إسلام ويب

شرح بعض الأدعيةللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أوتي النبي صلوات الله وسلامه عليه جوامع الكلم وملك ناصية البلاغة، فكان يجمع المعاني الكثيرة في الكلمات القليلة، ومما ظهرت فيه بلاغته وفصاحته صلى الله عليه وسلم الدعاء، فقد كان يدعو ربه بأوجز عبارة وأوضح بيان متقيداً في ذلك بآداب الدعاء، ومعلماً أمته من بعده كيفية طلب الخير من الله ودفع البلاء.

    1.   

    شرح حديث: (اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق...)

    الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته، وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، ترك أمته على الواضحة الغراء، والمحجة البيضاء، فسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:42]، فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه وسلم تسليماً.

    أما بعد:

    عباد الله! إن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين).

    هذه الكلمات الطيبات من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من الدعاء أجمعه، أي: أجمعه لكل خير، مثل قوله: (اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا وما لم نعلم).

    شرح قوله في الحديث (اللهم بعلمك الغيب ... ما كانت الوفاة خيراً لي)

    ما يسأله العبد من ربه عز وجل إما أن يكون مقطوعاً بأنه من الخير، كأن يسأل الله عز وجل الجنة والنجاة من النار، أو يسأله إيماناً، أو توكلاً، أو حباً لله عز وجل، فهذا يقطع بأنه من الخير، فيلزم العبد أن يسأل الله عز وجل إياه، وإما أن يكون لا يدري هل هو من الخير أو من الشر، فينبغي عليه أن يعلق ذلك بعلم الله عز وجل أنه من الخير له، كأن يقول: اللهم وفقني إلى هذا السفر إن كان خيراً لي، اللهم قدر لي هذا الزواج إن كان خيراً لي، كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الاستخارة، وكان هذا بدلاً من الاستقسام بالأزلام ومن التطير، فقد كان العرب في الجاهلية إذا أراد العبد أن يعمل شيئاً ولا يدري هل هو من الخير أو من الشر -كأن يريد سفراً- فإنه يضرب طيراً بحجر، فإذا طار ناحية اليمين تيمن واستبشر وسافر، وإن طار ناحية الشمال تشاءم وترك السفر.

    أما الاستقسام بالأزلام فكان يأخذ ثلاثة أقداح ويكتب على أحدها افعل، وعلى الثاني لا تفعل، ويترك الثالث لا يكتب عليه شيئاً، ويأخذ منها قدحاً، فإذا خرج له القدح افعل يفعل، وإذا خرج له لا تفعل لا يفعل، وإذا خرج الذي ليس عليه شيء أعاد الاستقسام بالأزلام.

    فأبدلنا النبي صلى الله عليه وسلم بدلاً من ذلك دعاء الاستخارة، أن يصلي العبد ركعتين من غير الفريضة، ويدعو الله عز وجل: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسمي حاجته- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسمي حاجته- شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه).

    ولما كان سؤال العبد للموت أو للمزيد من الحياة لا يدري هل هو من الخير له أو من الشر له علق ذلك بعلم الله عز وجل، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله سلم يدعو بهؤلاء الكلمات: (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)؛ لأن العبد لا يعلم ما يحدث في بقية عمره، هل يزداد قرباً لله عز وجل، وحباً له عز وجل؟ أو يبعد عن الله عز وجل وينقلب على عقبيه، نسأل الله العافية، فلذلك علق هذا الدعاء بعلم الله عز وجل، (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي).

    وإلا فالأصل ألا يسأل العبد الموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، إن كان محسناً فلعله يزداد، وإن كان مسيئاً فلعله يستعتب)، فالعبد لا يتمنى الموت؛ لأن الدنيا مزرعة للآخرة

    يا من بدنياه انشغل وغره طول الأمل

    الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل

    لا دار للمرء قبل الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها

    فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها

    فلا يتمنين أحد الموت، لأن كل يوم يعيشه المؤمن فهو غنيمة؛ لأنه يزداد خيراً وقرباً إلى الله عز وجل، بل كل لحظة من لحظات عمره جوهرة ثمينة يستطيع أن يشتري بها كنزاً لا يفنى أبد الآباد.

    وفي الحديث الآخر: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)، فالعبد لا يسأل الموت لضر نزل به من فقر أو مرض أو غير ذلك من أنواع البلاء؛ لأنه قد يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، أي: كالذي يحتمي من حر الرمضاء -أي: شدة الحر- بالدخول إلى النار؛ لأنه لا يدري ما له في الآخرة، ولا يثق بعمله، بل ينبغي له أن يجتهد في طاعة الله عز وجل، ويسأل الله عز وجل أن يبارك في عمره، وأن يزيده ثباته على دين الله عز وجل وطاعة لله عز وجل، ولكنه إذا خاف على دينه أو أشفق على يقينه أو خشي أن يموت على غير ملة الإسلام أو على غير طاعة الملك العلام فعند ذلك يجوز له أن يتمنى الموت كما في حديث اختصام الملأ الأعلى، (وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني غير مفتون) فإذا خشي العبد على دينه وأشفق على يقينه فعند ذلك يجوز له أن يتمنى الموت كما تمنى بعض السلف الموت من كثرة الفتن، ومن خشيتهم على إيمانهم.

