إسلام ويب

قصص معبرة للشبابللشيخ : إبراهيم الفارس

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خلق الله الخلق وابتلاهم بأنواع من البلايا، وجعل في واقعنا قصصاً حقيقية؛ لنأخذ منها العبرة والعظة، وليتذكر العبد ربه إذا غفل، وليعود إليه في الرضا كما يعود إليه في الشدة، وليكون الصالحون له قدوة في الهداية والصلاح ونصرة هذا الدين.

    1.   

    قصة امرأة ذاقت مرارة العيش مع البدو

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    إن ما لدي في هذا اللقاء عبارة عن مواقف معبرة، وقصص مؤثرة، فيها الدرس والعبرة والأسلوب والتجربة، فهي قصص من الحياة، ودروس من الواقع، وأنتم تعلمون أن الحياة مدرسة، والواقع تربية، وهي قصص معاصرة، تطرق قضايا مستجدة ومسائل جديدة، ربما لم تسمع هذه القصص من قبل، لكنني سمعتها، وبعضها قرأتها، بل وبعضها عايشتها.

    هذه القصص أيها الأحبة! موجهة للجميع، للكبار وللصغار، للشيب وللشباب، بل وللنساء وللفتيات، هذه القصص أيها الأحبة الكرام! لا أطرقها للتسلي، ولا نستمع إليها للتزاور، إنما أريد مني كمتحدث ومنك أيها المبارك كمستمع أن تستجلي منها الدرس والعبرة في مجالات حياتك التربوية، والدعوية، وفي مجالات حياتك المختلفة، فإن القصة أيها الحبيب! من أفضل وسائل التربية، ومن أفضل وسائل الحث على سلوك الطرق المختلفة أياً كانت هذه الطرق، ولعلك تعلم أن القرآن الكريم قد ركز كثيراً على القصص واهتم بها، وبين هذا الأمر بشكل مفصل وموجز، مطول ومختصر، ولا يخفى عليك قصص الأنبياء وقصص من خالف الأنبياء، ماذا كان حالهم؟ بل وقد استغل الأعداء القصة في سبيل دعم باطلهم، وأنت ترى المسلسلات والأفلام والمسرحيات والروايات ما هي إلا قصص، ومع ذلك فهي تفعل في الشباب على وجه الخصوص ما تفعله النار في الهشيم.

    أيها الأحبة! لا نطيل عليكم، وأبدأ بالموقف الأول، الموقف الأول: موقف عايشت بعضه، وشاركت في بعض جزئياته، وهي قصة -حقيقة- لم تستمع من قبل، وفيها العجب، فيها دروس غريبة، وفيها مواقف عجيبة.

    في أحد الأيام اتصلت بي امرأة وهي تبكي بل وتشتكي، وتحس أن قلبها يتفطر، وتكاد أن تموت، وتتمنى أن تبتلعها الأرض، هذه المرأة أيها الأحبة! تسألني وتقول لي: ما حكم الانتحار؟ قلت لها: لا يجوز، هذا أمر محرم، قالت لي وهي تبكي: ابحث لي عن مخرج، أريد أن أنتحر، أريد حكماً شرعياً بأي صورة من الصور؛ لأقطع سبيل حياتي، ومن حب الاستطلاع أردت أن أشاركها المأساة، فطلبت منها أن تشرح لي بعضاً من واقعها، فقالت لي الواقع التالي:

    توفي أبي وأمي في حادث سيارة، ولم يبق لهم إلا أنا، فكفلني عمي، جلست عنده فترة من الزمن وأنا أذوق الأمرين، كنت خادمة، بل أقل من الخادمة، الخادمة لها عزة، أو بعض من العزة، قد ترفض العمل فترجع إلى بلادها، أما أنا فكنت أقل من الخادمة في هذا المنزل، وكان أهل البيت يتمنون التخلص مني بأي صورة من الصور، وبأي كيفية من الكيفيات، تقول: عندما بلغت التاسعة وإذا بعمي يزوجني من ابن عمتي، شاب كبير في السن في الخامسة والعشرين وأنا في التاسعة، فضغط علي عمي إلى أن قررت أن أتزوج؛ لأن عمي يريد أن يتخلص مني، تقول: أخذني ابن عمتي ولكنه كان يعاملني معاملة الأخت، إذ كنت ألعب مع أخواته، كنت صغيرة وساذجة لا أعرف شيئاً اسمه زواج أو زوجية، وعندما بلغت الثانية عشرة أو الثالثة عشرة طلقني ولم يمسني، تقول: كانت الحياة الذهبية التي عشتها في حياتي هي الثلاث سنوات التي مرت علي، من التاسعة إلى الثانية عشرة، عندما رجعت إلى عمي كان الأمر بالنسبة لي انتحاراً بطيئاً، لقد أصيب عمي بصدمة، لقد تخلص مني وهأنذا أرجع إليه، لقد انتهت علاقته بي وها أنا أعود إليه، يا ترى ما العمل؟ تقول: انتظرت فترة من الزمن، وإذا بأناس يطرقون باباً يريدونني زوجة، لمن؟ لرجل كبير في السن يعيش في البادية وهم أهل بادية، يعيشون في منطقة تبعد عن القصيم ثلاثمائة كيلو متر تقريباً.

    تقول: أنا لا أعرف من هو زوجي الجديد، ولكن الذي خطبني رجل كبير في السن، عمره يتجاوز الخمسين، وأنا لا زلت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، تقول: عندما سمعت أن هناك زوجاً يخطبني فرحت ولم أعلم ماذا ينتظرني، تقول: وافقت على الزواج، ولكنني رأيت أن عمي قد أخذ أموالاً هائلةً مهراً لي، فاستغربت ولم أعلم ما هو السبب.

