلف، وللميت بالرحمة والمغفرة؛ فعزاء الله الذي نتعزَّى به دائماً وأبداً: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة والقدوة عزَّى أصحابه عند نزول المصائب، وواساهم -كما في السُنة الصحيحة- والسلف اقتدوا به في ذلك؛ فلعلنا أن نقف على بعض ما في السنة الصحيحة وأقوال السلف في لطيف التعزية والدعاء بما هو خير، وفي السنة وأقوال السلف غُنيةٌ عن غيرهما، وخير الهدْيِ هديُه صلى الله عليه وسلم:

    وكل خير في اتباع من سلف     وكل شر في ابتداع من خلف

    في صحيح مسلم عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة -وقد شخص بصره- فأغمضه، ثم قال: {إن الروح إذا قُبضت تبعها البصر، فضجَّ ناسٌ من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون، ثم قال -واسمعوا إلى العزاء-: اللهم اغفر لـأبي سلمة ، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله -يا رب العالمين- وأفسح له في قبره، ونوِّر له فيه}. فدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم عزاء ومواساة.

    وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: {أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تدعوه، وتخبره أن لها صبياً في الموت، فقال: ارجع إليها، فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ فلتصبر، ولتحتسب}.

    وفي الحديث الحسن بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حُلل الكرامة يوم القيامة}. وروي عن علي رضى الله عنه كما في التعازي أنه قال لمصاب: [[إنك إن صبرت جَرَتْ عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت موزور]] وروي البيهقي -بإسناده في مناقب الإمام الشافعي رحمه الله-: أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن، فجزع عليه جزعاً شديداً، فبعث إليه الشافعي يقول له: يا أخي! عزِّ نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من غيرك، واعلم أن أعظم المصائب فقد سرور، وحرمان أجر؛ فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟ ألْهمك الله عند المصائب صبراً، وأحرز لنا ولك بالصبر أجراً، ثم أنشد قائلاً:

    إني معزيك لا أَنِّي على ثقة     من الحياة ولكن سُنة الدين

    فلا المعُزَّى بباقٍ بعد ميته     ولا المُعزِّى ولو عاشا إلى حين

    ويشاء الله -عز وجل- فيموت بعدها ابن للشافعي -رحمه الله تعالى- الذي كان يُعزِّي أصبح يُعزَّى. جاءوا يعزونه، فأنشد قائلاً:

    وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له     رزية مالٍ أو فراق حبيب

    ولما توفيت ياقوتة بنت المهدي جزع عليها جزعاً لم يُسمَع بمثله، فجلس وجاء الناس يعزونه، فأمر ألا يُحجب عنه أحد، فأكثر الناس في التعازي، واجتهدوا في البلاغة والفصاحة لكونه الخليفة، ثم أجمعوا بعد ذلك أنهم لم يسمعوا تعزية أوجز ولا أبلغ من تعزية ابن شبة -رحمه الله- يوم قال: أعطاك الله -يا أمير المؤمنين- على ما رُزئت أجراً، وأعقبك خيراً، ولا أجهد بلاءك بنقمة، ولا نزع منك نعمة، ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك، أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك، فكان مما سرَّى على أمير المؤمنين مثل هذه التعزية.

    ويقول أحد المعزِّين في لطائف التعازي لقاضٍ من قضاة بلخ -وقد توفيت أمه- قال له: إن كانت وفاتها عظةً لك؛ فعظَّم الله أجرك على موتها، وإن لم يكن عظة لك؛ فعظم الله أجرك على موت قلبك، ثم قال: أيها القاضي! أنت تحكم بين عباد الله منذ ثلاثين سنة، ولم يرد عليك أحد حكماً؛ فكيف بحكمٍ واحدٍ عليك من الواحد الأحد ترده ولا ترضى به؟! فسري عنه، وكشف ما به، وقال: تعزَّيت، تعزَّيت.

    وعزَّى موسى بن المهدي سلمان بن أبي جعفر في ابنٍ له مات، فقال: أيسرُّك وهو بلية وفتنة، ويحزنك وهو صلاة ورحمة وهدى؟! يشير إلى قول الله -عز وجل-: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] ويشير في الثانية إلى قول الله أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157] فلله ما أعطى، ولله ما حوى.