    شرح قوله في الحديث (اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة)

    ثم قال: (اللهم إني سألك خشيتك في الغيب والشهادة)، وهذا من المقطوع به أنه من الخير، فلذلك لم يعلقه بعلم الله عز وجل بالغيب وقدرته على الخلق، بل قال: (اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة).

    ومحك الخشية الحقيقية لله عز وجل في الغيب، وإن كانت الخشية ممدوحة في كل وقت، قال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]؛ لأن خشية الله عز وجل هي التي تدفع العبد لكل خير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)، فكلما ازدادت خشية العبد لله عز وجل ازداد له طاعة وابتعد عن معصيته عز وجل.

    قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله عز وجل جهلاً.

    وقيل للشعبي : من العالم؟ قال: إنما العالم من يخشى الله، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

    والمحك الحقيقي -عباد الله- أن تخشى الله عز وجل بالغيب، إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12]، لأن العبد قد يترك الذنب أمام الناس، وقد يجتهد في الطاعة أمام الناس، رجاء مدحهم أو هرباً من ذمهم، فالخشية الحقيقية هي الخشية في الغيب.

    شرح قوله في الحديث (وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى)

    ثم قال: (وكلمة الحق في الغضب والرضا)، لأن العبد إذا غضب قد لا يحكم بالحق، أو إذا كان الحكم على أحد من أعدائه فقد لا يحكم بالعدل والحق، والله تعالى يقول: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، ولذلك نهي القاضي أن يحكم وهو غضبان؛ لأن هذا قد يحمله على الحكم بغير الحق، وقاسوا على ذلك شدة الجوع، وشدة الخوف، والحاجة إلى النوم؛ لأنه يخرج عن حال الاعتدال، فيخرجه ذلك عن الحكم بالعدل.

    ثم قال: (والقصد في الفقر والغنى)، والمحك الحقيقي -عباد الله- في الإنفاق أن يكون مقتصداً في الغنى، فيقتصد إذا بسط الله عز وجل عليه، كما قال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء:29]، فينبغي للعبد أن يكون مقتصداً في الفقر والغنى.

    شرح قوله في الحديث (وأسألك نعيماً لا ينفد وقرة عين لا تنقطع)

    وقوله: (وأسألك نعيماً لا ينفد وقرة عين لا تنقطع)، والنعيم الذي لا ينفد قيل: هو نعيم الجنة، كما قال تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96].

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه)، فما عند الله عز وجل لا ينقص بالعطاء، لو أعطى الله عز وجل للأولين والآخرين جميع ما يؤملونه ويطلبونه منه عز وجل فإنه لا ينقص مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، فما عند الله عز وجل باق، وفاكهة الجنة، لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة:33]، أي: إنها إذا أخذ العبد منها شيئاً خرج مكانها مثلها، فهي لا مقطوعة ولا ممنوعة، ولا تختفي في فصل وتظهر في آخر، بل هي على الدوام موجودة في جنة الله عز وجل، فقيل: هذا هو النعيم الذين لا ينفد، ولما أنشد لبيد بن ربيعة العامري قوله:

    ألا كل شيء ما خلا الله باطل

    قال له عثمان بن مظعون : صدقت.

    فقال: وكل نعيم لا محالة زائل

    قال: كذبت؛ فإن نعيم الجنة لا يزول.

    (وأسألك نعيماً لا ينفد)، قيل: النعيم الذي لا ينفد هو نعيم القلب بالله عز وجل وبطاعته عز وجل.

    قال مالك بن دينار : ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل. فالنعيم بطاعة الله عز وجل لا ينفد؛ لأن الطاعة ينشرح بها الصدر، ويفرح بها القلب، ويأنس بها العبد بالرب عز وجل، بخلاف الشهوات الدنيوية المحرمة، فإنها كطعام لذيذ مسموم من أكله تمتع به لحظات، ثم تكون عاقبته إما الموت وإما العطب وإما المرض، أما النعيم بطاعة الله عز وجل فهو النعيم الذي لا ينفد.

    قال بعضهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من نعمة لجالدونا عليها بالسيوف.

    وقال بعضهم: والله إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة كما نحن فيه والله إنهم لفي عيش طيب.

    وقال شيخ الإسلام : ما يصنع بي أعدائي وأنا جنتي وبستاني في صدري؟! إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله.

