ذكر الله تعالى في الحديث القدسي فضل الأولياء الصالحين وأنه يدافع عنهم ويحميهم ويبغض من عاداهم.
والولاية ليست حكراً على فردٍ دون فرد، ولا جماعة دون أخرى، بل هي صفات من اتصف بها حاز تلك المكانة السامقة، وهناك من أهل البدع من حكروا هذه الولاية خاصة بأناس دون غيرهم.
اللهم لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت, في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك, وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك, وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك, لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً, أسمع بدعوته الأحياء، ونشر الخير برسالته الغراء, وتركنا على المحجة البيضاء، فصلاة الله وسلامه عليه دائماً وأبداً، ما فاحت الأزهار، وما غردت الأطيار، وما تدفقت الأنهار، وما تعاقب الليل والنهار، وعلى آله وصحبه من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان، أولئك لهم عقبى الدار.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته..
معنا هذه الليلة حديث عظيم جد عظيم، يأخذ بأطناب القلوب وأطراف الأرواح ويخاطب الأنفس، فهذا الحديث يعرف عند أهل السنة والجماعة بحديث الولي, وقد شرحه الإمام الشوكاني في كتاب قطر الولي في شرح حديث الولي , وشرحه غيره, وفيه مسائل أعضلت على الفطاحل من العلماء، فما بالك بطلبة العلم أو العوام!
وما معنى: {ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن}؟ وهل الله تبارك وتعالى يتردد؟ وهل يجوز أن نطلق عليه التردد سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الإرادات؟
هذا ما سوف نعرض له بإذن الله.
وقبل أن نبدأ اعلموا أن خير الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام, وهو أفضل الأنبياء وسيدهم وخطيبهم وقائدهم، إذا وردوا فهو خطيبهم, وإذا احتشدوا فهو إمامهم، وهو الشافع المشفع عليه الصلاة والسلام، وهو أول من تنشق له الأرض, وهو أول من يقرع باب الجنة.
قال غلاة أهل التصوف: الولي من غاب بمشهوده عن شهوده, ويقصدون بالمشهود: الله, والشهود: ما نراه ونبصره, يقولون: يغيب حتى لا يدرى هل هو حاضر أم غائب؟ هل هو في أبها أو في حضرموت؟ هذا عند غلاة الصوفية.
وقالوا في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] قالوا معنى الآية: إذا نسيت نفسك ومن حولك فقد ذكرت الله, وهذا خطأ في التفسير.
وقالوا في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152] قالوا: سبحان الله! أين الذي يريد الله؟ أي: أنهم جعلوا الذين يريدون الآخرة لا يريدون الله, والله يذكر أن بعض الصحابة في معركة أحد يريد الله وبعضهم يريد الدنيا، فأهل الغنائم وهم الذين نزلوا وعددهم سبعون من الجبل يريدون الدنيا، فالله يقول: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران:152] وهم هؤلاء الذين نزلوا من الجبل, وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152] وهم الصحابة وعلى رأسهم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام, فأما تفسيرهم فقالوا: لا, كلا الطائفتين كانت خاطئة، فأين الذين يريدون الله؟ لا أحد..!
وقال بعضهم: من صفى وجانب الجفاء وأتى بحقوق الوفا، فهو من الصوفية على صفا، وهو الولي.
وقالت الاتحادية: كل ما في الكون من الأولياء, ويقولون: إن المشهود كله هو الله عز وجل!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! ولذلك رد عليهم ابن تيمية شيخ الإسلام رداً عجيباً، فسحق مفترياتهم ودحض حججهم.
هذا ما يستقر عليه التعريف، أن الولي من خاف الله واتقاه وعمل الصالحات.
ولـأبي عثمان الصابوني كتاب في الولاية, ذكر أن صاحب الولاية: من أتى بالفرائض واجتنب المحرمات، وتزود بالنوافل، وكان سليم الصدر، حسن الخلق، قائماً قيام الليل, مجاهداً نفسه في ذات الله, عاكفاً نفسه على عبودية الله, حسن التعامل مع الناس، وكان صادقاً فهو الولي.. إلى آخر كلام طويل له؛ يقرر لنا فيه أن الولاية تنال بهذا.
وابن تيمية في المجلد الحادي عشر من مجموع الفتاوى يقول: إن الصوفية - أو كلاماً يشبه هذا -يرون أن من لبس البذاذة أنه هو الولي, فيأتون بالمرقعات من الثياب الممزقة ويبقون في الزوايا ويدعون الولاية, ولذلك يقول: كم من ولي في قباء، وكم زنديق في عباء.
كم من ولي في قباء، أي: في منظر بهيج وفي حلة فاخرة, وكم من زنديق في ثياب ممزقة؛ لأن المقصد ليس الثياب.
ولذلك دخل ابن عباس رضي الله عنهما على الخوارج يوم النهروان أو قبله بيوم, والخوارج فرقة ضالة، وهم كلاب النار, أخذوا في العبادة وتركوا العلم والفقه في الدين, دخل عليهم ابن عباس يحاورهم لعلهم يعودون إلى أهل السنة والجماعة, وقبل أن يدخل اغتسل وتطيب ولبس حلة بألف دينار -أي: بعشرة آلاف درهم- فلما رآه الخوارج وكانوا يلبسون الثياب الممزقة قالوا: أأنت ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام وتلبس هذا؟! قال: أأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم أم أنا؟ قالوا: أنت, قال: فوالذي نفسي بيده لقد رأيته في حلة حمراء كأحسن الحلل.