    وليس لأيام الرزية كالصبرِ:

    فحسبك منهم موحشاً فَقْدُ برِّهمُ     وحسبك منهم مُسْلياً طلب الأجرِ

    وروي أن سليمان بن عبد الملك لما مات ابنه أيوب قال لـعمر بن عبد العزيز ورجاء : إني لأجد في كبدي جمرة لا يُطفئها إلا عبرة، فقال عمر بن عبد العزيز : اذكر الله يا أمير المؤمنين، وعليك بالصبر؛ فهو أقرب وسيلة إلى الله، وليس الجزع بمحيي من مات، وبالله العصمة؛ فلا تحبطنَّ أجرك. قال: فنظر إلى رجاء ، فقال رجاء لأمير المؤمنين: اقضها يا أمير المؤمنين؛ فما بذاك من بأس، فقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم ولم يقل ما يُسخط ربه، فأرسل سليمان عينيه بالبكاء حتى ظنوا أن نياط قلبه ستتقطع.

    فقال عمر لـرجاء -معاتبًا-: هذا ما فعلت بأمير المؤمنين، فقال رجاء : دعه -يا عمر - يقضي من بكائه وطراً؛ فلو لم يُخرج من صدره ما ترى لخفت عليه، ثم دعا بماء، فغسل وجهه، ثم قال لهما: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي.

    ثم انتهى إلى مجلسه فدخل عليه رجل فعزَّاه، فقال:عليكم نزل الكتاب، وأنتم أعرف به مِنَّا، وأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا، ولسنا نعلمك شيئاً لا تعلمه، ولا نذكرك شيئاً قد تنساه، لكنا نعزيك ونواسيك ثم أنشد قائلاً:

    وهوَّن ما ألقى من الوجد أنني     أجاوره في قبره اليوم أو غداً

    قال: أعد، فقال:

    وهوَّن ما ألقى من الوجد أنني     أجاوره في قبره اليوم أو غداً

    فقال: يا غلام! هات الغداء فأكل وشرب، وحمد الله، وسُرَّي عنه.

    ومن لطيف التعزية ما قيل من بعض الأعراب عندما دخل على بعض ملوك بني العباس، وقد توفي له ولد اسمه العباس، فعزاه، ثم قال:

    اصبر نكن بك صابرين فإنما     صبر الرعية عند صبر الرأس

    خير من العباس أجرك بعده     والله خير منك للعباس

    ومن ذلك أن أحدهم أصيب بمصيبة، فجزع، فجاء أخ له، فقال: عظَّم الله أجرك، وأحسن عزاءك:

    أخي ما بال قلبك ليس ينقى     كأنك لا تظن الموت حقّاً

    ألا يا بن الذين مضوا وبادوا     أما والله ما ذهبوا لتبقى

    فكُشف ما به.

    ومات لرجل من السلف ولد، فعزَّاه سفيان بن عيينة -رحمه الله- وهو في كرب شديد، وعزاه آخرون؛ فلم يُكشف ما به حتى جاء الفضيل ، فقال: يا هذا! أرأيت لو كنت وابنك في سجن، فأُفرج عن ابنك قبلك أوما كنت تفرح؟ قال: بلى. قال: فإن ابنك قد خرج من سجن الدنيا قبلك. قال: فسُرَّي عن الرجل، وانكشف همه، وقال: تعزيت.

    وأخيرًا: فإن من ألْطف وأقوى ما سمعت من تعزية غير كلام رسول البرية وسلف الأمة -رضوان الله عليهم- ما قاله ابن سناء الملك ، وقد مات لأحد أقاربه ميت، فجزع عليه هذا جزعاً عظيماً، فكان مما قاله ابن سناء : إنا لله، إلى متى هذا الجزع الصبياني، والهلع النسواني، إلى متى هذا الحزن الذي لا يحيي دفينك، بل يميت دينك، ويسلب هدوءك، ويشمت فيك عدوك. أما على هذا مضى الزمان، وعلى هذا درج الثقلان، وللخراب بُني العمران، وللانتقال سكن السكان، وللموت ولد المولود، وللعدم خلق الوجود. أتحب أن تبقى ويبقى من تحب فذا خلود، إنا لله وإنا إليه راجعون، أفضل قول الصابر، وفي سبيل الله، وإلى رحمة الله من حُسب في أهل المقابر، أجزل الله أجرك، وأحيا على دفينك صبرك، ووسع لهذه النازلة صدرك، وأنزل على قلبك السكينة ربك، وخفَّف عن قلبك وطيئة كربك، لا جمع الله عليك فراق الأحباب وفراق الثواب، وجمع الله عليك النعمتين نعمة الجلد ونعمة الاحتساب، إني -والله- لشريكك في المصاب، ونصيبي منه لأكثر، ودمع عيني لأغزر:

    ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته     ولكنني في ساحة الصبر أجمل

    أخي المصاب: لعل فيما سمعته عزاء لك؛ فلست أول ولا آخر مصاب، جعل الله التعزية لك لا عنك، والخلف عليك لا منك، في الله -عز جل- عزاء من كل هالك، وخلف من كل فائت، وعوض من كل مصيبة، وشر من المصيبة حرمان الأجر فيها:

    لابد من فقد ومن فاقد     هيهات ما في الناس من خالد

    ولا يفوتني هنا أن انبه بهذا الكاشف إلى ما يلي:

    أولاً: ينبغي تجنب الاجتماع والجلوس عند أهل الميت للتعزية؛ لأن في ذلك تجديداً للحزن وتكليفاً للمعزى، ومخالفة لهدي السلف الصالح -رضوان الله عليهم- ففي الحديث الصحيح أن جرير بن عبد الله البجلي قال: {كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت بعد دفنه من النياحة} فالذي ينبغي أن ينصرف الناس إلى شئونهم وحوائجهم، فمن صادفهم عزَّاهم في المسجد، في العمل، في الشارع، في السوق وهكذا.

    ثانياً: أن ما يُفعل اليوم في التعزية من نصب للخيام والجلوس فيها، من قيل وقال، وصرف للأموال الطائلة من أجل المباهاة والمفاخرة أمر مخالف للمشروع، وواجب علينا أن نتبع فقد كُفينا.

    يقول ابن القيم -عليه رحمة الله-: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت، ولم يكن من هديه الاجتماع للعزاء، ولا قراءة القرآن عند قبره، وكل هذه بدعة حادثة.

    ثالثاً: ألا يُحدَّ على ميت فوق ثلاثة أيام -كما يفعل كثير من النساء- إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، فليُعلم كما في الصحيح:

    عليكم بهدي الرسول الكريم     ومنهاج قرآنه المحكم

    رزقنا الله اتباع السنة، ورحمنا الله وموتانا بكرمه ومنِّه.

    من وسائل كشف الكربة: التأسي بأهل المصائب

    ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: برد التأسي بأهل المصائب؛ ففي ذلك إطفاء لنار المصيبة، وليعلم أنه في كل قرية ومدينة بل في كل بيت من أصيب؛ فمنهم من أصيب مرة، ومنهم من أصيب مراراً، وليس ذلك بمنقطع حتى يأتي على جميع أهل البيت، حتى نفس المصاب سيصاب بنفسه يوماً ما، أسوة بأمثاله ممن تقدمه؛ فإن نظر فلن يرى يمنة إلا محنة، ويسرة إلا حسرة.

    ذكر ابن الجوزي بإسناده عن عبد الله بن زياد قال: حدثني بعض من قرأ في الكتب: أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها، وبلغ أرض بابل مرض مرضاً شديداً، فعلم أنه مرض الموت، وأشفق على نفسه، فكتب إلى أمه معزِّياً في ذكاء قائلاً: يا أماه! إذا جاءكِ كتابي فاصنعي طعاماً، واجمعي من قدرت عليه من الناس، ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة، واعلمي هل وجدتِ لشيء قراراً. إني لأرجو أن يكون الذي أذهب إليه خيراً مما أنا فيه. فلما وصل كتابه صنعت طعاماً عظيماً، وجمعت الناس، وقالت: لا يأكل هذا من أُصيب بمصيبة، فلم يتقدم أحد للأكل من هذا الطعام، فعلمت مراد ابنها، فقالت: بني! من مبلغك عني أنك وعظتني فاتعظت، وعزيتني فتعزيت؛ فعليك السلام حياً وميتاً.

    فما من مصيبة أصيب بها مصاب إلا وهناك ما هو أعظم منها عند غيره.

