إسلام ويب

إذا وقعت الواقعةللشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد احتوت سورة الواقعة على معانٍ عظيمة، وأخبار هادفة، في روائع بلاغية، وسياقات بديعة، كما هو حال كلام القيوم العليم والقرآن العظيم، ولقد أخبر الله عز وجل فيها عن أهوال يوم القيامة، وأخبار أصحاب النعيم وأصحاب الجحيم، وتحدث الله كذلك فيها عن قدرته وخلقه، وعن قيمة هذا القرآن العظيم، وعن آخر لحظات عمر الإنسان وتفاصيلها، في عبارات جزلة موجزة، لا تمل ولا تكل منها القلوب والألسنة، فهل من متعظ مدكر؟!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة...)

    الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، ونقول كما قالت الملائكة بين يدي ربها: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32] ، ونقول كما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114] ، ونقول كما قال ربنا: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].

    أما بعد:

    فإن من أعظم نعم الله جل وعلا على عباده أن يصرفهم إلى تدبر كتابه الكريم؛ فإن كلام الله جل وعلا كلام لا يعدله كلام، قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:192-195].

    وفي هذا اللقاء سنعرِّج معكم -أيها المباركون- على سورة الواقعة، نقف فيها مع مواعظ ما أشد أثرها، ومع لطائف يحسن أن ندونها، ومع أقوال لأهل هذا الشأن جميل أن نحفظها، وسورة الواقعة -أيها المؤمنون- سورة مكية.

    قال الله جل وعلا في أولها وهو أصدق القائلين: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [الواقعة:1-3] ، ثم قال جل شأنه: إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً [الواقعة:4-7].

    تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة...إلى قوله: فكانت هباء منبثاً)

    أما قول الله جل وعلا: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الواقعة:1]، فالواقعة: اسم من أسماء يوم القيامة، كما دلت الآيات على ذلك، وكذلك قول الله جل وعلا: وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الحاقة:14-15] .

    وقول ربنا جل وعلا: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [الواقعة:1-2] اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في معنى (كاذبة) في هذه الآية: فقال فريق منهم: إن كاذبة: مصدر جاء على هيئة اسم الفاعل، كقول العرب: عافية، بمعنى: مُعَافَاة، وقولهم: عاقبة، بمعنى: عُقْبَى؛ وعلى هذا التحرير يصبح المعنى: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [الواقعة:2]، أي: ليس لوقعتها كذب، أي: أن وقوعها حق لا مرية فيه، وهذا القول من قول أئمة أهل الشأن يؤيده قول الله جل وعلا: ?اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [النساء:87] ، ويؤيده قوله الله جل وعلا حكاية عن الصالحين من خلقه: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ [آل عمران:9] .

    القول الثاني: هو أن قول الله جل وعلا: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [الواقعة:2] أن كاذبة هنا: صفة لموصوف محذوف، والتقدير: إذا كان يوم الواقعة، إذا كان يوم القيامة فلن تكون هناك نفس كاذبة لما ترى، أي لا توجد نفس تكذب ما ترى، ويؤيده قول الله جل وعلا: فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88]، لكن الأول أظهر، والعلم عند الله.

    قال سبحانه: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [الواقعة:3]، اتفق العلماء على أن قوله: (خافضة رافعة) يعود على يوم القيامة؛ إذ أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي خافضة رافعة، لكن الإشكال وقع في ماهية الذي يُخفض والذي يُرفع؟

    والجواب عن هذا: أن لأهل العلم رحمة الله تعالى عليهم في هذا ثلاثة أقوال:

    القول الأول: إنها تخفض أهل الكفر إلى النار، ويؤيده قول الله جل وعلا: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، وترفع أهل الطاعات إلى أعالي الجنان، ويؤيده قول الله جل وعلا: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى [طه:75] .

    والقول الآخر: إنها تخفض من كان مرتفعاً بطغيانه في الدنيا، وهو قريب من القول الأول، وترفع من كان الناس يحتقرونه في الدنيا لإيمانه، وأصحاب هذا القول يؤيدهم قول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:29-36] .

    القول الثالث -وهو أرجحها عندي والعلم عند الله- أن المعنى: أن هناك أجراماً تكون خافضة فيرفعها الله، وأجراماً تكون مرتفعة فيخفضها الله لشدة أهوال يوم القيامة، قال الله جل وعلا: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ [التكوير:1-2] ، وقال ربنا: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل:88] .

    فهذه أقوال أئمة أهل الشأن في هذه الآية، وأرجحها -كما قلنا والعلم عند الله-: أنها تتعلق بالأجرام الكونية، وكيف أن يوم القيامة يوم عظيم ينجم عنه ما ذكرناه وذكره الله جل وعلا من قبل في كتابه فقال: خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [الواقعة:3] ، ثم ذكر الله جل وعلا بعض أهوالها فقال: إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا [الواقعة:4-5]، ومن الممكن أن يكون البَسُّ هنا بمعنى: سُيِّرت، وقد جاء القرآن بهذا المعنى، قال الله جل وعلا: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير:3].

    وجمهور أهل العلم من المفسرين على أن معنى قول الله جل وعلا : إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا [الواقعة:4-5]: على أن البَسَّ هنا: أنها تصبح كالعهن المنفوش، وقد ذكره الله جل وعلا في سورة القارعة.

