إسلام ويب

تفسير سورة الممتحنة [1-7]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تسمية سورة الممتحنة وسبب نزولها وما يتعلق به

    نشرع بإذن الله تعالى في تفسير السورة الستين من القرآن الكريم، وهي سورة الممتحنة بفتح الحاء، وقد تكسر؛ فعلى الفتح هي صفة للمرأة التي نزلت فيها هذه السورة، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط . قال الله تعالى: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة:10]، فهذه المرأة التي نزلت فيها السورة ممتحَنة تصديقاً لهذه الآية، وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ، وقد ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن . وأما بالكسر فهي بمعنى المختبِرة، فهي صفة للسورة نفسها، أي: السورة المختبِرة، كما سميت سورة براءة: المبعثرة والفاضحة؛ لأنها كشفت عن عيوب المنافقين. قال المهايمي : سميت بها لدلالة آية الامتحان على أنه لا يكتفى في باب الصحة بظواهر الأدلة كالهجرة، بل لابد من اختبار البواطن، فدلائل الاعتقادات أولى بذلك، وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وفي اصطلاح القراء أنها تسمى سورة الامتحان، وسورة المودة. وهي سورة مدنية كلها بإجماعهم، وآيها ثلاث عشرة آية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء...)

    بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1]. قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )) أي: أنصاراً، فهذا نهي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن موالاة مشركي مكة المحاربين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقتئذ، لما فيها من الفتنة بالدين وأهله كما يأتي.

    لفظ (العدو) معناه وإطلاقه

    وقوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )) لفظ العدو مفرد، ويطلق على الفرد وعلى الجماعة، فمن إطلاقه على الفرد قول الله سبحانه وتعالى: فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]، ومن إطلاقه على الجمع قوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50]. والمراد بلفظ (العدو) في قوله: (( لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )) الجمع؛ لأن في سياق الآية قرائن تؤكد أن المراد الجمع، مثل كلمة (أولياء)، فهي جمع، وقوله أيضاً: (( تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ )) وقوله أيضاً: (( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ )) وقوله أيضاً: (( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً )) إلى آخره، فهذا كله مما يرجح أن المراد بلفظة (العدو) الجمع.

    سبب تقديم قوله تعالى: (عدوي) على (عدوكم)

    يلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى قدم ذكر عداوته على عداوة المؤمنين: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ )) فذكْرُ المقابلة هنا بين: عدوي وعدوكم فيه إبراز صورة الحال وتقبيح الفعل؛ لأن العداوة تتنافى مع الموالاة، وتتنافى أيضاً مع المسارة للعدو بالمودة. قال الفخر الرازي في سر تقديم (عدوي) على (عدوكم): سر التقديم أن عداوة العبد لله بدون علة، فالذي يعادي الله سبحانه وتعالى ليس له علة تعلِّل هذه العداوة، أما عداوة العبد للعبد فإنما تكون لعلة. يقول: وما كان بدون علة -يعني: كعداوة الكفار لله- فإنه يقدم على العداوة التي تكون لِعلة، وهي عداوة الناس بعضهم لبعض. ويقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن التقديم لغرض شرعي وبلاغي، وهو أن عداوة العبد لله هي الأصل، يعني: أن من عادى الله فإنه بعد ذلك يعادي أولياء الله، وعداوة العبد لله أشد قبحاً من عداوته لعبد مثله؛ فلذا قدمت، وقبحها في أنهم عبدوا غير خالقهم، وشكروا غير رازقهم، وكذبوا رسل ربهم، وآذوهم، فلا يتصور أن يعادي عبدٌ الله سبحانه وتعالى وهو مفتقر في وجوده إلى الله، فهو الذي خلقه، ورزقه، ووهبه الحياة، وأسبغ عليه النعم ظاهرة وباطنة، فلم يأته من الله سبحانه وتعالى إلا كل خير، فمقابلة هذا الإحسان الذي لا إحسان مثله بالعداوة لا شك أنه أقبح ما يكون، ولذلك روي في بعض الأحاديث الإلهية: (إني والجن والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر غيري)، وفيه أيضاً: (خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي!) وهذا الحديث وإن لم يصح فإن معناه صحيح. كما أن تقديم عداوة الله سبحانه وتعالى على عداوة الخلق يؤكد بأنها هي السبب في العداوة بين المؤمنين والكافرين، فإن العداوة التي تقع بين المؤمنين والكافرين إنما هي ناشئة عن عداوة الكفار لله تبارك وتعالى، فتراهم يسبون الله، ويشركون به، ويكذبون أولياءه، فلما كانوا أعداء لله وجب على المؤمنين أن يتخذوهم أيضاً أعداء. والدليل على تقديم عداوة الله على عداوة المؤمنين، وأنها هي الأصل: أن الكفار لو آمنوا بالله وانتفت عداوتهم لله لأصبحوا إخواناً للمؤمنين كما قال الله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] فبمجرد التوبة، والدخول في الإسلام، والانقياد لشرع الله؛ يصبحون إخواناً للمؤمنين، وتنتفي العداوة بينهما، فقد جعل هذا الأمر مغياً لغاية في قوله تعالى: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89]، ومثله أيضاً قول الله تعالى في قوم إبراهيم: وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4] فإذا آمنوا بالله صاروا بالتبع إخواناً لهم، وانتفت هذه العداوة، فإذا هاجر المشركون وآمن الكافرون انتفت العداوة، وحلت محلها الموالاة، فسبب النهي عن موالاة الأعداء هو الكفر.

    بيان أنه ليس كل عداوة تقتضي المقاطعة وعدم الموالاة

    إذا وجدت عداوة لا لسبب الكفر فلا ينهى عن تلك الموالاة، فقد توجد عداوة لكن لسبب آخر غير سبب الكفر، فلا تعامل نفس المعاملة التي في معاداة سببها الكفر، فمن الممكن أن تحصل عداوة بين اثنين من المسلمين بسبب محاقة أو مخاصمة أو اختلاف، فمثل هذا لا يوجب نفس النوع من العداوة، ولا يترتب عليه ما يترتب على المعاداة التي يكون سببها الكفر. فمثال ذلك قول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] فهنا وصف الأولاد والأزواج بأنهم قد يكونون أعداء، وهذه العداوة تختلف تماماً عن العداوة التي سببها الكفر، لأن عداوة الشخص المحبوب كائنة في أن يفتنك لترضيه، مثل أن تحرض الزوجة زوجها على أن يأتي بالمال ولو من الحرام، وأن تشغل محبة الولد الأب عن العبادة مثلاً كما قال تعالى: لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون:9]، فإذا حرضت الزوجة أو الأولاد الرجل على معصية الله، أو على الكسب الحرام، أو على أي مخالفة شرعية، فهذه هي العداوة المقصودة هنا في هذه الآية. وهذه الآية التي فيها العداوة لسبب غير الكفر: (( إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ )) قال الله سبحانه وتعالى بعدها مباشرة: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14] فانظر كيف أتبعها الله سبحانه وتعالى بالتحريض على العفو والغفران والمسامحة، فلما تخلف السبب الأساسي في النهي عن موالاة الكفار الذي هو الكفر، جاء الحث على العفو والصفح والغفران؛ لأن هذه العداوة لسبب آخر بينه قول الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] فكان مقتضاها الحذر من أن يفتنوه أو يؤزوه على المخالفات الشرعية، لا أن يتخذ الرجل زوجته وأولاده أعداء، فإن مقتضى الزوجية حسن العشرة وليس المعاداة؛ لأن السبب هنا ليس هو الكفر. وقد نص صراحة على عدم النهي المذكور في خصوص من لم يعادهم في الدين فقال تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة:8]. وإعراب (أولياء) من قوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )): مفعول ثانٍ، والمفعول الأول هو: (عدوي)، ومعنى أولياء: أنصار كما ذكرنا سابقاً. فهذا نهي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن موالاة مشركي مكة المحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وقتئذ؛ لما فيها من الفتنة بالدين وأهله.