    تقول: أخذني هؤلاء إلى هجرتهم أو إلى منطقتهم، وأدخلوني على زوجي في تلكم الديار النائية، كانت هجرة صغيرة مكونة من عشر بيوت تقريباً، تقول: فرأيت زوجي، لقد كان رجلاً مجنوناً بمعنى الكلمة، فمن أول ليلة دخلت عليه وإذا به يكاد أن يقتلني من الضرب، لا أستطيع أن أفعل شيئاً، لا أستطيع أن أهرب، فالمنطقة صحراوية برية، ماذا أصنع يا ترى؟ قلت: الصبر، ولعلي أن أصبر، تقول: صبرت وصبرت، ثم تحرك بطني وإذا به شاب أو غلام صغير، ألده فأفرح، وأصبر على عناء الحياة مع هذا الزوج الذي أراه مرة في الأسبوع، فإذا رأيته لم يفتأ يضربني طوال الليل، تقول: عندما جاء ابني الصغير فرحت به فرحاً شديداً، وعندما كبر هذا الابن وبلغ أربعة أشهر وإذا بطامة تأتي إلي، لقد كان لهذا الزوج أخت -عمة لهذا الطفل- ولكنها عاقر ليس لها أبناء، فقررت مع زوجي ومع إخوان زوجي أن تأخذ ابني لتتبناه، عارضت، بكيت، صحت، صرخت ولكن لا مجيب، فأخذته مني، وأقسمت يميناً ألا أراه ولا لحظة واحدة، تقول: عمر ابني هذا تسع سنوات الآن، ولم أره فعلاً ولا لحظة واحدة.

    قالت: مكثت فترة من الزمن وأنا أبحث عن مهرب ولكن لا نجاة، لا ملتجأ إلا إلى الله سبحانه وتعالى، تقول: رزقت بابن ثانٍ، فتكررت العملية مرة أخرى، لقد أخذ مني ابني هذا، من الذي أخذه؟ نفس العمة المجرمة، أخذته ورفضت أن أراه مرة أخرى -أي: هذا الابن الآخر- تقول: وإلى هذه اللحظة لم أر ابني الآخر، تقول: فقررت ألا أحمل بعد ذلك، أحمل وألد لغيري، تقول: مكثت أربع سنوات وأنا أعيش عذاباً لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

    تقول: بعد ذلك قدر الله لي فحملت، وكان غلاماً ثالثاً، وتعرفون أهل البادية وللأسف الشديد يحبون الذكور محبة شديدة، ففرح هؤلاء فرحاً شديداً بهذا الغلام، وفي اللحظة التي ولدت فيها وإذا خالة لي تأتي إلى المنطقة؛ لأن لها أراضي في تلك المنطقة وتريد أن تبيعها، ففرحت فرحاً شديداً وذهبت إليها، وقلت لها: يا خالتي! إما أن أذبح نفسي، وإما أن أعود معك، فأصرت على الرفض، فأصررت على الذهاب معها، وكانت النتيجة أن وافقت، وعند السفر قال لي أهل الطفل: تذهبين بولدنا؟ لا والله، لا يمكن، فأخذوه مني بالقوة، ثلاثة أبناء ليسوا لي، تقول: عندما رجعت مع خالتي ووصلت إلى الرياض واجهت ثلاث مشاكل، أنا أذكر هذه القصة أيها الأحبة لآخذ منها درساً، أو تأخذون منها درساً، وهو أن أي إنسان يتعرض لأي مصيبة أو لأي مشكلة أو لأي ابتلاء، فليعلم أن هناك من يعيش ابتلاءً أكبر منه وأكثر منه.

    تقول: عندما رجعت إلى الرياض أقسم عمي أيماناً مغلظة أن لا يستقبلني في بيته، وعندما أردت أن أسكن عند خالتي أقسم زوج خالتي أن لا أسكن في بيته، لم؟ لأنه يعيش مرحلة عداء مع عمي ومع أبي قبل ذلك، فهل يسكن عنده ابنة أعدائه؟ لا يمكن، تقول: فذهبت وسكنت عند عم آخر هو عمي الآخر وليس لي غيره، هذا العم كان أبكم لا يتكلم، فجلست عندهم فترة من الزمن، ولكن زوجته حقدت علي لا تريدني، قالت: لا نريدك بأي صورة من الصور، اذهبي، اخرجي، تقول: أين أذهب؟ فتقول لها هذه المرأة: أنت دخيلة علينا، لا نريدك عندنا أبداً، تقول: بدأت تضغط علي، تقول: والله إنني لا آكل إلا بقايا أكلهم، تقول: أخرج الأكل من زبالة المنزل وآكلها، تقول: أنام على البلاط، حتى الفراش والحصير تصادرهما هذه المرأة مني.

    وهي تبكي بكاءً حاراً: لو سمحت -بلهجتها طبعاً- ابحث لي عن مجال للخروج من هذه الطامة، أريد أن أنتحر، أريد أن أموت، عمري واحد وعشرون سنة الآن أو اثنان وعشرون سنة، ولم أذق فيها طعماً للحياة أبداً.

    طبعاً أنا اندهشت حقيقة وأصبت بصدمة، جلست فترة من الزمن وأنا لا أفكر إلا في وضعية هذه المرأة، طلبت منها أن تتصل بي بعد يومين أو ثلاثة، لعلي أبحث لها عن حل، وفعلاً عرضت القضية على بعض الإخوة، فكل منهم استعد بأن يبذل جهده، ولكن وللأسف الشديد، ولا زال خنجراً حقيقة يؤثر في إلى هذه اللحظة، لها عدة أشهر وهي لم تتصل، هل هي على قيد الحياة؟ هل ماتت، هل انتحرت؟ هل حلت مشكلتها؟ هل؟ هل؟ الله أعلم.

    إذاً: أنا عرضت هذه القصة المؤثرة، وهذا الموقف المعبر، لكي يكون درساً لك أيها الشاب! ولك أيتها الفتاة! ولك أيها الرجل! ولك أيتها المرأة! حتى نعي أن كل إنسان في هذه الدنيا إذا تعرض لبلاء وابتلاء، فليعلم أن هناك من هو أشد منه بلاءً وابتلاءً.

    1.   

