إسلام ويب

أسباب التساقط في طريق الهدايةللشيخ : عوض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تكلم الشيخ عن الصحوة، موضحاً أنها تبشر بخير عظيم، ثم أعقب ذلك بالكلام عن طبيعة الإنسان وقبوله للخير والشر، وأنه يحتاج إلى تذكير ومواصلة حتى يتأثر، ثم ذكر أحوال الناس مع الشيطان ومداخله عليهم، وقد أردف ذلك بذكر خطوات الشيطان مع الناس ثم أتى بصور للمتساقطين في طريق الهداية من الكتاب والسنة، مبيناً أسباب هذا السقوط.

    1.   

    طبيعة الإنسان وقبوله للخير والشر

    اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، تقدست أسماؤك، وتعالت صفاتك، ولا إله إلا أنت! سبحانك اللهم وبحمدك عدد خلقك، ورضا نفسك، وزنة عرشك، ومداد كلماتك، نشهد أن لا إله إلا أنت، ونشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وصفيك من خلقك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أيها الأحبة في الله: كم يُسرُّ القلب المؤمن حين يرى قوافل الشباب عائدةً إلى أفياء الهدى وظِلال الإيمان، وكم يفرح المسلم حين يرى الأجيال المسلمة والأمة المسلمة وقد عادت بعد طول عناءٍ وبُعدِ مشقةٍ، وشرودٍ في صحاري المعاصي والذنوب والجاهلية، حين عادت إلى رياض التقوى والهدى.

    وحُقَّ للمسلم -أيها الأحبة!- أن يفرح غاية الفرح، وأن يسر غاية السرور وهو يرى أجيال الإسلام، وأمة الإسلام تعود إلى الحق والهدى، بعد أن ظن أهل الباطل أنهم قد قضوا عليها.

    ولكن لا بد للمسيرة من ترشيد، ولا بد لحداتها من وقفات، ولا بد لنا من تأملات.

    ومما يظهر عند التأمل -وكأنه نشازٌ في هذه المسيرة المباركة- بعض لبناتٍ تتساقط من هنا وهناك، فيكون النكوص على الأعقاب بعد الاستقامة، ويكون السقوط بعد الرقي والسمو، وإن كان كما قيل: ذاك شذوذٌ، وخلاف القاعدة، لكن لا بُدَّ أن نتأمل وننظر، ونستبصر على ضوء الكتاب والسنة، وعلى هدىً من سنن الله في هذه الحياة.

    فما هي الأسباب التي تؤدي إلى هذا الأمر؟ حتى لا يتفاقم ويستشري -والعياذ بالله- أو يصبح حجةً لدعاة الباطل، فيقولون: لو كان في هذا الطريق خيرٌ لما نكص عنه بعض الناكصين!

    وبادئ ذي بدء -أيها الأحبة في الله- لا بد أن نشير إلى طبيعة الإنسان، وأن الله سبحانه وتعالى ابتلاءً وامتحاناً منه قد جعله قابلاً للخير والشر: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:1-2] وقال سبحانه: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8] ، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه).

    إذاً فأصل القابلية للضلال موجودٌ في هذا الإنسان، فإن نمِّيت فيه بذرة الخير والفطرة والتقى سلك في هذا الطريق، وإن كان البذر خاطئاً أو المعوقات كبيرة لم تتمكن هذه الشجرة من النمو، وكان الواقع هو خلاف ما يؤمله المؤمن -والعياذ بالله- وقد جعل الله سبحانه وتعالى أعظم مظاهر هذا الابتلاء؛ هذه العداوة الأبدية بين الإنسان والشيطان.

    فمن تمام الامتحان، وكمال الابتلاء -حتى يخلص من خلص عن بينة، ويستحق ما يستحق عن جدارةٍ- أن كان هذا العدو الماكر اللئيم الملحاح البطيئ، الذي يترصد الإنسان في كل ثنية من طريقه في هذه الحياة.

    يحدثنا عن ذلك الحق سبحانه وتعالى فيقول: إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف:5] ، ويقول سبحانه وتعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً [الإسراء:53] ، والعداوة قد تكون خفيةً غير ظاهرةٍ، أما عداوة هذا العدو فهي بينة واضحة، تتظافر الأدلة من الكتاب والسنة والواقع على وجودها، وهذا تسهيل للمسلم وللإنسان عموماً، وتيسير لكي يتنبه ويحذر من هذه العداوة.

    1.   

    أقسام الناس أمام الشيطان ومداخله

    يشبَّه الإمام ابن القيم عليه رحمة الله حال الإنسان مع الشيطان، فيقسّم الناس في ذلك إلى ثلاثة أقسام، ويضرب لكل قسم مثلاً، ويضرب للشيطان مثلاً فيقول:

    مؤمن متيقظ لمداخل الشيطان

    القسم الأول: كمثل قلعة تحتوي على سائر الكنوز والجواهر والأموال، وهذه القلعة قد شُدِّدت عليها الحراسات، وأحاط بها الجنود المسلحون من كل مكان، فعلى الرغم مما فيها من كنوزٍ وجواهر مودعةٍ إلاَّ أن اللصوص لا يفكرون باقتحامها، ولا يرد ذلك على خواطرهم، ولا يضعون ذلك في خططهم بسبب ما يعلمون من شدة الحراسة، ويقظة الجند الذين أوكلت إليهم الحراسة في هذه القلعة.

    ويقول: مثل ذلك مثل المؤمن اليقظ المتنبه لمداخل الشيطان، الذي قد أغلق كل مدخل وثغرة يمكن أن يلج منها الشيطان، ووضع على كل ثغرة حارساً يحرسها.

    رجل غافل عن مداخل الشيطان

    القسم الثاني: مثل البيت الذي فيه جواهر وكنوز لكنَّ الحراسة فيها ضعفٌ أو غفلةٌ، فاللصوص ينتهزون الفرص، ويبحثون عن الثغرات، إما أثناء غفلات الحراس، أو من مراكز الضعف في هذه الحراسة، فيلجون لنهب هذه الجواهر والكنوز، وكذلك المؤمن الذي في قلبه إيمان وطاعة، لكنه لم يتنبه لمنافذ الشيطان، ولم يتيقظ لمداخله، فهو يلج إليه مرة بعد أخرى، ويعكِّر عليه صفو إيمانه، وينال من هذا الإيمان مرة بعد أخرى، فإن تيقظ المؤمن وتنبه، وأقام الحراسات المشددة على هذه الثغرات، وأصلح ما وقع فيها من خلل، فعند ذاك بإذن الله سيدفع هذه الغزوات والهجمات، وإن غفل عنها وكثرت فسيصبح -والعياذ بالله- في يوم من الأيام، وقد سرقت جميع كنوزه وجواهره.

    القسم الأول: فلا يفكر الشيطان أن يقترب منهم، وقد أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أن عمر ما سلك طريقاً، إلا سلك الشيطان طريقاً آخر، لا يفكر الشيطان في أن يسلبه شيء، بل أصبح يفر منه فراراً، بعكس الآخر الذي يزين له ويوقعه في بعض المعاصي والذنوب كما سنرى بعد قليل.

    رجل تركه الشيطان لخلوه من الخير

    القسم الثالث: مثل بيت خرب، لا يوجد فيه شيء، ولا يحرسه أحد، قال: وهذا لا يفكر فيه اللصوص، فهم لا يجدون فيه شيءً ألبتة، وهذا مثل من ليس فيه خير أبداً.

    الأول: مثل من ارتقى وكمل.

    والثاني: مثل من فيه خير ولم يُقِم ما يحمي هذا الخير.

    والثالث: من قد فرغ منه الشيطان والعياذ بالله.

    ويحدثنا القرآن الكريم عن هذا التصوير العجيب البديع الذي يذكره الإمام ابن القيم رحمه الله، في ذلك الحوار الذي كان بين الله سبحانه وتعالى وبين الشيطان حين قال: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً [الإسراء:62-64] ثم يأتي في النهاية إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً [الإسراء:65] هذا هو الصنف الأول.

