إسلام ويب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - سماع الموتى للأحياءللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اختلف أهل العلم في مسألة سماع الموتى، فذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن الموتى يسمعون، وذهبت طائفة أخرى إلى أنهم لا يسمعون، لصريح الأدلة من الكتاب والسنة، وقالوا بأن ما ورد من النصوص في سماع الموتى مخصص بمن ورد النص فيهم، في أوقات خاصة وأشخاص معينين، وحادثة معينة، وبينوا مخاطر القول بسماع الموتى على عقيدة المسلم، وأن ذلك ذريعة إلى الشرك بالله وعبادة غيره تعالى.

    1.   

    سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الموتى في قبورهم لا يعلمون ما عليه الأحياء

    إن الحمد لله تعالى. نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الموتى في قبورهم لا يعلمون ما عليه الأحياء إلا إذا رد الله عليهم الأرواح. قال الله تبارك وتعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]].

    وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: [(وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول. قال: فذكرت ذلك لـعائشة فقالت: وهل أبو عبد الرحمن ، إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر فقال: إنهم الآن يعلمون)]. يعني: رواية ابن عمر فيها قوله عليه الصلاة والسلام: (إنهم الآن يسمعونعائشة اعترضت على هذا الكلام وذكرت أنه قال: (إنهم الآن يعلمون)، لم يقل: يسمعون، أي: يعلمون أن ما كنت أقول لهم حقاً [(وإنهم لفي النار. ثم قرأت: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80])].

    قال: [عن ابن عمر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر)] وقليب بدر: الحفرة العظيمة التي ألقي فيها صناديد الشرك بعد أن وضعت الحرب أوزارها.

    قال: [(وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ ثم قال: إنهم يسمعون ما أقول، فذكرت ذلك)]، والذاكر هو عروة ، فهو الراوي عن ابن عمر ذكر ذلك لـعائشة [ فقالت: (وهل ابن عمر)] وهل بمعنى نسي وأخطأ أن يأتي بالرواية على وجهها. [(إنما قال صلى الله عليه وسلم: ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق)]، وهذا الحديث أخرجه البخاري.

    هذه المسألة يا إخواني! من مسائل التوحيد العظيمة جداً، والبعض يذكرها في مسائل الفقه، لكن تعلقها بالاعتقاد والتوحيد أعظم بكثير جداً من تعلقها بالفقه، بل لا أرى لها وجه شبه أو تعلق بالفقه، إنما هذه المسألة من مسائل الاعتقاد، خاصة وأنها تتعلق بأمر من أمور الغيب، وأمور الغيب كلها أمور توقيفية، لا مكان للعقل ولا للاجتهاد فيها، فكونهم يسمعون أو لا يسمعون، ينعمون أو يعذبون، يردون السلام أو لا يردون السلام، يشعرون بالزائرين أو لا يشعرون بالزائرين كل هذا من مسائل الغيب، فلا يحل لأحد أن يثبت شيئاً من مسائل الغيب أو يأتيه إلا بنص؛ ولذلك العلماء -خاصة الأشاعرة- يسمون هذه المسائل مسائل السمعيات، سميت بهذا لأنها من مسائل الغيب التي لا يصح فيها الكلام بالاجتهاد؛ وإنما الكلام فيها متوقف على ثبوت السمع، ومعنى السمع: النقل كتاباً وسنة.

    وهم يعنون بالسمعيات الغيبيات؛ لأنها لا تثبت إلا عن طريق السمع أي: عن طريق النقل، قال الله، قال رسوله، ولا مجال لاجتهاد العقل فيها ألبتة.

    هذه المسألة .. مسألة سماع الأموات: هل الموتى يسمعون أو لا يسمعون؟ محل نزاع قديم جداً بين العلماء، ومذهب أهل السنة والجماعة في هذه القضية أن الموتى لا يسمعون، وذهب بعض أهل العلم إلى أنهم يسمعون ونافحوا عن رأيهم وأتوا بأدلة عظيمة جداً وكثيرة، ومعظمها لا يثبت من جهة النقل، والثابت منها فهموه على غير مراده.

    أدلة القائلين بعدم سماع الموتى

    أدلة القائلين بعدم السماع وهم جمهور أهل السنة: قول الله تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]، وهذا القول موجه لنبينا عليه الصلاة والسلام، ومن باب أولى لعامة الأمة إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يسمع من في القبور، وقال الله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل:80]، فهاتان آيتان من كتاب الله عز وجل، وهناك تأويل لهاتين الآيتين بأنهما تعنيان بالكافرين وهم أحياء وتشبيههم بالموتى؛ لأن الحياة الحقيقية إنما هي حياة القلب وحياة الإيمان، لكن لا بأس بجريان هذا على الموتى من باب أولى.

    والدليل الثاني: قوله تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14]، وهذا هو الدليل الثاني.

    أما من السنة: فحديث قليب بدر الذي نحن بصدده، وله روايات منها حديث ابن عمر الذي ذكرناه وأخرجه البخاري ومسلم، والطريق الثاني: حديث أبي طلحة : (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طوي) وهو القليب، يعني: أمر بأربعة وعشرين رجلاً فألقوا كما تلقى الزبالات على المزابل.

    قال: (فقذفوا في طوي من أطواء بدر) أي: في قليب من أحفارها (خبيث مخبث)، يعني: منتن جداً، وهذا الذي يليق بأمثال هؤلاء.

    قال: (وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث بعد أن وضعت الحرب أوزارها أمر النبي عليه الصلاة والسلام براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى النبي عليه الصلاة والسلام واتبعه أصحابه)، ومن أصحابه الذين اتبعوه: عبد الله بن عمر الذي روى هذا الحديث، إذ إن البعض يقول: هذا الحديث مطعون فيه؛ لأن عبد الله بن عمر لم يشهد غزوة بدر، فالنبي عليه الصلاة والسلام أرجعه من غزوة بدر. نقول: نعم. هذه حقيقة، ولكن عبد الله بن عمر شهد الواقعة في ثالث أيام بدر، وذلك لما وضعت الحرب أوزارها رجع المشركون إلى بلادهم إلى مكة، ورجع النبي بأصحابه بعد أن وضعت الحرب أوزارها إلى المدينة، وكان منهم ابن عمر ، فهذا لا علاقة له بالحرب، وإنما هذا كان بعد الحرب بثلاثة أيام.

