إسلام ويب

تفسير سورة الرحمن [37-54]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

    انتهينا في تفسير سورة الرحمن إلى الآية السابعة والثلاثين، وهي قول الله تبارك وتعالى: فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:37-38]. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (( فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ )) أي: انفطرت فاختل نظامها العلوي. (( فَكَانَتْ وَرْدَةً )) أي: كلون الورد الأحمر. قوله: (( كَالدِّهَانِ )) أي: كالدهن الذي هو الزيت، كما قال تعالى في سورة المعارج: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [المعارج:8] وهو دردي الزيت، يعني: في لونها كدورة لصيرورتها إلى الفناء والزوال. ووجه تشبيهها بالدهن أو الدهان الذي هو الزيت في اللون المكدر وفي الذوبان كما قال تعالى: (( يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ )) أي: أن المهل هو دردي الزيت، فإذا كان هناك زيت في برميل مثلاً فيلاحظ أن الشوائب والقاذورات التي تخالطه تترسب في قرب القاع أو في الطبقة السفلى منه، فهذا هو الدردي الذي يترسب في الطبقة السفلى من الزيت ويسبب له نوعاً من الكدورة في لونه، ولذلك يضربون به المثل فيقولون: إذا كان أول الدن دردياً فماذا يكون بعد؟! والدن هو البرميل أو إناء الزيت، فمعنى المثل: إذا كان الدردي الذي هو العكر يوجد في أعلى الدن فما بالك بأسفل الطبقة كيف سيكون؟! وهو يشبه ما يعبر به العامة في قولهم: أول القصيدة كفر، يعني: إذا كان أول القصيدة كفر فماذا يكون بعد؟! وسياق قوله تعالى: (( فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ )) يدل على أن ذلك إنما يقع يوم القيامة، والقرينة على ذلك قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن:39]، فهذا مما يقوي أو يؤكد أن ذلك إنما يكون يوم القيامة كما هو في السياق، وخاصة أن هناك لهذه الآية نظائر في القرآن الكريم، كقوله تبارك وتعالى: وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ [الحاقة:16] يعني: يوم القيامة، وقال تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا [الفرقان:25]، وقال تبارك وتعالى: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [الانشقاق:1-2]، وقال تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1]، وهكذا. قوله: (( فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ )) سياق الآية أنها في يوم القيامة. نشرت وكالة ناسا الأمريكية حديثاً صوراً ملونة في غاية الروعة فيها انفجارات لنجوم، سواء لميلاد نجوم جديدة، أو انشقاق أو تفجر نجوم في الفضاء الفسيح البعيد جداً، وهي مصورة في أفلام حية متحركة بل فيها أصوات أيضاً لانشقاقات هذه النجوم، لكن العجيب جداً أن هذه الصور التي التقطت كثير منها فعلاً صورته تماماً كصورة الوردة الحمراء ذات الورق الأخضر، وكما قلنا فإن هذه الآية تذكر انشقاق السماء لكن هذا في الآخرة، وهذه الانشقاقات تقرب إلى أذهاننا أن النجوم حينما تنشق تعطي صورة الوردة كالدهان، وهذا مما يستأنس به، وإن كان السياق بكل وضوح إنما هو فيما سيحصل يوم القيامة بالأدلة التي ذكرناها. (( فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ )) يعني: السماء سوف تنشق يوم القيامة، وإذا انشقت صارت وردة كالدهان. (( وَرْدَةً )) يعني: حمراء كلون الورد. (( كَالدِّهَانِ )) فيه قولان معروفان للعلماء: الأول منهما: أن الدهان هو الجلد الأحمر، وعليه فالمعنى: أنها تصير وردة متصفة بلون الورد مشابهة للجلد الأحمر في لونه. القول الثاني: أن الدهان هو ما يدهن به من الألوان، وعليه فالدهان هو جمع دهن، وقيل: هو مفرد؛ لأن العرب تسمي ما يدهن به دهاناً وهو مفرد. والفرق بين القولين: على القول أن الله سبحانه وتعالى وصف السماء عند انشقاقها يوم القيامة بوصف واحد: وهو الحمرة، فشبهها بحمرة الورد، وحمرة الأديم، أي: الجلد الأحمر. قال بعض أهل العلم: إنها يصل إليها حر النار فتحمر من شدة الحرارة. وقال بعضهم: أصل السماء حمراء إلا أنها من شدة بعدها وما دونها من الحواجز لم تصل العيون إلى إدراك لونها الأحمر على حقيقته، وأنها يوم القيامة ترى على حقيقة لونها، فالله أعلم بذلك. أما القول: بأنها وردة كالدهان، يعني: الدهن الذي يدهن به، فإن الله قد وصف السماء عند انشقاقها بوصفين: أحدهما: حمرة لونها. الثاني: أنها تذوب وتصير مائعة كالدهن. فوجه الشبه بين السماء والدهان أنها تذوب وتصير مائعة سائلة كما هو الحال بالنسبة للدهون والزيوت، ووجه الشبه بينها وبين الوردة أنها حمراء، وكون السماء ستحمر يوم القيامة حتى تكون كلون الجلد الأحمر لم ترد ما يشير إلى ذلك في كتاب الله. أما القول بأنها تذوب وتصير مائعة فبينه قوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [المعارج:6-8] والمهل هو: الشيء الذائب، سواء قلنا: إنه دردي الزيت، أو قلنا: إنه الذائب من حديد أو نحاس أو نحوهما، وقد بين الله سبحانه وتعالى في سورة الكهف أن المهل شيء ذائب يشبه الماء شديد الحرارة، وذلك في قوله تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]. هناك قول بأن الوردة تشبيه بالفرس الكميت، فصارت وردة كفرس الورد، وهو نوع معين من الخيول أو البغال -كما فهمت من كلام المفسرين- تختلف ألوان جلده ما بين الشتاء والصيف والربيع وهكذا، وهذا مألوف في بعض الحيوانات مثل السحلية أو الحرباء فهي حيوانات تتلون. ويبدو أن العرب يعرفون هذا في نوع معين من الخيول أو الأفراس، فلذلك بعض المفسرين يقولون: فكانت وردة كالفرس الورد وهو الفرس الكميت الأحمر؛ لأن حمرته تتلون باختلاف الفصول، فتشتد حمرتها في فصل، وتميل إلى الصفرة في فصل، وإلى الغبرة في فصل آخر، فيكون المقصود تشبيه كون السماء عند انشقاقها من شدة أهوال القيامة تتلون بألوان مختلفة، وبعض المفسرين قالوا: إن هذا بعيد عن ظاهر الآية. كذلك هناك من قال: إنها تذهب وتجيء؛ لأن الألوان في الفرس الكميت تذهب وتجيء، فقالوا: أيضاً ألوانها تذهب وتجيء واستدلوا بقوله تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا [الطور:9] واستبعده بعض العلماء.