    1.   

    خطوات الشيطان وتدرُّجه

    هذا العدو ملحاحٌ لا ييئس، بل يحاول مرةً بعد أخرى أن يوقع الإنسان، فإن ظفر من الإنسان بغنيمة كبرى بمقاييسه، وإلا تنازل وطلب غنيمة أقل، فإن لقي ذلك وإلا تنازل وتنازل وتنازل، فهو لا ييئس أبداً ما دام الإنسان حياً، ولا يحتقر شيئاً يظفر به من هذا الإنسان، وإن كان يحاول -بادئ ذي بدء- أن يوقع الإنسان في قاصمة الظهر التي لا تقوم له بعدها قائمة.

    دعوة الإنسان إلى الكفر

    يبدأ في البداية محاولاً أن يوقع الإنسان -والعياذ بالله- في الكفر بالله، لأنه يعلم أنه إن أوقع الإنسان في هذا المزلق الخطير، فقد فرغ منه وتوجه إلى غيره: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] بكلمة واحدة .. بفعل واحد .. بتصرف واحد يوبق عمله كله، وليُصلِّ بعد ذلك، وليصم، وليقرأ القرآن، لقد فرغ منه.

    دعوة الإنسان إلى الابتداع

    إن استطاع الإنسان أن يتجاوز هذا الأمر باعتصامه بالتوحيد حاول أن يوقعه في أمر أقل، وهو الابتداع في دين الله، وخطورة الابتداع في دين الله سبحانه وتعالى أنَّ الإنسان كأنه يقول: إنَّ منهج وطريقة العبادة لله سبحانه وتعالى التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم فيها قصور ونقص في تزكية النفس، وإرشادها، والمضي بها في طريق الله، فأنا أُكمل هذا النقص.

    دعوة الإنسان إلى إتيان الكبائر

    إن تجاوز الإنسان هذا المزلق من خلال الاعتصام بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، حاول أن يوقعه في الكبائر، والكبائر إن لم يكفِّرها الإنسان بتوبة أو بكثرة حسنات، يحتمل أن يكون صاحبها ممن يدخلون النار.

    فإن لم يظفر بتخليد من يحاول معه في النار، حاول على الأقل أن يدخله النار.

    دعوة الإنسان إلى ارتكاب الصغائر

    إن تجاوز الإنسان ذلك واعتصم بالخوف من الله سبحانه مما وعد به أهل المعاصي والذنوب، حاول أن يهلكه بالصغائر، فيزينها له ويقول: هذه صغائر تكفرها الصلوات، والجمع والجماعات، والحج، وكذا وكذا ... وما يعلم المسكين أن الجبال من الحصى -كما قيل- وأنها تجتمع الأعواد الصغيرة فتشتعل منها النار العظيمة، فتأتي صغيرةٌ مع صغيرةٍ، وذنبٌ مع ذنبٍ، حتى يؤتى بالإنسان يوم القيامة وإذا به كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: مفلس، هذا يطلبه بمظلمة، وذاك يطلبه بكلمة، وذاك يطلبه بدرهم، وذاك يطلبه بدينار، فيؤخذ من حسناته فيعطى هذا وهذا وهذا، فتفنى حسناته ولا يقضي ما عليه، فيؤخذ من سيئاتهم وتطرح عليه، ويطرح في نار جهنم والعياذ بالله.

    دعوة الإنسان إلى الانشغال بالمباحات عن الطاعات

    إن تجاوز الإنسان هذا المزلق، حاول الشيطان أن يشغله بالمباحات عن الطاعات، ويزين له ويقول: إن لنفسك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه.

    عجيب! يصبح العدو الماكر اللئيم فقيهاً، حريص على توازنك في هذه الحياة، وعلى أن لا تظلم إنساناً في هذه الحياة، وعلى أن لا تظلم نفسك فيها أيضاً.

    إن لم يستطع أن يدخل الإنسان إلى النار حاول على الأقل أن يمنعه من الارتقاء إلى الدرجات العلى في الجنة.

    دعوة الإنسان إلى الانشغال بالمفضول عن الفاضل

    إذا تجاوز الإنسان ذلك بالفقه في دين الله، حاول أن يشغله بالمفضول من الطاعات عن الفاضل، وتصوروا أن يأتي الشيطان ويحضك على الطاعة، وعلى ما فيه الثواب، وفعل الخير، عجيب! أيصبح الشيطان داعية!! يلبس العمامة، ويأتي بصورة الفقيه، ويدلي بالحجج، وما ذاك والله إلاَّ أنه قد أفلس، وأصبح في الخط الأخير الذي يواجهك به، فمثلاً إذا جاء الإنسان ودخل في الصلاة، فإن كان من أهل المشاغل كيف يضيع الشيطان عليه صلاته ويشغله عنها.

    وإن كان من أهل المعاصي، شغله بالمعاصي والشهوات والرغبات والأهواء، حتى يضيِّع عليه صلاته، ويكسبه السيئات.

    وإن كان من أهل المباحات، شغله بالدار .. بالمزرعة .. بالسيارة .. بالمشروع.

    وإن كان من أهل الطاعات، أتاه من هذا الباب، فوسوس له وبدأ: إذا انتهيت من هذا الموقف، سأذهب وأقرأ جزئين من القرآن، وأحفظ عشرة أحاديث، وألقي محاضرة في مكان كذا، وأستمع لشريط كذا، وأفعل كذا وكذا، مشاريع خيِّرةً عجيبةً تغطي شهراً أو عاماً كاملاً من حياته، وهو يريد فقط أن يضيع عليك هذه العبادة الفاضلة.

    فإذا وجد لديك من العزم ما يدخلك في العبادة الأخرى التي شغلك بها، والتي علم أنك لن تشغل إلاَّ بها، شغلك -أيضاً- عنها بغيرها، وهكذا يتنقل بالإنسان من موقعٍ إلى موقعٍ، حتى يقلل من أجره إن لم يستطع أن يحبط عمله.

    ومداخله كثيرة -أيها الأحبة في الله-:

    السمع: مدخل، والبصر: مدخل، والفرج: مدخل، والبطن: مدخل، واللسان: مدخل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) إذاً: هو عدو ليس بينك وبينه أسوارٌ محصَّنةٌ، بل يمكن أن يلج إلى داخلك ويصل إلى قلبك، وأنت تحتاج إلى سلاحٍ داخليٍ تحارب به هذا العدو، وتحتاج أن تتعرف -بادئ ذي بدء- إلى الأسباب التي يغري بها ويغرق حتى يسقط الإنسان من القمة الشامخة، سواء أوصله إلى أعلى السفوح أو إلى الهاويات السحيقة، أو جرحه بعض الجروح، وجعله يتدحرج على سفوح هذه القمة، ويمنعه من الوصول إليها مرة أخرى.

    1.   

    من صور المتساقطين على طريق الهداية

    من صور المتساقطين على طريق الهداية في القرآن الكريم

    - من ينسلخ عن آيات الله:

    لقد حدثنا القرآن الكريم عن صورٍ من صور المتساقطين، فيقول سبحانه وتعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:175-176] انظر إلى هذا السقوط المريع! يؤتى آيات الله سبحانه وتعالى، ويؤهل لكي يقوم بمنصب الهداية والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فيخلد إلى الأرض، وإلى ما يخرج منها، ويؤثر الأرض على ما أنعم الله به عليه، ويصبح -والعياذ بالله- تابعاً للشيطان، ومن الغاوين عن الصراط المستقيم، حتى يصبح حاله وهو خالد إلى الأرض -انظروا إلى الصورة- كأنه ملتصق بالأرض لا يرفع طرفه عنها، وقد ارتكز قلبه إليها، وتحول فكره نحوها، وأصبح لا يتجاوز هذا التراب، وأصبحت صورته أقبح صورةٍ .. كصورة الكلب وهو يلهث، ومن رأى هذه الصورة ويتبادر إليه حال هذا الإنسان يحس بقشعريرةٍ تسري في جسمه حين يهوي من منـزلةٍ عاليةٍ رفيعةٍ -أعلى ما يمكن أن يرتقي إليها الإنسان، وهي حمل آيات الله في هذه الأرض- فيصبح في حمأة الرذيلة، يلهث ويجري وراءها والعياذ بالله.