    وكان يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

    فقيل: هذا هو النعيم الذي لا ينفد؛ لأنه نعيم متصل، يتصل فيه نعيم الدنيا بنعيم الآخرة، فللمؤمنين حياة طيبة في الدنيا ينقلبون منها إلى سعادة أبدية سرمدية في جنة الله عز وجل، كما قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، فهم في سعادة بطاعته عز وجل في الدنيا، ثم ينقلبون بعد ذلك إلى قبورهم وهي روضة من رياض الجنة، ثم إلى النعيم الأكبر في الآخرة.

    وأما الفجار فهم في ضنك المعاصي، وفي الهم والغم والحزن وضيق الصدر، ثم ينتقلون من ذلك إلى ضيق اللحود، وإلى حفرة من حفر النار، ثم يحشرون بعد ذلك في العذاب الأكبر والعياذ بالله.

    وقوله: (وقرة عين لا تنقطع) وهي قرة العين بالله عز وجل وبطاعته عز وجل، فمن قرت عينه بالله عز وجل قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله عز وجل تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، فقرة العين بالله عز وجل هي قرة العين بطاعته عز وجل وهي قرة العين التي لا تنقطع، وهي السعادة التي لا منتهى لها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، أي: من أمور الدنيا الدنية حبب إليه النساء والطيب، وما كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم -أي: منتهى راحته وسعادته- في شيء من الدنيا، بل كانت في أم العبادات وفي سيدة الطاعات، (وجعلت قرة عيني في الصلاة) وكان إذا حزبه أمر هرع إلى الصلاة، عملاً بقول الله عز وجل: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، وكان يقول: (أرحنا بها يا بلال !)، وكان يصلي حتى تتورم ساقاه، وتتفطر قدماه، فيقال له: (أتفعل ذلك وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً)، فقد كان سيد الشاكرين والصابرين.

    وكان يواصل وينهى عن الوصال، أي: يصوم اليومين والثلاثة أو أكثر دون إفطار.

    وكان للصحابة همة عالية في طاعة الله عز وجل، فقد كانوا يتابعون رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وكان ينهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال نهي شفقة عليهم، فيقولون: (إنك تواصل، فيقول: إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني).

    لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد

    فحبه لله عز وجل وشغله به عز وجل يغنيه عن كثير من الطعام والشراب، وكلما ازداد إيمان العبد وحبه لله عز وجل فإنه يستغني عن الأسباب الأرضية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يأكل في معيّ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)، فالمؤمن يكفيه القليل من الطعام، ومن النوم، ومن النفقة، أما الكافر -عباد الله- فلا بركة في حياته ولا في ماله ولا في طعامه ولا في نومه، فكلما ازداد حب العبد لله عز وجل وازداد شغله به فإنه يفيض على قلبه من المعارف والأحوال والإيمان ما يغنيه عن كثير من الطعام الشراب، بل إن حب العلماء العاملين والدعاة المخلصين يفيض على قلب العبد من الإيمان مثل ما يفيض الله عز وجل على هؤلاء العلماء، كما قال أنس رضي الله عنه: (ما نفضنا أيدينا من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا)، أي: تغيرت قلوبهم بعد أن فقدوا مصدراً عظيماً من مصادر الرقي الإيماني، وهو صحبتهم للنبي صلى الله عليه وآله سلم.

    (وأسألك برد العيش بعد الموت)، فالعبد مهما كان في نعيم في الدنيا فإن الموت ينغص هذا النعيم، كما قال الحسن البصري : فضح الموت الدنيا، فلم يترك لذي لب فرحاً، وما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت في عينه الدنيا، وهان عليه كل ما فيها.

    ونظر بعضهم إلى داره وقال: والله لولا الموت لكنت بك مسروراً، ولولا ما نصير إليه من ضيق الصدور لقرت بالدنيا أعيننا.

    فالموت هو هاذم اللذات، أي: منغص اللذات، فمهما كان العبد في نعيم فإن الموت ينغص عليه هذا النعيم، فالنعيم الحقيقي والسعادة الحقيقية التي لا مناص بعدها برد العيش بعد الموت؛ لأنه يأمن فيه من الموت ومن سوء الخاتمة.

    وإذا كان الموت خيراً له والقبر خيراً له فما بعده أفضل منه، وإن كان القبر شراً له فما بعد ذلك أشر منه.

    نسأل الله عز وجل العافية، ونسأله عز وجل أن يغفر لنا ولكم.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    شرح قوله في الحديث (وأسألك لذة النظر إل وجهك ... ولا فتنة مضلة)

    الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن كثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين).

    هذه الكلمات التي كان يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفجر بالخير.

    وقوله: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) يسأل الله عز وجل لذة النظر إلى وجهه الكريم، وهذا أعلى نعيم أهل الجنة، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل:19-20].

    وقال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، فالحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله عز وجل.