    فإذا أردنا أن ننيخ المطايا هنا عند الجبال، فالجبال خلق من خلق الله، يتعجب منها رائيها، وقد صح في الخبر الصحيح: (أن الله لما خلق الأرض جعلت تميد، ثم جعل الله جل وعلا الجبال عليها رواسي فتعجبت الملائكة من ذلك فقالت: أي رب! أفي خلقك شيء أعظم من الجبال؟ قال الله: نعم، الحديد، فقالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شيء أعظم من الحديد؟ قال الله تبارك وتعالى: نعم، النار، قالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شي أعظم من النار؟ قال ربنا تبارك وتعالى: نعم، الماء، فقالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شيء أعظم من الماء؟ قال الله جل وعلا: نعم، الريح -لأن الريح تحمل الماء- قالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شي أعظم من الريح؟ قال الله جل وعلا: ابن آدم يتصدق بصدقة فيخفيها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

    ولما كانت الجبال تُرى كان بدهياً أن يسأل عنها الناس، قال الله جل وعلا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:105-107]، لكن نسفها آخر المطاف، وإنما تمر بأحوال وأطوار قبل أن تنسف، قال الله جل وعلا كما مر معنا: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً [النمل:88] ، وقال: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير:3]، فتمر بمراحل وأطوار حتى تصل إلى أن تذهب بالكلية، لكن الله جل وعلا أرشد إلى أن الجبال لها وضع آخر؛ كونها من أعظم مخلوقاته، فإن النصارى -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- نسبت إلى الله الولد فرية وبهتاناً وكفراً، وما عرفوا قدر ربهم جل وعلا، فأخبر الله جل وعلا أن الجبال على عظيم خلقتها تستنكر هذا الأمر وتستعظمه، ولا يمكن أن تقر به، قال الله جل وعلا: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:89-93]، ولما أراد الله جل وعلا أن يبين لكليمه موسى ضعفه وعجزه في الدنيا عن أن يرى الله قال الله جل وعلا: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، وذكر الله جل وعلا نبيه وعبده الصالح داود عليه السلام، وذكر ربنا أنه آتاه صوتاً رخيماً، ثم لما كان يتلو الزبور ويذكر الله جل وعلا كانت الجبال على عظيم خلقتها تتجاوب معه، قال ربنا جل شأنه: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ:10] ، وقال الله جل وعلا في سورة أخرى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:18-19]، ولا أعلم حديثاً ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الجبال في الجنة إلا حديثا واحداً، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أطفال المسلمين في جبل في الجنة في كفالة إبراهيم وسارة يَرُدُّوهم يوم القيامة إلى آبائهم)، هذا الذي أستحضره الساعة من السنة في ذكر الجبال في جنات عدن، رزقنا الله وإياكم إياها.

    قال الله جل وعلا: إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً [الواقعة:4-7] ، ثم ذكر الله جل وعلا أولئك الأزواج، وكلمة زوج في اللغة: هو كل فرد انضم إلى غيره، فهذا يسمى: زوجاً ولو كان فرداً.

    تفسير قوله تعالى: (وكنتم أزواجاً ثلاثة... إلى قوله: إلا قيلاً سلاماً سلاماً)

    قال الله جل وعلا: وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً [الواقعة:7] ثم فصَّل، فقال: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:8-11]، فبدأ جل وعلا بأصحاب الميمنة حتى يَرغب فيهم الراغب، ثم قال: ? وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ [الواقعة:9]، حتى يَرهب الناس أن يكونوا مثلهم، ثم قال جل شأنه: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة:10]، حتى يطمع أصحاب الميمنة إلى أن يرتقوا بأنفسهم إلى درجة السابقين.

    قال الله جل وعلا: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11]، وتأمل -أيها المبارك- لطف الله جل وعلا بعباده، وفضله وإحسانه جل ذكره على خلقه، قال تبارك وتعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10-11]، ولم يقل: المتقربون، حتى يفهم أن ما هم فيه فضل من الله تبارك وتعالى، وليس شيئاً حَصَلوا عليه بأنفسهم، وإن كان عملهم الصالح وإيمانهم إنما هو في أول الأمر وآخره فضل من الرب تبارك وتعالى.

    قال ربنا: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ [الواقعة:10-16]، ثم ذكر بعض نعيمهم، ونعيمهم جاء مفرقاً في آيات أخر، لكن مما يعنينا هنا أن الله قال: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِيْن [الواقعة:10-18]، فجمع جل وعلا الأكواب والأباريق وأفرد الكأس؛ لأن العرب كان في سننها وأعرافها: أنها إذا شربت الخمر تشربه على ثلاثة أحوال:

    إما أن تضعه في أكواب، وهي: ما لا عروة له ولا خرطوم، فجمعه الله جل وعلا؛ لأنهم كانوا يضعون فيها الخمرة.

    ثم قال جل وعلا: وَأَبَارِيقَ [الواقعة:18] وهو: ما له عروة وخرطوم، فهذا يسمى: إبريقاً ويجمع على أباريق، وقد كانوا يضعون فيه الخمر.