    تفسير قوله تعالى: (تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم)

    قوله: (( تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ )). قيل: بصميم المحبة، والمعنى: تلقون إليهم المودة، وقال بعض العلماء: المقصود بالمودة المودة الظاهرة؛ لأن هذه السورة نزل جزء منها في شأن حاطب بن أبي بلتعة لما دل قريشاً على أخبار النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه قد أعد جيشاً ليغزوهم كما سنبين إن شاء الله تعالى بالتفصيل. وقد اعتذر حاطب للنبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفعل، وذكر أنه محب لله ورسوله، وموال لله ورسوله، وأنه مبغض للكافرين، وإنما عذره كذا وكذا مما تأوله، فمن ثم قيد بعض المفسرين المودة هنا بأنها المودة الظاهرة، وليست المودة القلبية؛ لأن قلب حاطب كان سليماً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة بعدما اعتذر إليه حاطب : (أما صاحبكم فقد صدق) يعني: أنه تأول ولم يكن فعله عن كفر، أو عن حب للكفار والعياذ بالله. والباء في قوله: (( بِالْمَوَدَّةِ )) زائدة كما في قوله تعالى: َومَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ [الحج:25] أي: ومن يرد فيه إلحاداً بظلم. أو أن الباء ثابتة، ويكون الضمير متعلقاً بقوله: تلقون، تقول: ألقيت إليه بكذا، والمراد: تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن الباء هنا سببية، أي: تلقون إليهم بسبب المودة التي بينكم وبينهم. والواو في قوله: (( وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ )) هي واو الحال؛ أي: والحال أنهم قد كفروا بما جاءكم من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكتابه الذي هو نهاية الهدى وغاية السعادة. ثم أشار إلى أن هؤلاء الذين توالونهم، أو تودونهم، أو تلقون إليهم بالمودة، لم يكتفوا بالكفر بما جاءكم من الحق، بل آذوا المؤمنين، فأضافوا إلى الكفر أذية المؤمنين، وهذا الأمر يقتضي قطع العلائق معهم بأي نوع من المودة. فانظر إلى الجريمة الثانية بعد الكفر بالله والكفر بالقرآن، (( يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ )) فقد آذوا الرسول، وآذوا المؤمنين، فهذا الأمر يستوجب قطع العلائق معهم رأساً، والمعنى يخرجون الرسول وإياكم من أرضكم ودياركم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أن تؤمنوا بالله ربكم ...)

    قوله: (( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ )). أي: ما يخرجونكم إلا لأنكم آمنتم بالله ربكم، فلم تظلموهم، ولم تبخسوهم حقاً، ولم تؤذوهم في شيء، وإنما الأمر كما قال تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8] فالجريمة إذاً هي الإيمان بالله عز وجل، والمعنى: يخرجونكم لإيمانكم بالله الجامع للكمالات المقتضية انقياد الناقص له، لاسيما باعتبار اتصافه بكونه رباكم بالكمالات، فهي في الحقيقة عداوة مع الله عز وجل، فقوله: (( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ )) أي: ربكم الذي أحسن إليكم، وغذاكم بنعمه، وأفاض عليكم من خيراته، فهم ما نقموا منكم إلا أن تؤمنوا بالله ربكم. قال ابن كثير : هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم، فهذه الأسباب الثلاثة المذكورة في الآية كلها مما يهيج المؤمنين ويوقظ في قلوبهم عداوة الكفار، وعدم موالاتهم، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ )) هذه واحدة، (( يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ )) وهذه الثانية، وثالثاً: (( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ )) بسبب إيمانكم؛ لأنهم أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده؛ ولهذا قال تعالى: (( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ )) أي: لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]، وكقوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:40]. ثم يقول تبارك وتعالى: (( إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي )) أي: بالجهاد في طريقي الذي شرعته لكم، وديني الذي أمرتكم به، والتماس رضائي عنكم الذي لا ثواب فوقه، والشرط متعلق بقوله: (( لا تَتَّخِذُوا )) أي: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. فقوله هنا: (( إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي )) هذا شرط، وجوابه متقدم، أي أن الكلام فيه تقديم وتأخير، فيكون تفسير الآية هكذا: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. وهناك قول آخر: وهو أن في الكلام حذفاً، أي: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تلقوا إليهم بالمودة. وقوله تعالى: (( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ )) الباء في قوله: (بالمودة) كالباء في لفظة (بالمودة) السابقة في قوله: (( تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ))، فـ(تسرّون) بدل من قوله تبارك وتعالى: (( تُلْقُونَ ))؛ لأن الأفعال تبدل من الأفعال، وذلك مثل قوله تعالى في سورة الفرقان: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68-69] وقول الشاعر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا (( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ )) أي: من المودة معهم وغيرها، (( وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ )) والهاء تعود إلى المصدر نفسه وهو الإسرار، فمع أن المذكور هو الفعل لكن يفهم منه المصدر، (( وَمَنْ يَفْعَلْهُ )) أي: الإسرار والإلقاء إليهم بالمودة، أو الإسرار إليهم واتخاذهم أولياء. (( فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ )) أي: جار عن السبيل السوي الذي جعله الله سبحانه وتعالى هدى ونجاة. وقد أشرنا أن هذا السياق كله نزل في شأن حاطب بن أبي بلتعة ، فقد وقع منه هذا الأمر، وهو إخبار الكفار بسر الرسول عليه الصلاة والسلام لعلة سوف نبينها، مع أن حاطباً رضي الله عنه من أهل بدر، وله فضل عظيم جداً، لكن كل هذا السياق كما نلاحظ يؤخذ منه معاتبة حاطب رضي الله تعالى عنه. فقوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) خطاب للمؤمنين، لكن سبب نزولها في حاطب . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1] فالمعاتبة من الله سبحانه وتعالى لـحاطب رضي الله عنه، وهي في حد ذاتها تدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق إيمانه؛ لأن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيبه، وأما الشخص الذي تيئس منه فإنك تطرحه ولا تبالي بما فعل؛ لأن شأنه لا يهمك، أما الشخص الذي بينك وبينه مودة فهذا الذي يستحق أن تعاتبه، ولذلك يقول الشاعر: أعاتب ذا المودة من صديق إذا ما رابني فيه اجتناب إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتاب يعني: يبقى الود إذا كان هناك أمل في هذا الشخص ومحبة، فيستحق أن تعاتبه، أما إذا ارتفع العتاب فهذا يعني ارتفاع المحبة أصلاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءً ويبسطوا إليكم أيديهم...)