    - صورة بني إسرائيل مع موسى:

    يحدثنا الله سبحانه وتعالى في آية أخرى عن بني إسرائيل، وقد رباهم موسى زمناً طويلاً من أجل أن يقودوا البشرية إلى الهدى والتوحيد، وبمجرد أن يتعرضوا لشيء من الامتحان يسقطوا.

    موسى يريد لهم أن يُخرجوا للبشرية رسالة الحق والهدى، وإذا باهتماماتهم: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ [البقرة:61] يخرج لنا من البقل، والثوم، والعدس، ومن أمثال ذلك، فتكون عاقبتهم أن ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله.

    حين بوأهم الله المنـزلة العالية الرفيعة، فأبوا إلاَّ السقوط إلى بعض الكماليات، كما هو حال الأمة المسلمة في هذا الزمان، التي يقول الله لها: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:110] فيقولون: بل نريد أن نغرق في كماليات اليابان وأمريكا وأوروبا .. نريد أن نغرق فيها أكثر وأكثر.

    ويقول الحق سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة:115] .

    إذاً: فهذا الإنسان قد قام عليه الدليل، وباتت له الحجة أكثر من غيره، ووصل إليه البيان، والبيان نعمة من الله أن يصل إلى الإنسان، وأن يعلم طريق الهداية والضلال من أجل أن يسلك هذا ويتقي هذا، اصطفاءً من الله أو نعمة منه أو منـزلة عالية من الله، فإذا ضل الإنسان مرة أخرى بعد هذه المنـزلة العالية الرفيعة رأينا صورةٌ مفزعةٌ مرعبةٌ.

    - أشد صور التساقط بعد الهداية:

    تحدثنا الآية عن أشد صور الانحراف، فيقول سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [النساء:137] هذه الآية وإن كانت تتحدث عمن آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر، لكنَّها تنبؤنا عن خطورة التذبذب والتلون والتردد، وعدم الثبات في طريق الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة الله وهو يعلق على هذا الأمر، يقول: "إن الانتكاسة بعد الهداية من المرض أشدُّ من المرض ابتداءً، وإن الشفاء منها أصعبُ من الشفاء من المرض ابتداءً.

    انظروا كيف أن الله -سبحانه وتعالى- أضاف إلى عدم المغفرة لهم عدم الهداية، فمن عرف نعمة الله سبحانه وتعالى ثم أنكرها كانت عاقبته أن تلتبس عليه السبل، وتدلهمَّ عليه الطرق، وهو ما أشار إليه الحق بقوله سبحانه وتعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] وبقوله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [إبراهيم:28-29] .

    من صور المتساقطين على طريق الهداية في السنة النبوية

    في السنة والسيرة والتاريخ صورٌ شتى من هذه النماذج، ها هو النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن فريق من أمته يوم القيامة يراهم وقد حجزوا عن الحوض، وقد عرفهم بآثار الوضوء، فيقول صلى الله عليه وسلم: (أمتي أمتي! فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم غيَّروا وبدَّلوا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: سحقاً سحقاً).

    وفي غزوة الفتح حين توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش، وقد دعا الله سبحانه وتعالى بأن يأخذ الأخبار عن قريش، فقام حاطب رضي الله عنه وأرضاه، وأرسل رسالةً إلى بعض قريش يخبرهم بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أن مكة ستفتح لا محالة أمام جحافل هذا الجيش، ولكن يريد بها يداً عندهم، فتُحفظ النساء والذراري، فعندما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وأرسل من عاد بهذه الرسالة قال عمر : [يا رسول الله، لقد نافق حاطب ، دعني أضرب عنقه]. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك لعل الله قال لأهل بدر : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

    فبهذا العمل، وبعد ذلك الجهاد الطويل، وبعد الهجرة والتضحية وبعد، أصبح عمر يرى أن حاطباً يستحق أن يقتل، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم عاصماً له من هذا الأمر إلا كونه من أهل بدر.

    1.   

    أسباب السقوط بعد الهداية

    هذه -أيها الأحبة- توطئةٌ ومدخلٌ من أجل الولوج إلى قضية الأسباب، ونحن سنذكر هذه الأسباب ذكراً إجمالياً، ونحاول أن ندلِّل على كل سبب من الكتاب والسنة، وربَّما كانت هذه بعض الأسباب لا كل الأسباب، لكن لعلَّنا أن نتنبه إلى خطورة هذا الأمر، فنسعى جاهدين مجتهدين إلى تجنب هذه الأسباب، خشيةً من ذلك الواقع المؤلم الذي صورته الآيات والأحاديث، وتحدثت عنه النماذج وهي كثيرةٌ، لكنـِّي اكتفيت بذكر قصة حاطب، وإلا فهناك نماذج أكثر، مثل ابن خطل، والرجال بن عنفوة، وصاحب مسيلمة، وجبلة بن الأيهم، ولعلَّنا نتعرض له في أثناء حديثنا.

    من أسباب التساقط: الكبر

    الكبر: أعاذنا الله وإياكم منه؛ حيث إن نفس المتكبر تأنف عن قبول الحق والانقياد له، والكبر -كما تعلمون- هو أول ذنب عصي الله به، حين تكبر إبليس على أمر الله، وتكبر على آدم، فكانت عاقبته -والعياذ بالله- الإبعاد والخسران إلى يوم القيامة ومن ثمَّ إلى الأبد.

    فإذا ولج الكبر إلى نفس الإنسان، أو لا زال هذا المرض في الإنسان، منعه من الانقياد للحق، وإن مضى قليلاً فلا بُدَّ من أن يصطدم بالحق، ويتراجع ويسقط -والعياذ بالله- والله سبحانه وتعالى قد حدثنا عن إبليس، وبيَّن أن سبب سقوطه هو الكبر، فقال سبحانه وتعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34] .

    وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى أن الكبر مانع من الفقه والهداية، يقول سبحانه وتعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ [الأعراف:146] وكيف يطمع الإنسان في الهداية والتوفيق والثبات، وقد صرف -والعياذ بالله- عن آيات الله، وحُرِم ما فيها من الهدى، وأيُّ هدى يُتوقع لمن صرف عن آيات الله، سواء صرف عنها فلا يفقه ما فيها، أو صرف عنها فلا يتدبر ما فيها، أو صرف عنها فلا يقبل أصلاً بما فيها والعياذ بالله.

    ويقول سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [الأعراف:40] فلا يكون لهم قبولٌ عند الله سبحانه وتعالى، لا يقبل دعاءهم، ولا أعمالهم، ولا تفتح الأبواب فتنزل عليهم هداية الله سبحانه وتعالى، وما المانع من ذلك إلا الكبر والعياذ بالله.

    ومثال ذكره أهل التاريخ هو قصة جبلة بن الأيهم آخر ملوك الغساسنة في بلاد الشام ، الذي عرف الإسلام واعتنقه وهاجر إلى المدينة، واستقبله عمر رضي الله عنه وأرضاه في خلافته، وحين ذهب للحج، وطئ إزاره رجل من فزارة من غطفان، فالتفت إلى ذلك الرجل فلطمه، فأسقط سنه، فأتى ذلك الرجل إلى عمر يشتكي، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: تُرضي الرجل أو القصاص، فقال: كيف يقتص مني وأنا ملك ولسنا سواء، قال عمر : لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، قال: أنظرني حتى أفكر في أمري، ثم خرج من المدينة وارتدَّ -والعياذ بالله- ودخل إلى بلاد الروم واعتنق النصرانية مرة أخرى.