    ثم قال جل وعلا: وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة:18] فأفرد الكأس؛ لأن العرب كانت تشرب في كأس واحد يتناولها الأول والآخر بعده، هكذا في مجلسهم ومجلس شرابهم، لكن شتان ما بين مجالس أهل الدنيا ومجالس أهل الآخرة ، فخمر الدنيا ينغصها أمران: الأول: أنها تنفد وتنتهي.

    والأمر الثاني -وهو أجل- مما ينغصها: أنها تذهب العقل، فإذا ذهب العقل حدث من الإنسان الافتراء والتطاول على ربه والتضييع لدينه؛ ولذلك سماها النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا: (أم الخبائث)، لكن خمر الآخرة يقول الله جل وعلا فيه: لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19]، أي: أنها لا تنفد، وهذا معنى قوله: وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19]، ولا يسكرون منها، وهذا معنى قوله جل شأنه: لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19].

    ثم قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ [الواقعة:20]، وأردف قائلاً: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:21]، وهنا قدّم الفاكهة على اللحم، ومعروف أن سنن الناس في طعامها: أنهم يقدمون اللحم على الفاكهة، لكن الفرق بين الحالين أن أهل الدنيا إنما يأكلون في الأصل لسدِّ الجوع، أما يوم القيامة.. في جنات النعيم؛ فإن أهل الجنة لا يأكلون لسد الجوع بل للتلذذ؛ لأن الجنة لا جوع فيها، فلا يأكلون لسد الجوع، وإنما يأكلون للتفكه والتلذذ، فلما كان أكلهم الأصل فيه أنه للتلذذ والتفكه جعل الله جل وعلا الفاكهة مقدمة على عين الطعام، قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:20-21]، وهنا خصَّ ربنا لحم الطير دون غيره؛ لأن الناس جرت أعرافهم وتقاليدهم على أنهم يأكلون من بهيمة الأنعام، ولحم الطير عزيز لا يناله كل أحد، فإنما يحصل للملوك غالباً إذا نفروا أو ذهبوا للصيد، فأخبر الله جل وعلا أن ذلك الشيء الممتنع في الدنيا عند البعض، إنما هو متاح للكل لمن دخل الجنة، رزقني الله وإياكم الجنة.

    قال الله جل وعلا: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة:20-24].

    حور: جمع حوراء، وهي المرأة البيضاء جسداً، وعين: جمع عيناء، وهي المرأة الواسعة العينين مع سواد فيها، وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة:22-24].

    ثم قال جل وعلا -بما يسميه البلاغيون: تأكيد المدح بما يشبه الذم- قال جل شأنه: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا [الواقعة:25-26].

    تفسير قوله تعالى: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين... إلى قوله: (وثلة من الآخرين)

    ثم أردف جل وعلا في ذكر أصحاب اليمين فقال: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة:27-30] وهي آيات ظاهرات المعنى، فالسدر في جنات النعيم لا شوك فيه، والطلح المنضود هو: شجر الموز، وذكر الله جل وعلا بعض النعم التي ينعم بها جل شأنه على أهل طاعته من أهل اليمين إلى أن قال الله جل وعلا: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة:34] ثم قال: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:35-38] لا خلاف بين العلماء أن قول الرب جل شأنه: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35]، عائد على النساء، لكن السؤال: هل هذا المذكور يعود إلى شي قد ذكر من قبل أو لم يذكر؟ على قولين لأهل العلم:

    من حمل قول الله جل وعلا: وَفُرُشٍ أنها بمعنى: النساء، أصبح المعنى عنده: أن قول الله جل وعلا: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ [الواقعة:35] يعود على النساء المذكورين في قوله جل شأنه: وَفُرُشٍ فيصبح معنى قوله تعالى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة:34]، أي: مرفوعة قدرًا، مرفوعة مكانةً، مرفوعة منزلةً، على أن الفرش هنا بمعنى: النساء، وهذا معروف في لغة العرب وسنن كلامها.

    وقال آخرون: إنه لا يعود إلى مذكور، لكن القرائن والمقام يدل عليه، فإن الفرش إنما توضع ليتفكه بها المرء مع زوجته، ويتكئ عليها معها، فقول الله جل وعلا: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35] قالوا: لا يعود إلى مذكور، لكن هناك قرينة تدل على أنه يعود على النساء، وهو قول الله جل وعلا: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة:34]، لأن الفراش يطلق على فراش الزوجية في الغالب.

    ثم قال جل وعلا: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ [الواقعة:35-36] والأصل أن الفعل (جعل) هنا بمعنى: صيّر، فإذا قلنا: إنه بمعنى صيّر خلافاً للمعتزلة فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا [الواقعة:36] فلا يمكن أن يُطلق على الحور العين المخلوقات في الجنة؛ لأن المرأة على أصل خلقتها تكون بكراً، فلا يصح معنى: أن يقول الله جل وعلا فصيّرناهن أبكاراً، وهن أصلاً أبكار، لكن قول الله جل وعلا: فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا [الواقعة:36]، يعود على النساء المؤمنات اللواتي دخلن الجنة وهن ثيبات، فقول الله جل وعلا: فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا [الواقعة:36] أي: صيّرناهن ونقلناهن من حالة كون إحداهن ثيباً إلى كونها بكراً.