    قيل لرجل: كم لك من ولد؟ قال: تسعة. قيل له: إنما نعرف لك ابناً واحداً. فقال: الحمد لله، كان لي عشرة، فقدمت تسعة، أحتسبهم عند الباري الرحيم، وبقى لي واحد لا أدري أنا له أم هو لي؟

    لكل اجتماع من خليلين فرقة     وكل الذي دون الممات قليل

    وإن افتقادي واحداً بعد واحد     دليل على ألا يدوم خليل

    وهاهي أعرابية اسمها أم غسان -كما في عيون الأخبار - فقدت جميع أبنائها، وفوق ذلك كُفَّ بصرها. مصيبة وأي مصيبة! كانت تعيش بمِغْزَلِها، وتقول: الحمد لله على ما قضى، رضيت من الله ما رضي لي، وأستعين الله على بيت ضيق الفناء قليل الإيواء، ثم تُصاب مصيبة أخرى بموت جارة لها كانت تبثُّها أشجانها وأحزانها، فيقال لها: أين فلانة؟ فتقول: الحمد لله على قضاء الله، والرجعة إلى الله.

    تقسم جاراتها بيتها     وسارت إلى بيتها الأدلج

    وفي العاقبة للإشبيلي يروي أن امرأة من الأعراب حجَّت، ومعها وحيدها، فمرض عليها في الطريق، ومات، فدفنته بمساعدة الركب الذين معها، ثم وقفت بعد دفنه، وقالت: يا بني! والله لقد غذوتك رضيعاً، وفقدتك سريعاً، وكأن لم يكن بين الحالتين مدة ألتذُّ بها بعيشك، وأتمتع فيها بالنظر إلى وجهك، ثم قالت: اللهم منك العدل، ومن خلقك الجور، اللهم وهبتني قرة عين، فلم تمتعني به كثيراً بل سلبتنيه وشيكاً، ثم أمرتني بالصبر، ووعدتني عليه الأجر، فصدقت وعدك، ورضيت قضاءك، فلك الحمد في السَّراء والضَّراء. اللهم ارحم غربته، واستر عورته يوم تُكشف العورات وتظهر السوءات، رحم الله من ترحَّم على من استودعته الردم، ووسدته الثرى. ثم لما أرادت الانصراف قالت: أي بني! لقد تزودت لسفري فيا ليت شعري ما زادُك لسفرك ويوم ميعادك؟! اللهم إني أسألك الرضا عنه برضائي عنه. اللهم إني أسألك الرضا عنه برضائي عنه. أستودعك بني من استودعني إياك جنيناً في الأحشاء، ومن يجازي من صبر في السراء والضراء.

    من شاء بعدك فليمُت     فعليك كنت أحاذر

    كنت السواد لناظري     فعمى عليك الناظر

    ليت المنازل والديار     حفائرُ ومقابر

    إني وغيري لا محالة     حيث صرت لصائر

    وأخرج ابن أبي الدنيا من الاعتبار عن الكندي قال: كانت امرأة من بني عامر لها تسعة من الأولاد دخلت بهم -ذات يوم- غاراً، ثم خرجت لحاجة، وتركتهم في الغار، ولما رجعت سقط الغار عليهم، وانطبق، فجعلت تسمع أنينهم وتتلظَّى بجحيم عويلهم، لا تملك لهم حولاً ولا طولاً، تَئنُّ وتزفر زفرات قطَّعت أحشاءها والذي عانا البلايا عرف، حتى فقدت أنينهم؛ فلم تسمع لهم أنيناً، فعلمت أنهم ماتوا جميعاً تحت هذا الغار، فرجعت وبها من الأسى ما الله به عليم، فكانت تردد وتقول:

    ربيتهم تسعة حتى إذا اتسقوا     أُفردت منهم كقرن الأعضب الوحدِ

    وكل أم وإن سُرَّت بما ولدت     يوماً ستفقد من ربَّت من الولدِ

    وأخيراً: فلقد حدثني من أثق به من الصالحين -كما أحسبه والله حسيبه- أن هناك رجلاً كان له ثلاثة أولاد صغار وزوجة في هناء وأمان وسعادة وسكينة واطمئنان، وذات يوم جاءهم أضياف، فقام الأب وذبح لأضيافه كبشاً، والأولاد ينظرون، ودخل للجلوس مع أضيافه في انتظار إعداد الطعام، وقامت الأم بتغسيل وتنظيف أصغرهم في وعاء كبير مليء بالماء، أخذ أكبر الأولاد السكين يقلد أباه في ذبح الشياه، وقام على أخيه الأوسط، فأضجعه، ثم ذبحه ذبح الشاه، وجاء لأمه يخبرها فصاحت ورمت بالصغير في ذهول في وعاء الماء، فغرق الصغير في وعاء الماء، وخرجت إلى الأوسط فإذا هو يتشحط في دمه! وهرب أكبرهم إلى الشارع، فاعترضته سيارة، فدهسته! ذُهلت الأم، وثكلت جميع أبنائها، وجاء الأب فإذا بها تترنح، وتخبره الخبر، ثم تسقط ميتة وجداً على أبنائها الثلاثة، ولا إله إلا الله!