    ثم يقول تبارك وتعالى مبيناً حال الكافرين مع المؤمنين: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2]. قوله: (( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ )) أي: إن يدركوكم ويظفروا بكم، وتقول: رمح ثقيف أي: صنع بحذق ومهارة ودقة، واستعمل هنا للإدراك. فـ(( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ )) أي: إن يدركوكم (( يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً ))؛ لأنهم لا يصلون إلى المؤمنين بسبب الهجرة، فالمؤمنون لا يقيمون معهم في مكة، لكن إن ظفر المشركون بهم، يكونون لكم أعداء، أي: حرباً، فواجبكم أن تقابلوا هذه العداوة بعداوة مثلها، ولا ينفعكم إلقاء المودة إليهم، ولا يجدي معهم أن تلقوا إليهم المودة. (( وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ )) أي: يبسطوا إليكم أيديهم بالقتل أو الضرب، وألسنتهم بالشتم بالسوء. (( وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ )) بما جاءكم من الحق وترجعون عن دينكم إلى دينهم. وقد بين الله سبحانه وتعالى السبب في أنهم يودون لو تكفرون، وهو أنهم يحسدون المؤمنين على نعمة الإيمان، ونحن نعرف أن اليهود كانوا يعرفون أن الرسول عليه الصلاة والسلام حق من عند الله، وكانوا يعلمون أنه نبي مرسل من الله سبحانه وتعالى، لكن ما الذي منعهم من الإيمان؟ إنه الحسد. فالحسد يعمي قلوبهم عن أن يدركوا أن هذا الأمر سيئول بهم إلى نار جهنم؛ لأنه مادام أنه رسول حقاً من عند الله، وأنه أتى بما ينسخ شريعتهم ودينهم، فمن خالفه فلا شك أن مأواه جهنم، ولكن لتمكن صفة الحسد في قلوبهم عموا وأصروا على كفرهم واستكبارهم. ويقول الله تبارك وتعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] ويقول الله تبارك وتعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88] إلى قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]. وهذا معروف حتى على مستوى أقل من قضايا الكفر والإيمان، فتجد الشخص المنحرف أو الفاسد يحب جداً أن يفسد الناس مثله، وأن يصيروا كلهم منحرفين؛ لأن هذا يحدث له نوعاً من الألفة، وأنه لم يكن ضائعاً بمفرده، لذلك فإنه يفرح بتضييع من حوله؛ لأن هذا يؤنسه في هذه الوحدة، فكذلك هؤلاء: (( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ )) حسداً من عند أنفسهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة...)

    قال تعالى: لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الممتحنة:3]. (( لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ )) يعني: قراباتكم، وليست على ظاهرها، فالأرحام هنا ليس المقصود بها الأرحام نفسها، لكن المقصود ذوو الأرحام، يعني: لن تنفعكم ذوو أرحامكم، أي: قراباتكم، (( وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )). وجاء هذا السياق لأن السورة نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، وحاطب إنما أراد أن تكون له يد -أي: جميل- عند أهل مكة المشركين؛ لأنه لم يكن له في مكة من يحمي عشيرته من أذى المشركين، فأراد أن يسدي إليهم جميلاً حتى يكفوا الأذى عن أهله وعشيرته، فالله سبحانه وتعالى يبين أنه يوم القيامة لن تنفعكم هذه القرابات، أي: القرابات التي ارتكب حاطب هذه الكبيرة بسببها: (( لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ )) بإثابة المؤمنين، ومعاقبة العاصين. وقوله: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فيه عدة قراءات، منها: (يوم القيامة يُفصَل بينكم)، وقرئ: (يوم القيامة يُفصَّل بينكم)، وفي قراءة: (يوم القيامة يُفصِّل بينكم)، وقرئت: (يوم القيامة نُفصِّل بينكم) على العظمة، وقرئت أيضاً: (يوم القيامة نَفصِّل بينكم). وقال القاشاني : أي لا نفع لمن اخترتم موالاة العدو الحقيقي لأجله؛ لأن القيامة مفرِّقة، (( يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ )) فهؤلاء الذين اختاروا موالاة العدو الحقير لأجلهم، وهو حاطب والى العدو الحقير لأجل قرابته الذين في مكة، فهؤلاء القرابة الذين تهلكون أنفسكم بسببهم لن ينفعوكم يوم القيامة، ولن يغنوا عنكم شيئاً؛ لأنه يوم القيامة يفصل بينكم: أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار؛ لأن القيامة مفرقة، وهذا معنى قوله تعالى: (( يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ )) أي: يفصل الله بينكم وبين أرحامكم وأولادكم كما قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36]. وهذا تأويل جيد. أما فيما يتعلق بالقراءة في قوله تعالى: (( يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) فيجوز في قوله تعالى: (( يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) وجهان: الأول: أن يتعلق بما قبله أي: لن تنفعكم أرحامكم يوم القيامة، فيوقف عليه هنا، ويبتدأ بقوله: (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ). والوجه الثاني: أن يتعلق (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بما بعده، أي: يفصل بينكم يوم القيامة، فيوقف على أولادكم، ويبتدأ بيوم القيامة. وقوله: (( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )) يعني: فيجازيكم عليه.

    قصة حاطب بن أبي بلتعة مع المشركين

    يقول شيخ المفسرين وإمامهم الحافظ ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: ذكر أن هذه الآيات من أول هذه السورة نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة ، وكان كتب إلى قريش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم. روى البخاري هذه القصة عن علي رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها) وروضة خاخ مكان بين المدينة ومكة على بعد اثني عشر ميلاً من المدينة، الظعينة: هي المرأة داخل الهودج، أم إذا كانت خارج الهودج فلا يقال عنها ظعينة. قال: (فذهبنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب! فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها -أي: من ظفائرها- فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه سلم: ما هذا يا حاطب ؟! قال: لا تعجل علي يا رسول الله! إني كنت امرأً من قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم، فقال عمر : دعني يا رسول الله فأضرب عنقه! فقال عليه الصلاة والسلام: إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). ومعنى هذه العبارة الأخيرة: أن الله سبحانه وتعالى علم من شأن أهل بدر أنهم كلما أذنب الواحد منهم ذنباً أحدث بعده توبة فيغفر الله عز وجل له. قال عمرو بن دينار راوي الحديث: ونزلت فيه: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ )) إلى آخر الآيات. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: كان حاطب هذا رجلاً من المهاجرين، ومن أهل بدر، وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفاً لـعثمان رضي الله عنه، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهز لغزوهم، فقال: (اللهم عَمِّ عليهم خبرنا، فعمد حاطب فكتب كتاباً إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم؛ ليتخذ بذلك عندهم يداً) كما ذكر في الحديث. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: يعني بقوله عز وجل: (( لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )) المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله والمؤمنين، الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، (( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )) يعني: من يحبهم بقلبه ويواليهم فإنه يصير كافراً مثلهم. وقال الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:57]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144]، وقال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]؛ ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش؛ لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.