    قصة طالب صغير ملتزم أثر في أسرته ومجتمعه

    الموقف الآخر: مرة من المرات جاء أحد الطلاب وهو طالب في المرحلة الثانوية يشتكي وضعه، يقول: لنا مجال خصب للاجتماع الأسري، نجتمع كل أسبوع، تلتقي الأسرة شيبها وشبابها، كبارها وصغارها، ولكن هذا اللقاء لقاء يغلب عليه طابع الفساد، الكبار متقوقعون مع بعضهم في كلامهم العادي، وفي سواليفهم المكررة ونقاشهم المعروف، والشباب إما عند الدش أو الفيديو أو لعب الورق أو غير ذلك.

    يقول: أنا أحترق من داخلي أريد أن أؤثر، أريد أن أبني، أريد أن أفعل، ولكنني وللأسف الشديد أتميز بميزة، هذه الميزة أنني صغير، فإذا دخلت المجلس فإن مكاني عند النعال، أي: بجانب الباب، لا أستطيع أن أجلس في وسط المجلس فأؤثر، لم؟ لصغر سني، يقول: أنا أعيش في سن الثامنة عشرة أو السابعة عشرة، أريد أن أؤثر، أريد أن أبني، أريد أن أعلم، أريد أن يكون لي دور، أنا أحترق من داخلي، أنا لدي إحساس وشعور، لدي اندفاع وحيوية ولكن لا أعرف ما الطريق؟

    يقول: فالذي حصل أن أحد الإخوة أشار علي بمجموعة استشارات، يقول: طبقتها فرأيت ثماراً عجيبة، قال لي: في ظرف أربعة أشهر أو ثلاثة أشهر، أريد أن تحصي كل ما يلقى في مجلس الأسرة، وفعلاً بدأت أجلس وأتابع كلام هؤلاء الكبار، يقول: وإذا بهذا الرجل يناقض قضية (الوسم)، دخل (الوسم)، طلع (الوسم)، دخل سهيل، طلع سهيل، دخل كذا، طلع كذا، وإذا مرة أخرى يناقشون قضية النخيل وما النخيل، وماذا يحصل للنخيل؟ وأنواعها وهيئاتها وأشكالها وأفضلها.

    ومرة ثالثة: يناقشون قضايا الزواج وما يتعلق بها، ورابعة: يناقشون قضايا متعلقة بالحروب القبلية القريبة، ويتعرضون لها ولسيرها، وخامسة وسادسة وسابعة، يقول: وبدأت أسجل وأسجل وأسجل، ثم ذهبت إلى مستشاري وعرضت عليه القضية، فقال لي: أريد منك أن تتبحر في كل هذه القضايا، كيف أتبحر؟ أنا صغير! صحيح أنني ذكي، صحيح أنني حريص، صحيح أن لدي حافظة قوية، ولكني لا زلت صغيراً، قال: لا، الصغير هو الذي يتميز في هذا المقام، اذهب إلى مكان كذا، واحفظ كذا واذهب إلى فلان من الناس فتتلمذ عليه في كذا، يقول: وفعلاً بدأت أتبحر وأتبحر وشيئاً فشيئاً، وإذا بي موسوعة علمية في هذه المجالات التي يطرقها كبار السن.

    يقول: وفي اللحظة الحاسمة أردت أن ألقي بسهامي، أعددت العدة، وعندما جلس هؤلاء الكبار، وقال أحدهم: سيدخل (الوسم) بعد أربعة أيام، قال الثاني: لا، بعد ستة أيام، قال الثالث: لا، بعد ثمانية أيام أو سبعة أيام، قلت: لا، سيدخل الوسم بعد أربعة أيام وثلاث ساعات وخمسة عشر دقيقة وأربع ثوان، قال أحدهم: بسم الله الرحمن الرحيم، ما هذا الكلام؟ كلام غريب، بهذه الدقة العجيبة أثارهم، طبعاً ابتسموا، ضحكوا، سخروا، لكن ماذا قال هذا الفتى؟ عقب وقال: إن العجيري قال: كذا وكذا في موسوعته، وابن بسام قال: كذا وكذا، والمسند قال: كذا وكذا، وبدأ يأتيهم بالحقائق تباعاً واحدةً تلو الأخرى، وفعلاً شدهم في اللقاء الأول، والثاني والثالث، يقول بعد ذلك: وجدوا عندي شيئاً يهمهم، وجدوا كلاماً جديداً ومعلومات متجددة؛ لأنهم كانوا يرددون القصص دائماً، فيقول: بعد ذلك صار أحدهم إذا اتصل بأبي يذكره بموعد اللقاء، ويقول: ولا تنس أن تحضر معك محمداً ، يقول: صار لي وزن، والوزن هذا ليس هو الهدف لكنه وسيلة إلى الهدف.

    يقول: وفي أحد الأيام عندما اجتمعنا، قلت لهم: ما رأيكم أنا سأحضر لكم أحد المتخصصين في علم الفلك، سيعرض لنا شيئاً جديداً عن الفلك والنجوم بالصور وبالفيديو وإلى آخره، قالوا: جيد، يقول: فاتفقت مع أحد الدكاترة، وجاء إلينا ومعه جهاز فيديو، ومعه شاشة ضخمة كبيرة لا يستطيع أن يحملها إلا أربعة أشخاص، ومعه صور وخرائط وأطفأ الأنوار، وبدأ يعرض: وهذا نجم كذا، وهذا نجم كذا، والنجم هذا يسمى كذا، إلى آخره من المعلومات، عندما انتهوا وذهب الدكتور إلى حال سبيله، يقول: شد الجميع على يدي، قالوا: هذا الذي نريد، نريد منك أن تأتينا بهذه المعلومات دوماً.

    يقول: بعدها بفترة جئت لهم بأحد الأشخاص الذين تخصصوا في الحيات وفي العقارب وفي الأشياء السامة، وكانت عنده عدد من الصور والأفلام، بل والأشياء الحية التي يحفظها في صناديق، فجئت به إلى هذا المكان، أو إلى استراحة كنا نجتمع فيها، وعندما رأوا الحيات والعقارب تهولوا، وكل يشير: هذه الحية التي لدغت أمي، وهذه العقرب شبيهة بالتي لدغت أبي.