فالمقصود أن الملابس والطقوس والجلسات، أو الأكل الخاص أو أنهم إذا مشوا نكسوا رءوسهم ومشوا رويداً كأنهم نملة، هذا ليس من الولاية في شيء.
[[رأت عائشة رضي الله عنها وأرضاها شبيبة بدأوا في الاستقامة، فأخذوا يتمسكنون ويتضاعفون ويتماوتون، إذا تكلم أحدهم تكلم بالهوين، وإذا سلم سلّم بالهوين, وإذا صافح مد يده لك كأنها ميتة.
فقالت عائشة: من هؤلاء؟! قال لها الناس: هؤلاء قوم نساك. قالت: والله الذي لا إله إلا هو لقد كان عمر أخشى لله منهم، وأنسك لله منهم، وكان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع]].
الفاروق كان يدكدك الدنيا إذا مشى، وإذا تكلم هز القلوب, والمنابر تهتز وتبكي تحت أرجله, وإذا تكلم أسمع حتى نقل عنه أنه أرسل إلى امرأة وهي حامل يريد أن يحاسبها على قضية، فأسقطت حملها -وهذا صحيح- وسأل علياً عن ذلك فقال: أرى أن فيه غرة وأن تديه فوداه رضي الله عنه وأرضاه.
وأوردوا عنه كصاحب كنز العمال وغيره، أنه رضي الله عنه وأرضاه كان يمشي أمام الصحابة في سوق المدينة فسمع جلبة, أي: صوتاً وراءه, فالتفت، قال علي أبو الحسن رضي الله عنه: والله لكأن قلوبنا نزلت في بطوننا.
ولذلك الجن خافت من عمر؛ فإذا أتى عمر من فج لم يسلك الشيطان فجه الذي يسلكه رضي الله عنه وأرضاه, كان يفرق الله به بين الحق والباطل، ولذلك سمي الفاروق.
فلذلك ليس للأولياء أصوات غير أصوات الناس، وليس لهم لباس غير لباس الناس, ولا طعام ولا شراب، بل يأكلون ويشربون ويبيعون ويشترون مثل الناس.
فغلاة الصوفية لما ظنوا أنهم أولياء جلسوا في الزوايا مثل الرهبان في الصوامع، لا يبيعون ولا يشترون ولا يتزوجون ولا يمزحون ولا يضحكون ولا يلبسون, وسيد الأولياء وخير الأولياء أبو بكر اشترى السمن وباعه في السوق, ويأخذ الجمل، وينزل بحمله، ويبيع ويشتري في السوق، ويسعر رضي الله عنه وأرضاه, ويقوم على المنبر يتكلم ويضيف الناس، ويودعهم ويستقبلهم، كل هذا وهو سيد الأولياء.
فحياة ليست كحياة الصحابة ليست بحياة, وليست بولاية ولا استقامة.
الظالم لنفسه: هو الذي يترك بعض الواجبات ويأتي بعض الكبائر, وهو عند الخوارج كافر, وعندنا مسلم لا يخرج من الإسلام.
والمقتصد: هو الذي يفعل الفرائض بواجباتها ويترك الكبائر، ولكنه قد يترك المستحبات وقد يفعل بعض المكروهات.
والسابق بالخيرات: هو الذي لا خوف عليه ولا حزن، وهو الذي يفعل الفرائض والواجبات والمستحبات، ويترك الكبائر والمحرمات والمكروهات, ووصفه ابن القيم في طريق الهجرتين فقال: هو الذي ينام وقلبه معلق يطوف حول العرش.
فهو معلق بربه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فإذا نام وانتصف الليل قام فتوضأ وهو خائف منكسر القلب، خجول من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فيصلي ويناجي ربه وقد أسلم أعضاءه وروحه وإرادته وعزيمته ومحبته، فليس له من نفسه شيء، وليس لنفسه منه شيء.. وسوف يأتي معنا في الحديث كلامه أن الله يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به- فهذا السابق بالخيرات.
يقول الله تبارك وتعالى: {من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة} ما هو معنى المعاداة؟ نحن نختلف فيما بيننا في مسائل, وقد اختلف أهل العلم في مسائل، اختلف الإمام أحمد ومالك والشافعي وأبو حنيفة، واختلف أبو بكر وعمر في مسائل وتشاجرا وتجادلا, فهل هذه معاداة؟ هل إذا عاديت المسلم وأتى بينك وبينه غيظ ثم تصافيتم فهل هذا من المعاداة؟
قال أهل العلم: لا تدخل المشاحنة والمشادة ولا الخلاف والمجادلة في العداء. ومعنى المعاداة: المعاداة التي سببها الولاية، أنه ما عاداك العدو إلا لأنك ولي لله, قالوا: مثل بغض أبي بكر من الرافضة , وسب علي من الناصبة , ومثل عداء الكفار مع المؤمنين وعداء أهل البدعة مع أهل السنة، هذا هو العداء.