    يقول أحد رسل خلفاء المسلمين بعد ذلك -وأظنه في عهد عثمان - حين ذهب برسالة إلى ملك الروم، فمر عليه وإذا به شيخ كفيف، وحين علم بقدومه من المدينة بكى، وقال شعراً يتندَّم على ما مضى منه، حين أعرض عما عرف من الحق -والعياذ بالله- وما الذي دفعه؟ ما الذي جعله يسقط من طريق الهداية؟ ما الذي جعله ينكص على عقبيه؟ إنه الكبر وعدم الخضوع لأمر الله سبحانه وتعالى.

    والحديث عن الكبر حديث يطول، لو أردنا أن نتحدث عن أسبابه وصوره وعلاجه، لأنَّ أخذ سببٍ من هذه الأسباب فقط؛ يستغرق الحديث كله، لكن -كما قلنا- نشير إليها إشارات، ونشير إلى علاقتها بموضوعنا، وهو التساقط في طريق الهداية!

    من أسباب التساقط: الخوف على الولد والمال والحياة

    من الأسباب: ما يثيره الشيطان في النفس من الخوف على الحياة والولد والمال، والأصل في ذلك خلل عقدي لا يظهر واضحاً جلياً، فقد يكون الجانب النظري من العقيدة واضحاً في ذهن الإنسان، لكنَّ الجانب العملي التطبيقي فيه خلل كبير، فيظن أن أمر التصرف في هذه الحياة مسند إلى غير الله سبحانه وتعالى، فيرجو ويخاف غير الله سبحانه وتعالى، وبسبب ذلك يعود عن طريق الهداية، وينكص على عقبيه، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى لنا أنه سحب هذه الصلاحية من كل مخلوق في هذه الحياة وجعلها له وحده سبحانه وتعالى، فقال: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] فهو المالك: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1] فكل من سواه عاجز أمام قدرته سبحانه وتعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ [الملك:2] فليس هناك من يحيي ولا يميت ولا يعطي ولا يمنع ولا يعز ولا يذل ولا يخفض ولا يرفع إلاَّ الله سبحانه وتعالى.

    وقال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58] لو كانت هذه الحقيقة واضحةً جليةً في نفس الإنسان الذي ظاهره الهداية والالتزام والثبات -وهي الأصل والجذر الذي يبنى عليه بعد ذلك كل شيء- لما التفت بعد ذلك إلى غير الله سبحانه وتعالى، وأنى له أن يرجوَ أو يخشى من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عن أن يملك لغيره نفعاً أو ضراً: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1] وماذا بعد ذلك؟ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2] ، هذه المؤهلات التي تجعلك لا تتوجه إلا إلى الله: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً [الفرقان:3] ، لأنفسهم فضلاً عن غيرهم وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً [الفرقان:3] .

    يقول الحق سبحانه وتعالى -وهو يحدثنا عن هذه القضية-: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] ، انظر إلى التلازم: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268] .

    الشيطان يعد الإنسان الفقر، فيخوفه على ما في يديه من أن يؤخذ منه، أو عما يريد أن يمتلكه أن يمنعه من الوصول إليه، فإذا اقتنع الإنسان بهذه القضية، ربط بها الفحشاء، والفحشاء: كل ما يبغضه الله سبحانه وتعالى، سواءً باللسان، أو بالسمع، أو بالبصر، أو بالقول، أو بالفعل.

    فمن أجل هذا الخوف على لقمة العيش، الذي قد ولج في قلب الإنسان ينساق وراء هذا الذي يعده -والعياذ بالله- وانظر إلى الفرق بين الوليين: أولياء الشيطان، وأولياء الرحمن، ذاك يعد الفقر ويأمر بالفحشاء، وهذا يعدك المغفرة والفضل منه سبحانه وتعالى.

    ويقول سبحانه وتعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:172-174] .

    انظر كيف يحدثنا الله سبحانه وتعالى عن الثبات على طريق الحق، وكيف أنَّ التخويف هناك بالفقر، وهنا التخويف على الحياة، وفي سورة أخرى التخويف على الولد الأهل والأسرة.

    هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد موقعة أحد وقد أصابهم القرح الذي تحدثت عنه الآية -حين استشهد من استشهد، وجرح من جرح- وفي اليوم الآخر يناديهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة حمراء الأسد، فيستجيبون لله ورسوله، ويأمر المنادي أن ينادي أن لا يخرج معه إلا من حضر معه في يوم أحد، حتى يقول جابر رضي الله عنه وأرضاه: [لقد كان كثير من بني سلمة جريح يحمل جريحاً] .

    وحين أتاهم المرجفون يقولون: إن الناس قد جمعوا لكم، وإن أبا سفيان قد ندم هو وقريش حين لم يستأصلوا شأفتكم بعد المعركة، وأجمعوا على العودة إليكم من أجل استئصال شأفتكم، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم! لا يخافون من أحدٍ، ولا يرهبون ولا يخشون أحداً، ولو عاش أهل الاستقامة بهذا المعنى، وهذا المنهج وهذه الطريقة لكانوا نماذج مضيئةً، وخلفاء حقيقيون لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الحياة، ماذا كانت العاقبة؟

    انظروا في يوم أحد حين قال سبحانه وتعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [آل عمران:152] ، حين كانوا في يوم أحد منهم من يريد الدنيا، وسنن الله لم تحاب حتى أحب الناس إلى الله. محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكانت الهزيمة، ليسوا كلهم يريدون الدنيا، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [ما كنت أعلم أن في أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم من يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية] .

    قد يقول بعض الناس: هم المنافقون؟ نقول: لا. فالمنافقون قد انخذلوا قبل ذلك، وخرجوا من الصف، وهؤلاء هم الصفوة، لكن حين أصبح هناك حرصٌ قليلٌ على الدنيا حل بهم ما حل، لكن حين نبذوا الدنيا ولم يخافوا من أحدٍ، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [آل عمران:174] .

    نعمة: فقد وقاهم الله شر عدوهم، وفضل: فقد أدخل الرعب في قلبه، وولى مدبراً وتحولت الهزيمة في حق المسلمين إلى نصر، كانت الهزيمة بعمل قلبي، وكان النصر كذلك بعمل قلبي، ويقول سبحانه وتعالى -وهو يتحدث عن هذا السبب-: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175] .

    نعم أيها الأحبة: ولو اجتمع الخلق كلهم أولهم وآخرهم على أن يضروك لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، فالبشر ينفذون قدر الله بعد أن يأذن الله سبحانه وتعالى، فيسببون لك بعض الإيذاء وهم مجرد سبب، تجعله مقابلاً بعذاب الله -والعياذ بالله- فتستهين بعذاب الله وتنكص على عقبك خوفاً من عذاب البشر، وقد أمنت من عذاب الله سبحانه وتعالى، ويقول سبحانه وتعالى: الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] ثم تأتي الإجابة: قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168] .

    إذاً: السبب الثاني من أسباب التساقط هو: الخوف على الحياة والمال والولد، وما أُذلِّت رقاب المسلمين إلا حينما دخل الوهن في قلوبهم -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- وهو حب الحياة وكراهية الموت، وعبادة الدرهم والدينار، والسقوط أمام رغبات الأولاد والأهواء والشهوات والنساء والبنات.