    قال: (واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم -يعني: يقول:- يا فلان ابن فلان! ويا فلان ابن فلان! ثم يقول: أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟)، يعني: أما ندمتم وتحسرتم على هذه المعاصي وعلى عنادكم وكفركم، وأنكم متم وقتلتم على الكفر والإلحاد. قال: (فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاًّ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاًّ؟) الله تعالى وعد الطائعين الجنة ووعد العصاة النار، (فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ قال -أي: وائل بن عبد الله - يا رسول الله! ما تكلم من أجساداً لا أرواح فيها؟) يعني: ما قيمة هذا الكلام وما قيمة هذا النداء، وأنت يا رسول الله! تعلم أنهم أموات لا يسمعون؟ (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، يعني: هم يسمعونني كما تسمعونني أنتم الآن وزيادة، وانظروا إلى لفظة (الآن) التي وردت في حديث عبد الله بن عمر : (وقف النبي عليه الصلاة والسلام على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول) ولفظة (الآن) لها اهتمام عظيم جداً في هذه الرواية.

    قال: (والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم). قال قتادة وهو ابن دعامة السدوسي من كبار التابعين: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً. انظروا إلى فهم هذا الراوي قتادة ، يقول: (أحياهم الله) أي: في لحظة نداء النبي عليه الصلاة والسلام لهم الله تعالى أحياهم حياة برزخية؛ ليسمعوا تقريع وتصغير النبي صلى الله عليه وسلم لهم؛ لما فاتهم من الإيمان به.

    ووجه الاستدلال بحديث أبي طلحة وحديث عبد الله بن عمر ما في الرواية الأولى منه من تقييده صلى الله عليه وسلم سماع موتى القليب بقوله: (إنهم الآن يسمعونني)، وهذا يدل على تخصيص السماع بوقت النداء، وأن الأصل أنهم لا يسمعون، ولكنهم يسمعون الآن؛ معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام، فإن مفهوم هذه الرواية التي فيها: (الآن) أنهم لا يسمعون في غير هذا الوقت، وهو المطلوب إثباته: عدم سماع الأموات. وهذه فائدة مهمة نبه عليها أكثر من عالم، خاصة العلامة الألوسي في كتاب روح المعاني، نبه تنبيهاً قوياً على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون؛ ولكن أهل القليب في ذلك الوقت قد سمعوا نداء النبي عليه الصلاة والسلام وبإسماع الله تعالى إياهم خرقاً للعادة ومعجزة للنبي عليه الصلاة والسلام كما سيأتي معنا بإذن الله تعالى.

    وقال ابن عطية الإمام الكبير المفسر: فيشبه أن قصة بدر خرق عادة لمحمد صلى الله عليه وسلم. يعني: يقول: الكلام الحق فيها: أنها من باب المعجزات وخوارق العادات؛ لأن فيه رد الله لأهل القليب إدراكاً سمعوا به مقالة النبي عليه الصلاة والسلام، ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين؛ لأن الأصل مستقر لدى أهل العلم وأهل السنة أن الموتى لا يسمعون، ولولا أن النبي عليه الصلاة والسلام صرح بأنهم الآن يسمعون ما صدقنا أنهم يسمعون، والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر على عمر مقالته: (إنك تناديهم يا رسول الله! وإنهم لا يسمعون) لأن الأصل المستقر عند عمر وغيره أن الموتى لا يسمعون، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أنكر عليه هذا المعتقد، ولو كان هذا معتقداً باطلاً منكراً في عمر لما جاز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وللزم النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول له: يا عمر ! أنت اعتقدت في هذه المسألة اعتقاداً مخالفاً أو باطلاً، والحق أن الموتى يسمعون، ولكنه ما قال له ذلك، وإنما قال له: (والله ما أنتم بأسمع منهم لما أقول الآن)، وهذا يدل على تخصيص السماع في هذا الوقت دون غيره، فيكون ذلك معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام وهو كذلك، كما أنه تصغير وتوبيخ لمن مات منهم على الكفر.

    والأمر الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عمر وغيره من الصحابة على ما كان مستقراً في نفوسهم واعتقادهم أن الموتى لا يسمعون، بعضهم أومأ إلى ذلك إيماءً وبعضهم ذكر ذلك صراحة.

    أما الإيماء فهو في مبادرة الصحابة لما سمعوا نداءه صلى الله عليه وسلم لموتى القليب بقولهم: (ما تكلم أجساداً لا أرواح فيها) أنت يا رسول الله! تكلم من؟ أنت تكلم أجساداً لا أرواح فيها.

    ففي رواية أنس قالوا: (يا رسول الله! ما تكلم أجساداً لا أرواح فيها) فلولا أنهم كانوا على علم بذلك ثابت تلقوه منه عليه الصلاة والسلام ما كان لهم أن يبادروه بذلك. وهذا من أدب الصحابة، إذ إن الصحابة رضي الله عنه كانوا إذا سئلوا في مسألة لا يعرفونها ردوا علمها إلى الله ورسوله، فهذا الأدب المعروف سلفاً عن الصحابة، وأنهم لا يتقدمون بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام في مسألة لا علم عندهم فيها ولا يتناسب مع هذا المقام أنهم أنكروا على النبي عليه الصلاة والسلام: (كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها؟) هذا يتناسب مع أدب الصحابة، فالصحابة عندهم علم سابق بوحي السماء أن الموتى لا يسمعون، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما علمهم آنفاً في هذا الوقت بالذات، فلولا أنهم كانوا على علم بذلك سابق تلقوه منه عليه الصلاة والسلام ما كان لهم أن يبادروه بذلك، وهب أنهم تسرعوا وأنكروا بغير علم سابق، مع أن هذا يتنافى مع أدب الصحابة، فواجب التبليغ حينئذ يوجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم أن اعتقادهم هذا خطأ، وأنه لا أصل له في الشرع، ولم نر في شيء من روايات الحديث مثل هذا البيان أو الإنكار.

    وغاية جوابه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، وليس في هذا الكلام تأسيس قاعدة عامة بالنسبة للموتى جميعاً تخالف اعتقادهم الثابت، وإنما هو إخبار عن أهل بدر بصفة خاصة، وكذلك لم يخبرهم عن أهل القليب بصفة عامة وإنما أخبرهم عن أهل القليب خاصة، وفي هذا الوقت بالذات دون بقية الأوقات، على أنه ليس ذلك على إطلاقه بالنسبة لأهل القليب. أيضاً: إذا تذكرت رواية ابن عمر التي فيها: (إنهم الآن يسمعون) فسماعهم إذاً خاص بذلك الوقت، وبما قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام فقط، فهي واقعة عين لا عموم فيها. انظر إلى هذا الكلام الأصيل، مخاطبة النبي عليه الصلاة والسلام لأهل بدر سماها العلماء واقعة عين. يعني: حادثاً معيناً يحفظ ولا يقاس عليه.

    إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: يا أهل القليب! يا أهل بدر! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً فإنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً؛ بين عليه الصلاة والسلام أنهم يسمعون كلامه كما يسمعه الأحياء لكن الآن، فهذا يدل على أن هذه الحادثة حادثة عين حتى أهل القليب أنفسهم في غير هذه اللحظة لا يسمعون.

    إذاً: فقيمة قوله: (الآن) يدل على أنهم لا يسمعون في غير الآن، إنما يسمعون في هذه اللحظة فقط.

    وأما التصريح فهي في رواية عند أحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال: فسمع عمر صوته، فقال: يا رسول الله! أتناديهم بعد الثلاث؟ -أتنادي أهل القليب بعد ثلاثة أيام؟- وهل يسمعون؟ يقول الله عز وجل: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80] هذه حجة عمر ، يقول: يا رسول الله! كيف تنادي الناس هؤلاء بعد ثلاثة أيام من موتهم؟ وكيف تخاطبهم بعد هذه المدة الزمنية من الموت، لعلك يا رسول الله! نسيت قول الله عز وجل: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80] لعلك نسيت هذا!

    فقال: (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا) وهذا سند صحيح على شرط مسلم ، فقد صرح عمر رضي الله عنه أن الآية المذكورة هي العمدة في تلك المبادرة. لماذا الصحابة أنكروا على النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة؟ الجواب: لأن هناك أصلاً عندهم مستقراً ثابتاً: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80].

    فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن هذه الآية على عمومها، وأن الأصل في المعتقد هذه القضية، لكن أهل القليب هؤلاء أصحاب خصوصية في هذا الموقف لذا فإنهم فهموا من عمومها دخول أهل القليب؛ ولذلك أشكل عليهم الأمر. يعني: هم فهموا من الآية العموم لأهل القليب ولغيرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أنكر عليهم، إنما أثبت لهم أن الآية على عمومها لكن يختص منها أهل القليب في هذا التوقيت بالذات.

    ويتضح أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الصحابة وفي مقدمتهم عمر على فهمهم للآية على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب ولغيرهم؛ لأنه لم ينكر عليهم ولا قال لهم: أخطأتم، فالآية لا تنفي مطلقاً سماع الموتى، بل إنه أقرهم على ذلك، ولكن بين لهم ما كان خفي عليهم من شأن القليب، وأنهم سمعوا كلامه حقاً، وأن ذلك أمر خاص يستثنى من الآية معجزة له صلى الله عليه وسلم كما سبق بيانه. هذه أدلة القائلين بعدم سماع الموتى.

    أدلة القائلين بأن الموتى يسمعون

    من أدلة القائلين بالسماع: حديث القليب -نفس الحديث الذي معنا- لكن جمهور أهل السنة فهموا منه كما فهم عمر وغيره أن هذا ربما يكون وهماً للنبي عليه الصلاة والسلام، حتى بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا خصوصية، وأن هذا الكلام يخصص الآية في حق أصحاب القليب، وبين لهم أن هذه حادثة عين لا يجوز القياس عليها.

    أما القائلون بسماع الموتى وأنهم يسمعون مطلقاً دون تقييد بوقت معين أو بأشخاص معينين فقالوا: حديث القليب يدل على سماع الموتى في القبر.

    وقد عرفنا فيما سبق أنه خاص بأهل القليب من جهة، وأنه دليل على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون من جهة أخرى، وأن سماعهم كان خرقاً للعادة، ولا داعي للإعادة. هذا هو الدليل الأول.

    الدليل الثاني: حديث: (إن الميت ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا) وفي رواية: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: من ربك) إلى آخر الحديث.

    الشاهد: أن الميت يسمع قرع نعال من شيعه، وهذا الحديث -كما طرأ- خاص بوقت وضع الميت في القبر، ومجيء الملكين إليه بسؤاله، فلا عموم فيه، كذلك هذا الحديث حادثة عين لا يقاس عليه، وعلى ذلك حمله العلماء كابن الهمام وغيره، وسيأتي معنا بإذن الله تعالى.

    وخلاصة البحث كما قال شيخنا الشيخ الألباني رحمه الله، يقول: إن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة الحنفية وغيرهم على أن الموتى لا يسمعون، وأن هذا هو الأصل، فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال كما في حديث خفق النعال، أو أن بعضهم سمع في وقت ما كما في حديث القليب فلا ينبغي أن يجعل ذلك أصلاً فيقال: إن الموتى يسمعون كما قال بعضهم. واستدلوا بقضايا جزئية لا تشكل قاعدة سنية يعارض بها الأصل المذكور، بل الحق أنه يجب أن تستثنى منه. يعني: هذه الأحوال التي وردت أن الموتى فيها يسمعون إنما هي بمثابة استثناء من الأصل، على قاعدة استثناء الأقل من الأكثر أو الخاص من العام كما هو المقرر في علم أصول الفقه.

    ولذلك قال العلامة الألوسي في روح المعاني بعد بحث مستفيض في هذه المسألة: والحق أن الموتى لا يسمعون في الجملة، فيقتصر على القول بسماع ما ورد السمع بسماعه.

    انظر الكلام الجميل! والحق أن الموتى لا يسمعون في الجملة، يعني: الأصل العام أن الموتى لا يسمعون، فيقتصر على القول بسماع ما ورد السمع بسماعه، ما ورد السمع -أي: القرآن والسنة- بسماعه على أهل القليب، وأن الميت إذا وضع في قبره سمع خفق نعال من شيعوه. هذه حوادث عين لا يقاس عليها.

    مسألة في سماع الموتى للسلام

    مسألة: السلام على الموتى: هل يسمعونه أو لا يسمعونه؟ الراجح: أنهم لا يسمعونه، والدليل على ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون خلف النبي عليه الصلاة والسلام، والمعلوم أن المصلي يقول في تشهده أو في صلاته: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وكانوا يقولون: السلام عليك أيها النبي! ورحمة الله، كان يقول هذا القريب منه عليه الصلاة والسلام والبعيد عنه عليه الصلاة والسلام، فهل كان النبي عليه الصلاة والسلام يسمع كلام من يسلم عليه ويصلي عليه في صلاته وهو خلفه أو وهو بعيد عنه، هل كان يسمعه؟ إنما هذا عبادة مجردة.