ومنه عداء أهل النفاق مع أهل الإيمان, فقد عادوهم بالسخرية وبالغيبة واستحلال الأعراض والاستهزاء, فهذه هي المعاداة وليس الاختلاف العلمي والجدل والضغينة الطفيفة التي لا يخلو منها البشر معاداة, كالتي حدثت بين أبي بكر وعمر وغيرهما رضوان الله عليهم من السلف الصالح فهذا ليس عداء.
هذا يخرج معنى المعاداة في الحديث من معنى الجدل إلى معنى الضغينة بسبب الولاية.
والمحاربة: هي مفاعلة، فلا بد من جانبين للمقاتلة، أي: أن يقاتل هذا هذا، ويقاتل هذا هذا، وهو من أفعال المشاركة، كالمضاربة والمجادلة, فكيف نلحق هذه الصفة بربنا تبارك وتعالى, وهي من جانبين، والله عز وجل يجل أن يحارب العبد؛ لأن سببها العداوة من الجانبين أو التوازن والتساوي، والله أجل قدراً, وأقدر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وأعظم وأجل؟!
قال أهل العلم: المعنى: قد تعرض لهلاكي، فقوله: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة} ليس معناه: أنه يحاربني وأحاربه، فالعبد أذل وأقل وأصغر من أن يحارب الله, لكن المعنى: فقد تعرض لما يوجب هلاكه, أي: أنه أغضبني فأهلكه, ليس معناه أن العبد قام بسلاح والله بسلاح ليتحاربا -جل الله- فقالوا: هذه من الأفعال التي تبنى على الأسباب، كما يقول ابن حجر: معناه أن العبد إذا بدأ بسبب العداء فقد تعرض لهلاكه من الله تبارك وتعالى, لأنه حارب الله, ومن يحارب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟!
ولماذا كانت النوافل في الحديث سبباً لمحبة الله أكثر من الفرائض؟
من الأجوبة التي أوردها أهل العلم: أنه إنما ذكرت الفرائض وعظمت لأنها سبب في رفع العقاب والغضب من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, والنوافل كانت سبباً للحب لأن العبد يفعلها حباً فيما عند الله عز وجل.
قال الحافظ ابن حجر وغيره من أهل العلم: لأن الفرائض كالأصل والأساس ولأنها علامة للعبودية، ولأن فيها الذل، وفيها امتثال أمر الآمر تبارك وتعالى, ونهي الناهي تبارك وتعالى، فكانت أعظم من النوافل، والآمر والناهي هو الحاكم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا امتثلت أمره كنت أفضل ممن يتقرب إليه بالنوافل, فكانت الفرائض هي أفضل, وأما النوافل فعلى الجواب السالف كانت سبب المحبة لأن العبد لا يفعلها خوفاً من العقاب ولا من العذاب، إنما يفعلها حباً من نفسه، ولا يكثر من النوافل إلا محب لله تبارك وتعالى.
وأنت لا تسأل عن إيمان الشخص ولا كثرة صلاحه, ولكن انظر إلى نوافله.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [[كل يحسن الكلام ما لم يعملوا، ولكن إذا عملوا انكشفوا]] أو كما قال.. فالكلام سهل لكن الفعل هو الصعب, فلا تسأل عن عبادة عابد أو حبه لله تبارك وتعالى حتى تنظر إلى نوافله, وكلما أكثر من النوافل كان أقرب إلى الله, وأحب إلى الله, فإذا رأيته حريصاً على النوافل فمعنى ذلك أنه من أقرب الأقربين إلى الله تبارك وتعالى، وأنه من المحبين لله تبارك وتعالى.
والنوافل في الحديث -أيها الكرام- أولها نوافل الصلاة, ولذلك تكلم عليها الحفاظ لأن نوافل الصلاة هي المتبادرة إلى الذهن، ولذلك لا يحافظ على نوافل الصلاة إلا مؤمن تام الإيمان وكامل اليقين, كصلاة الضحى, وأربع قبل الظهر وأربع بعدها, وأربع قبل العصر, وركعتين بعد المغرب أو أربع أو ست, وركعتين بعد العشاء أو أربع أو ست, والوتر إلى ثلاث عشرة إلى ما يفتح الله عز وجل، إلى نوافل كثيرة.
ولذلك صحح العلماء أن الإمام أحمد كان يصلي في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة غير الفرائض, قال ابنه عبد الله: فلما آذاه الجَلْدُ-لما جلد في سبيل الله وفي سبيل رفعة لا إله إلا الله- كان يصلي مائة وخمسين ركعة, وكان إذا سجد ربما أعنته حتى أعيده إلى مكانه. يقول أحد الذين جلدوه: لقد جلدته جلداً لو جلد به بعير لمات. كل ذلك في سبيل الله.
وأول ما أخذ الإمام أحمد -وهو من الأولياء الكبار في الإسلام، رضي الله عنه وأرضاه ورحمه الله رحمة واسعة- أركبوه على فرس، قال: فحمَّلوني بالقيود من الحديد في يدي ورجلي -وسبب التعذيب أنه يريد منهج أهل السنة وهم يريدون البدعة, فـالمأمون ومن معه والمعتصم والواثق كلهم يريدون منهج الاعتزال بالقول بخلق القرآن, وهو يقول: لا -فلما أركبوه قال: خشيت أن أقع على وجهي فيتهشم وجههي، فكنت أداري نفسي على الفرس، لا يمسكه أحد إلا الله في ليلة ظلماء، وكان الجنود وراءه يضربون الفرس حتى أدخلوه في ثكنات المعتصم العسكرية.