    ثم قال عز وجل: عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:37]، فعرباً أي: محببات إلى أزواجهن، وأتراباً: جمع ترب، والمعنى: أنهن نداد في الأسنان، يعني: كلهن على سن واحدة.

    قال جمهور العلماء ويؤيده بعض الآثار: إن المعنى أنهن في سن ثلاث وثلاثين والعلم عند الله، وهذا المعنى القرآني هو الذي سلّه جرير في قوله:

    أتصحو أم فؤادك غير صاح عشيـة هم صحبك بالـرواح

    تقول العاذلات علاك شيب أهـذا الشيب يمنعني مـراحي؟

    يكلفني فؤادي مَن هواه ظعائن يجتزعن على رماح

    عراباً لم يدن مع النصارى ولم يأكلن من سمك القراح

    فقول الله جل وعلا: عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:37]، هذا وصف لما أعده الله جل وعلا لأهل طاعته، والنبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق دخل على إحدى عشر امرأة، لم يكن منهن بكر إلا عائشة ، والباقيات رضوان الله تعالى عليهن كانت كل واحدة منهن ثيباً ، ومات صلى الله عليه وسلم عن تسع، فقد ماتت اثنتان من زوجاته صلى الله عليه وسلم في حياته: خديجة بنت خويلد ولم يكن قد تزوج عليها امرأة، وزينب الهلالية رضي الله عنها وأرضاها ماتت بعد زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها بثمانية أشهر، فبقين هؤلاء التسع هن اللواتي نزلت في حقهن آية التخيير، وهن اللائي مات النبي صلى الله عليه وسلم عنهن، وآية التخيير ذكرها الله جل وعلا في سورة الأحزاب فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:28-29]، فبدأ صلى الله عليه وسلم بـعائشة وكانت أحب نسائه إليه وقال: (يا عائشة ! إنني سأخبرك بأمر فلا تستعجلي حتى تستأمري أبويكي) فقالت: يا رسول الله! أفيك أستأمر أبوي؟ ثم تلا عليها صلى الله عليه وسلم آية التخيير، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، لكنها طمعاً في أن تنفرد به صلوات الله وسلامه عليه، ولا تثريب عليها قالت: لا تخبر أحداً من زوجاتك بما أجبتك به، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني معلماً ميسراً، ولم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، لا تسألني إحداهن عن جوابكِ إلا أخبرتها)، فأخبرهن صلى الله عليه وسلم واخترن جميعاً رضوان الله تعالى عليهن النبي صلى الله عليه وسلم والله من قبل والدار الآخرة كما جاء نص القرآن، وهؤلاء التسع منهن خمس قرشيات، وأربع غير قرشيات تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم، من أشهرهن عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر ، وجويرية بنت الحارث وهذه من بني المصطلق ليست من قريش، وصفية بنت حيي بن أخطب من بني النضير من ذرية هارون بن عمران عليه الصلاة والسلام، وغيرهن كـأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة رضوان الله تعالى عليهن أجمعين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال...)

    ثم قال الله جل وعلا ذاكراً الصنف الثالث: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [الواقعة:41-45] .

    أما قول ربنا: لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة:44] فإن العرب -كما ذكر الطبري في تفسيره- في جريان كلامها تأتي في النفي بلفظ (كريم)، فتقول: هذه الدار لا واسعة ولا كريمة، ويقولون: هذا اللحم لا سمين ولا كريم، فكلما نفوا صفة معينة متعلقة بالموصوف أردفوها بقولهم: كريم، فجاء القرآن على سَنَنِهم ونسقهم في الكلام، قال الله جل وعلا: لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة:44] ، ثم قال ربنا: إِنَّهُمْ أي: أصحاب الشمال كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا [الواقعة:45-47]، وطالب العلم إذا تأمل هذه الآيات مقارنة بالصنفين الأولين يجد فرقاً واضحاً:

    وهو أن الله جل وعلا لم يذكر أسباب تكريم السابقين، ولم يذكر أسباب تقريب أهل اليمين، ولكنه لما ذكر أصحاب الشمال ذكر أسباب تعذيبهم!

    أي: أنه لما ذكر أصحاب اليمين ذكر النُعمى عليهم، ولم يذكر لأي سبب أنعم عليهم، ولما ذكر قبلهم السابقين ذكر النُعمى والفضل عليهم، ولم يذكر أسباب حصولهم على ذلك النعيم، لكنه عندما تكلم -جل شأنه وتبارك اسمه- عن أصحاب الشمال عدد الأسباب فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الواقعة:45-47]. والجواب عن هذا أن يقال: لقد جرت سنة القرآن أن يذكر الله أسباب العقاب ولا يذكر أسباب الثواب؛ لأن الثواب فضل لا يمكن أن يتوهم القدح في المتفضل به، وأما العقاب فمقام عدل لابد أن تُوْضَحَ فيه الأسباب حتى لا يُظن بالحاكم والقائم على الأمر ظلم. وأظن أن المعنى قد تحرر بهذا.