    النبي عليه الصلاة والسلام كان يزور المقابر فيسلم عليهم ويأمر بذلك، لكن لم يثبت لنا في الشرع أن الموتى إذا سلمنا عليهم سمعوا كلامنا وردوا عليهم، ولو كان الرد واجباً عليهم لكان من رحمة الله عز وجل أن نسمع ردودهم على سلامنا، فلما لم نكن نسمع دل هذا كذلك على أنهم لا يسمعون كلامنا، ولو سمعوا ما استجابوا لنا؛ لأن ذلك في غير مقدورهم.. وغير ذلك من الأدلة.

    وثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت في الحج) ركز على كلمة (يزور)، وأنه كان -وهو في المدينة- يزور قباء راكباً وماشياً، ومن المعلوم تسمية طواف الإفاضة بطواف الزيارة، فهل من أحد يقول: بأن البيت وقباء يشعر كل منهما بزيارة الزائر أو أنه يعلم بزيارته، فهذه زيارة كذلك، وهذه حجة عقلية للرد على من يزعم أن زائر القبور إذا سلم عليهم سمعوا سلامه وردوه، وليس بذلك، بل لا يسمعه ولا يدركه ولا يستمع له؛ لأنه في عالم الموتى.

    ولذلك الحجة العقلية: أن اللازم من الزيارة: السلام، لكن لا يلزم من إلقاء السلام سماعه والرد عليه؛ بدليل أن زيارة البيت تسمى زيارة، وزيارة قباء تسمى زيارة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من زار مسجد قباء وصلى فيه ركعتين كان كمن اعتمر).

    يعني: صلاة ركعتين في مسجد قباء كعمرة، وهذا ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهل من زار مسجد قباء وصلى ركعتين فيه يشعر به المسجد؟ وكذلك زيارة البقيع، فهل يشعر أهل البقيع بزائريهم؟ الجواب: أنهم لا يشعرون ولا يسمعون السلام فضلاً عن أن يردوا عليه.

    مسألة في سماع الميت للأحياء عند الدفن

    مسألة: هل يسمع الميت عند دفنه؟ لا. والثابت عند الدفن أننا إذا أدخلناه القبر قلنا: (بسم الله وعلى ملة رسول الله) هذا هو الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام، أما أن تأمره بالتوحيد فهذا عند الاحتضار، وهذا ما يسمى بالتلقين، أما التلقين الذي بعد الموت فقد اختلف فيه العلماء على ثلاثة آراء:

    منهم من قال به مطلقاً، ومنهم من منعه مطلقاً، والثالث: قالوا: يلقن حين النزول لا بعد النزول، والراجح: عدم تلقين الشهادتين وغير ذلك، والصواب في هذه القضية: أن التلقين حين نزول الميت القبر لا يكون إلا بقولك: (بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    أما الدعاء له بالتثبيت فهو الدعاء الذي ينفعه، لكن ليس فيه أنه يسمعه، إنما الذي فيه أنه يستفيد من ذلك، وبعض أهل العلم افترى على الإمام أبي حنيفة وأصحاب المذهب أنهم قالوا بسماع الأموات مطلقاً، فالإمام الألوسي صنف كتاباً عظيماً جداً في الرد على من قال ذلك وسماه: الآيات البينات في إثبات عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات، وحققه شيخنا العلامة الألباني رحمه الله.

    فقال بعد أن ذكر كلام الأحناف بعدم سماع الأموات قال: وممن قال بقولهم -أي: بقول الحنفية- أصحاب المذاهب الأخرى.

    وقال الإمام النووي -وهو شافعي- في شرح مسلم في باب عرض مقعد الميت من الجنة في الكلام على قوله عليه الصلاة والسلام في قتلى بدر: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) قال المازري : قال بعض الناس: الميت يسمع؛ عملاً بظاهر هذا الحديث. هكذا قال المازري .

    ثم أنكره المازري وادعى أن هذا خاص في هؤلاء. يعني: المازري أول من خالف فقال بأن الموتى يسمعون، ثم أنكرها وأثبت أن هذا خاص بأهل القليب خاصة، وأنت تعلم أن المازري من أجل العلماء المالكية المتقدمين.

    أما إنكار عائشة رضي الله عنها سماع الموتى وقالت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنهم ليسمعون، إنما قال: إنهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم أنه حق، ثم قرأت: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80]، وقرأت: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]).

    قال الحافظ ابن رجب : وقد وافق عائشة على نفي سماع الموتى كلام الأحياء طائفة من العلماء، ورجح القاضي أبو يعلى من أكابر أصحابنا في كتابه الجامع الكبير، واحتج بما احتجت به، وأجابوا عن حديث قليب بدر يما أجابت فيه عائشة رضي الله تعالى عنها، وبأنه يجوز أن يكون ذلك معجزة مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وهو سماع الموتى لكلامه.

    وفي صحيح البخاري قال قتادة : أحياهم الله تعالى -يعني: أهل القليب- حتى أسمعهم قوله صلى الله عليه وسلم توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً.

    الرد على من قال بسماع الموتى للأحياء

    ذهب طوائف من أهل العلم إلى سماع الموتى كلام الأحياء في الجملة، فبين منه أن طائفة من العلماء وافقوا عائشة رضي الله عنها على عدم السماع وأن منهم القاضي أبو يعلى الذي هو من أكابر علماء الحنبلية، كما هو مذهب أئمتنا الحنفية رحمهم الله.

    وفي كتاب روح المعاني احتج من أجاز السماع بالجملة بما رواه البيهقي والحاكم وصححه وغيرهما عن أبي هريرة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على مصعب بن عمير وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال: أشهد أنكم أحياء عند الله تعالى، فزوروهم وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده لا يسلم أحد عليهم إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة)، هذا يدل في ظاهره أن الموتى يسمعون إلى يوم القيامة، ولكن هذا الحديث حديث باطل منكر.

    كما في الحديث الآخر: (ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه) هذا الحديث يحفظه عامة الناس، وهو حديث أشد نكارة من الذي قبله.

    وقال البخاري في بابه: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على كفار قريش، وهلاكهم يوم بدر، ذكر عند عائشة رضي الله عنها أن ابن عمر رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن الميت ليعذب في قبره ببكاء أهله) فقالت: (ذهل ابن عمر ، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن). قال: وذلك مثل قولها: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فما قال لهم: إنهم ليسمعون ما أقول، إنما قال: إنهم الآن ليعلمون) ولم يقل: يسمعون.

    قال الحافظ ابن حجر في شرحه: قال السهيلي : إن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لقول الصحابة له: (أتخاطب أقواماً قد جيفوا؟) يعني: صاروا جيفاً فأجابهم.

    قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين جاز أن يكونوا سامعين، وذلك إما بآذانهم في رءوسهم على القول الأكثر، أو بآذان قلوبهم. قال: وقد تمسك بهذا الحديث من يقول: إن السؤال يتوجه على الروح والبدن، ورده من قال: إنما يتوجه على الروح فقط؛ لأن الأسماع يحتمل أن يكون بأذن الرأس، ويحتمل أن يكون بأذن الرأس وبأذن القلب، فلم يبق فيه حجة. وإذا كان الذي وقع حينئذ من خوارق العادة للنبي عليه الصلاة والسلام لم يحسن التمسك به في مسألة سؤاله أصلاً.

    1.   

    أوجه خطورة القول بأن الموتى يسمعون

    الوجه الأول: أن القول بأن الموتى يسمعون يؤدي إلى الشرك

    الوجه الأول: أن القول بأن الموتى يسمعون كلام في غاية الخطورة؛ لأنه يؤدي إلى الشرك، وهو ذريعة إلى الشرك، فهذه مسألة متعلقة كما قلنا بتوحيد الله عز وجل وإخلاص العبادة له وحده، ودعائه سبحانه وتعالى دون سواه، ومن المعلوم أن اعتقاد سماع الموتى هو الدافع والسبب الأقوى في وقوع كثير من المسلمين اليوم في الشرك الأصغر وهو دعاء الأولياء والصالحين، وعبادتهم من دون الله عز وجل، واعتقاد أنهم يسمعون فيستجيبون لهم، بل ويدفعون عنهم الضر ويجلبون لهم النفع.

    وهناك الآن من ينادي الحسين أو البدوي أو غير ولي من هؤلاء الأولياء، ولولا أن الداعي لهذا الوثن يعتقد أن المقبور يسمعه ويستجيب له ما دعاه، ويقع في الفلاحين الطوام من هذه الأحوال، وإذا خرج صاحب الاعتقاد السليم ينكر على أهل القرية كل منهم تنصل وتبرأ منه، حتى الوالد يتبرأ من ولده مخافة أن يؤذيه ذلك الميت، ولا يكون ذلك المعتقد إلا لإثبات أنه يعتقد أنه يسمع، وأنه بيده الضر والنفع، ويشاركهم في ذلك كثير ممن ينتسبون إلى العلم قولاً وعملاً، فالطرابيش الحمراء معظمها أصحاب منفعة، فهم صناديق النذور، فلو أن أصحاب الطرابيش تركوا تقديم البراهين وقرابين الطاعة لأهل القبور واعترفوا اعترافاً جازماً بأن هؤلاء لا يسمعون ولا ينفعون ولا يضرون وغير ذلك فإنه لا حظ لهم في صندوق النذر.

    وهكذا كل إنسان على قدر منزلته، وعلى قدر مكانه، وإن شئت فقل: على ضعف الإيمان في القلب، مع أن الله تعالى جعل على لسان كل نبي ورسول أرسله: أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].

    فإذا تبين أن الموتى لا يسمعون لم يبق حينئذ معنى لدعاء الموتى من دون الله عز وجل، إذ لا يدعى ولا يستغاث بغير الحي سبحانه وتعالى، فهو سبحانه الذي بيده النفع والضر.

    قال بعض القائلين: نظرة من الشيخ تقلب الشقي سعيداً، فيصرخ: نظرة يا بدوي ! نظرة يا حسين ! نقول: النظرة هذه ماذا ستجلب؟ يقول: هذه النظرة تجعل الشقي سعيداً، تجعل من إذا كان قد كتب من أهل الشقاء وأهل النار من أهل السعادة ومن أهل الجنة، ومعلوم أن هذا الشيء لا يجوز إلا لله عز وجل، وهل هناك أحد يملك الشقاء والسعادة إلا الله عز وجل، فالذي يملك ذلك هو الله، وصرف ذلك إلى غير الله شرك أكبر، وإنهم ليعتقدون أن الكون إنما يتصرف فيه المشائخ والأقطاب والأوتاد والمدرسون وغيرهم، والله تعالى يقول لنبيه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعراف:188] ومعنى (إلا) هنا: لكن. أي: لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً لكن الله يملك ذلك، فمعنى الآية: قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً لكن ما شاء الله أن ينفعني نفعني وما شاء أن يضرني ضرني، فـ(إلا) هنا بمعنى: لكن.

    وهناك كتاب باطل جداً، كله خرافات وخزعبلات اسمه: (شواهد الحق بالاستغاثة بسيد الخلق) لـيوسف النبهاني ، ويوسف النبهاني رجل قديم ومعروف بسلوكه وتصوفه وغير ذلك، وفي هذا أعظم وازع وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله تعالى، وكذلك من صار يطلب من الرسول ما لا يقدر على تحصيله إلا الله، فإن هذا مقام رب العالمين، الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين، ورزقهم وأحياهم وهو الذي يميتهم، فكيف يطلب من نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه بنفسه؟ يعني: كيف أطلب أنا من ميت لا يملك -وهو حي- النفع والضر بنفسه، فضلاً أن أطلبه أنا منه وهو ميت؟ هذا أمر محال!

    كيف يفعل ذلك ويترك الطلب من رب الأرباب القادر على كل شيء، الخالق الرزاق، المعطي المانع؟ وحسبك ما في الآية من موعظة، فإن سيد ولد آدم وخاتم الرسل يأمره الله بأن يقول لعباده: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا [يونس:49] فكيف يملكه لغيره؟ أو كيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنزلته لا تبلغ منزلته فضلاً أن يملكه غيره؟ فيا عجباً لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك، ولا ينتبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى لا إله إلا الله، ولمعنى: قل هو الله أحد؟

    وأعجب من هذا: اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء دون النكير عليهم، بل وأعجب من ذلك وأشد إعجاباً: أن يشارك أهل العلم في هذا البلاء وهذا الشرك، وأنهم يدعون إلى ذلك، وهؤلاء الذين وقعوا في هذا الشرك الأكبر البين إنما تضم صحائفهم إلى صحائف سيئات هؤلاء أصحاب العمائم الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

    يقول الله تعالى: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس:22]. هذه دعوى المشركين، وأن المشركين كانوا يدعون غير الله في السراء، ولا يدعون إلا الله في الضراء، وهم على البر يدعون غير الله.

    قال الشيخ رشيد : في هذه الآية وأمثالها بيان صريح لكون المشركين كانوا لا يدعون في أوقات الشدائد وتقطع الأسباب بهم إلا الله ربهم، ولكن من لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل من مسلمي هذا الزمان بزعمهم لا يدعون عند أشد الضيق إلا معبوديهم من الميتين، كـالبدوي والرفاعي والدسوقي والجيلاني والمتبولي وأبي سريع وغيرهم ممن لا يحصى عددهم، وتجد من حملة العمائم الأزهريين وغيرهم ولاسيما سدنة المشاهد المعبودة الذين يتمتعون بأوقافها ونذورها من يغريهم بشركهم، ويتأوله لهم بتسميته بغير اسمه في اللغة العربية كالتوسل وغيره.