    ويرونه سبحانه من فوقهم نظر العيان كما يرى القمران

    هذا تواتر عن رسول الله لم ينكره إلا فاسد الإيمان

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا -وأشار إلى القمر ليلة البدر- لا تضامون في رؤيته)، وفي رواية: (لا تضارون في رؤيته)، أي: لا يزحم بعضكم بعضاً، كما أنكم لا تتزاحمون عند رؤية القمر، فمن بالإسكندرية ينظر إلى القمر، ومن بالقاهرة ينظر إلى القمر، ولا يحدث تضام ولا تضار عند رؤية القمر، فهذا تشبيه للرؤية بالرؤية، وليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي؛ فإن الله عز وجل أجمل من كل شيء، فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74]، وأحاديث الرؤية هي أدلة على الفوقية؛ لأننا عندما ننظر إلى القمر ننظر إلى الأعلى، لا ننظر يميناً ولا شمالاً ولا أسفل منا، بل ننظر إلى أعلى، فنسأل الله عز وجل لذة النظر إلى وجهه الكريم، كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، فالنظر -عباد الله- إلى وجه الله عز وجل أعلى نعيم أهل الجنة، تتنضر الوجوه بالنظر إلى الله عز وجل، فنسأل الله تعالى أن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم.

    وقوله: (والشوق إلى لقائك)، قال تعالى: مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت:5]، فمن صام في الدنيا عن شهواته أدركها غداً بعد وفاته، ومن تعجل ما حرم عليه من لذاته عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته، فتأهب واجعل الدنيا كيوم صمته عن شهواتك، واجعل الفطر عند الله يوم وفاتك.

    وقوله: (في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) الضراء المضرة هي شدة الفقر أو طول السجن أو شدة المرض، فهذا قد يفتن العبد عن دينه، هذه الضراء المضرة.

    (ولا فتنة مضلة)، الفتنة هنا المراد بها البدعة، أن يبتعد العبد عن طريق الله عز وجل، أو عن طاعة الله عز وجل بفتنة من فتن الشبهات.

    شرح قوله في الحديث (اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين)

    ثم ختم هذا الكلام الطيب بقوله: (اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)، وهذا يدل على أن العبد إذا تزين بزينة الإيمان فإن هذا يكون أدعى إلى أن يكون هادياً مهدياً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).

    إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسيا

    وخير صيام المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا

    فـ (الله عز وجل لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)، فينبغي للعبد -عباد الله- أن يتزين بزينة الإيمان، وهذه الزينة تكون نتيجة لامتلاء قلبه بالإيمان، حتى أشرقت جوارحه ووجهه كما يقولون، والأولياء هم: الذين إذا رأوا ذكر الله عز وجل؛ لأنهم أقبلوا على الله عز وجل فأقبل الله عز وجل عليهم، ومن أقبل الله عز وجل عليه أضاءت ساحاته، واستنارت جوانبه.

    وكان أيوب السختياني سيد شباب أهل البصرة في زمن التابعين إذا خرج ورآه أهل السوق سبحوا وهللوا وكبروا؛ لما يرون عليه من آثار العبادة والإقبال على الله عز وجل.

    اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.

    ولا شك أن صلاح الظاهر يكون نتيجة لصلاح الباطن، وهو يعكس صلاح الباطن، قال عمر رضي الله عنه: من أظهر لنا خيراً ظننا به خيراً وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا شراً ظننا به شراً وأبغضناه عليه.

    فينبغي على العبد أن يتزين بزينة الإيمان.

    ومن زينة الإيمان كذلك: أن يلتزم بالهدي والسمت النبوي، وأن يلتزم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا أيضاً من زينة الإيمان، فينبغي على الدعاة إلى الله عز وجل أن يتزينوا بزينة الإيمان؛ حتى ينفع الله عز وجل بدعوتهم، فلا يكون الداعية خارجاً بمظهره وبأقواله وبأعماله عن شرع الله عز وجل ثم يرجو أن يهدي الله عز وجل به، وأن يفتح به قلوب العباد، فهذه الكلمات المباركات من النبي صلى الله عليه وسلم تجمع خير الدنيا والآخرة.

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، وأعل راية الحق والدين.

    اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين! ورد كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره، واجعل الدائرة تدور عليه.

    اللهم اهدنا واهد بنا، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والأمريكان الحاقدين، ومن والاهم من العلمانيين والمنافقين، والذين يشيعون الفواحش في بلاد المسلمين.

    اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.

    اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، اللهم لا ترفع لهم في الأرض راية، واجعلهم لسائر خلقك عبرة وآية.

    اللهم اهد شباب المسلمين، واهد شيوخ المسلمين، واهد أطفال المسلمين، واهد نساء المسلمين بالعفة والحجاب والحياء يا رب العالمين!

    اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء والربا والزنا، ورد المسلمين إليك رداً جميلاً.

    وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756266245