    قال جل وعلا: إِنَّهُمْ كَانُوا [الواقعة:45] أي: أصحاب الشمال ?قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [الواقعة:45] وليس هذا سبب رئيس في تعذيبهم؛ لأن الترف لوحده قد لا يصل إلى حد الكفر، لكن الله قال بعدها: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ [الواقعة:46] وهو الشرك، ثم قال الله: وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الواقعة:47]، وما أجمله الله هنا بيّنه الله في مقام أوسع في سورة الإسراء، فإن أهل الإشراك كانوا يستبعدون البعث والنشور ويجعلونه أمراً لا يمكن أن يقع بحال، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:77-79]، لكن هذا كله يدور حول التراب، وقد أخبر الله جل وعلا عنهم في سورة الإسراء: أنهم استبعدوا البعث بعد أن يكونوا عظاماً أو تراباً، ومعلوم أن بني آدم مخلوقون من تراب، فليس لهم شأن أن يستبعدوا أن الله جل وعلا يعيدهم من التراب الذي خلقهم منه، لكن الله جل وعلا ليُظهر لهم كمال قدرته، وجليل عظمته، ومنتهى حكمته قال لهم: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:50-52]، فلو كنتم حجارة أو حديداً أو أي خلق يمكن أن يخطر لكم على بال لأحياكم الله جل وعلا منه، فكيف وأنتم تعودون إلى تراب، أي إلى عين ما خلقكم الله جل وعلا منه؟ والأمر كله على الله جل وعلا هيّن.

    قال الله جل وعلا: أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الواقعة:48] قال الله مجيباً لهم: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ [الواقعة:49-52]، وهذه الشجرة في النار، ومعلوم نقلاً وعقلاً أن النار لا يمكن أن ينبت فيها شجر؛ لأن الأصل أن النار تحرق الشجر، لكن الله جل وعلا قال في الصافات: إِنَّهَا شَجَرَةٌ [الصافات:64] أي: الزقوم تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [الصافات:64]، وأخبر الله جل وعلا أنه أراد بذلك اختبار العباد في مدى يقينهم وإيمانهم بقدرة الله، أو عدم إيمانهم ويقينهم بقدرة ربهم، قال الله جل وعلا: إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ [الصافات:63] فهي شجرة تخرج في أصل الجحيم، فمن علم عظيم جلال الله وكمال قدرته يعلم أن الله قادر على أن يمنع النار من أن تصل إلى الشجرة، والتحريم -أيها المبارك- في القرآن على نوعين: تحريم شرع، وتحريم منع.

    فالثواب والعقاب يتعلق بتحريم الشرع كقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23] ، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3] ، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ [الأنعام:119] هذا الذي يتدخل فيه الثواب والعقاب.

    أما تحريم المنع فلا ثواب ولا عقاب عليه؛ لأنه أمر كوني قدري ليس أمراً شرعياً، قال الله جل وعلا: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12] أي: منعنا شفتيه من أن تقبل أثداء النساء، فالمعنى هنا: تحريم منع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما قالوا له: يا نبي الله! كيف نصلي عليك وقد أرمت؟ قال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) أي: منع الأرض من أن تأكل أجساد الأنبياء، وليس معنى حرم هنا بمعنى: شَرَّع؛ لأن الأرض غير مكلفة بالاتفاق، لكن المقصود: أن الله جل وعلا منعها أن تصل إلى أجساد الأنبياء، ومنه أيضاً: أن الله جل وعلا حرم على النار أن تأكل من ابن آدم مواضع السجود، رغم أنها تتسلط على بدنه كله، لكن النار تتسلط على بدنه كله بقدر الله، وتمتنع عن أعضاء السجود بقدر الله؛ لأن النار كلها مخلوقة من مخلوقات الله لا يمكن لها ولا لغيرها من المخلوقات أن يخرج عن مشيئته وقدرته جل وعلا طرفة عين ولا أقل من ذلك.

    ثم قال الله جل وعلا: لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [الواقعة:52-55].

    أما قول الله جل وعلا: فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [الواقعة:54] هذا إجمال فصله قول الله جل وعلا: فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [الواقعة:55] .

    والهيم: تطلق ويراد بها أحد أمرين:

    إما أن يكون المراد: الأرض الرملية التي مهما سُقيت لا يظهر عليها أثر، وقال بهذا القول: ابن كيسان والأخفش من العلماء.

    وجمهور أهل العلم من المفسرين على أن المعنى: أن الهُيَام داء يصيب الإبل فتعطش، فإذا عطشت واشتد عِطَاشُها لجأت إلى الماء لترتوي، فمهما سُقيت لتشرب فلا يمكن لها أن ترتوي، فتمكث على هذا الحال حتى تَسْقَم سُقماً شديداً أو تهلك. هذا الذي عليه أكثر المفسرين.

    والهيام: داء معروف في الإبل كما بينا، وقد كانت العرب تنقله حتى إلى الرجال، وينقلون عن قيس بن الملوح الذي فتن بـليلى أنه قال:

    وقــد خبروني أن تيماء منزل لليلى إذا ما الصيف ألـقى المراســيا

    فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت فما للنوى ترمي بليلى المراميا

    إلى أن قال وهو موضع الشاهد:

    يقال به داء الهيام أصابه وقد علمت نفسي مكان شفائيا

    فقول قيس : يقولون به داء الهيام أصابه هو موضع الشاهد، وقد نقلته العرب من إصابة الإبل إلى إصابة أفراد الرجال.