    وظاهر هذه الآية: ليس المراد تخصيص الدعاء به سبحانه فقط، بل تخصيص العبادة كلها؛ لأن الدعاء والاستغاثة والنذر وغير ذلك كلها أبواب من أبواب العبادات؛ ولذلك ليس المراد بهذه الآية الدعاء فقط بل العبادة مطلقاً؛ لأنهم بصرف ذلك لغيره سبحانه لا يكونون مخلصين له الدين، وأياً ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يدعو الخضر وإلياس، ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس ، ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة، ولا ترى أحداً فيهم يخص مولاه بتضرعه ودعائه، ولا يكاد يمر له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من تلك الأهوال، فبالله عليك قل لي: أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلاً؟ وأي الداعيين أقوم قيلاً؟ فإلى الله المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة، وتلاطمت أمواج الضلالة، وخرقت سفينة الشريعة، واتخذت الاستغاثة بغير الله للنجاة ذريعة، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف، وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف في كل زمان ومكان من الشدة والمعارضة بدعوتهم الحق؛ بسبب فشو الشرك والبدع في الناس من عامتهم، وشيوخ البدع من علمائهم، والمنافقين من حكامهم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

    فالقول بسماع الأموات أول خطورته: أنه ذريعة إلى الشرك، إذا اعتقد الحي أن الميت يسمع من دعاه من دون الله عز وجل.

    الوجه الثاني: أن ذلك يتنافى مع الإخلاص لله تعالى في العبادة

    الوجه الثاني: أن اعتقاد أن الموتى يسمعون يتنافى مع الإخلاص لله تعالى في دعائه وعبادته وحده، وفي ذلك آيات كثيرة صريحة في النهي عن دعاء غير الله تعالى من الأولياء والصالحين، ومنها قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22-23].

    قال ابن تيمية عليه رحمة الله: ومثل هذا في القرآن كثير، ينهى أن يدعى غير الله، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، فإن هذا شرك أو ذريعة إلى الشرك، بخلاف ما يطلب من أحدهم في حياته من الدعاء والشفاعة، فإنه لا يفضي إلى ذلك، فإن أحداً من الأنبياء والصالحين لم يُعبد في حياته بحضرته، فإنه ينهى من يفعل ذلك، بخلاف دعائهم بعد موتهم فإن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم، وكذلك دعاؤهم في مغيبهم هو ذريعة إلى الشرك.

    وابن تيمية يقصد أن هناك فارقاً كبيراً جداً، فمن الناس من يطلب الدعاء من النبي عليه الصلاة والسلام، أو يطلب الشفاعة أو الوساطة في قضاء مصلحة ما من النبي عليه الصلاة والسلام، كمن جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا رسول الله! استغفر لي)، فهذا ليس شركاً، لكن لو أن واحداً أتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! استغفر لي فإن هذا شرك.

    إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يشفع للأمة، والأنبياء يشفعون، والصالحون يشفعون، والملائكة يشفعون بغير أن يطلب أحد منهم الشفاعة، فهل هذه الشفاعة شرك؟ الجواب: لا؛ لأنهم إما أن يشفعوا في حياتهم الدنيا، أو يشفعوا في حياتهم الأخروية، المهم أنهم يشفعون في حال الحياة.

    فلا شك أن هناك فارقاً كبيراً جداً بين من يدعو الميت ويطلب منه جلب النفع ودفع الضر وبين من يطلب شفاعة الأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين.

    ثم هو يحتج كذلك بأن الصحابة إنما كانوا يسألون النبي عليه الصلاة والسلام في حياته، ولم يثبت أن واحداً من أصحابه سأله بعد موته، فمن رأى نبياً أو ملكاً من الملائكة وقال له: ادع لي، لم يفض ذلك إلى الشرك، بخلاف من دعاه في مغيبه فإن ذلك يفضي إلى الشرك؛ فالغائب والميت لا ينهيان من يشرك، فإذا تعلقت القلوب بدعائه وشفاعته أفضى ذلك إلى الشرك، فدعي وقصد مكان قبره أو تمثاله أو غير ذلك، كما قد وقع فيه المشركون، ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين.

    ومعلوم أن الملائكة تدعو للمسلمين وتستغفر لهم، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7] فالذين آمنوا لم يطلبوا من الملائكة أن يستغفروا لهم، وإنما استغفروا لهم ابتداءً: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7]. فالملائكة يستغفرون للمؤمنين من غير أن يسألهم أحد.

    وكذلك ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام -أو غيره من الأنبياء والصالحين- يدعو ويشفع للأخيار من أمته، وهذا من جنس العمل، فهم يفعلون ما أذن الله لهم فيه بدون سؤال أحد من الناس.

    وقال ابن تيمية : وكذلك الأنبياء والصالحون وإن كانوا أحياء في قبورهم، وإن قدر أنهم يدعون للأحياء وإن وردت به آثار فليس لأحد أن يطلب منهم ذلك، ولم يفعل ذلك أحد من السلف؛ لأن ذلك ذريعة إلى الشرك بالله وعبادتهم من دون الله تعالى، بخلاف الطلب من أحدهم في حياته، فإنه لا يُفضي إلى الشرك؛ ولأن ما تفعله الملائكة ويفعله الأنبياء والصالحون هو بالأمر الكوني لا بالأمر الشرعي، فلا يؤثر فيه سؤال السائلين، بخلاف سؤال أحدهم في حياته فإنه يشرع إجابة السائل، وأما بعد الموت فقد انقطع التكليف عنهم.

    فالخلاصة: أن طلب الدعاء والشفاعة ونحو ذلك من الأنبياء والصالحين بعد موتهم لا يجوز؛ لأنه شرك أو ذريعة إلى الشرك. وهذا هو الوجه الثاني.

    الوجه الثالث: أن ذلك يقتضي الاعتقاد بأن الموتى قادرون على إجابة مسائلهم وقضاء حوائجهم

    الوجه الثالث في خطورة اعتقاد أن الموتى يسمعون: اعتقاد أن الأنبياء والصالحين قادرون على إجابتهم وإلا كان دعاؤهم ومناداتهم بذلك سخفاً جلياً، وضلالاً بيناً، وهذا مما يترفع عنه العاقل، بل المؤمن؛ لأنه باطل بداءة وفطرة؛ ولذلك احتج الله على المشركين في مواطن كثيرة من القرآن، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ [الأعراف:194]، فهذا ليس فعل أمر يدل على الوجوب، بل توبيخ وتقريع. قال: فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:194-195] إنكار؛ ولذلك كانت حجة إبراهيم على أبيه وقومه كما قال تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42].