فلما أدخل قال: أغلقوا عليَّ الباب وأنا في ظلمة لا يعلمها إلا الله, قال: فالتمست لأجد ماء، فيسر الله لي بإناء فيه ماء, فأكبر مهمة له أن يصلي في الليل نافلة, فتوضأ رحمه الله رحمة واسعة وقام يصلي حتى الفجر.
ولما أتى في الصباح عرضوا له الإفطار من مأدبة المعتصم الخليفة.
فلما عرضوا له المائدة قال: لا والله، عندي دقيق يكفيني، كان معه سويق في جراب, وكان صائماً طيلة دخوله في السجن, فإذا أذن لصلاة المغرب أخذ حفنة واحدة من هذا الدقيق -السويق- ووضعه في الماء ثم خلطه بيده ثم أكله بعد صلاة المغرب, ويبقى عليه لليوم الثاني, حتى يقال: تغاضت جفناه أو خداه من الضعف لما خرج من السجن.
ومع ذلك أخرجوه وحققوا معه وأرادوه أن يعود إلى منهج الابتداع، فرفض ولم يرض إلا منهج الإسلام ومنهج أهل السنة والجماعة , فجلدوه جلداً مبرحاً, وسلمه الله وأخرجه ورفعه رفعة ما بعدها رفعة، حتى إنه لما توفي كان الناس في جنازته، ومن كثرتهم تقطعت الأحذية، وذهب به بعد صلاة الفجر وما وصلوا إلى المقبرة إلا في صلاة العصر, وأغلقت الحوانيت في بغداد , وتوقف اليهود والنصارى عن أعمالهم, وظن بعض الناس أن القيامة قامت في يوم جنازة الإمام أحمد , حتى قال بعض المؤرخين: لم يحفظ جنازة في التاريخ اجتمع لها جمع أكثر من جنازة الإمام أحمد.
فالمقصود أن الأولياء في الإسلام إنما عَظُموا من كثرة النوافل.
يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة سفيان الثوري أبي سعيد، الإمام الحبر الزاهد العلامة الكبير الذي رفع الله هامته وقدره: يقولون: ذهب إلى صنعاءاليمن يريد أخذ العلم من عبد الرزاق بن همام الصنعاني العلامة الكبير, فلما وصل إليه قدم له عبد الرزاق بن همام رطباً وزبدةً، فأكل منه أكلاً كثيراً, لماذا؟ لأن الرجل صالح وطعام الصالحين فيه شفاء بإذن الله, والرجل مسافر، فلما أكثر التفت إلى نفسه، وقال: أكلت هذا الأكل! -يقول المثل وقد ذكره الذهبي: أشبع الحمار وكده، والله لا أنام حتى الفجر- فأخذ يصلي ويبكي حتى طلع الفجر.
لكن عزاؤنا وسلوتنا أننا نحب القوم ومن أحب القوم حشر معهم, لكن العجيب أن هناك من يبغض هؤلاء لا لشيء، يبغض الإمام أحمد، ويبغض سفيان الثوري، ويبغض عمر بن عبد العزيز , أما نحن فنقول: والله لا نقدر أن نعمل بعملهم ولا نستطيع أن نصل إلى هذا المستوى، ولكن من أحب القوم حشر في زمرتهم، فنشهد الله وملائكته والناس أجمعين أننا نحبهم في الله.
وقيل له: [[اذهب إلى العقيق فإن فيه خضرة لعل بصرك أن يعود إليك, قال: سبحان الله! ومن لي بصلاة الدلجة؟ ومن لي بصلاة في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام التي تعادل ألف صلاة فيما سواه]].
هؤلاء هم السلف الصالح الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.
لقد تقدم جزء من الجواب، والسبب في أن النوافل سبب للمحبة؛ لأنها تؤتى باندفاع وبحب وباشتياق ولا يرغمك أحد عليها, وبعض الناس يصلي في المسجد -نسأل الله العافية- إما مداراة للناس، وإما مجاملة لأهل الحي، وإما لأنه يخاف من الإمام والمؤذن أن يرفعه أو الهيئة، أو يخاف من السلطان أن يبطحه ويجلده فيصلي مع الناس, لكن يظهر هذا في النوافل, لا تجده يتنفل في المسجد, إذا سلم الناس كأنه طائر في قفص يخرج متضايقاً، فهو يحسب هذه الدقائق ولا يحسبها في أماكن اللهو واللغو واللعب, وبإمكانه أن يجلس جلسة سافرة ساحرة ماكرة الساعات الطويلة، يتمايل مع الأعواد، يأخذ النغمات، ويستنشق الفرح الذي ليس هو بفرح ولكنه حزن ولا يمل, لكن إذا حضر في المسجد كان آخر من يدخل وأول من يخرج، فإذا سلم الإمام يذهب ولا يتنفل, فهذا علامة على أنه ليس محباً.