    وهكذا يقول: صار لي وزن وصارت لي أهمية، فاستطعت بعد ذلك أن أجذب الشباب قبل المشيب، وأن أكون محبوباً من الصغار قبل الكبار، ثم بدأت أحرك المجلس: هذه مسابقة، وهذه كلمة، وهذه ندوة، وهذا درس، وهذه معلومة، وهذه كذا، وهذا توزيع شريط، وهذه وهذه، يقول: وفي نهاية المطاف ولله الحمد صارت أسرتنا الكبيرة أسرةً لا تعرف شيئاً اسمه اجتماع على فيديو أو على دش، أو على ورق أو على دخان أو حتى على كلام فارغ.

    إنه رجل واحد، إنه شاب واحد، ولكنه أمة أمة، كيف أثر؟ وكيف بنى؟ التخطيط، التنظيم، الدقة، بل الحرص، فأنا أقول لكم هذا الموقف لتأخذوا منه الدرس والعبرة والسيرة والتجربة، وكل منكم أيها الأحبة الكرام! لديه هذه القدرات، كل منكم لديه هذه الإمكانات، ولكننا وللأسف الشديد قد أغلقنا هذه الإمكانات بحجب وحوافز أغلقناها بحيث إننا لم نستثمرها، وإلا لو استثمر كل منا ما لديه فإنه سينتج ويثمر، وأنتم أمام مجال خصب التجربة، فالله الله، اسعوا وجربوا وسترون صحة ما قلت لكم.

    1.   

    قصة امرأة بارة بأبيها

    أما الموقف الثالث أيها الأحبة: فهو موقف غريب لا يصدق، لولا أنني عشت بعض أحداثه.

    في أحد الأيام قبل فترة -ربما أقول: لا تتجاوز ستة أشهر- اتصلت امرأة -وهذه قضية حقيقية أي: قضية الاتصال من النساء أحياناً؛ لأنهن لا يجدن من يقف بجوارهن- اتصلت وهي تبكي وتقول: إنني أعيش قضية، أريد منك أن تعينني أو تساعدني على حلها، ما هي؟

    تقول: نحن نعيش في مدينة مجاورة للرياض، لن أذكر الأسماء، تقول: أنا متزوجة ولي مجموعة أبناء وبنات، ولي أخت متزوجة كذلك، والدي كبير في السن يعيش في هذه المدينة، وأمي كذلك، ولي أخوان اثنان، الأول يعمل في منطقة نائية بعيدة عن الرياض، والثاني لا يعمل، وللأسف الشديد هو منحرف، تقول: حالتنا المادية ضعيفة، ووصلت الحالة في مرة من المرات بوالدي إلى أن استدان أو اقترض سيارة من أحد الأشخاص، ووعده أن يعطيه المبلغ في وقت معين، تقول: حان الوقت المحدد، ولم نجد مجالاً لمعاونة والدنا إلا بالتضحية، فأخذت ما لدي من ذهب وما لدى بناتي من ذهب، وأنا أعمل معلمة -طبعاً كان اتصالها وقت الظهيرة- يعني: مثل ظهر اليوم، تقول: وأنا أحدد الوقت؛ لأن له أهمية، تقول: وجمعنا المال وأخذنا ما عند أختي كذلك، واستدنت بعض المال من بعض المعلمات وشيئاً فشيئاً إلى أن اجتمع المبلغ، وكان مقداره واحداً وأربعين ألفاً، هذا المبلغ الذي ذكرته، تقول: فرحت فرحاً شديداً بتحصيل هذا المبلغ؛ لأنني أعلم فرح والدي به، وكان والدي قد أصيب قبل فترة بجلطة، فنجاه الله منها.

    تقول: أخذت المبلغ وأعطيته لوالدي فشكرني شكراًً عجيباً عظيماً، وشكر أختي كذلك، وأخذ المبلغ ووضعه في دالوب الغرفة، ثم نام مطمئناً بعد أن اتصل بصاحب الدين وقال: أبشرك أن المبلغ موجود وحاضر، وعليك أن تأتي إلي إن شاء الله غداً في المساء، تتعشى عندي أنت وبعض الأشخاص.

    تقول: ذهب أبي واشترى خروفاً يريد أن يعمل وليمة من الغد في الليل لهذا الرجل، تقول: ونمت وأنا قريرة العين، وعند الساعة الواحدة في الليل -التي هي البارحة، طبعاً هي تتصل ظهراً- تقول: البارحة الساعة الواحدة اتصلت بي أمي وهي تبكي، وتقول: إن المبلغ قد سرق، ولو علم والدك بما حصل لمات من الفاجعة، ماذا ترين؟ كيف؟

    وإذا بالابن الفاسد قد علم بالمبلغ فسطا عليه وأخذه وأعد عدته وجهز شنطته وأخذ ملابسه وسافر بالمبلغ، تقول هذه الأم: لم أجد في غرفة أخيك شيئاً من ثيابه ولا ملابسه، أخذها وذهب، فلا بد من عمل شيء، تقول: لم أستطع الذهاب إلى المدرسة هذا اليوم، وبدأت أفكر في الوضع، تقول: بدأت أتحدث مع أختي ومع زوجي، ومع زميلاتي، وقررنا أن نجمع شيئاً من هذا المبلغ، وفعلاً بدأنا نجمع ونجمع إلى أن استطعنا أن نجمع شيئاً يسيراً من هذا المبلغ، فلم نستطع أن نجمع إلا سبعة عشر ألف ريال، إذاً: بقي أربعة وعشرون ألفاً.