    منزلة الولاء والبراء في الدين

    إن هذه السورة كلها أصل في النهي عن موالاة الكفار، فضلاً عما أشرنا إليه وما لم نشر إليه من الآيات؛ لأن قضية موالاة الكفار تحتل في الإسلام المرتبة الثانية من حيث كثرة الأدلة عليها بعد قضية التوحيد، فما عرفت قضية تكثر أدلتها بعد قضية التوحيد مثل قضية الولاء والبراء، وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، بل إنها في الحقيقة من حقوق التوحيد، ولذلك فإن أي خلل في قضية الولاء والبراء فأمره خطير، قال الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]. فإذا ذاب هذا الحاجز النفسي بين المؤمنين والكافرين ترتب على ذلك اختلاط الأمور على الناس، فمثلاً: ياسر عرفات زوجته نصرانية، وأعلنت أنها ترغب في أن تدخل في الإسلام، فقال لها: لا داعي لذلك؛ فإن هذه الأديان كلها شيء واحد! والله المستعان. فانظر إلى الخلل في الولاء والبراء، فإنه أوصل إلى تسوية الإسلام بالكفر وصدور هذا التصرف الخطير، هذا أنموذج عملي واحد وإلا فكل ما نحن فيه من خلل واختلال في أحوالنا وأمورنا هو بسبب الاختلال في قضية الولاء والبراء، ولذلك تجد الآن من يحملون أسماء المسلمين وهم أشد عداوة للإسلام وأهله من أبي جهل وأبي لهب ؛ بسبب الخلل في قضية الولاء والبراء، فإذا أردت أن تفتش عن سبب هذا الفساد فاقرأ قوله تعالى: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73] أي: فتنة الناس في دينهم؛ لأنه حينئذ يتلاشى الخط الفاصل بين الكفر والإيمان، بين النور الظلام، بين الهدى والضلال. وكان ينبغي أن نقف وقفة طويلة عند قضية الولاء والبراء، لكن الوقت يضغط علينا، فإننا نريد أن ننجز ما نحن فيه بقدر المستطاع، وسوف نقف عند هذا الأمر المهم ونعطيه أو نوفيه حقه لاحقاً إن شاء الله تعالى. وقد قبل الله سبحانه وتعالى عذر حاطب لما قام في ظنه من كون ذلك ليس بكبيرة وإن أخطأ، والمجتهد المخطئ معذور، وقد تبين خطؤه بصريح النهي عن معاودة مثله، ولأجله نزلت السورة، فقد كان متأولاً في أن هذا جائز، وقال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام بأي حال من الأحوال سوف ينصره الله على هؤلاء المشركين، فأنا أسدي إليهم هذا الجميل حتى يدفعوا عن أقاربي في مكة. وقد أخطأ في هذا الاجتهاد، لكن قلبه عامر بالإيمان، ومحب لله ولرسوله، وموال للمؤمنين، ولذلك ذكر أن حاطباً لما سمع صدر السورة: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )) غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان، أي: أنه سر جداً بأن الله ما زال يخاطبه بوصف الإيمان.

    الاعتدال في الحكم على الأشخاص والمناهج

    يستفاد من هذه السورة أن الإنسان إذا أراد أن يحكم على شخص فلابد من الاعتدال والموازنة؛ لأن من الخلل عند الحكم على الأشخاص، أو على المناهج، أو على المواقف من خلال موقف واحد، فنهدر كل ما عند الشخص من الحسنات، فلا نذكر عنه إلا المساوئ. فترى بعضهم يقول: إن هذا العالم أخطأ في قضية كذا، وأخطأ في الموضوع الفلاني، ويحبط كل حسناته بسبب هذا الخطأ، فهذا غير صحيح؛ فانظر إلى حاطب بن أبي بلتعة تحصل منه هذه المصانعة للمشركين، ومع ذلك عرف له الرسول عليه الصلاة والسلام حقه، فكون الرجل بدرياً شرف وفضل عظيم جداً لا يمكن أن يقارن: (وما يدريك يا عمر ! لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). فموقعة بدر وقع فيها الفرقان ونصرة الحق، وكانت فيها بداية انطلاق الدعوة إلى الأمام، وهي موقعة أذل الله فيها الكفار وأعز المسلمين، وهؤلاء البدريون لاشك أنهم أعلى طبقة في الصحابة، ففي هذا مراعاة مقام الناس والإحسان، وعدم نسيان حسناتهم إذا ما أساءوا. وقد أحزنني كثيراً الحوار الذي يجري بين بعض الشباب حول الدكتور طارق سويدان ، فإنه أخ فاضل على خير، وقد فتح الله على يديه خيراً كثيراً، فكم رأيته في أمريكا، فإنه في غاية النشاط في الدعوة إلى الله تعالى، فله محاضرات كثيرة جداً باللغة الإنكليزية، فالرجل له نشاط وهمة عالية في الدعوة إلى الله، وكذلك أشرطته يغلب عليها الخير، وموضوع أشرطة السيرة جيدة ونقول للمثبطين: أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا أما كلامه في قضية الفتنة بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد أوضحناه أكثر من مرة، وقلنا: إن فيه نوعاً من الخطأ، وهو خطأ محدد في أن هذه القضية لا ينبغي أن تثار للعامة، بل ينبغي أن نشغل العامة بمناقب الصحابة وفضائلهم، ولا نفتح عليهم الكلام فيما شجر بين الصحابة، وهذا منهج أهل السنة. والرجل -إن شاء الله- لعله يكون قد انتفع بهذه النصيحة، وهذا هو الظن به، وقد بلغني أنه أمر بإيقاف هذه الأشرطة بالذات، وبلغني بعض الشباب أنه الآن -عافاه الله وعافى سائر المسلمين- مصاب بالسرطان، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفيه ويعافيه، وأن يصرفه عنه وعن سائر المسلمين. فيخوض بعض الشباب ويقول: أليس هذا الذي فعل كذا، أليس هذا الذي عمل الأشرطة التي فيها كذا!! فما هذا أيها الإخوة؟! الرجل مسلم وداعية إلى الله سبحانه وتعالى، وهو ليس من كبار علماء المسلمين، إلا أنه داعية ناصح، وقد خدم الدعوة كذا وكذا، فينبغي أن نعتزل عند نزال الأقران، ونستحضر موقف حاطب بن أبي بلتعة ، وأن كونه بدرياً هو الذي أنقذه من وصف النفاق، ومن معاقبته بسبب تجسسه لصالح الأعداء كما بينا.

    الخوف على المال والولد لا يبيح التقيّة بإظهار الكفر

    قال القاضي أبو يعلى : في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة ولم يأمرهم بالتخلف لأجل أموالهم وأولادهم. فالعذر المعتبر للإنسان في النطق بكلمة الكفر هو إنقاذ نفسه من القتل كما قال الله: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]. ففي حالة الخوف على النفس من العطب والقتل يجوز للإنسان أن ينطق بكلمة الكفر، ولو صبر فهو أولى وأفضل، لكن هل الخوف على المال والولد يبيح له التقية في إظهار الكفر؟ يقول القاضي أبو يعلى : لا؛ لأن في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر كما يبيح ذلك في الخوف على النفس، فلو كان الخوف على المال والأولاد عذراً في إظهار التقية لجاز للمؤمنين الذين هاجروا إلى المدينة أن يبقوا في مكة ويظهروا التقية، ويبقوا على إيمانهم خفية؛ حفاظاً على أموالهم وعلى أولادهم، ولكن لم يحصل هذا لأن الله أوجب عليهم الهجرة، فدل على أنه لا تقية في حالة الخوف على المال والولد. يقول: ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة، ولم يأمرهم بالتخلف لأجل أموالهم وأولادهم. وقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق؛ لأنه ظن أنه فعل ذلك من غير تأويل. فقبل الرسول عليه الصلاة والسلام عذره فيما قام في ظنه من كون ذلك ليس بكبيرة وإن أخطأ، والمجتهد المخطئ معذور، وقد تبين خطؤه بصريح النهي عن معاودة مثل الذي لأجله نزلت السورة، ولذا قال الإمام ألكيا الهراسي : يؤخذ من الآية أن الخوف على المال والولد لا يبيح الفتنة في دين الله، وهو ظاهر، وليس هذا من التقية؛ لأنها في موضوع آخر.