أما المحب فهو الذي يتنفل, فكانت النوافل سبباً في محبة الله, فلذلك تجده يتنفل كثيراً وتجده يأتي مع الأذان أو قبل الأذان, يقول عدي بن حاتم كما في كتاب الزهد للإمام أحمد: والله ما أذن المؤذن إلا وأنا متوضئ والحمد لله، وهذا من باب قوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11] وذكروا أن أحد السلف كان يعمل نجاراً فكان يرفع المطرقة فإذا سمع (الله أكبر) تركها وأسقطها وراء ظهره ولا يطرق بها مرة ثانية.
قيل لـابن المبارك: لماذا يصلى قبل الظهر أربعاً؟ ألا تقبل الظهر بلا أربع؟
قال: يا بني! -لأن هذا غر جاهل يسأل- مَثَلُ الرجل الذي أتى إلى المسجد متوضأً في أول الوقت، فصلى أربعاً ودعا الله وهلَّل وكبر، ثم صلّى الظهر، ثم صلّى بعدها أربعاً، كمثل رجل له حاجة عند ملك من ملوك الدنيا -ولله المثل الأعلى- فراسل الملك قبل أن يصله، بالهدايا وأتحفه وأسمعه خيراً, ثم وصل واستأذن الملك بشفاعة طيبة، ثم تكلم بين يدي الملك بكلام طيب حتى ارتاح له الملك، ثم عرض عليه حاجته فلبَّى حاجته, فهذا مثل من فعل هذا.
ومثل الذي يأتي فيتوضأ فيدخل والناس يصلون فيصلي ثم يذهب، كمثل رجل دخل على الملك بلا إذن, وما سبقه هدية، وما تكلم مع الملك بكلام طيب، ثم قال للملك: أعطني هذه الحاجة، فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه, فانظر إلى هذين المثالين.
يستفاد من الحديث أن النافلة لا تقدم على الفريضة، وقال هذا ابن هبيرة وزير الخلافة، وهو من أعظم الوزارء في تاريخ الإسلام. ابن هبيرة صاحب الإفصاح، كان حنيفاً مسلماً ولم يك من المشركين, كان زاهداً عابداً, ولذلك مدحته الشعراء بمدائح لم يمدح أحد من الوزراء في التاريخ الإسلامي بمثل مدح هذا الوزير أبداً, حتى يقول فيه ابن حيُّوس:
اسمه أبو المظفر ابن هبيرة, من أعماله الصالحة: أنه حج بالناس من بغداد، وأعلن فيهم أن من أراد الحج فليحج, ونفقته على الوزير, فحجوا بأطفالهم ونسائهم والمساكين والفقراء، وخرجت بغداد إلا قليلاً, فكان يطعمهم الفالوذج، والثريد، والعسل, وكان يظللهم من الشمس، وكان يدور عليهم في الخيام في الليل يتفقدهم وهو الوزير.
فلما وصلوا إلى منى في اليوم الثامن أتاهم في ذلك اليوم شدة شمس وقحط حتى انتهى الماء، وكانوا يبحثون ويلتمسون الماء حتى أشرف كثير من الناس على الهلاك, فقام فتوضأ وصلى ركعتين، وقال: اللهم إني أسألك أن تغيثنا, فغطت السماء غمامة ونزل الغيث في ذلك الوقت حتى شربوا بعدما يقارب ساعة شربوا الثلج, فكان يبكي وهو يشرب ويقول: يا ليتي سألت الله المغفرة.
كان في الوزارة بجانب الخليفة، فدخل عليه رجل، فلما دخل نظر هو إلى الرجل كثيراً كثيراً وتملاه، فلما انتهى قال للرجل: تعال, فأتاه ذاك الرجل, فمسح على رأسه وأعطاه شيئاً من المال، وقال: عفا الله عنك، ثم ذهب الرجل, فقال الناس: ما لك؟ ماذا حدث؟ قال: هذا الرجل تذكرت حالي وإياه في الشباب، حصل بيني وبينه مشادة ومشاجرة، فضربني بعصاً عنده على رأسي فأذهب عيني هذه فلا أرى بها شيئاً منذ ثلاثين سنة, فلما دخل عرفته وتذكرت القصاص يوم القيامة عند الرحمن، فأردت أن يعفو الله عني كما عفوت عنه فقد عفوت عنه.
فـابن هبيرة من أجل الوزراء في التاريخ الإسلامي، وإنما ذكرته لأنه ذكر هنا.
يقول ابن هبيرة: يؤخذ من هذا الحديث أن النافلة لا تقدم على الفريضة. وصدق -رحمه الله- وبعض الناس من قلة الفقه في الدين يعتني بالنوافل أكثر من الفرائض, تجده في صلاة الضحى يحسب لها ألف حساب, وهذا شيء طيب، فيصلي بخشوع وخضوع وإقبال, وإذا أتت صلاة الظهر صلاها بسرعة كأنها نافلة, يقوم الليل حتى قبيل الفجر ثم ينام عن صلاة الفجر -ما شاء الله تبارك الله!!
وأين الفريضة التي تعادل آلاف الآلاف من النوافل؟
وهذا حتى في غير الصلاة، فتجد بعض الناس يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويقرأ فيها ما تيسر من القرآن، ويسبح ويهلل ويحضر نفسه عند الإفطار، ويعيش عبودية الصيام, فإذا حضر رمضان ما كأنه يعيش فريضة، والله يطالب العبد في الفرائض أكثر من النوافل.