    تقول: في الساعة الثامنة -يعني: قبيل أذان العشاء أو مع أذان العشاء- توفر لدي سبعة عشر ألف ريال، طبعاً هذه المرأة تقول: طبعاً بعد أن جمعنا هذا المبلغ سبعة عشر ألف ذهبنا بالمبلغ وأعطيناه أمي ولم نخبر والدي، طبعاً جاء الرجل ومعه الضيوف -وطبعاً هذه المكالمة جاءت على شقين: جزء منها أنا شاركت فيه، وجزء آخر أهل البيت -تقول: فجاء الضيوف وجاء الرجل -يعني: أكرمهم أبوها- ثم جاء إلى زوجته وقال: أعطيني المبلغ، لم تستطع الزوجة أن تخبره بشيء، وقالت للبنت: أخبريه أنت، فقالت البنت لوالدها: يا أبي! المبلغ موجود -وطبعاً كان هذا نوع من الخطة أو من المنهج، أنا أعطيتها هذه الفكرة حقيقة ولو أنها كذبة لكنها تخفف من الواقعة- فقالت: المبلغ موجود، ولكنني خفت عليه فأودعته البنك وأبقيت منه سبعة عشر ألفاً، أربعة وعشرون ألفاً موجودة في البنك، وسبعة عشر ألفاً موجودة الآن.

    تقول: عندما سمع أبي هذا الكلام شق ثوبه -كعادة أهل البادية- تقول: شق ثوبه إلى آخره، تقول: ولو أخبرته أن المبلغ سرق عن بكرة أبيه ماذا سيكون حاله؟ تقول: صار يبكي كالثكلى، وشق ثيابه ثم هونت عليه وقلت: المبلغ موجود وسآتي به غداً، الآن الوقت ليل، وليس هناك أحد يعمل، وليس هناك بنك مفتوح، غداً إن شاء الله سيتيسر الأمر، فاعتذر من ضيفك، وأعطه السبعة عشر ألفاً، وإن شاء الله سيكون المبلغ متيسراً.

    تقول: أخذ المبلغ واعتذر من صاحبه، وقال: إنه موجود، وإن شاء الله غداً يكون لديك، تقول البنت: من الآن إلى الغد هناك حل.

    تقول: عندما جاء الليل ذهبت إلى منزلي في طرف من أطراف الرياض -طبعاً تقول: ذاك اليوم: ما درست كذلك -وعندما جاء العصر حاولت أن أستخدم كل إمكاناتي لتجميع المبلغ فما استطعت، كل ما جمعت: مائة، مائتين، خمسين فقط.

    تقول: وجاء العصر فإذا بوالدي يطرق الباب، قلت: إلى أين؟ قال: إلى البنك، تقول: لبست عباءتي وذهبت إلى البنك، دخلت قسم النساء وجلست، ماذا أصنع؟ لا شيء إلا أن آخذ تلفون البنك وأتصل، أبحث عن حلول فما استطعت، فخرجت في آخر الدوام إلى والدي وقلت: والله يا أبي! ما استطعت أصرف، قال: لماذا؟ قلت: زحمة، تقول: والبنك ليس فيه أحد أصلاً إلا القليل، النساء يدخلن ويخرجن وأنا أقول لوالدي: زحمة، وأبي كبير في السن لا يعرف واقع البنوك، قال: سنأتي غداً، تقول: فذهبت اليوم التالي إلى البنك ثم اليوم الثالث واليوم الرابع تقول: أربعة أيام وأنا أجلس في البنك من بدء فتح أبوابه إلى أن يغلق أبوابه.

    تقول: وفي اليوم الثالث صرت أبكي؛ لأنني لم أجد حلاً، وأنا أحب أبي، وأخاف عليه، لكنني لا أستطيع أن أحضر المبلغ، هو مبلغ بسيط، ولكننا أناس على قدرنا لا نستطيع أن نحضر هذا المبلغ.

    تقول: وفي اليوم الرابع بلغ مني الأمر مبلغه، تمنيت أن تبتلعني الأرض، تمنيت أن أموت، وتمنيت كل شيء إلا البقاء على ظهر الأرض، لأني لا أريد لأبي أن يموت أمام ناظري، تقول: وأنا جالسة وإذا بامرأة تدخل البنك، وتجلس بجانبي تنتظر دورها في تسديد مبلغ من المال، تقول: فعندما جاء دورها ذهبت، ومعها كيس فيه نقود، تقول: بعد قليل رجعت وجلست بجانبي، ثم ذهبت للتسديد ورجعت، وأثناء جلوسها بجانبي كانت تسمع بكائي، لم أستطع أن أصبر، كنت أبكي وأضغط على نفسي، ولكن صوت البكاء وحشرجته كان يظهر علي، تقول: حنت علي، وقالت: بالله عليك أخبريني، قلت: لا والله ليس هناك شيء، قالت: والله إلا أخبرتيني، تقول: وأيمان مغلظة مني ومنها، وفي النهاية أخبرتها بكل القصة، فقالت المرأة: الله أكبر، الله أكبر، الذي معي في الكيس أربعة وعشرون ألفاً خذيها، قالت: لا والله لا آخذها أنا لا أعرفك، قالت: والله إلا تأخذينها، على أنه دين مفتوح السداد، أنت ذكرت لي أنك معلمة في المدرسة الفلانية، وأنا أعرف هذه المدرسة، فإذا تيسرت أمورك سددي، لكن على المدى الطويل.

    تقول: أخذت المبلغ وقبل آن آخذ المبلغ قالت لي: اسمعي، أنت قصتك عجيبة، لكن قصتي أنا أعجب، تقول هذه المرأة صاحبة المال: منذ أربعة أيام وزوجي يصر علي أن آخذ المبلغ وأودعه في البنك، وأنا أقول: لا، زوجي يصر وأنا أرفض، تقول: وفي هذا اليوم قلت لزوجي: أريد أن أودع الأربعة والعشرين ألفاً في البنك، فقال لي زوجي: لا أستطيع فإني مشغول، قلت: لا بد أن أودعها في البنك، قال: يا امرأة! أنا مشغول لا أستطيع عندي موعد فليكن غداً، قلت: لا، بل اليوم، تقول: كأن هناك دافعاً قوياً يدفعني إلى أن آخذ المبلغ وأذهب به إلى البنك، تقول: وتخاصمت أنا وزوجي، وقلت: إذا لم تذهب بي إلى البنك ذهبت في سيارة أجرة، قال: اذهبي، تقول: والله إنها المرة الأولى التي أركب فيها سيارة أجرة في حياتي، فذهبت إلى البنك وعندما جلست بجانبك سمعت البكاء ولم ألق له بالاً، وكأنه أمر عادي بالنسبة لي، وعندما ذهبت لأودع المال قالت المرأة التي تستلم المبالغ: كم لديك؟ قلت: أربعة وعشرون ألفاً، كتبتها في ورقة وأعطيتها، ثم سحبتها، أحس أن يدي تنسحب وأنها لا تتقدم، فقررت أن أرجع وأستريح قليلاً فاسترحت، ثم ذهبت لأودعه مرة أخرى، ثم رجعت مرة ثانية، كأن هناك مانعاً يمنعني من أن أودع المبلغ، والله إني لأرى هذا خيراً ساقه الله إليك.