    فإن قيل إن أبا إبراهيم كان يعبد صنماً وهذه الآية في الأصنام لا في الأموات. نقول: لا فارق بين الميت والصنم بجامع أن كلاً منهما لا يسمع، وأنه لا يجوز دعاء أحد إلا من يسمع.

    وقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:195]، وقول إبراهيم: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء:72-73]، هذا يدل على أن هذه مؤهلات من يجوز دعاؤه. يعني: لا بد أنه يسمع ويبصر ويرى ويملك النفع والضر وغير ذلك، أما كون هؤلاء الموتى أو هؤلاء الأصنام لا يملكون شيئاً من ذلك فهذا يدل على تحريم دعائهم والاستغاثة بهم والنذر لهم والذبح لهم وغير ذلك من سائر العبادات.

    إذا عرفت هذا فتنبه أيها المسلم المبتلى بدعاء الأولياء والصالحين من دون الله تعالى، هل أنت تعتقد أنهم حين تناديهم لا يسمعونك؟ إذاً: فأنت مع مخالفتك للعقل والفطرة مثل أولئك المشركين من قوم إبراهيم وغيرهم ولا فرق، فلا ينفعك والحالة هذه ما تدعيه من إسلام أو إيمان؛ لأنك حينئذ مشرك؛ لأنك قد صرفت ما يجب لله إلى غير الله؛ ولأن الله تعالى يقول في القرآن: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].

    وإن كنت تزعم أنهم يسمعونك ولذلك تناديهم وتستغيث بهم وتطلب منهم فهي ضلالة أخرى فقت بها المشركين، وإني لأعيذك بالله أن تكون منهم في شيء.

    فاعلم أخي المسلم! أن كل ما أعطاه الله تعالى للبشر وفيهم الأنبياء والأولياء من قدرات وصفات يذهب بالموت، كالسمع والبصر والبطش والمشي ونحو ذلك، فما يبقى منها شيء كما هو مشاهد، اللهم إلا الروح باتفاق المسلمين.

    فالذي أريد أن أجمله في هذه اللحظات أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون إلا ما ورد الدليل أنهم يسمعون في لحظات وأوقات معينة وأشخاص معينين، أما الأشخاص فهم أهل القليب من باب إثبات المعجزة للنبي عليه الصلاة والسلام، والتقريع والتصغير لهؤلاء على جهة الخصوص، وفي هذا التوقيت بالذات.

    أما ما دون هؤلاء فإنهم يسمعون خفق النعال فقط، ولا بد أن تعتقد أن الميت إنما ينتفع بعمل الحي من الدعاء له والاستغفار والسلام والصدقة والحج والصيام عنه وغير ذلك، ينتفعون بذلك انتفاعاً لا يستلزم سماعهم له، والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك ينتفع بسلام الناس عليه وصلاتهم عليه، ولا يلزم من ذلك أنه يسمعهم، أما قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه السلام) فهذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    حكم من لم يصل الظهر ودخل المسجد والإمام يصلي بالناس العصر

    السؤال: أنا لم أصل الظهر، ودخلت المسجد والإمام يصلي بالناس صلاة العصر، فماذا علي؟

    الجواب: هذه المسألة تنازع فيها أهل العلم نزاعاً كبيراً، فمنهم من قال: تخالف الإمام في النية فتصلي الظهر خلف الإمام الذي يصلي العصر، ثم تصلي العصر وحدك.

    ومنهم من قال: بل تصلي مع الإمام وتوافقه في النية -تصلي العصر معهم- ثم ترجع فتصلي الظهر، ثم ترجع فتصلي العصر حفاظاً على الترتيب.

    والمذهب الثالث: أن الترتيب ليس بلازم، أي: تصلي معه العصر، ثم تصلي الظهر ولا إعادة عليك، هذا هو المذهب الثالث في القضية.

    والذي يترجح لدي أنه إذا اتفقت عدد الركعات جاز مخالفة الإمام بالنية، يعني: لو أنك صليت معه الظهر وهو يصلي العصر فلا بأس أن تفارقه في النية، فتنوي الظهر ثم تنوي بعد ذلك العصر في صلاتك وحدك.

    أما إذا اختلفت عدد الركعات كمن فاته المغرب ودخل والإمام يصلي العشاء، فالذي يترجح لدي موافقة الإمام في النية وصلاة العشاء معه، ثم يصلي المغرب بدون إعادة العشاء؛ لأن الفرض لا يصلى في يوم مرتين، والله أعلم.

    حكم دفن أكثر من ميت في قبر واحد

    السؤال: هل يجوز دفن أكثر من ميت في قبر واحد؟

    الجواب: نعم. كما هو واقع في قتلى أحد، فالنبي عليه الصلاة والسلام دفن الجماعة في قبر واحد، ومسألة أن كل ميت له قبر مسألة مستقرة، لكن إذا تعذر الأمر وكثر الموتى وقلت القبور جاز للضرورة دفن أكثر من واحد في قبر واحد، ويقدم أكثرهم قرآناً أو علماً بالسنة.

    والإمام الشافعي عليه رحمة الله قال: وإن ضاقت المسألة ولا بد من دفن الرجل مع المرأة أو المرأة مع الرجل فلا بأس بذلك للضرورة على أن يكون بينهما ساتر، ساتر من رمال أو تراب أو غير ذلك، مع أنه لا يخاف الفتنة والحالة هذه، لكن هذا والله يا إخواني! من تمام رحمة الإسلام بالمرأة، فقد اهتم الإسلام بصيانة المرأة وعفتها حتى في نعشها وفي قبرها، فالمرأة في النعش تستر خلافاً للرجل.

    حكم من ترك صلوات وأراد قضاءها وتعويضها

    السؤال: إذا أراد أحد قضاء ما ترك من صلوات كأن يصلي الظهر مثلاً مرتين أو ثلاثاً هل هذا يصح؟

    الجواب: هذا مذهب الجمهور، لكن ليس عليه دليل، والذي يترجح لدي أن تارك الصلاة بالكلية كافر خارج عن الملة، وإنما يكفيه إذا صلى أن يتوب إلى الله عز وجل مما بدر منه ومما كان منه من أمر الكفر أو الشرك، ويكثر من النوافل والصدقات وغير ذلك.