أن هذا على سبيل التمثيل, أي: كنت سمعه وبصره في امتثال أمري وفي طلب طاعتي, فهو يحب طاعتي كحبه لسمعه وبصره.
أي: يحب طاعتي وذكري وتلاوتي ومرضاتي كما يحب سمعه وبصره، فهذا على التمثيل.
القول الثاني:
قيل: كله وجسمه مشغول بي، فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا ينظر إلا لما يعجبني، ولا يتفكر إلا في مخلوقاتي، ولا يفعل بيده إلا في طاعتي، ولا برجله إلا مرضاتي.
القول الثالث:
أجعل مقاصده كأنه ينالها بسمعه وبصره, أي: ألبي له المقاصد حتى كأنه يتناولها بالسمع والبصر.
القول الرابع:
كنت له في النصرة كسمعه وبصره ورجله, أي: كنت أقرب إليه في النصرة من اليد، وفي المعونة من الرجل، وفي المعونة والنصرة من العين ومن الأذن.
القول الخامس:
قيل: على حذف المضاف, فمعناه كنت حافظ سمعه وبصره ويده ورجله.
القول السادس:
وهو الراجح إن شاء الله، قيل: معنى سمعه أي: مسموعه، فلا يسمع إلا ذكري ولا يرى إلا صنعي.
وقال الخطابي: هذه أمثال، والمعنى: أني أوفقه لطاعتي ولمحبتي ولعبادتي فيباشر الأعمال، هذا هو معنى الحديث الراجح إن شاء الله, وهو أن الله يوفقه للطاعة فلا يتصرف بأعضائه إلا في محبة الله عز وجل.. كنت سمعه وبصره ويده ورجله, أي: أنني أحفظه في هذه الأمور وأوفقه لهذه الأمور فيكون لله وفي الله وبالله, فيستخدم ويستغل هذه الأعضاء والجوارح في مرضاة الله تبارك وتعالى.
يقول أهل الفناء: معنى الحديث: أنه يفنى بإرادته عن إرادته, ومعنى: كنت سمعه الذي يسمع به: أن العبد يفنى بإرادة الله عن إرادة نفسه, وبشهود الله عن شهود نفسه, فيكون في إرادة الله عز وجل وفي شهوده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, وهذا خطأ, لكنه أخف خطأً من الذي يأتي بعده.
وقال أهل الاتحاد - وأهل الاتحاد للبصيرة والبينة لمن لم يعرف أهل الاتحاد وأهل الحلول هم طائفتان كافرتان مجرمتان في الإسلام-: يقولون: كل ما في الكون هو الله, اتحد الله في الأجسام, فلا ترى إلا الله في الناس والحيوانات والطيور والأشجار وكل شيء تجد الله قد اتحد فيهم.
فقالوا في معنى الحديث: إن الله إذا وصل العبد إلى منزلة من الخير والبر والصلاح والولاية يتحد فيه, فيكون الله في صورة العبد.. جلّ الله وتعالى عما يقولون علواً كبيراً!!
وقالوا: وما دام جبريل عليه السلام أتى بصورة دحية بن الخليفة الكلبي , فكذلك قد يأتي الله في صورة العبد, إذا بلغ العبد في الولاية مبلغاًعظيماً يتصور الله بصورته, سُبحَانَهُ وَتَعَالَىَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً [الاسراء:43].
وهذا من أخطر الأقوال في الإسلام، وهذه مقالة ابن عربي صاحب الفصوص والفتوحات المكية، وابن سبعين , حتى يقول ابن تيمية لما ذكر هذا القول: إن صح عنه هذا القول فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وهذا كفر بواح ما أكبر منه.
ولذلك لا بد للمسلم أن يعرف المذاهب الهدامة وماذا يقولون؛ لأنه ربما لُبِّس عليه فيظن أنها من مذهب أهل الحق.
وجد من الأولياء من دعا فلم يُجب دعاؤه، فما السر؟
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) لكن وجد في الأولياء من عبد الله وخافه ورجاه وصام له وبلغ في الولاية مبلغاً عظيماً، لكن دعا فلم يجب، فما هو السر؟!!
السر هو: أن الله عز وجل قد يؤخر جواب السائل ولو كان ولياً لأمور، منها:
1- أن الله عز وجل قد يعطيه من الخير غير المطلوب ما يعلم سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن مصلحته في هذا الأمر وليس في ذاك الأمر، ونحن لا ندري بمصالحنا, والله هو الأعلم سُبحَانَهُ وَتَعَالى, وأدرى بنتائج الأمور، فإنك قد تطلبه في شيء فيعطيك الله عز وجل شيئاً غير الذي طلبته سُبحَانَهُ وَتَعَالى بسبب هذا الدعاء؛ لأن الله أعرف وأعلم بما تحب، أو فيما هو في مصلحتك.
2- أن يدخر لك من الثواب في الآخرة أحسن مما يلبي لك في الدنيا.
3- أن يصرف عنك من السوء, فقد يقدر الله عليك بعض الحوادث والكوارث والزلازل والفتن, فلكثرة دعائك صرف الله عنك من المحن والفتن ونحوها.