    قال الله جل وعلا: فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا [الواقعة:55-56] الذي ذكرناه وبيناه وحررناه نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة:56]، والنزل: أول ما يستقبل به الضيف، قال بعض العلماء رحمة الله تعالى عليهم من أهل هذا الشأن: إذا كان هذا هو نزلهم، فماذا سيكون حالهم عياذاً بالله بعد أن يستقر بهم القرار في النار؟ لا ريب أنه أنكى وأشد وأعظم، عافانا الله وإياكم من ذلك كله.

    تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تمنون... إلى قوله: ومتاعاً للمقوين)

    ثم أخبر الله جل وعلا في آيات متعاقبات عن عظيم قدرته أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ [الواقعة:58-60] أي: لا يفوتنا فائت ولا يعجزنا شيء، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ [الواقعة:61] أي: هيئات أخر غير التي أنتم عليها، ثم ذكر الله جل وعلا الزرع والماء وما أعده الله جل وعلا للمسافرين، ثم قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ [الواقعة:71-73] أي: للمسافرين، فذكر الله جل وعلا الزرع وإنباته، والمطر وإنزاله، وذكر جل وعلا النار وإيقادها، وأخبر أن ذلك كله لا يتم إلا بعظيم قدرته وجلال حكمته، وليس هذا المقام مقاماً مناسباً للتفصيل فيها.

    تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم...إلى قوله: تنزيل من رب العالمين)

    ثم قال ربنا تبارك وتعالى في خاتمة السورة: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة:75-77]، لأهل العلم قولان في معنى: مواقع النجوم:

    قول يقول: إن مواقع النجوم: مطالعها ومساقطها، وأكثر من يتوجه للتفسير والإعجاز العلمي في عصرنا يذهب إلى هذا، لكن هذا القول لا يعضده قول الله جل وعلا بعدها: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة:76]؛ لعلمنا أن كل ما أقسم الله جل وعلا به أو عليه فهو عظيم، فلا بد أن يكون في قول الله جل وعلا : وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة:76] كبير فائدة لم توجد في ما أقسم الله به قبل من مخلوقاته.

    فيكون قول الله جل وعلا على القول الثاني: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:75] ليس قسماً بالمخلوق؛ لأن القرآن غير مخلوق، وإنما قسم فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:75] أي: أن القرآن نزل منجماً، فلما نزل القرآن منجماً أقسم الله جل وعلا بمواقع نزوله، فيصبح القسم هنا عند طائفة من أهل العلم، ويروى هذا عن ابن عباس رضوان الله تعالى عليهما، ومال إليه الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في أول تفسير سورة النجم إلى القول: بأن القرآن نزل منجماً، وهو المعني بقول الله: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1]، وما قاله الإمام الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه قوي إلا أنا لا نحفظ في اللغة أن كلمة: هوى تأتي بمعنى: أنزل، وإنما تأتي بمعنى: سقط، لكن نعود إلى آية الواقعة، قال الله جل وعلا: فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:75]، حجة هؤلاء أن الله قال: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة:76] وجواب القسم إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة:77] فيصبح المعنى: أن الله ذكر أن هذا القسم عظيم؛ لأن الله أقسم بالقرآن على القرآن، وهذا مرتقى صعب في الفهم، ليس في فهمه وإدراكه، لكن في أن يستنبطه الإنسان أولاً، وقد قال به القفال رحمة الله تعالى عليه أحد علماء الشافعية، وهو أن معنى الآية: أن الله أقسم بالقرآن على القرآن، فلما أقسم الله بالقرآن على القرآن كان حرياً أن يقال بينهما: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة:76-77].

    أما اللطيفة في معنى قول الله جل وعلا: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة:77]: فإن أي كلام يكرر ويردد يذهب رونقه، ومن علم الأدب في مخاطبة الملوك يستحي أن يجعل كلامه عند الملوك مكرراً، ويبحث لهم في كل يوم عن فائدة جديدة، لكن كلام الله يتلى في المحاريب من أربعة عشر قرناً، ومع ذلك لم يذهب من رونقه شيء؛ لأنه كلام الله، ولو كان هذا الذي يتلى في المحاريب منذ أربعة عشر قرناً يسمعه الناس ويرددونه.. كلام بشر لملته الأنفس، ولسئمته الآذان، لكن لما كان هذا الكلام كلام رب العالمين جل جلاله؛ لم يكن لمؤمن أبداً أن يسئم ويمل من كلام ربه تبارك وتعالى، وهذا معنى قول الله جل وعلا: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة:77] أي: باق على ما هو فيه من صون، ورونق، وعظمة، وبهاء، وهداية، وإجلال؛ لأنه كلام رب العالمين جل جلاله، قال الله: تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة:80].

    ثم أخبر الله جل وعلا في آية خبرية لا إنشائية فقال: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، هذه الآية مسوقة في سياق الخبر لا في سياق الإنشاء، يعني: لا يأتي أحد ويقول: لا يجوز لك أن تمس القرآن إلا وأنت طاهر؛ لأن الله يقول: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79]، لكن يجوز لنا أن نقول -وهذا قول جمهور العلماء- لا يجوز لك أن تمس القرآن إلا وأنت طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث عمرو بن حزم : (وألا يمس القرآن إلا طاهر)، فالاستدلال يكون بالحديث لا بالآية، فإن (لا) في قول الله جل وعلا: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] نافية وليست ناهية، ولا الناهية هي التي يراد بها الإنشاء والتكليف والطلب، أما لا النافية فهي تسوق خبراً؛ لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنما يفهم من الإشارة لا من التصريح؛ أنه ما دام أهل السماء لا يمس القرآن منهم إلا طاهر وكلهم مطهرون، فينبغي على أهل الأرض ألا يمسوا القرآن إلا وهم طاهرون، وهذا قول جمهور العلماء.

    وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجوز أن يمس المصحف من لم يكن متوضئاً؛ لأنهم لا يرون صحة حديث عمرو بن حزم ، لكن كما قلت: ذهب مالك وجمهور العلماء معه على أنه لا يجوز أن يمس القرآن أحد إلا أن يكون طاهراً من الحدثين الأصغر والأكبر، قال الله جل وعلا: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] .

    تفسير قوله تعالى: (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون...إلى قوله: ترجعونها إن كنتم صادقين)

    ثم قال تبارك وتعالى: أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:81-82]، قوله: رِزْقَكُمْ يحتمل معنيين:

    المعنى الأول: أن تكون بمعنى: الشكر، وهذا وارد في كلام العرب، فيصبح المعنى: وتجعلون شكركم لِمَا أفاء الله عليكم من نعم أنكم تكذبون بهذا القرآن، وهذا قول جيد في السياق، لكن الأحاديث وردت بخلافه.

    والقول الثاني: وهو الذي تؤيده الأحاديث -كما عند مسلم في الصحيح- أن المعنى: وتجعلون رزقكم أي: ما ينزل عليكم من السماء من مطر، ويؤيده حديث مسلم : مطرنا بنوء كذا، وآخرون قالوا: مطرنا بفضل الله ورحمته فقال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله جل وعلا: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فهو مؤمن بي كافر بالكواكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهو كافر بي مؤمن بالكواكب)، على هذا حمل أكثر المفسرين معنى الآية والعلم عند الله.

    ثم قال ربنا: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:83-85]، لم يرد ذكر النفس هنا، فقول الله جل وعلا: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة:83]، لم يذكر الفاعل للفعل (بلغ)، لكن العلماء متفقون على النفس، وهذا فصل في لغة العرب أنها تأتي بالكلم ولو لم يكن له ذكر من قبل، قال حاتم طي:

    أماوي إن المال غاد ورائح ويبقى من المال الأحاديث والذكر

    أماوي إني لا أقول لسائل إذا جاء يوماً حل في مالنا نزر

    إلى أن قال وهو موضع الشاهد:

    لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر

    والنفس لم يكن لها كلام ولا قول في قصيدة حاتم ، وإنما ردهم إلى شيء غير مذكور، وهناك شواهد أخر، وقد عقد له ابن خالويه رحمة الله تعالى عليه في كتابة: (فقه اللغة وسر العربية) فصلاً كاملاً.

    والذي يعنينا هنا أن قول الله جل وعلا: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة:83]، أنه يعود على الروح بإجماع العلماء.

    قال تعالى: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ [الواقعة:83-84] أي: من حول الميت حِينَئِذٍ [الواقعة:84]، أي: حين تبلغ الروح الحلقوم وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ [الواقعة:84]، أي: إلى الميت، وَنَحْنُ [الواقعة:85] هذا قرب الله بملائكته وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الواقعة:85] أي إلى الميت وَلَكِنْ [الواقعة:85] حرف استدراك وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85] أي: من حول الميت لا يبصر الملائكة وهي تنزع الروح من الميت، وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [الواقعة:85-86] أي: لا تدانون ولا تملكون ولا تستعبدون كما تزعمون، ولا لأحد سلطان عليكم كما تقولون فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [الواقعة:86]، هذا هو قول الجمهور، وقول آخر: وهو أنكم غير مجازين أياً كان السياق، فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا [الواقعة:86-87] أي: الروح إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:87] والروح إذا اتصلت بالبدن يقال لها: نفس، قال الله جل وعلا: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7] ، وإذا خرجت من البدن يقال لها: روح، قال صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان بن مظعون : (إن الروح إذا فرجت تبعها البصر)، فقال ربنا هنا: فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:86-87]، ولا يستطيع أحد أن يعيد إلى ميت حياة، قال الله جل وعلا: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:61-62].

    تفسير قوله تعالى: (فأما إن كان من المقربين... إلى آخر السورة

    ثم بعد أن بين الله جل وعلا هذا كله ذكر مآل الجميع بعد أن قسمهم إلى ثلاثة أصناف، قال ربنا: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الواقعة:88]، والمقصود بالمقربين هنا -والعلم عند الله- فيما يظهر: أنهم من يدخلون الجنة بغير حساب، وهؤلاء هم المنادون أولاً بقول الله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء:101-102].