    حكم العمل في كوافير النساء وكوافير الرجال، وحكم الاختلاط في الوظائف

    السؤال: هناك أشرطة للشيخ وجدي غنيم حرم فيه عمل الكوافير للحريم؛ لأنه يساعد على خروج النساء متبرجات، فما حكم الإسلام في كوافير الرجال الذي يحلق الذقن، وحكم الاختلاط في الوظائف؟

    الجواب: كوافير الحريم الذي يستقر عندي أنه حرام إلا أن تفعل المرأة ذلك تزيناً لزوجها، أو يكون ذلك في بيتها أو في بيت آمن، فلا بأس أن تأتي امرأتك عند امرأتي أو امرأتي عند امرأتك في غيبة الرجال عن البيت، وتساعد كل أخت أختها في حسن زينتها، أو أن هذه المرأة التي تسأل إذا كانت تعمل في الكوافير فلا بأس أن تتفق مع مجموعة من الأخوات على أن تذهب إلى بيوتهن لأجل التزين وغير ذلك مما تصنعه النساء لأزواجهن في البيوت.

    أما حلق اللحية للرجال فهو حرام بالإجماع، كذلك حكم الاختلاط في الوظائف حرام بالإجماع، إلا إذا اضطرت امرأة إلى العمل، والضرورة تقدر بقدرها، ولا تعرف حالة الاضطرار إلا من قبل الشرع، فإذا اضطرت امرأة لظروف ما أن تعمل فعملها حلال بشرط أن يكون قصد العمل حلالاً لا حراماً، وأن تخرج ملتزمة الصيانة والأدب، وألا تخالط الرجال إلا على قدر المصلحة، بغير هذا فالعمل حرام، والله تعالى أعلم.

    حكم قول العامي لأحد من المشايخ يا مولانا!

    السؤال: ما رأيكم في قول أحد العوام لأحد المشايخ: يا مولانا؟!

    الجواب: الله تعالى يقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، فلا بأس بذلك، يا مولانا! وشيخنا! وسيدنا! لا بأس بذلك.

    حكم اللحوم المستوردة

    السؤال: هل أكل سندوتشات الكبدة المستوردة وبيعها وشراؤها حرام، وما حكم العمل في اللحوم المستوردة عموماً؟

    الجواب: نعم. الذي لا أتوقف فيه حرمة اللحوم المستوردة، سواء الأكل منها أو الاتجار فيها أو العمل، فكل هذا حرام، وهؤلاء القوم وإن كانوا أهل كتاب إلا أنهم لا يذبحون، ولا يحل أكلهم وهم أهل كتاب إلا إذا ذبحوا، وفي الغالب أنهم يصعقون ويقتلون ويميتون، فاللحوم المستوردة قامت وحامت حولها شبهات عظيمة جداً، أما اللحوم البلدية التي تذبح في بلادنا فأنا لا أحرمها على الناس وإن كنت أتحرى ذلك في نفسي وأهل بيتي، فاللحوم التي تذبح في بلاد المسلمين الأصل فيها الحل، لكن يعكر على هذا الحل ويجعل الأمر محل اشتباه عظيم أن معظم من يقومون بالذبح في المجازر يتركون الصلاة ويسبون الدين، بل يسبون الله سبحانه، وهذه كلها أعمال ردة وكفر وخروج عن ملة الإسلام؛ ولذلك لما عكر على الأصل فعل القائمين على الأمر احتطت لنفسي، لكني لا أحرم ذلك على الناس.

    وجوب غض البصر عن المرأة في مكان العمل

    السؤال: يقول: هل يجوز غض البصر عن الحريم حتى ولو كانت في العمل؟

    الجواب: لا. هذا يجب، والله تعالى يقول: وقُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30].

    اهتمام الإسلام بحسن الجوار

    السؤال: جيراني يؤذونني بالأفعال السيئة والألفاظ القبيحة، ويسكبون على شقتي الماء، وأفتح الشقة فأجدها مليئة بالماء، وتقول صاحبة البيت: اخرج من المنزل إن كنت لا تحبه! فما حكم هذا، وكيف أتصرف معهم؟ أرجو الإفادة.

    الجواب: حسن الجوار شعبة من شعب الإيمان، ومن لم يقم بهذه الشعبة نقص إيمانه على قدر نقصان هذه الشعبة، وجبريل عليه الصلاة والسلام وصى بالجار حتى ظن النبي عليه الصلاة والسلام أنه سيجعل الجار وارثاً لجاره من كثرة ما أوصى جبريل عليه الصلاة والسلام نبينا صلى الله عليه وسلم بحسن الجوار.

    وحسن الجوار قد وردت فيه آيات وأحاديث لا حصر لها، وسلفنا رضي الله عنهم كان من أحوالهم أنهم يتحملون أذى الجار مخافة أن يردوا عليهم الأذى بأذى، فكانوا يحتملون أذى الجار في سبيل الله عز وجل، فهذا يخسر إيمانه بسبب إساءته للجار وذاك يزداد إيمانه بسبب احتماله لهذا الجار.

    وفي الحقيقة سوء الجوار هذا سمة عامة على المجتمع، فلا تكاد تدخل في مكان إلا وتفكر في الرحيل عنه إلى مكان آخر، وذلك بسبب الكلمات القبيحة جداً التي لا يمكن أن تصلح لتربية الأبناء، وبسبب الأفعال والاتهامات، والنبي عليه الصلاة والسلام أقام الحد على امرأة مخزومية؛ لأنها سرقت، لكن ورد عند مسلم أنها كانت تستعير العارية وتجحده وكانت جارة، ووقع الخلاف عند أهل العلم: هل جاحد العارية سارق تقطع يده لجحد العارية أم ليست سرقة؟

    والراجح: أن جحد العارية ليس بسرقة؛ لأن السرقة لها شروط، منها أن يسرق من حرز مغلق، وجحد العارية ليس حرزاً، لكن الرواية ذكرت أن هذه المرأة كانت تجحد العارية من باب ذكر صفتها، وقد كان بنو مخزوم يستحيون من هذه المرأة؛ لأنها قد جلبت لهم العار وهم من أشراف القوم.

    وأتى رجل النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله! إن لي جاراً يؤذيني، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أخرج متاعك على الطريق، فأخرج الرجل متاعه على الطريق ومكث بجواره، وكلما مر عليه أحد قال: ما شأنك؟ قال: يؤذيني جاري ويأمرني النبي عليه الصلاة والسلام بإخراج متاعي، فكان كلما مر عليه أحد وسمع بهذا قال: لعنة الله على جار السوء).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755988328