    تقول هذه المرأة: أخذت المبلغ وأنا أبكي بكاء يسمعه كل من في البنك وخرجت -طبعاً هذه المكالمة الأخيرة من المرأة لأهل البيت تخبر المرأة بما حصل، وتحمد الله على ذلك- تقول: فذهبت به إلى والدي وكاد يموت من الفرح، جاء المال ولا يدري كيف جاء، المال سحب من البنك، ولكنه لا يدري كيف سحب.

    فانظروا إلى هذه المرأة كيف برت بوالدها، وانظروا عندما برت بوالدها كيف ساق الله لها أموراً خيالية وغير متصورة، وكيف ساق الله لها أشياءً غير متوقعة: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].

    1.   

    قصة شاب صالح يعيش أزمة مالية

    وهذا أيها الأحبة يقودني إلى قصة حصلت لي أنا شخصياً حقيقة، والدنيا دروس وتجارب، وأفضل شيء في هذه الحياة أن ينقل الإنسان تجاربه ودروسه للآخرين.

    في أحد الأيام اتصل بي أحد الإخوة من الأساتذة عندنا في الكلية، فقال لي: إن فلان بن فلان يعيش أزمة مالية عجيبة، وهذا الرجل أعرفه، وهو رجل من أفريقيا، لكنه متميز بالتقى والصلاح والتدين وهو خريج من الجامعة الإسلامية.

    يقول: إنه يحتاج إلى تسعة آلاف ريال؛ لأن إيجار البيت انتهى، وصاحب البيت يطالبه الآن بالإيجار أو يخرج، قلت: والله لا أملك شيئاً الآن، فلو أخبرتني قبل أسبوع، إذ كان عندي بعض الزكوات، ومن الممكن أن أعطيك إياها، لكن الآن والله لا أملك شيئاً.

    وضعت السماعة، تصوروا يا إخوة ما إن وضعت السماعة إلا وجرس الباب يدق في نفس اللحظة، رفعت سماعة جرس الباب وسماعة التلفون في يدي الأخرى، قلت: نعم؟ قال: أنا فلان بن فلان، لكنني لا أعرفه، قال: معي كل خير إن شاء الله، وضعت السماعة ونزلت إليه وسلمت عليه، قال: أنا فلان، مرسل لك من فلان، يقول: هذا مبلغ تسعة آلاف ريال، هي زكاة له يقول: ضعها فيما شئت، قلت: أعطاني حرية في التصرف؟ قال: نعم، وفي نفس اللحظة اتصلت بهذا الرجل، قلت: بشر صاحبك أن الله أعطاه رزقه من السماء، أتذكر هذا الرجل المعسر وأنا أنتظر الأخ ليأخذ المبلغ ويعطيه إياه، هذا الطالب أرى فيه سيما الصلاح وقيام الليل وصيام الإثنين والخميس، أرى فيه التقى والورع وحب الخير والفضل، وحب دعم الخير، أتصور هذا فيه بشكل متتابع، وهو يجيد عدة لغات: الإنجليزية والفرنسية والعربية وعدة لغات أفريقية، ومع ذلك رفض أن يعمل في عدة سفارات طالبت به، لماذا؟ لأنه يرى أن العيش في هذه المناطق قد يكون موبوءاً، فرضي بمبلغ يسير في أماكن مأمونة موثوقة.

    أليس في هذا درس وعبرة أيها الأحبة؟ أقول: نعم.

    1.   

    قصة امرأة نجحت في أن تجعل زوجها يعفي لحيته

    الموقف الآخر: رجل متزوج ويحب أسرته وزوجته وأولاده، والألفة قائمة بين هذه الأسرة، وبينهم مودة ومحبة، وهذا الرجل متميز بسلوكه الحسن وسمته المقبول، إلا أنه يحلق لحيته.

    حملت زوجته وثقل عليها الحمل وأتعبها وولدت بمشقة، ومن شدة فرح هذا الزوج بصحة زوجته وبنجاة مولوده قال لها: اطلبي هديتك، اطلبي ما شئت وسأعطيك، قالت: آلله -تحلفه- أن تنفذ لي طلبي؟ قال: اطلبي، المال موجود والخير متوفر، ولو اضطررت لاستدنت، قالت: أريد طلباً واحداً فهل تحققه؟ قال: نعم، والله لأحققنه، قالت: تعفي لحيتك فقط، وفعلاً كان موقفاً صعباً، لم يكن متعوداً على هذا، وكان عمره يقارب الأربعين ومع ذلك لم يعف لحيته يوماً ما، وهذا الطلب من زوجته لا بد أن ينفذ؛ لأنه وعد بالتنفيذ، ولكن المسألة قد تكون صعبة، ولكن الألفة بين هذين الزوجين جعلته ينفذ هذا الأمر، وكانت النتيجة أن أعفى الرجل لحيته، فمن لنا بمثل هذه المرأة؟ من لنا بنساء بهذه الكيفية وبهذه الصورة؟ عندما طلبت من زوجها هذا الطلب، لو طلبت منه أساور من الماس أو عقوداً من ذهب، أو مما غلا ثمنه لنفذه وجاء به، لنفذ الطلب وحقق الرجاء، ولكنها لم تطلب منه إلا هذا الطلب، الذي تحس فعلاً أنه سيقرب هذه العشرة أكثر فأكثر من الله سبحانه وتعالى.