    ولو كان المسلم يعلم السعادة علماً حقيقياً بأن يحمل نفسه على أمر الله، ويرضى بعد ذلك بقدر الله سبحانه وتعالى؛ للقي الله وقد وفَّى بعهده معه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] عهد وعقد، أليس البيع والشراء عقد؟ أليس العقد عهد ويجب الوفاء به؟

    يجب الوفاء بالعقود بين البشر، والمسلم حين رضي أن يكون مؤمناً وأدخل نفسه تحت راية لا إله إلا الله، فقد أبرم هذا العقد مع الله سبحانه وتعالى، أحد طرفي العقد رب العالمين، وأنت الطرف الآخر، ويا له من تشريف وتكريم، ومقتضى العقد أن تدفع النفس والمال ثمناً، وأن تقبض السلعة من الله سبحانه وتعالى وهي الجنة، والعقد قد أودع في كتاب الله، وجرى على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ثم يأتي الإنسان بعد ذلك فينكص على عقبيه، وينقض عهده من أجل الدنيا ومتاعها، وقد نعى الله سبحانه وتعالى أولئك بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38] .

    من أسباب التساقط: اتباع الشهوات

    السبب الثالث من أسباب التساقط في هذه الحياة عن طريق الهداية والاستقامة: اتباع الشهوات.

    واتباع الشهوات من أهم أسباب الانتكاس والضلال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) وفي رواية أخرى: (أن الله سبحانه وتعالى حين خلق الجنة، أرسل جبريل فرآها ثم عاد فقال: ماذا رأيت؟ قال : ما أظن أحداً من خلقك يسمع بها إلا دخلها، فأحاطها بالمكاره ثم أرسله فنظر إليها ثم عاد، فقال: خشيت أن لا يدخلها أحد من عبادك، ثم خلق النار وأرسله فرآها فعاد، فقال: ما أظن أحداً من عبادك يسمع بها فيدخلها، ثم أحيطت بالشهوات وأرسله مرة أخرى، فقال: لقد خشيت أن لا يبقى أحد من خلقك إلا دخلها) أو كما ورد في الحديث.

    الشهوات التي تغرق بها الأمة المسلمة من كل مكان، ونعد منها عداً: فالعيون تَعُبُّ من الشهوات ساعات من الليل والنهار، في المجلة والفلم والتلفاز والجريدة والشارع والسوق، والعيون والآذان والبطن تلتهم من هذه الشهوات، وكل جارحة تأخذ من عندها، ثم بعد ذلك حين يسقط الإنسان مع أول هزة، نتساءل: لماذا لم يثبت ولماذا كان النكوص على الأعقاب؟!

    يقول سبحانه وتعالى: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27] الإنسان في هذه الحياة منطلق في طريق، يمضي في هذا الطريق وكل لحظة تمر هي صفحةٌ تطوى من عمره، وهي خطوة تقربه من نهاية أجله، ثم تصور الإنسان وهو يمضي في هذا الطريق، كما قلنا طريق الجنة قد حف بالمكاره .. فيه العقبات والمشاق والمزالق: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] .

    ثم بعد ذلك من خلال الشهوات يصبح الإنسان مائلاً ميلاً عظيماً، كيف يستطع أن يمشي الإنسان وقد مال ميلاً عظيماً؟

    كيف تتصورون القرآن يصور لنا الأمر تصويراً حسياً من خلال الشهوات وهو ماضٍ يريد وجه الله والدار الآخرة، يصبح على حرف مائل؟

    كيف يستطيع أن يمضي في طريق الهداية وطريق الهداية هو طريق الاستقامة ولا يسلكه إلا من مضى فيه مستقيماً، لا يمضي فيه وهو مائل؟ يقول سبحانه وتعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23] .

    انظروا -أيها الأحبة في الله- كيف أن الجري وراء الأهواء والشهوات يكون سبباً في تعطيل جميع وسائل الهداية، فلا يستفيد من سمعه، أو بصره أو قلبه -والعياذ بالله- ويأتي السؤال بعد ذلك: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية:23] سبحانه وتعالى، من يهديه وقد تخلى الله سبحانه وتعالى عنه؟ من يهديه وقد عطل الوسائل التي أنعم الله بها عليه لكي يهتدي ويستقيم في هذه الحياة، وكانت بداية هذا التعطيل حين اتخذ إلهه شهواته وهواه؟

    أيها الأحبة: يستهين الإنسان بالأمر حين يجالس أهل المعاصي، ويعبُّ من الذنوب، ويقع في الشهوات، ويتقلب في الرغبات، ولا يقدر الخطر العظيم الذي يترتب عليها، وهو ما أشارت إليه الآية ابتداء من الإنسان حين اتخذ إلهه هواه، فكانت عقوبته من الله أن أضله الله رغم أنه كان عنده علم وليس بجاهل -والعياذ بالله- بل صاحب علم وفقه ومعرفة وثقافة! يعرف الحق والباطل، لكن انظر إلى نهاية الصورة والعاقبة حين تعطلت كل هذه الوسائل!

    حين ختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فأصبح يرى الحق باطلاً، والباطل حقاً، والعياذ بالله، يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة الله يقول: " إن الذي يقع في الشهوات تكون عليه في البداية مُرة صعبة! "

    لماذا؟

    لأن الإيمان لا يزال موجوداً، لا يزال قريباً من الله، لكن بعد ذلك يستحليها ويستمريها، ويكون كمن يأكل الأكل الخبيث، فيكون ثقيلاً عليه في البداية مر المذاق، لكن إذا أكثر من أكله استساغ مذاقه، وألفته معدته، وأصبح كأنه أمر طبيعي والعياذ بالله.

    يقول سبحانه وتعالى وهو يحدثنا عن الذين قعدوا من أجل الراحة -شهوة الراحة- تقول للإنسان: لماذا لا تذهب للدعوة إلى الله؟

    لماذا لا تذهب وأنت تسمع النداء إلى الصلاة؟

    لماذا لا تذهب للتفقه في دين الله؟

    لماذا لا تذهب لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟

    فيقول: أريد الراحة، وشهوة الراحة، والجلوس تحت المكيفات، وعدم التصادم مع الناس، وعدم بذل الوقت والمشقة، يحدثنا الله عن هؤلاء الناس فيقول سبحانه وتعالى: لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:42] يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة الله -وهذه الآية ليست في كعب وصاحبيه، بل كانت في فئة من المنافقين- عن كعب بن مالك وصاحبيه: تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في موطن واحد فكانت العقوبة والعتاب ما حُدِثنا عنه في القرآن، هجرهم المجتمع المسلم، ونزل الأمر بمفاصلتهم حتى هجرتهم زوجاتهم، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعتزلوه، حتى إن كعباً رضي الله عنه وأرضاه حين ضاقت عليه الأرض يسلم ولا أحد يرد عليه السلام، يتكلم ولا أحد يكلمه، يبيع ويشتري ولا أحد يبايعه أو يشتري منه، قال: [كنت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أقول: أتحركت شفتاه برد السلام أم لا] .

    حين ضاقت عليه الأرض تسور جدار ابن عمه أبو قتادة الأنصاري ، قال: [فسلمت فلم يرد السلام، فسلمت فلم يرد السلام، فسلمت فلم يرد السلام، فقلت: نشدتك الله أتعلم أنني محب لله ورسوله، قال: فلم يرد عليَّ، قال فكررت عليه المناشدة، قال: فلم يرد علي، قال: فبكيت، قال: فقال: الله ورسوله أعلم ].

    قال ابن القيم عليه رحمة الله: هذا الذي عوتبوا به حين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في موطن واحد، فكيف بمن حياته كلها تخلف عن ركب محمد صلى الله عليه وسلم، ويرجو بعد ذلك النجاة غداً، ويرجو بعد ذلك الثبات غداً على الصراط المستقيم.

    من أسباب التساقط: رفقاء السوء

    السبب الرابع من أسباب الانتكاس بعد الهداية: رفقاء السوء، يقول الله سبحانه وتعالى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68] وكل من وقع في معصية الله فهو ظالم لنفسه أو لنفسه وغيره، والله سبحانه وتعالى ينهى نبيه صلى الله عليه وسلم من مجرد القعود مع الظالمين فقط، ويقول سبحانه وتعالى في آية أخرى -وهو يحدثنا عن حال من يتأثرون برفقاء السوء يوم القيامة- يقول سبحانه وتعالى: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:28-29] انظر هذا التصوير، جاءه الذكر، وعلم الحق، وكاد أن يستقيم عليه، ولكن خذله خليله .. خذله صاحبه .. خذله رفيقه.