    صُبَّت عليها مصائب لو أنها      صُبت على الأيام عدن لياليا

    أما الأب فحمد الله -عز وجل- وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ودخل إلى أضيافه، وطلب منهم أن يحفروا قبوراً، وأخبرهم الخبر، وياله من خبر! ويالها من ضيافة!

    حفروا القبور، وصلُّوا على الجميع، ودعوا للميت والحي، واستعدَّ كل ضيف منهم أن يقدم ابنته زوجة لذلك الأب الصابر المحتسب، ويختار ابنة واحد منهم ويتزوجها، فيذكر لي من نقل لي هذا أن له -الآن- ثلاثة عشراً ولداً من هذه الزوجة، حدث عظيم وخطب أليم؛ فهلا نظرت لمثل هذا المَصاب أيها المُصاب.

    فما مصابك مع مثل هذا المصاب؟ ستهون عليك مصيبتك ولا شك، واعلم أن هناك من هو أعظم منه مصاباً؛ فإذا علم المصاب علم اليقين أنه لو فتش العالم كله لم يرَ فيهم إلا مبتلى؛ إما بفوات محبوب، أو بحصول مكروه سُرِّي عنه؛ فسرور الدنيا أحلام نوم إن أضحكت أَبكتْ، وإن سرَّتْ ساءت، وما ملئت دار حبرة إلا مُلئت عبرة، وما حصل للشخص في يوم من سرور إلا وأعقبه شرور؛ فلكل فرحة ترحة، وما كان ضحك قط إلا وكان بعده بكاء. فلتعلم ولتتأمل أحوال المكروبين -أيها المصاب- فما مصيبتك بينهم إلا ذرة في فضاء المصائب، وقطرة في بحار الكروب.

    تأسَّ أطال الله عمرك بالأُلى     مضَوْا ولهم ذكر جميل مُخلَّد

    فلو لم يكن في الموت خير لمن مضى     لما مات خير الأنبياء محمد

    صلوات الله وسلامه عليه.

    من وسائل كشف الكربة: الدعاء واللجوء إلى الله

    وآخراً: فإن مما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: الدعاء والتضرُّع واللجأ إلى الله رب الأرض والسماء؛ فهو كاشف الضراء، وإن يصبك بسراء فلا راد للسراء. وفي السنة الغرَّاء من الأدعية النبوية الصحيحة ما يكشف الهم والكرب والضراء؛ ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما أصاب عبداً همٌّ قط ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أَمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سمَّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أو علمته أحداً من خلقك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي؛ إلا أذهب الله همَّه وحزنه، وأبدله مكانه فرحاً} رواه الإمام أحمد .

    فالدعاء الدعاء! فالله عز وجل يقول وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].

    يا أيها المكروب خاصة! ويا أيها الناس عامة: ادعوا ربكم تضرُّعاً وخُفية، وأَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام فإليه المفزع، وفيه المطمع، لا إله إلا هو.

    من لكم غيره يجبر كسركم!

    من لكم غيره يبدِّد أحزانكم وأشجانكم!

    من لكم غيره يؤنسكم في كربكم ووحشتكم!

    من لكم إذا دُفِعْتم عن الأبواب إلا بابه!

    من لكم إذا صُرِفتم وخاب الرجاء فيمن سواه إلا رجاه!

    من لكم غيره أعز مطلوب وأشرف مرغوب!

    لا إله إلا هو!

    أيها المصابون: عليكم من الله الرحمات عدد ما سكبتم من العبرات، وكظمتم من الأنَّات، وجعل الله مصابكم من الباقيات الصالحات، وأمَّنكم من الفزع يوم تُنشر السِّجلات، وتقَبَّل منا ومنكم، وكتب لنا السعادة في الحياة والممات.