    قال: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ [الواقعة:88-89] أي: يستريحون من عناء الدنيا، والله جل وعلا خلق الدنيا مطبوعة على الكدر كما قال سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، فهذا نبي الأمة ورسول الملة صلى الله عليه وسلم يُرزق بسبع بنين وبنات، يموت منهم ستة أمام عينيه صلى الله عليه وسلم، ولا يبقى أحد يحيا بعده إلا فاطمة رضوان الله تعالى على أبناء وبنات رسولنا صلى الله عليه وسلم أجمعين، فرأى صلى الله عليه وسلم أبناءه وبناته يمتن ويموتون وهو حي يُرزق، ولم يبق له إلا فاطمة التي ماتت بعده بستة أشهر، وشج رأسه يوم أحد، وكسرت رباعيته، ولما أتم الله له الدين وأظهر له النعمة، وقال له: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3] جاءته الآيات تخبر بقرب أجله ودنو رحيله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، فإذا لقي المؤمن ربه جل وعلا وجد الراحة الكبرى، قال الإمام أحمد رحمه الله: لا راحة للمؤمن دون لقاء الله. ومن يرجو راحة قبل لقاء الله فإنما يبحث عن شيء غير موجود، اللهم إلا أن تكون راحته -وهذا الذي ينبغي- في أنه يرضى بقدر الله قال ربنا: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] والحياة الطيبة: أن يرضى الإنسان بقدر الله.

    قال: فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:89-90] وأجمل ربنا هنا فقال: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:91] ؛ لأنهم يحيون في دار سلام، فبدهي أن ينطقوا بالسلام.

    ثم ذكر جل وعلا العصاة المتمردين على ربهم، والخارجين عن طاعته فقال جل شأنه: وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة:92-94] وحتى لا يرتاب مرتاب، ولا يشك شاك قال أصدق القائلين جل جلاله: إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة:95] ، ثم ختم الله جل وعلا هذه الآيات بالوصية العظيمة: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74]، والمعنى: نزِّه ربك جل وعلا عمّا لا يليق به، وغاية ما قاله أئمة أهل الشأن في هذا الباب أن يقال: إن الله غني عن طاعة كل أحد، فإذا نزّهت ربك عمّا لا يليق به فتشعر بالطهر والنقاء والصفاء، وإلا فربنا جل جلاله لا تنفعه طاعة طائع، ولا تضره معصية عاص.

    هذا مجمل ما دلت عليه هذه السورة المباركة؛ سورة الواقعة، وقفنا معها وقفة إجمالية، حاولنا أن نصل بها معكم إلى ما يمكن أن يعيننا على طاعة الله جل وعلا.

    عرض مجمل للمراحل التي يمر بها الإنسان إلى أن يستقر في الجنة أو في النار

    وهنا نجمل -أيها المباركون- من قول الله جل وعلا : فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ [الواقعة:83-84] تصعد الروح، فإما أن تنادى بأحسن الأسماء أو تنادى بأقبح الأسماء، تعود إلى صاحبها، تدب الروح في البدن، فيسمع صوت النعال، ثم يُقعد فيُسأل عن ربه ونبيه ودينه، يوفِّق الله من يشاء من عباده للإجابة، ويخذل من عباد الله من شاء عن الإجابة، ثم يمكث الإنسان في قبره حياة البرزخ، قال ربنا: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]، وهل تنفصل الروح أو تبقى متصلة؟ العلم عند الله، لكن غالب الظن: أنها تنفصل حيناً، وتتصل أحياناً في حياة لا نعلم كنهها، قال الله عنها: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] ، ثم يأمر الله ملكاً يقال له: إسرافيل، أن ينفخ فينفخ، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم يمكث الناس أربعين، ثم يأمر الله الملك نفسه أن ينفخ فينفخ، فتخرج أرواح المؤمنين من عليين إلى أجساد الناس، لا تخطيء روح جسداً خرجت منه، وأرواح أهل الكفر من سجين، لا تخطيء روح جسداً خرجت منه، تدب الحياة في الأجساد، فيخرج الناس كأنما يقومون من نومهم، قال الله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:51-52]، يحشر الناس على أرض بيضاء نقية، يعطى كل أحد نوراً فينقسمون إلى ثلاثة أقسام: منهم أقوام يطفأ نورهم من حين أن يستلموه وهم أهل الكفر، وتبقى طائفتان يبقى معهم نورهم حتى إذا جاءوا على الصراط أُطفئت أنوار أهل النفاق، قال الله جل وعلا عنهم أنهم ينادون أهل الإيمان: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ وهم يجيبونهم قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13] ، ويمضي أهل الإيمان يجتازون بنورهم على قدر أعمالهم الصراط، ثم ينقسمون إلى قسمين: قسم يؤذن لهم بدخول الجنة، وقسم يحبسون على الأعراف، فإذا حبسوا على الأعراف رأوا أهل الجنة وهم يدخلونها، قال الله جل وعلا: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ [الأعراف:46] ، وإذا صرفت أبصارهم من غير سبب منهم إلى أهل النار: قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:47] ، ثم ظاهر القرآن -والعلم عند الله- أنهم يؤذن لهم بالجنة، ثم ينادي مناد بعد أن يؤتى بالموت على صورة كبش أملح فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، ويقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة خلود لا موت! ويا أهل النار خلود لا موت! قال الله جل وعلا: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:39-40] .

    هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان العلي الكبير على قوله، وما لم نجمله، أو لم نَقُلْه، أو لم نبينه في قولنا هذا، فلعل الله جل وعلا أن يكتب لنا أن نبينه في الإجابة على أسئلتكم، هذا والعلم عند الله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755777077