ولذلك أوصي نفسي وإياكم بكثرة الدعاء دائماً وأبداً، ولا تقل: دعوت دعوت.. فلم يستجب لي، بل ادع الله دائماً وأبداً, قاعداً وقائماً وعلى جنبك, فإنك لن تزال بين أحد أمور:
ذُكِرَ عن مطرف بن عبد الله بن الشخير أنه مر على مقبرة في البصرة فقال: لا إله إلا الله! فلما أمسى تلك الليلة رأى قائلاً يقول: يا مطرف! مررت اليوم على المقابر فقلت: لا إله إلا الله! والله لقد حيل بين أهل المقابر وبين لا إله إلا الله، ولو علمت بفضل لا إله إلا الله لقطعت بها عمرك.
وذكر ابن كثير في ترجمة زبيدة زوج هارون الرشيد الخليفة أنها رؤيت في المنام بعدما توفيت، رآها ابنها الأمين الخليفة, فقال: ما فعل الله بكِ؟ قالت: كدت أهلك وأعذب, قال: أما أجريتي عين زبيدة -أي: للحجيج- قالت: ما نفعتني شيئاً عند الله, قال: ولـَمَ؟ قالت: ما أردت بها وجه الله، أردت بها رياء وسمعة. قال: فما نفعك إذاً؟ قالت: نفعتني ركعتان في السحر كنت أقوم فأتوضأ فأدور على شرفات القصر -قصر الخليفة- وأقول: لا إله إلا الله أدخل بها قبري, لا إله إلا الله أقضي بها عمري, لا إله إلا الله أقف بها في حشري, لا إله إلا الله ألقى بها ربي. فهي التي نفعتها عند الله عز وجل مع هذا العمل الصالح.
وقيل للجنيد بن محمد: ما نفعك؟ -وهذه ذكرها أهل العلم كـالخطيب البغدادي والذهبي في السير- ذكروا أنه لما توفي -والرؤيا في المنام بشرى كما قال عليه الصلاة والسلام- قالوا: ما نفعك؟ قال: طاحت تلك الإشارات وما بقي إلا ركيعات كنا نركعها في السحر, أي: أن الإشارات وكثرة الكلام والمجادلات والمباحثات والمناقشات ذهبت وما بقي إلا ركيعات نركعها في السحر.
وابن تيمية يناقش ما هو الأفضل بعد الفرائض, كما في المجلد العاشر لسؤال أبي القاسم المغربي , فيرجح ويقول: شبه إجماع بين العلماء أن ذكر الله عز وجل بعد الفرائض أفضل الأعمال, لكن النافلة تختلف من شخص إلى شخص, بأسباب ثلاثة:
بالنفع وبالحاجة وبالحال.
فمن وجد في النافلة نفعاً له فعليه أن يكثر منها، صحيح أن القرآن أفضل الذكر، لكن بعض الناس كما ذكر ابن تيمية وغيره أنه يرق قلبه وفؤاده ويستحضر عظمة الله عند الدعاء, فالدعاء في حقه أفضل من قراءة القرآن.
وبعض الناس إذا استغفر وسبح وهلل استحضر قلبه, فيكون التسبيح والتهليل والتكبير أفضل من قراءة القرآن في حقه.
وبعض الناس إذا صام كان أفضل له من الصدقة، فقد تكون حالته المالية لا تتحمل الصدقة، فالصيام بحقه أفضل قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60] وقد مر تقرير هذا المبدأ الذي أتى به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
قال بعض أهل التصوف: إذا حفظ القلبُ الله كانت خواطره معصومة، فهل هذا صحيح؟!
هل صحيح أن العبد إذا حفظ الله عز وجل كانت الخواطر والواردات التي ترد عليه معصومة فلا يخطئ أبداً؟
يقولون: إذا بلغ العبد في الولاية مبلغاً عظيماً وحفظ قلبه الله كانت خواطره معصومة.
هذا غير صحيح؛ لأن العصمة ليست إلا لكتاب الله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم, فليس بصحيح هذا الكلام, وقد أخطئوا في ذلك.
فـعمر رضي الله عنه سيد الملهمين، ولو كان في الأمة نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان عمر، فهو محدث، أي: كانت السكينة تنطق على لسانه, لكن مع ذلك أخطأ اجتهاده في بعض المسائل، فليس بمعصوم, ورد عليه بعض الصحابة وأصابوا وأخطأ رضي الله عنه وأرضاه وأجر أجراً واحداً.
فليس الولي أو خطرات الولي معصومة ولكنه يخطئ ويصيب، والعصمة ليست إلا لكتاب الله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما معنى البداء؟ معناه أن الله يبدو له شيء لم يكن يعرفه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من قبل.. جلَّ الله عن ذلك! بل الله يعلم الأمور قبل أن تكون كيف تكون، وبعد أن تكون كيف تكون، ولو كانت أو لم تكن فإن الله يعلمها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فما هو التردد في الحديث؟ التردد حمله أهل العلم على أربعة معانٍ:
1- قيل: يشرف العبد على الهلاك فيدعو الله فيشافيه الله عز وجل فيكون هذا من جهة التردد, لأنه أشرف على الهلاك، وكأن القضاء قرب منه وأراد أن يموت، فيعجل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى له بالعافية فيعود, فهنا هلاك وعافية فيصبح شبه تردد, هذا قول.