    إذاً: رفيق السوء من أهم الأسباب في الانتكاس والارتكاس بعد الاستقامة، إذ أن للجنة أدلاؤها، ودعاتها الذين يدعون الإنسان إلى سلوك طريقها، ومن وضع يده في أيديهم أوصلوه بإذن الله إليها، وللنار أيضاً دعاتها الذين من أطاعهم قذفوا به -والعياذ بالله- فيها.

    وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29] ، أي: أنه كان في إمكانه أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أضله رفيق السوء فكان من الهالكين.

    من أسباب التساقط: الغلو في الدين

    السبب الخامس: وقد يستغرب الإنسان من ذكر هذا السبب، لكننا في حاجة إلى أن نذكره ونحن نتحدث إلى شباب الإسلام وأهل الالتزام، فالسبب الخامس من أسباب الانتكاس والسقوط من طريق الهداية هو: الغلو والتنطع في الالتزام بدين الله سبحانه وتعالى، وقد نهى الله عن الغلو في كتابه وحذرنا منه، فقال سبحانه وتعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171] وقال صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) وقال صلى الله عليه وسلم : (إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى).

    من هو المنبت؟

    هو الرجل المسافر الذي يركب الدابة، فيجريها جرياً سريعاً مستعجلاً، يخالف سنن الله في هذه الحياة، فتجري به قليلاً ثم تنقطع، فلا هو قطع الطريق، ولا هو أبقى ظهره الذي يستطيع أن يواصل به بعد ذلك.

    لكن من الذي يحدد الغلو؟ ومن الذي يقيسه؟

    إنهم الفقهاء العالمون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هم الذين يحددون متى تجاوز الإنسان الأمر الوسط وأصبح غالياً في دين الله، فلا نغتر بما يكتبه الكتاب العلمانيون في الصحافة، في الساحة الإسلامية في كل مكان، ويسمون الشباب المسلم بالأصوليين، والمتطرفين، والمتشددين، هذه الألقاب يقصدون بها كل من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.

    من يحافظ على الصلوات ويرفض المسكرات ويحرم التعامل بالربا هو أصولي متشدد، والذي يجعل معيار ومبدأ القبول والرفض لديه من خلال الإسلام، والمعيار العقائدي لهذا الدين هو أصولي غالٍ متشدد، فيجب أن نتنبه لهذا الأمر، ولكن لا يعني هذا ألا ننقد أنفسنا، وننبه على الأخطاء التي فينا، فقد يوجد من الشباب المسلم من يتجاوز الحد ويغلو في الدين، والحق وسط بين الغالي والجافي، فلا إفراط ولا تفريط.

    من أسباب التساقط: البيئة الفاسدة وضغوطها

    السبب السادس: ضغوط البيئة الفاسدة سواء كانت هذه البيئة في الأسرة أو المجتمع، هذه البيئة التي تضغط على الإنسان وتضيق عليه وهو لا يفقه كيف يتعامل، معها بمنهج إيماني إسلامي رباني قائم على هدي الكتاب والسنة، فيكون سبباً في ثبوت قدمه وتأثيره في غيره، فيشتد الضغط عليه حتى يؤدي -والعياذ بالله- إلى سقوطه.

    وقد حدثنا القرآن عن صور من هذه الضغوط، يقول سبحانه وتعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24] .

    إذاً: الله سبحانه وتعالى يحدثنا أن هذه البيئة التي تحيط بالإنسان قد تكون سبباً في الضغط عليه من أجل الانحدار، لكنه حين يوازن -بالموازنة الشرعية- بين محبة الله ورسوله، والجهاد في سبيله، وإيثار هذا الأمر على هذه القضايا، وهذه الأمور وهذه الصور من البيئة وقد امتلك الحس والإيمان والميزان الشرعي فلا شك أنه سيثبت، وسيتعامل مع هذه الأمور بالمنهج الشرعي صلة وبعداً، أو قرباً وبعداً، وصلة وقطيعة حتى يؤدي ما ائتمنه الله سبحانه وتعالى عليه.

    وقد تعرض إبراهيم لذلك -كما تعلمون- عليه السلام، وقد ذكر الله قصته في القرآن، ليكون فيها عبرة للسالكين على طريق الهداية، حين حاور أباه، وتلطف له بالحوار ودعاه إلى طريق الهداية، وأراد أن يأخذ بيده، فكانت إجابته: قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً [مريم:46] لا تكلمني، وأعطيك فرصة، وبعدها سيكون الرجم بالحجارة، لكن إبراهيم -وقد علم الحق- آثر ما عند الله سبحانه وتعالى، كما أخبرتنا الآيات بعد ذلك، وثبت على طريق الحق، وطريق الهداية، هذه هي -أيها الأحبة- في نظري أهم أسباب السقوط بعد الهداية، أو من طريق الهداية -والعياذ بالله- أذكرها مرة أخرى ذكراً سريعاً:

    الأول: الكبر.

    الثاني: ما يثيره الشيطان في النفس من الخوف على الحياة والولد والمال.

    الثالث: اتباع الشهوات.

    الرابع: رفقاء السوء.

    الخامس : الغلو في الدين.

    السادس: ضغوط البيئة الفاسدة سواء كانت من الأسرة أو المجتمع الذي يحيط بالإنسان.

    أسأل الله سبحانه وتعالى، أن يريني وإياكم الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعلنا من الثابتين على الصراط المستقيم حتى نلقاه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    1.   

    الأسئلة

    الطريقة المثلى لدعوة من عرف الحق ثم انتكس

    السؤال: قد تكون دعوة الإنسان الذي لا يعرف الخير سهلة، ولكن الأمر الصعب هو دعوة من عرف الخير ثم تركه وانتكس، فما هي الطريقة المثلى والسليمة لدعوة هذا الصنف من الناس؟

    وفقرة تابعة له هي: إن المتساقط لا حاجة لدعوته، لأنه عرف الحق فلا حاجة لنصحه.

    ويسأل بعضهم فرعاً ثالثاً: هل تبقى بيني وبين أخي المتساقط علاقة كما كانت من قبل؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟

    الجواب: أما بالنسبة للأمر الأول، فلا يعني أنه عرف الحق ثم سقط فنتركه للشيطان، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن نعين الشيطان على أخينا، وكانت معرفته ناقصة، لو كانت معرفته كاملة لما وقع في هذا السقوط، ونحن من خلال الأسباب التي ذكرناها بيَّنا أنه إن كان ممن يتكبرون وأوقعه هذا الكبر في السقوط عن طريق الحق فمعرفته ناقصة، وإن كان ممن يخافون الناس ولا يخافون الله فمعرفته ناقصة، وإن كانوا ممن يؤثرون الشهوات على ما عند الله فمعرفته ناقصة ليست كاملة، صحيح أنه سلك طريق الهداية لكن لخلل باطني ظهر الخلل في ظاهره، والعياذ بالله.

    فلا ينبغي لنا أن نتركه للشيطان، بل لا بد أن نبذل جهوداً أكثر من الجهود التي بذلت معه ابتداءً من أجل استنقاذه، والإمام ابن القيم في مدارج السالكين ، يتحدث في أكثر من موضع، عن مثل هذا الصنف، فيقول: يحتاج أولاً أن نعرف الطريقة التي أوتي منها، فإن كان مرضه من الكبر فلنعالج الكبر، وإن كان مرضه من حب الشهوات فلنعالج هذا الأمر، ولكل مرض دواؤه في الإسلام.