    هذا موقف أحببت حقيقة أن أذكره؛ ليكون درساً للفتاة المسلمة، التي ينبغي لها أن تكون ذات همة عالية، وتكون نظرتها عالية فعلاً.

    1.   

    قصة رجل صالح أصيب بحادث في سيارته مع امرأته وأولاده

    وهذا يقودني حقيقة إلى ذكر قصة وموقف أريد أن أقرأه عليكم نصاً، وأن أعرضها كما وردت وكما جاءت والعهدة على راويها.

    يقول: سافرت إلى مدينة جدة في مهمة رسمية، وفي الطريق فوجئت بحادث سيارة يبدو أنه وقع للتو كنت أول من وصل إليه، أوقفت سيارتي، واندفعت مسرعاً إلى السيارة المصطدمة، تحسستها في حذر، ونظرت إلى داخلها وحدقت النظر، وخفقات قلبي تنبض بشدة، وارتعشت يداي، وتسمرت قدماي، وخنقتني العبرة، إذ ترقرقت عيناي بالدموع ثم أجهشت بالبكاء.

    إنه منظر عجيب وصورة تبعث الشجن، وتثير البكاء، كان قائد السيارة ملقىً على مقودها جثة هامدة، وقد شخص بصره إلى السماء رافعاً سبابته، وفي ثغره ابتسامة جميلة، ووجهه تحيط بها لحية كثيفة، يقول: كأنه الشمس في ضحاها، والبدر في سناه، والعجيب أن طفلته الصغيرة كانت ملقاة على ظهره، محيطة بيديها على عنقه، وقد لفظت أنفاسها وودعت حياتها.

    يقول: لم أر ميتة كمثل هذه الميتة، طهر وسكينة ووقار، هذا المتوفى قد أشرقت شمس الاستقامة على محياه ظاهرة بينة بارزة، يقول: منظر سبابته التي ماتت توحد الله سبحانه وتعالى، وجمال ابتسامته التي فارق بها الحياة حلقت بي بعيداً وبعيداً، تفكرت في هذه الخاتمة الحسنة، وازدحمت الأفكار في رأسي، وسؤال يتردد صداه في أعماقي ويطرق بشدة: كيف سيكون رحيلي؟ وعلى أي حال ستكون خاتمتي؟

    يقول وهو متأثر يعيش المأساة في هذه اللحظات الحرجة فيمزق حجب الغفلة، وتنهمر دموع الخشية، ويعلو صوت النحيب: من رآني هناك ظن أني أعرف الرجل، أو أن لي به قرابة، كنت أبكي بكاء الثكلى، لم أكن أشعر بمن حولي، وفجأة انساب صوتها، وصوتها يحمل برودة اليقين، هذا الصوت لامس سمعي وردني إلى شعوري، تنادي: يا أخي! لا تبك عليه، إنه رجل صالح، إنه رجل صالح، إنه رجل صالح، صارت تردد في مسامعي، لم تقل هذه المرأة: هيا، أخرجنا وبسرعة من هذا المكان جزاك الله خيراً! يقول: التفت إليها لم أرها، إنها امرأة تقبع في المقعد الخلفي من السيارة، وتضم إلى صدرها طفلين صغيرين جميلين لم يمسا بسوء ولم يصابا بأذى، كانت شامخة في حجابها شموخ الجبال، هادئة في مصاف مصابها هدوء النسيم، لا بكاء، لا صياح، لا زئير، لا عويل، أخرجتها ومن معي من السيارة، يقول هذا الرجل: من رآني ورآها ظن أني صاحب المصيبة دونها، من شدة بكائي وتأثري، يقول: قالت لنا وهي تتفقد حجابها، وتستكمل حشمتها في ثبات الراضي بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره: لو سمحتم احملوا زوجي وطفلتي إلى أقرب مستشفى، وسارعوا في إجراءات نقله إلى المستشفى، ثم احملوني وطفلي إلى منزلي جزاكم الله خيراً.

    بادر بعض المحسنين إلى حمل الرجل والطفلة إلى أقرب مستشفى، وحاولنا أن نحمل المرأة معنا في هذه الصحراء المقفرة إلى مكانها، ولكن المرأة رفضت وردت علينا بثبات وقالت: لن أركب مع رجل أعزب، لن أركب معكم ولو مت في مكاني هذا، تقول: لا أركب إلا في سيارة فيها نساء.

    يقول: ثم انزوت عنا جانباً، ممسكة بطفليها الصغيرين ريثما نجد بغيتها، وتحققت منيتها، إذ استجبنا لرغبتها وأكبرنا هذا الموقف منها، ومر وقت طويل ونحن ننتظر على تلك الحالة العصيبة وفي تلك الأرض الخلاء ساعتين كاملتين حتى مرت بنا سيارة فيها رجل ومعه أسرته، فأوقفناه وأخبرناه خبر هذه المرأة، وسألناه أن يحملها إلى منزلها فلم يمانع.

    عدت إلى سيارتي وأنا أعجب من هذا الثبات العظيم: ثبات الرجل على دينه واستقامته، والرجل على خلقه في آخر لحظات حياته وأول طريق آخرته، ثم العجب الآخر من ثبات هذه المرأة على حجابها وعفافها وصبرها، وثباتها على ما لم يصدر منها تأثراً بما حصل لزوجها وابنتها في لحظة من أصعب المواقف وأحلك الساعات، التي ربما ينهار عندها الرجال، إنه الإيمان، نعم أيها الأحبة! إنه الإيمان الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

    1.   