    من وسائل كشف الكربة: العلم بأن الله لا يقدر شيئاً عبثاً

    وآخر ما يكشف الكرب: اعلم أن الذي قدَّر عليك الأقدار حكيم خبير عليم، لا يفعل شيئاً عبثاً، ولا يقدر شيئاً سُدى؛ بل هو رحيم تنوَّعت رحمته -سبحانه وبحمده- يرحم العبد فيعطيه، ثم يرحمه فيوفقه للشكر، ثم يرحمه فيبتليه، ثم يرحمه فيوفقه للصبر، ثم يرحمه فيكفر بالبلاء ذنوبه وآثامه، ثم ينمي حسناته ويرفع درجاته، ثم يرحمه فيخفف من مصيبته وطأتها ويهون مشقتها، ثم يتمم أجرها.

    فرحمة الله متقدمة على التدابير السارة والضارة، ومتأخرة عنها و: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].

    أحبتي في الله: هذه الكلمات جمعتها من كتيبات ومن كتب، وصغتها لكم صياغة فقط -بعون من الله وتوفيق منه وتسديد- إن أكن أصبت فذاك الذي أردت، وإن تكن الأخرى فحسبي أن ذاك وسعي وجهدي وحسب معرفتي وقدرتي:

    لكن قدرة مثلي غير خافية     والنمل يُعْذَر في القدر الذي حملا

    عظَّم الله أجر الجميع، وجبر الله كسرهم، وعوَّضهم خيرَيْ الدنيا والآخرة فيما فقدوا، وجعل هذه الكلمات في صحائف الحسنات في يوم تعز فيه الحسنات خالصة لوجه رب الأرض والسماوات.

    اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.

    يا الله! يا حي! يا قيوم! يا من لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم! يا بديع السماوات والأرض! يا فالق الحب والنوى! يا ذا الجلال والإكرام! يا عظيم العفو! يا واسع المغفرة! يا قريب الرحمة! نسألك بعزِّك الذي لا يُرام، وملكك الذي لا يُضام، يا هادي المضلين! ويا راحم المذنبين! يا من عنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب، وخشعت له الأصوات، وفاضت له العَبَرَات، ورغمت له الأنوف! انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عليك؛ نسألك أن تكفينا ما أهمَّنا وأغمَّنا، وأن تجبر كسرنا، وأن تعظم أجرنا، وأن تعيذنا من شرور أنفسنا، وأن ترحم موتانا، وأن تلطف بمبتلانا، وأن ترحم غربتنا في الدنيا، ومصرعنا عند الموت، ووقوفنا بين يديك، وأن تقينا من ميتة السوء، ومن يوم السوء، وساعة السوء، وليلة السوء، وجار السوء، وصاحب السوء، وأن تعيذنا من النفاق وسوء الأخلاق.

    اللهم إنا نسألك فرجاً عاجلاً للمسلمين مما هم فيه وملاقوه، اللهم إنا نسألك فرجاً عاجلاً للمسلمين مما هم فيه وملاقوه، اللهم إنا نسألك فرجاً عاجلاً للمسلمين مما هم فيه وملاقوه.

    اللهم اكشف كروبنا، ونفِّسْ همومنا واقضِ حاجاتنا.

    اللهم هبْنا عطاءك، ولا تكشف عنا غطاءك، ورضِّنا بقضائك.

    اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين، وأخصُّ من أُوصيت فيه بالدعاء. اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين وأخصُّ من أُوصيت فيه بالدعاء.

    اللهم اجعل قبورهم من الجنة رياضاً. اللهم اجعل قبورهم من الجنة رياضاً، اللهم اجعل قبورهم من الجنة رياضاً. اللهم إنهم عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، احتاجوا لرحمتك، وأنت غني عن عذابهم. اللهم زد في حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم؛ اللهم زد في حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم؛ فأنت أرحم بهم من أمهاتهم. لا إله غيرك، ولا معبود سواك، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا. اللهم يا رب:

    ومن قد عاش في الدنيا على الأمر بالتقى     وعن موبقات الإثم ما زال ناهيا

    تغمدْه يا رب عفواً بفضلك     ولا زال هطَّالُ من العفو هاميا

    على قبره يهني عشياً وبكرة     وبوِّأه قصراً من الخلد عاليا

    وصلِّ إلهي كلما هبَّت الصِّبَا     وما انهلَّت لجُون الغدَاف العواديا

    على المصطفى والآل والصَّحْب كلهم     وتابعهم والتابعين الهواديا

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756470933