    ويقول: إن من أهم الأمور التي ينبغي أن نذكِّره بها، أن نذكره بأيام الالتزام والهداية، وأن نذكِّره بالبدايات كما سماها ابن القيم عليه رحمة الله، يقول: إن للبدايات -بدايات الالتزام- لذة وطعماً، كلما تذكرها المنتكس بكى عليها، ما دام في قلبه ذرة من إيمان، وقد جربت كلام الإمام ابن القيم عليه رحمة الله مع إنسان كان ملتزماً، ثم حصل فيه شيء من الخلل والتقصير والنكوص على الأعقاب، فكنت أحدثه، وأثناء الحديث ذكَّرته ببعض مواقفه وكلماته، وأفعاله، فانفجر باكياً يقول: واشوقاه إلى تلك الليالي والأيام، وأنى لي بتلك الليالي وتلك الأيام.

    نعم .. التذكير وإحياء هذه المعاني مرة أخرى، تذكيره بالجانب المضيء في حياته يكون عوناً له بإذن الله على سلوك هذا الطريق، أو على النهوض من هذه العثرة.

    أما هل تبقى العلاقة به على ما كانت، فنحن يجب أن نشعره بأن علاقتنا به ستصاب بسبب ما أصابه هو، ومع هذا فنشعره بأنَّا لن نتركه بل سنعاونه على نفسه وشيطانه، لكن نقول: لتعلم أن منزلتك عندنا عندما كنت من أهل الاستقامة غير منزلتك عندما أصبحت من أهل التخليط، ومع هذا نحن ننظر إليك النظرة إلى المريض، أما السابق فربما كنا ننظر إليك نظرتنا إلى الطبيب الذي نستقبل منه العلاج، وندعه أو نطلب منه أن يصف لنا الدواء، فلا تُقطع العلاقة، إلاَّ إذا غلب على ظن الإنسان أن هذه العلاقة لم تعد مجدية، وأن الهجر هو أولى وأجدى، عند ذاك نهجره؛ لأن هذا أسلوب شرعي، يستخدم بضوابطه الشرعية.

    الصحوة الإسلامية بين الإقبال على الله والتساقط

    السؤال: هناك شبهة يطرحها بعض الذين لم يلتزموا بدين الإسلام، يقول بعض الشباب المنحرف: إن هذه الصحوة عبارة عن موضة، ومدتها سنة أو سنتان ثم يرجع الشباب إلى ما كانوا عليه من المعاصي، فما ردكم على هؤلاء جزاكم الله خيراً؟

    الجواب: أذكر أنني في العام الماضي ألقيت محاضرةً في هذا المكان، وكان عنوانها: الإقبال على الله أسبابه وضوابطه، وكانت تتحدث عن هذه القضية بالذات، وترد على أصحاب هذه الاتهامات والافتراءات.

    قوافل الإيمان -أيها الأحبة- من زمن آدم وستبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والذين يراهنون على أن صحوة الجيل المسلم سوف تنطفي عليهم أن يتذكروا قول الحق سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] .

    وبالرجوع إلى تلك المحاضرة يرى الإنسان أن الالتزام بدين الله موغلٌ في أعماق التاريخ الماضي، وسيوغل بإذن الله في أعماق التاريخ المستقبل، وسيغطي كل مكان من هذه الأرض، بل نحن نؤمن إيماناً بأن المستقبل للإسلام، ومستقبلٌ لم يصل إليه في تاريخه الماضي، فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يبقى بيت من وبر أو من مدر إلا دخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، وأنه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، فنحن على وعد من الله، وعلى وعد من رسول الله، والمستقبل لنا بإذن الله، والفطرة رصيد لنا في نفوس البشر بإذن الله، وكل شيء في هذا الكون يؤيدنا، ويشد أزرنا، ويأخذ بأيدينا لتعميق هذه الصحوة، وهذا التوجه بإذن الله سبحانه وتعالى.

    نظرة حديث العهد بالالتزام إلى ماضيه

    السؤال: ما السر في حنين الملتزم في بداية الأمر إلى ماضيه العفن، مع قناعته بوضعه الصحيح الآن؟

    الجواب: أنا لا أظن أن هذا أمراً واقعاً، وإن وجد فشذوذ، الذي أعلمه أن الإنسان عندما يلتزم لا يحن إلى ماضيه، بل يتضجر من ذلك، ويحس بجرح عميق في قلبه، ولذلك فقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه القضية عند قوله سبحانه وتعالى في سورة الفرقان: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان:63] إلى قوله سبحانه وتعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:70] .

    قال شيخ الإسلام : بسبب ما حل في قلوبهم من المعاناة والندم الشديد على ماضيهم استحقوا أن تقلب تلك السيئات إلى حسنات، وهذا قول من أقوال العلماء في تفسير هذه الآية، فأنا لا أظن أن هذا الأمر واقع، أو أن الواقع خلاف هذا، أظن أن الإنسان الذي كان يرتكب المعاصي والآثام ثم التزم أشد نفرة من المعاصي والآثام والذنوب، وأشد التزاماً من الذي لم يقارف الذنوب والآثام أصلاً، هذا الذي أظنه.

    كيف يقضي المسلم وقته

    السؤال: كيف تقضي الفتاة المسلمة وقتها، وما حكم خروج المرأة متعطرةً متجملةً، وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: أما بالنسبة للأمر الأول فالقاعدة العامة أن المسلم -كما قلنا قبل قليل- قد باع نفسه وماله وحياته لله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] .

    إذاً: فالمسلم يبرمج حياته على هذا المقتضى، أن تكون حياته كلها لله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى حين كلفنا أو شرفنا وطلب منا أن تكون حياتنا عبودية له، لم يتركنا في عمياء وظلماء لا نعلم كيف نرتب هذه الحياة، بل جعل للإنسان منهجاً متكاملاً يرافقه منذ أن وجد في بطن أمه، إلى أن يوضع في قبره، إلى أن يدخله بإذن الله الجنة.

    فما من لحظة ولا تصرف ولا فعل في حياة الإنسان إلا ويستطيع من خلال هذا المنهج أن يوجهها عبوديةً لله سبحانه وتعالى، المرأة في بيتها، والرجل في عمله، والمرأة مع مثيلاتها، والشاب مع أقرانه، والعالم بين تلاميذه، والتلميذ مع أستاذه، المهم أن الحياة كلها تكون لله سبحانه وتعالى، كلٌ من موقعه الذي هو فيه، وكلٌ حسب اختصاصه الذي جعله له، فلكلٍ مهمةٌ واختصاصٌ في هذه الحياة كلف به، وإن كان هناك فواصل مشتركة عامة لجميع المسلمين.

    أما بالنسبة للأمر الآخر، فلا ينبغي للمرأة المسلمة -وما أظن هذا الأمر أصبح خفياً في ظروف الصحوة الموجودة والحمد لله بين الشباب والشابات- أن تنـزل متعطرة متزينة متجملة إلى السوق، تمر على الرجال، وتختلط بهم، وتنظر إليهم، وتعلمون حديثاً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، أيما امرأة حصل منها هذا فقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا والعياذ بالله، والزنا درجات، فلا ينبغي للمرأة المسلمة التي تخشى وتخاف الله سبحانه وتعالى، وتسعى لإرضائه أن تقع في أمر ومحظور نهى عنه الله سبحانه وتعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

    أدب الخلاف والاختلاف

    السؤال: أنا أرى أن من أسباب الانتكاسة لبعض الشباب: وجود بعض الخلافات الفرعية لبعض المسائل، ويتحمس لها بعض الشباب، مع العلم أنهم قد قصروا في الأصول، فما توجيهكم لمثل هؤلاء هداهم الله؟

    الجواب: هذا السائل يستطيع أن يدخل هذا تحت سبب من الأسباب السابقة، فقد يكون في بعض صوره داخل تحت السبب الأول، وقد يكون في بعض صوره داخل تحت السبب الثاني، وقد يكون في بعض صوره داخل في السبب الثالث، ومع الأسف الشديد أن مما افتقده المسلمون في هذا العصر (آداب الخلاف والاختلاف).