    قصة طفل صغير كان سبباً في هداية أسرته

    أما الموقف الذي يليه أيها الأحبة الكرام! فهو موقف شاب صغير، هذه القصة ذكرت حقيقة في الإذاعة، ولعل بعضاً منكم لم يسمعها، شاب صغير في الثالثة الابتدائية، كان يدرس في المدرسة، وكان فيها شباب يحثونه على طاعة الله سبحانه وتعالى، وعلى أداء صلاة الفجر، وعلى الاستجابة لله سبحانه وتعالى، وكانت النتيجة أن تأثر هذا الغلام الصغير بهذه الدعوة من المدرسة، واستجاب لأداء صلاة الجماعة في المسجد، ولكن الفجر صعب بالنسبة له، إذ قرر أن يصلي الفجر في المسجد، ولكن من الذي يوقظه؟ أمه؟ لا، والده؟ لا، ماذا يصنع يا ترى؟! قرر قراراً خطيراً وصارماً، وهو أن يسهر الليل ولا ينام، وفعلاً سهر الليل إلى أن أذن الفجر، وخرج إلى المسجد مسرعاً يريد أن يصلي، ولكن عندما فتح الباب إذا بالشارع موحش ومظلم، وليس هناك أحد يتحرك فخاف وارتاع: ماذا يصنع؟ ماذا يفعل يا ترى؟ وفي هذه اللحظة سمع مشياً خفيفاً، رجلاً يمشي رويداً رويداً وعصاه تطرق الأرض، وأقدامه لا تكاد تمس الأرض، فنظر إليه وإذا به جد صديقه أحمد ، فقرر أن يمشي خلفه دون أن يشعر به، وفعلاً بدأ يمشي خلفه إلى أن وصل إلى المسجد، فصلى ثم عاد مع هذا الكبير في السن دون أن يشعر به، وقد ترك الباب مفتوحاً، دخل ونام ثم استيقظ للمدرسة وكأن شيئاً لم يحدث، واستمر على هذا المنوال فترة من الزمن، أهله لم يستغربوا منه إلا كثرة نومه في النهار، ولا يعلمون ما هو السبب، والسبب هو سهره في الليل.

    وفي لحظة من اللحظات أخبر هذا الطفل الصغير أن هذا الجد قد توفي، مات جد أحمد ، مات هذا الرجل الكبير في السن، صرخ أحمد وبكى، قيل له: ما الذي حصل؟ لماذا تبكي يا بني؟! لماذا تصيح يا بني؟! إنه رجل غريب عنك، إنه ليس أباك ولا أمك ولا أخاك، فعندما حاول والده أن يعرف السبب قال لوالده: يا أبي! ليتك أنت الميت قال: أعوذ بالله! هكذا يتمنى الابن أن يموت الأب ولا يموت ذلك الرجل؟ قال: نعم، -من براءة الأطفال- قال: يا أبي! ليتك أنت الميت؛ لأنك لم توقظني لصلاة الفجر، أما هذا الرجل فقد كنت أمشي في ظلاله دون أن يشعر إلى صلاة الفجر ذهاباً وإياباً، وقص القصة على والده، كاد الأب تخنقه العبرة، فبكى وتأثر، فكان تغيراً جذرياً كلياً في حياة هذا الأب بفعل سلوك هذا الابن، بل بفعل سلوك هذا المعلم، فانظروا إلى ثمرة هذا المعلم، ماذا أثمرت؟ أثمرت أسرة صالحة وأنتجت منهجاً صالحاً.

    1.   

    همة امرأة غير متعلمة في الدعوة

    امرأة كبيرة في السن، عمرها الآن يكاد يقترب من الثمانين، ولكن هذه المرأة أيها الأحبة! تفوقنا جميعاً فيما يتعلق بالدعوة والحرص عليها، هي غير متعلمة ولا تقرأ ولا تكتب، ولكنها تنهج منهجاً دعوياً يصعب عليها تركه.

    يقول هذا الرجل الذي يحدثني بنفسه عنها إبان الدعوة إلى جمع التبرعات لبعض الجماعات المتميزة في أفغانستان، يقول هذا الأخ: جاءني مجموعة من الأشخاص من الأفغان، وقالوا: نريد أن نجمع مبلغاً من المال لإنشاء معهد شرعي في المنطقة الفلانية، يقول هذا الرجل: وليس لدي شيء، فاتصلت بعمتي وقلت: نريد ثلاثين ألفاً لمعهد كذا وكذا في المكان الفلاني فما رأيك يا عمة؟! قالت: أنا ليس لدي شيء، قلت: يا عمة! القصة كذا وكذا، والإخوان عندهم حجز غداً للعودة، فلا بد من تدبير المبلغ، قالت: إذاً: اتصل بي بعد العشاء إن شاء الله، يقول: فاتصلت بها بعد العشاء وإذا بها تقول: المبلغ موجود.

    يقول: مررت عليها وأخذت الثلاثين ألفاً، وسألتها: من أين جئت به؟ كيف صنعت يا عمة؟! قالت: اتصلت بأحد أقربائي وطلبت سلفة ثلاثين ألفاً وجاء بها إلي، ولكني لا أستطيع أن أسدده، فقلت لابنتي الصغيرة: تعالي، فجاءت، فقلت لها: أعطيني دليل التلفون، وأعطيني التلفون، يقول: فبدأت تتصل: أم محمد! ما رأيك في مشروع كذا وكذا وكذا، ووضعه كذا، أم محمد مائتين ريال، أم صالح أربعمائة، أم عبد العزيز خمسمائة، أم كذا أربعمائة، أم أم، قالت: إلى أن استوفينا ثلاثين ألفاً، لاحظوا أيها الأحبة! كيف حضرت المبلغ بعد طلبه بساعات، وبذلت من أجل ذلك الجهد؟ والدال على الخير كفاعله، فهذه امرأة كبيرة في السن وأمية، ولكن انظروا كيف فعلت؟ أليست أيها الأحبة! تفوق الكثير من الدعاة إلى الله بهذا المنهج.

    أقول هذه القصص؛ لكي يكون في ذلك نبراساً لنا، ودروساً لنا، وتجارب لنا في مسائل حياتنا، ومسيرتنا العلمية والدعوية، لعل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها جميعاً، وأن يجعلها إن شاء الله معينة لنا على التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، وعلى نصرة دينه.

    وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756435123