    أنواع الموالاة للناس

    بسط الكلام في موضوع الولاء والبراء المتعلق بهذه الآية ابن الوزير في إيثار الحق على الخلق، في المسألة الثامنة، وبعدما أورد الآيات والأحاديث في هذا قال: هذا كله في الحب الذي هو في القلب والمخالطة لأجل الدين؛ وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم عند أهل السنة. وأما المخالقة، والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك؛ فيستحب بذله لجميع الخلق. هو هنا يتكلم على قضية الموالاة لمن تكون فيقول: الموالاة التي هي بمعنى الحب الخالص في القلب والإخلاص الشديد في هذا الحب من أجل التوحد في الدين، ومن أجل وحدة العقيدة، فهذه الموالاة مختصة بالمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم، وأما المخالقة، أي: حسن الخلق، وتبادل المنافع، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك؛ فيستحب بذله لجميع الخلق، أي: أن الإنسان مطالب بحسن الخلق مع كل خلق الله، حتى مع الكافرين، وليس معنى حسن الخلق أنه يحبه بقلبه، بل لابد أن يبغضه بقلبه، لكن حسن الخلق في المعاملة وأداء الحقوق ونحو ذلك. يقول: وأما المخالقة، والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك؛ فيستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة، فلا يبذل للعدو في حال الحرب كما أشارت إليه الآية. أي: إذا كان الوضع كحالة الحرب فإنه لا يصلح أن تسلك هذه المسالك؛ لأنها في حالة الحرب تكون بمعنى التذلل للعدو، والمسلم لا يذل، وأما الشخص الذي لا يكون محارباً للمسلمين فإنه يتعامل معه معاملة حسنة، ولو كان كافراً، وأما المحارب الذي يحارب الله ورسوله، ويقاتل المسلمين فهذا لا يستحق هذه المعاملة، فالمعاملة بحسن الخلق ونحوه إنما تكون لمن لا يحاربوننا في الدين. قال: وإليه أشارت الآية الكريمة: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ [الممتحنة:8-9]. قال: أما التقية فتجوز للخائف من الظالمين القادرين. أي: لأنه قد يكون الإنسان ظالماً ولكنه لا يقدر على إنفاذ ظلمه، أما إذا كان ظالماً وقادراً على الأذية فهذا لك أن تتقي منه. قال: وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء: فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز، وهو المنافعة، وربما عبروا عنه بالمداهنة والمداراة والمخالقة، وما كان من أمر الدين فهو الرياء المحرم. ومن كلام الإمام يحيى بن المحسن في كتابه (الرسالة المخرسة لأهل المدرسة)، يقول: لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه؛ لأن كثيراً من أهل البيت عُرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك، فتولى الناصر الكثير منهم وصلى بهم الجمعة جعفر الصادق ، وصلى الحسن السبط على جنائزهم، وذكر المهدي أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي موالاة الكافر لكفره والعاصي لمعصيته ونحو ذلك. والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثرة: منها قول الله تعالى في الوالدين المشركين بالله: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15] فأمر الله سبحانه وتعالى ببر الوالدين وإن كانا مشركين، وقال عز وجل: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15] فانظر إلى هذين الوالدين: فهما مشركان، ويدعوان ولدهما إلى الإشراك، بل ويجاهدانه في سبيل الإشراك، ويبذلان أقصى ما في وسعهما لأجل فتنته عن دينه وإدخاله في الشرك، ومع ذلك يقول الله تعالى: (( فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ))، وقال تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة:8] إلى آخر الآية. وفي الحديث أنها نزلت في قتيلة أم أسماء بعد آيات التحريم، وسوف يأتي ذلك بالتفصيل.

    إشكال وجواب

    فإن قيل: قد دلّ القرآن على أن حاطباً أذنب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (( وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ )) فكيف يقبل ما ذكره من العذر؟ فالجواب: إنما قبل عذره في بقائه على الإيمان، وعدم موالاة المشركين لشركهم، أي: أن هذا الذي حصل ليس لمودة ومحبة وموالاة موجودة في قلبه، ولذلك خاطبه الله بالإيمان فقال: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) والعموم نص في سببه، فاتفق القرآن والحديث، وأما ذنبه فإنه لا يحل، فهو مثل ذنب فعله أحد الجيش بغير إذن أميرهم، قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء:83] إلى آخر الآية؛ ولأن تحريم مثل ذلك بغير إذن الأمير إجماع، ومع إذنه يجوز، فقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الحيل لحفظ المال، فلو كان مثل ذلك موالاة لم يأذن فيه صلى الله عليه وسلم، فدل على أن ذنب حاطب هو الكتم؛ لما فيه من الخيانة، فلو تجرد نفس الفعل من الكتم والخيانة لجاز، والله تعالى أعلم. ويضاف إلى الكتم والخيانة ما أفادته الآية من التودد بذلك إليهم، والمناصحة لهم، مما يشف عن كون الآتي بذلك متزلزلاً في عقله، مضطرباً في حقه، فيصبح عمله حجة على دينه، ويكون ذلك سبباً لافتتان المشركين المفسدين بصحيح الدين القويم، وهذا هو السر في هذا الأمر الخطير. أي: لأن المشركين يرون حاطباً وهو يفعل هذا، فيزيدهم ذلك فتنة بما هم عليه من الشرك، ويظنون أنه ترك دينه، أو أنه متشكك في دينه وعقيدته؛ فلذلك يواليهم، فهذا السلوك مما يزيدهم فتنة أو يكون سبباً لفتنتهم وإعجابهم بما هم عليه من الشرك، وذلك يبينه قوله تعالى: (( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا )).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه...)

    قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4]. ثم علم الله تعالى عباده المؤمنين التأسي بإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في البراءة من المشركين ومصارمتهم ومجانبتهم؛ فقال تبارك وتعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4]. قوله تعالى: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ )) أي: قدوة، (( حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ )) يعني: أتباعه الذين آمنوا معه، لكنها نزلت أساساً في حاطب ، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول: أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم وقومه، فتبرأت من أهلك كما تبرءوا هم من قومهم؟ وأتباع إبراهيم عليه السلام هم الذين آمنوا به، ولوط عليه السلام أيضاً. (( إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ )) أي: الذين أشركوا بالله وعبدوا الطاغوت، (( إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ )) برآء: جمع بريء، كظريف وظرفاء، (( إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ )) أي: بدينكم ومعبودكم، قال ابن جرير : أي أنكرنا ما أنتم عليه من الكفر بالله، وجحدنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله أن تكون حقاً. (( كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ )) فهذه غاية العداوة، فإذا آمنتم بالله وحده تنقلب المعاداة موالاة أي: لا صلح بيننا ولا مودة إلى أن تؤمنوا بالله وحده، أي: توحدوه وتفردوه بالعبادة. (( إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ )) هذا استثناء من قوله تعالى: (( أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )) يعني: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم إلا في قوله لأبيه: لأستغفرن لك، فليس لكم في ذلك أسوة؛ لأن ذلك كان من إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه قبل أن يتبين له أنه عدو لله، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. يقول تعالى ذكره: فكذلك أنتم -أيها المؤمنون بالله- تبرءوا من أعداء الله المشركين به، ولا تتخذوا منهم أولياء، وأظهروا لهم العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده. روي عن مجاهد أنه قال في الآية: نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم فيستغفروا للمشركين، وفي سورة التوبة بيان علة ذلك، وأن إبراهيم ما استغفر لأبيه إلا أنه وعده بذلك، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. فقوله تعالى: (( إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ )) يعني: لا تأتسوا به في ذلك. وهذا فيه دلالة على تفضيل نبينا على سائر الأنبياء؛ لأن الله سبحانه وتعالى حين أمرنا بالاقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم أمرنا به أمراً مطلقاً فقال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] ولم يستثن، وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثنى بعض أفعاله فقال: (( إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ )). وهناك قول آخر في الآية: وهو أن الاستثناء هنا منقطع، فتكون (إلا) بمعنى (لكن)، والمعنى: لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك إنما جرى لأنه ظن أنه أسلم، فلما تبين له أنه لم يسلم تبرأ منه، وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظن، فلِمَ توالونهم؟ فهل وجد حاطب ظن إسلام هؤلاء المشركين؟ ما وجد هذا الظن، فإذاً: لماذا والاهم، وأسر إليهم بهذا الكتاب؟ قوله: (( وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ )) أي: وما أدفع عنك من عقوبة الله شيئاً إن أراد عقابك، والجملة من تمام المستثنى، فهذا كله من قول إبراهيم عليه السلام، إلا أنه لا يلزم من استثناء المجموع استثناء عموم أفراده. أي: فكون الاستثناء يأتي على لفظة: (( لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ )) لا يعني الاستثناء أيضاً في قوله: (( وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ))، فلا يلزم من استثناء المجموع استثناء عموم الضمير، ولذلك قال الزمخشري : والقصد إلى موعد الاستغفار له، وما بعده مبني عليه وتابع له، كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار. انظر كيف فهم الزمخشري قوله تعالى: (( إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ )) فكأنه قال: سأستغفر لك، وما في طاقتي إلا الاستغفار، فعبر عن هذا المعنى الأخير بقوله: (( وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ )). قوله: (( رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا )) هذا مما يدل على أن هذا الدعاء من دعاء إبراهيم وأصحابه، وهو من جملة الأسوة الحسنة، وهو متصل بما قبل الاستثناء، يعني لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه (( إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ))، و(( رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ))، لكن اعترض السياق للاستثناء. وقيل: هو أمر منه تعالى للمؤمنين بأن يقولوا ذلك تسليماً لما وصاهم به من قطع الصلات المضرة بينهم وبين المحاربين لهم. ومعنى (إليك أنبنا) أي: رجعنا بالتوبة مما تكره إلى ما تحب وترضى. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في تتمة أضواء البيان: وقد بين تعالى هذا التأسي المطلوب وذلك بقوله: (( إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ )) فالتأسي هنا في ثلاثة أمور: أولاً: التبرؤ منهم ومما يعبدون من دون الله. ثانياً: الكفر بهم. ثالثاً: إبداء العداوة والبغضاء وإعلانها وإظهارها أبداً إلى الغاية المذكورة، أي: حتى يؤمنوا بالله، وهذه غاية في القطيعة بينهم وبين قومهم، وزيادة عليها إبداء العداوة والبغضاء أبداً، والسبب في ذلك هو الكفر، فإذا آمنوا بالله وحده انتفى كل ذلك بينهم. وموضع الأسوة إبراهيم والذين معه، بدليل العطف بينهما، فقوله تعالى في إبراهيم والذين معه: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ )) فقائل القول لقومهم: إبراهيم والذين مع إبراهيم، وهذا محل التأسي بهم فيما قالوه لقومهم، وقوله تعالى: (( إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ )) هو هذا القول من إبراهيم ليس من موضع التأسي، وموضع التأسي المطلوب بإبراهيم عليه السلام هو ما قاله مع قومه المتقدم، وهو ما فصله تعالى في موضع آخر في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27] وهذا معنى: لا إله إلا الله، وهو موضع الأسوة، وهذا التبرؤ جعله باقياً في عقبه كما قال تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف:28]. قوله: (( إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ )) لم يبين هنا سبب هذا الاستثناء، وقد بينه تعالى في موضع آخر في قوله: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114] تلك الموعدة التي كانت له عليه في بادئ دعوته حينما قال له أبوه: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:46-47] فكان قد وعده ووفى بعهده، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، فكان محل التأسي في إبراهيم في هذا التبرؤ من أبيه لما تبين له أنه عدو لله، فإذاً: يكون التأسي بإبراهيم هنا بأن نتبرأ من الكافر ولو كان أقرب الأقربين إذا ظهر منه أنه عدو لله. وقد جاء ما يدل على أنها قضية عامة وليست خاصة بإبراهيم عليه السلام، فقال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]. وفي هذا أقوى دليل على أن دين الإسلام ليس فيه تبعية لأحد، بل كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِم

    بعض ضلال النصارى

    أشير إشارة جزئية إلى ما يعتقده النصارى من أن آدم لما أكل من الشجرة فكان أثر هذه المعصية موروثاً في ذريته، وبنوا عليه أساطير في سبب الصلب، وأنه لتطهير البشرية من ذنب آدم! وهذا ضلال مبين، وعندهم أن أشد الأيام سواداً في حياة الإنسان هو يوم أن يولد، وأنه ملوث بخطيئة آدم بسبب أكله من الشجرة، ولذلك يعملون عملية التعميد؛ ليطهره من خطيئة آدم ويدخله في ملتهم، وعندهم بعض الكنائس لها أوقاف يدفن فيها الموتى، ويمنعون دفن أي ميت لم يتم تعميده. الشاهد: أن خطيئة آدم عليه السلام قد غفرت له قبل أن يهبط إلى الأرض، كما قال الله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيه [البقرة:37]، فزعم أن آدم نزل إلى الأرض ملوثاً بالخطيئة غير صحيح، وهذا من خرافاتهم وافترائهم على الله، فآدم عليه السلام طهر تماماً من الخطيئة، وشاء الله أن ينزل إلى الأرض لحكم جليلة وعظيمة، والخطيئة قد عفا الله عنها كما قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37]، ولا يوجد ميراث للخطيئة كما يزعم النصارى، حتى أنهم يعتقدون أن الأنبياء كانوا محبوسين في سجن جهنم قبل المسيح عليه السلام، لأنهم كانوا ملوثين بخطيئة آدم عليه السلام! وهذا من ضلالهم الذي اقتبسوه من عقائد الهندوس والوثنيين والفراعنة، أما عندنا في الإسلام فإن الرسول عليه الصلاة والسلام جعل ثواب بعض الأعمال الصالحة أن الإنسان يخرج منها بلا ذنب كيوم ولدته أمه، من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، والمسئولية في الإسلام مسئولية فردية، فكل إنسان يحاسب على عمله: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: ومن عجب أن يأتي نظير موقف إبراهيم من أبيه في مواقف مماثلة في أمم متعددة منها: موقف نوح عليه السلام من ابنه لما قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [هود:45] فلما تبين له أمره تركه أيضاً كما في قوله تعالى: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] وفي قراءة: (إنه عَمِل غيرَ صالح). وقوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ليس المراد بذلك: أنه من غير صلبه معاذ الله، بل المقصود ليس من أهلك المؤمنين، وأما من حيث النسب فهو ابنه من صلبه قطعاً، وكذلك قوله تعالى: فََخَانَتَاهُمَا [التحريم:10] فنُسبت الخيانة إلى امرأة نوح؛ لأنها لم تدخل معه في دين الإسلام ولم تتابعه على الإسلام، فهذه هي الخيانة، ولا يمكن أبداً أن تفجر زوجة نبي، فزوجات الأنبياء محفوظات من الفاحشة، فتجويز مثل هذا طعن في الله سبحانه وتعالى نفسه كما سبق أن بينا في سورة النور، ولذلك أنزل الله في قصة الافتراء ما أنزل، فزوجة نوح كانت كافرة، وزوجة لوط كانت كافرة، فالخيانة التي نسبها الله إليهما إنما هي خيانة في العقيدة وعدم الموافقة على الدين، وليست الخيانة المعروفة، فأبناؤهما من صلبيهما ولا شك في ذلك. وهذا مما يرينا خطورة قضية الولاء والبراء، فلما لم يتابعه على عقيدته قال الله له: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] فلما تبين له الأمر: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هود:47]، فكان موقف نوح من ولده كموقف إبراهيم من أبيه. ومنها: موقف نوح ولوط من أزواجهما كما قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [التحريم:10]. ومنها: موقف زوجة فرعون من فرعون في قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11] فتبرأت الزوجة من زوجها. فهذا التأسي قد بُيِّن تمام البيان في قول الله سبحانه وتعالى: (( لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))، وفي هذه الآية إشارة إلى أن قراباتك يا حاطب ! الذين ارتكبت من أجلهم هذه المخالفة لن يغنوا عنك شيئاً يوم القيامة، وإنما ستحاسب على فعلك أنت، فقوله: (( لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ )) أي: ولا آباؤكم ولا أحد من أقربائكم، (( يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ )) . وقول إبراهيم لأبيه: (( وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ )) بينه ما قدمنا من أن الإسلام ليس فيه تبعية كما في قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، وقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، وقوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، وقوله تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:19].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا...)

    قال تعالى: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الممتحنة:5]. قال مجاهد : قوله تعالى: (( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا )) أي: لا تعذبنا بأيديهم؛ لأن الفتنة تطلق على العذاب كقوله تعالى: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [الذاريات:14] يعني: عذابكم، فالمعنى: لا تعذبنا على أيدي الكفار، ولا بعذاب من عندك فيفتن الكفار ويقولون: لو كانوا على حق لما أنزل الله بهم العذاب، وكذا قال قتادة : لا تظهرهم علينا فيفتتنوا بذلك، ويرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه. ومآل هذا الدعاء هو التعوذ من مثل صنع حاطب مما يورث افتتان المشركين بالدين؛ إذ يكون ذلك مدعاة لقولهم: لو كان هؤلاء على حق، وما يزعمون به من الظفر بالحق، لما صانعنا مؤمنهم. إذاً: ما هم عليه أماني، فانتبهوا لهذا الفرق بين هذه الدعوة وبين غيرها من الدعوات، فهذا الدعاء حينما نفهمه ونفقهه يئول إلى التعوذ من مثل فعل حاطب ؛ لأن الذي فعله حاطب قد يكون من عواقبه وآثاره أن يصير سبباً لفتنة الذين كفروا فيقولون: لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه على حق، ولو كان الوعد الذي وعدوه من الغلبة والظفر حقاً؛ لما صانعنا هذا المؤمن ولما داهننا، ولما جاملنا، فيتمسكون بما هم عليه. ففي الآية معنى كبير، وتأديب عظيم، أي: ربنا لا تجعلنا نهمل من ديننا ما أمرنا به، أو نتساهل فيما عزم علينا منه، حتى لا تنحل بذلك قوتنا، ويتزلزل عمادنا، ويُفتح لعدو الدين الافتتان به؛ لأن المؤمنين إذا ما زالوا متمسكين بآداب الدين، ومحافظين عليها، وقائمين بها حق القيام، فإن النصر قائدهم، والظفر رائدهم، ولذلك أصبح المسلمون في القرون الأخيرة بحالهم السيئ حجة على دينهم أمام عدوهم، ولا مسترد لقوتهم، ولا مستعاد لمجدهم إلا بالرجوع إلى كتابهم، والعمل بآدابه، والمحافظة على أحكامه، ونبذ ما ألصق به مما يحرف كلمه، ويجافي حقيقته.

    تصرّف المسلمين السيئ وأثره على هذا الدين

    إن السلوك السيئ لبعض المسلمين قد يكون فتنة للذين كفروا، فتخيل مثلاً بعض الملوك أو الرؤساء الكفرة حينما يتعاملون مع عيّنة من الناس في حلبة السياسة، ويرونهم يبيعون أوطانهم، ويخونون شعوبهم، ومع ذلك ينتسبون للإسلام، فهل سيرغب هؤلاء في الإسلام؟!! وقد سبق أن تكلمنا في تفسير سورة النحل، عند قوله تبارك وتعالى: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. [النحل:94] إلى آخر الآية، أن قوله: (( وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ )) يعني: لا تخادعوا الناس، وتستغلوا اسم الله والحلف به، فتقول: والله العظيم هذا الشيء ما كسبت فيه كذا، ووالله سأكون خاسراً في البيعة الفلانية، أو يعقد عقداً ويغش ويخدع، والرجل يصدقه؛ لأنه حلف، ثم يكتشف بعد ذلك أنه ما انخدع إلا بسبب تصديقه له لما حلف، ويترتب على فعل ذلك أمران خطيران: الأول: أنكم بعد أن كنتم توصفون بالاستقامة سوف توصفون بالفسق والخروج عن طاعة الله: (( فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا )) أي: إذا انحرفتم عن الاستقامة وخادعتم الناس بالأيمان الكاذبة فحينئذ ستزل قدم بعد ثبوتها. الثانية: وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ يعني: أن هذا السلوك يترتب عليه فتنة الناس عن الدخول في الدين؛ لأنهم يقولون: لو كان ما هم عليه حقاً لزجرهم عن الغش، ولزجرهم قرآنهم عن الحلف بالله وهم كاذبون. فإذاً: هذا الأمر ليس أمراً سهلاً، بل فيه عذاب وفيه عقاب، فالسلوك الذي يترتب عليه فتنة الكفار عن الدخول في الدين تشويه لجمال الإسلام، وصد عن سبيل الله، فعلى فاعل ذلك إثم كبير، ووزر عظيم، ولذلك قال تعالى: وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فهذا لفت إلى خطورة أن نكون نحن فتنة للكفار بأن ننفرهم من الدين بسبب سوء سلوكنا. فهناك بلاد عظيمة جداً وتعدُّ أكبر بلاد العالم الإسلامي من حيث عدد السكان وهي إندونيسيا، وهي في شرق آسيا، وكل هذه المناطق دخل الملايين من أهلها في دين الله عز وجل، ولم تفتح بالسيوف ولا بالجهاد، بل فتحت عن طريق تجّار كانوا يخرجون للتجارة، وقد كانوا دعاة يتقمصون زي التجار، فكانوا يخرجون ويتعاملون مع هذه الشعوب معاملة حسنة، فكان أبناء تلك الشعوب ينبهرون جداً بخلق المسلمين، وبأمانة المسلمين، وبتقواهم لله سبحانه وتعالى، فكل هذه البلاد إنما فتحت بالأسوة الحسنة فقط، فلم تُفتح بسيف ولا بجهاد. وهذا الكلام قاله أناس ليسوا من المسلمين كصاحب كتاب: (دعوة الإسلام) واسمه أرنلد كونجي ، وهو بريطاني له باع كبير جداً في معرفة حقائق الدعوة الإسلامية، فكان مما قاله هذه العبارة: إن هؤلاء كانوا دعاة في زي تجار، وهم الذين فتحوا هذه البلاد بالدعوة فقط، ولم يرفعوا السيوف أمامهم قط!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة ...)

    لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الممتحنة:6] يقول الله تبارك وتعالى وهو يعيد الكلام في ذكر الأسوة: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فأسوة هنا: اسم كان، وهذا التأنيث جائز، بدليل أنه جاء في الآية التي قبلها: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ )) فكانت للتأنيث، أما هنا فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فهذا يدل على أن التأنيث جائز. (( لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ )) وإعراب (لِمَن) بدل من قوله تعالى: (لَكُمْ). وهذا الأمر بالتأسي بإبراهيم وأصحابه لمزيد الحث على التبرؤ من المشركين، فإن محبة المفسدين فيها تخريب لمباني الحق، وتوهين لقوى أهله، وتشكيك لضعفاء القلوب، مما يفسد عمل المصلحين، ويزلزل مساعيهم، ويفتن أعداءهم بهم، لذلك كان البغض في الله من شعب الإيمان، فإن الحق لا يقوى إلا باعتصام أهله على كلمته، ورمي أعدائه عن قوس واحدة، وفي إبدال: لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ من (لكم) دلالة على أنه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسي بهم، وأنّ ترْكه مؤذن بسوء العاقبة. إذاً: فمعنى ما سبق: أن من تورط وتلطخ بموالاة الكفار فإنه ليس ممن يؤمن بالله واليوم الآخر، فإن الذي يرجو الله واليوم الآخر ويؤمن بذلك، ويخاف الحساب، ويذكر الله، ويستقيم على دينه؛ يلزمه أن يبغض أعداء الله، ويتبرأ من الكفار، فإذا وقع ذلك من شخص فإنه يشير إلى سوء عقيدته، ومعنى ذلك أنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. ولذلك عقبه الله بقوله تبارك وتعالى: وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الممتحنة:6] أي: من يتول عما أمر به، ويوالي أعداء الله عز وجل، ويلقي إليهم بالمودة، فإنه لا يضر إلا نفسه، والله عز وجل غني عن إيمانه به وطاعته، وهو المحمود على كل حال. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: قوله تعالى: وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ التولي هنا الإعراض عن أوامر الله عموماً، ويحتمل أنه تولي الكفار وموالاتهم. وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). قال ابن عباس : غني: كمل في غناه، ومثله قوله تعالى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ [التغابن:6]، وقد جاء بيان استغناء الله عن طاعة الطائعين عموماً وخصوصاً: فجاء في خصوص الحج قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، فالله لا ينتفع بعبادة الناس، ولا يحتاج إليها. وجاء في العموم قوله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:8] لأن أعمال العباد لأنفسهم والله لا ينتفع بها شيئاً كما قال عز وجل: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:6]، وكما جاء أيضاً في الحديث القدسي الصحيح: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً). وقال تعالى مبيناً غناه المطلق: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [لقمان:26].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة...)

    يقول الله تبارك وتعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة:7]. هذا وعد من الله سبحانه وتعالى؛ لأن (عسى) في القرآن واجبة، وهي للترجي، وهي من الله واجبة الرجاء، فهذا وعد من الله، وقد أنجزه بأن أسلم كثير منهم بعد وصاروا لهم أولياء وأحزاباً، والآية من معجزات القرآن، لما فيها من الإخبار عن مغيب وقع مصداقه. (( وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) غفور لهمرحيم بهم بعدما أسلموا، فإن الإسلام يجب ما قبله. وقيل في تفسير ذلك: إن الضمير يعود إلى كفار مكة. وقيل: المودة هي تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فإنه لما تزوج الرسول عليه الصلاة والسلام أم حبيبة بنت أبي سفيان لانت عريكة أبي سفيان يعني: طبيعته ونخوته، واسترخت سكينته في العداوة حتى دخل هو نفسه في الإسلام. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: لم يبين هنا هل جعل المودة بالفعل بينهم وبين من عادوهم وأمروا بمقاطعتهم وعدم موالاتهم من ذوي أرحامهم أم لا؟ ولكن (عسى) من الله للتأكيد، يعني: أن (عسى) فيها فتح باب الرجاء والتأليف بأن يهدي الله منهم من يشاء، وهذه كأنها مكافأة من الله سبحانه وتعالى، أي: إن أنتم صارمتم وقطعتم وتبرأتم من هؤلاء مع كونهم من ذوي قرابتكم، فإن الله يكافئكم على ذلك أن يجعل بينكم وبينهم مودة. وقوله: (( وَاللَّهُ قَدِيرٌ )) تشعر بأن الله فاعل ذلك، وأن هذا الوعد سوف يتحقق، وقد جاء ما يدل على أنه فَعله كما في سورة النصر حين قال الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:1-2]، وقد فتح الله عليهم مكة وكانوا خلفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أسلم أبو سفيان وغيره، وجاء الوفود في عام الوفود إلى المدينة بعد الفتح. وقوله تعالى: (( وَاللَّهُ قَدِيرٌ )) يشعر بأن تأليف القلوب ومودتها إنما هو من قدرة الله تعالى وحده كما قال تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63]، ولأن المودة المتوقعة بسبب هداية الكفار لن تحصل حتى يؤمنوا بالله وحده، فلذلك يفهم من قوله تعالى: (( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً )) أن منهم من سيدخل في الإسلام، فيترتب عليه أن تكون بينكم وبينهم مودة بعد العداوة؛ لأن هذه العداوة نشأت أساساً بسبب الكفر، فلا يزيلها إلا أن يؤمنوا بالله وحده، فلذلك يفسر هنا قوله: (( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً )) بدخولهم في دين الإسلام؛ لأن الهداية منحة من الله كما قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756532967