    وقع الاختلاف بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، ومن بعدهم، لكن هذا الاختلاف كان له ضوابط وآداب شرعية يتعاملون من خلالها، فيقول كل إنسان ويعمل بما اقتنع أنه الحق ويبين دليله وبرهانه، وينقض دليل الآخر، ولكن في حدود هذه الضوابط والآداب.

    فمثلاً: من المعلوم من الدين بالضرورة حرمة المسلم دمه وعرضه وماله، ووجوب الأخوة الإيمانية، فيأتي بعض المسلمين من أجل أمر مندوب فيهدر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، ويقع أو يتعامل بفقه أعرج أو أعوج حين يجعل الفرع أصلاً والأصل فرعاً.

    وأذكر لكم مثالاً: كنت قبل يومين أقرأ في فتاوى شيخ الإسلام ، وقد حصرت كثيراً من المسائل التي تتعلق بآداب الخلاف والاختلاف في مؤلفاته وفتاواه عليه رحمة الله -ولعل الله أن يعينني على إخراجها- فكان يناقش الذين قالوا بإباحة تحليل من يطلقها زوجها طلاق الثلاث.

    قال بعض الفقهاء: بأنه يجوز للرجل أن يتزوجها؛ بقصد تحليلها لزوجها الأول، والأدلة واضحة على بطلان هذا القول، فناقش أدلتهم وردها وبين الأدلة الأخرى ووجه الدلالة منها، ثم أخذ بعد ذلك يعتذر لهؤلاء الفقهاء، فقال: وهم وإن كانوا قد أخطأوا فيما قالوا فهم مأجورون وسعيهم مبرور، وهم من سادات أهل الإيمان والتقوى، قد اتقوا الله ما استطاعوا، ولهم أجر على اجتهادهم، ولا يعني هذا انتقاصاً لحقهم، ثم قال عليه رحمة الله: إن الله سبحانه وتعالى قال: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:78-79] يقول عليه رحمة الله: والعلماء ورثة الأنبياء، فالأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فقد أخذ به الأنبياء.

    ثم قال: فحين اختلفا وقع الخلاف بين نبيين ينزل الوحي عليهما، فوقوعه بين ورثتهم الذين لا وحي لديهم من باب أولى.

    ثم قال عليه رحمة الله: وحين جعل الله الصواب في قول أحد النبيين، وأثنى على النبي الآخر، ونحن نفهم أن الصواب كان مع الأول، فذاك أيضاً يدفعنا إلى أن نعذر العالم الذي لا ينزل عليه الوحي إذا أخطأ من باب أولى.

    يقول هذا لكي يعتذر لهؤلاء الناس، وكان يقول: هم من سادات أهل العلم والإيمان الذين اتقوا الله ما استطاعوا، نعم. يجب أن نعي فقه الخلاف والاختلاف، وأن ندرس من واقع أسلافنا وحياة أسلافنا، وأن تكون صدورنا واسعة.

    نعم .. لا نقبل الخطأ من أحد، لكن هناك فرق بين أن تقبل الخطأ، وبين أن تصادر الإنسان، وتصادر كل ما فيه من خير من أجل خطأ أو اثنين أو ثلاثة أو عشرة، أو أكثر من ذلك، هذا شيء، وهذا شيء آخر.

    ٌأقول: قد يسيء هؤلاء الشباب إلى الدعوة والإسلام، ويتسببون بطريقة أو بأخرى في صد الناس عن دين الله، وكل مسلم في أي موقع وفي أي مكان لا يفرق الأعداء بينه وبين غيره مادام أنه مسلم، فما دمنا تجمع بيننا أخوة الإيمان، ومنهج أهل السنة -والحمد لله- فلماذا هذه الغلظة والشدة؟ وهذا قد يكون نوعٌ من الغلو الذي تحدثنا عنه قبل قليل.

    حكم من يكتفي بصلاح نفسه عن إصلاح غيره

    السؤال: هل الذي يكون صالحاً في نفسه، ولا يدعو إلى الله تعالى، وإلى الالتزام بشرعه، يخشى عليه من السقوط أم لا؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.

    الجواب: هذا لا يخشى عليه من السقوط، هذا ساقط -والعياذ بالله- وقصة أصحاب السبت من بني إسرائيل عندما كانوا ثلاث فرق، ففرقة يفعلون السوء، وفرقة يسكتون عنه، وفرقة ينهون عن السوء، فأخبرنا الله سبحانه أنه نجى الذين ينهون عن السوء، وأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس -والعياذ بالله- وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أمر جبريل أن يأخذ قريةً فيقلب عاليها سافلها، فقالت الملائكة: يا رب -وهو أعلم سبحانه- فيها عبدك فلان لم تصعد له معصية منذ كذا وكذا، فقال سبحانه وتعالى: ( به فابدأ، فإنه لم يتمعر وجهه يوماً من أجلي ) أو كما ورد في الحديث.

    الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى جزء من دين الله، يقول سبحانه وتعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:1-3] يكفي، لا. وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ [العصر:3] هذه هي الدعوة إلى الله وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] وهو الثبات على ما يلقى الإنسان في طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) ويقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس بعد ذلك مثقال حبة خردلٍ من إيمان)، فإذا كان الإنسان صالحاً في نفسه، ولكن لا يدعو غيره! كل بحسبه، وكل حسب طاقته، مع أسرته، وأولاده، وبناته، وأقاربه، وزملائه، ومرءوسيه، ورؤسائه، وجيرانه، كل بحسبه وحسب طاقته، يتقي الله ما يستطيع.

    نعم الذي لا يدعو إلى الله سبحانه وتعالى واقع أو ساقط أو له نصيب من السقوط والعياذ بالله.

    موازنة المصالح والمفاسد في الدعوة إلى الله

    السؤال: أرجو الإفادة في ترك الدراسة علماً بأني طالبة في السنة النهائية في الجامعة، ولدي فقط مادتين، ولكني لا أحس برغبة في الاستمرار في الدراسة، لأن هذه الدراسة لا تفيدني ألبتة في أمور الدين، ورغبتي الغرف من بحور الدين، وعلم السنة والقرآن، أفيدوني جزاكم الله خيراً؟

    الجواب: في مثل هذه القضايا -أيها الأحبة- كل حالة تعطى حكماً خاصاً، إن الذي يحدد الحكم والفتوى في مثل هذه القضايا هو: المصالح والمفاسد، فأنتم تعلمون أن في الإسلام إذا تعارضت مصلحتان، قُدمت الكبرى منهما وتهدر الصغرى، وإذا تعارضت مفسدتان ارتكبت الصغرى من أجل دفع الكبرى، فكل حالة دراسةً خاصةً، ويرى أيهما أعظم نفعاً للإسلام والمسلمين، ونفعاً لهذه الطالبة، هل هو الاستمرار في الدراسة، أم الانقطاع عن الدراسة والتعلم بمفردها، ثم بعد ذلك تعطى الحكم، فليست الرغبة هي فقط المسيِّرة.

    المسلم الحقيقي هو الذي تسيره مصلحة دينه ودعوته، لا رغبته هو وما يرتاح إليه، والأصل أن تكون رغبته وهواه تبعاً لمصلحة دينه، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يكون الإنسان في موقع من المواقع، فإذا ترك هذا الموقع أوتي الإسلام والمسلمون من قبله، فلا يجوز له أن يترك هذا الثغر من أجل مصلحة خاصة تعود عليه بالنفع، حتى وإن كانت مصلحة شرعية، ويمكن أن يجمع بإذن الله بين الأمرين، ولا أتوقع أن الدراسة تتعارض مع الاغتراف من نور الكتاب والسنة، والسباحة في بحورها المضيئة، والاستضاءة بهديها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755959778