2- والقول الثاني: إن معناه: ما ردَّدت رسلي في شيء كترديدي إياهم عن قبض نفس عبدي المؤمن, أي: أن الله عز وجل إذا بعث الملائكة يكره مساءة العبد، فكأن ترداد الملائكة من محبتهم للعبد، ونفوذ القضاء والقدر في الوفاء كأنه تردد إرادتين.
وذكروا قصة موسى فقد جاء في الحديث الصحيح عند البخاري وغيره: {أن الله عز وجل أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام- وكان موسى رجلاً قوياً شجاعاً- فلطم موسى ملك الموت فأذهب عينه, فعاد ملك الموت إلى الله فرد عليه عينه} فقال أهل هذا القول: هذا تردد بين الملك وبين المتوفى فهو تنازع إرادتين, وهذا القول فيه ضعف.
يقول الشافعي: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله, وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- القول الثالث: أنه لطف وتدرج في قبض روحه فكأنه تردد, فإن الله عز وجل رحيم بالعبد المؤمن، فيتلطف في قبض روحه، فكأنه تردد.
4- وقيل -وهو القول الراجح-: يحب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما يَسرُّ العبد, ويكره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما يسوء العبد المسلم, والعبد المسلم يسوءه الموت لما فيه من مشقة وكلفة, فكأن تعارض إرادة الحب مع ما يسر العبد وإرادة العبد فيه شبه تردد، وليس هناك تردد لأن التردد منتفٍ عن الله عز وجل, فكأن الله عز وجل يحب ما يسر العبد ولا يحب أن يسوءه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى, فهذه إرادة وهذه إرادة، فوجود إرادتين لا وجود تردد؛ لأن التردد ليس بوارد عن الله عز وجل.
وأما الموت فإن الله قال: يكره الموت, فكيف يكره المسلم الموت؟ المسلم يكره الموت لما فيه من صعوبة ولا يكرهه لما بعده, فالمسلم يحب لقاء الله إذا رأى ما عند الله وقت السكرات ورأى ما أعد الله له من نعيم, أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه.
ولذلك يأتي الميت من الهول في السكرات، ويأتيه من العرق وخاصة المؤمن، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول -كما عند الترمذي -: {المؤمن يموت بعرق الجبين} يأتيه من العرق ومن الكلفة التي تذهب عنه بقايا السيئات حتى يلقى الله وما عليه سيئة، فالمؤمن يموت بعرق الجبين ويغشاه من الكرب ما الله به عليم.
وفي الحديث النهي عن أذية أولياء الله عز وجل، وأن من والى أولياء الله فقد والى الله, ومن عادى أولياء الله فقد عادى الله.
وفيه النهي عن غيبة الأولياء الصالحين من المؤمنين من العَّباد والصوَّام والزهاد، وطلبة العلم والدعاة، وعدم الاستهزاء والسخرية بهم, وأن معنى هذا هو معاداتهم ومحاربة لله رب العالمين.
أما حديث: {لا صلاة لمنفرد خلف الصف} فهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد بثلاث طرق كلها صحيحة, ولكن قيل: إنها حادثة عين, وقيل: النهي عن صلاة المنفرد الذي يجد فرجة، والأولى أن يحمل الحديث على هذه الرخصة وهي فتوى ابن تيمية، أنه يتحرى، فإن لم يجد فليصل وصلاته مقبولة.
وكان كثير من السلف يداومون عليها, وفي حديث زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صلاة الأوابين حين ترمض الفصال} أي: حين تشتد حرارة الشمس، فتأتي الفصال: وهي ولد الإبل، فترفع أخفافها عن الأرض، وهذا هو وقت صلاة الأوابين.
ووقتها: من ارتفاع الشمس بقدر رمح إلى قبيل الظهر قبل أن يقوم قائم الظهيرة، فإذا قام قائم الظهير يتوقف عن الصلاة, وأحسن أوقاتها إذا حميت الشمس, أي: تقدر من الساعة العاشرة إلى الحادية عشرة, لكن إذا أتت ظروف للمسلم فأراد أن يقدمها أو يؤخرها فله ذلك.
السؤال: هل الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم عصمة مطلقة؟
الجواب: الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم، لكنه قد يفعل صلى الله عليه وسلم بعض المسائل التي يراها عليه الصلاة والسلام وقد يكون غيرها أولى، كأسارى بدر، لكن العجيب في أسارى بدر لما عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم فيهم فقال الله سبحانه: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال:67] وكان الرأي رأي عمر، العجيب أن كثيراً من أهل العلم قالوا: الرأي الصحيح هو الذي وافق رأي الرسول صلى الله عليه وسلم، لماذا؟
لأن الله أقره ولأنه أصلح, فإنه استبقى الأسارى فكان منهم مسلمون، وأتى من أصلابهم من عبد الله، وعلموا أبناء الصحابة، وأقره الله على ذلك, لكن في تلك الفترة كان ذاك أرجح.
ولكن يكفي أن نقول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم، ثم لا نبحث هو معصوم هل من الكبائر أو من الصغائر؟ وهل في المروءات والعبادات أو العادات؟