    أقول المفسرين في معنى قوله تعالى: (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان)

    نجمل كلام بعض المفسرين فيما يتعلق بتفسير هذه الآية الكريمة: (( فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ )). يقول الحافظ ابن كثير : (( فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ )) أي: تذوب كما يذوب الدردي والفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء. وقال القرطبي : الدهان: الدهن. والمعنى: أنها صارت في صفاء الدهن، على أساس أن الدهان جمع دهن. وقال سعيد بن جبير وقتادة : (( فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ))، يعني: حمراء اللون كالوردة. وقيل: تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، يعني: أنها تنشق ومع الانشقاق تذوب حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها. وقيل الدهان: الجلد الأحمر الصرف. وذوبان الشيء الصلب وتميعه هذا شيء نحن نراه ونلمسه في أشياء كثيرة، كما في بعض وسائل التعذيب البشعة حيث يضعون الإنسان داخل حمض الكبريتيك أو الهيدروكلوريك المركز فتجد هذا الإنسان يتبخر ويذوب تماماً، وفي الحديث إشارة إلى شيء قريب من هذا، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: (أن من آذى أهل المدينة أو روع أهل المدينة النبوية المباركة يذيبه الله سبحانه وتعالى كما يذاب الملح في الماء). إذاً: معنى قوله: (فكانت وردة كالدهان) : أنها تذوب مع انشقاقها حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها. وقيل: إن معنى قوله: (( فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ )) : كالجلد الأحمر الصرف، حيث تصير السماء حمراء كالأديم من شدة حر النار. وقيل إن معنى قوله: (( فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ )) : كانت كالفرس الورد، يقال: للكميت ورد إذا كان جلده يتلون بألوان مختلفة. وعن ابن عباس : (كالفرس الورد في الربيع كميت أصفر وفي أول الشتاء كميت أحمر، فإذا اشتد برد الشتاء كان كميتاً أغبر). ويعني هذا كله: أن السماء سوف تتلون كما يتلون الفرس الورد من الخيل. وقال الحسن : (( كَالدِّهَانِ )) كصب الدهن، فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً. ويحتمل أنه يقصد بذلك ألوان الطيف حينما تنعكس على بعض السوائل من زاوية معينة فتعطي ألواناً كثيرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

    فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:39-40]. قوله: (( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ )) أي: لا يفتح له باب المعذرة، كقوله تعالى: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات:36]، فهذا المقصود به: نفي سماع الاعتذار عن طريق التعبير، بأنهم لا يفتح لهم باب المعذرة، فهذا من باب نفي السبب لانتفاء المسبب، وأخذ كثير السؤال على حقيقته وهذا هو الظاهر، ونحن نرفض مثل هذا المجاز نقول بأن الكلام يكون على حقيقته (( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ )). فإذا قلنا: إن السؤال على حقيقته -وهذا هو الراجح وهذا هو الصحيح وظاهر القرآن الكريم- فإننا نحتاج حينئذ أن نجمع بين ما قد يعارضه في الظاهر وليس هناك معارضة حقيقة. قال القاشاني : وأما الوقف والسؤال المشار إليه في قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24]، فهذا في الظاهر يتعارض مع قوله: (( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ ))، له نظائر سوف نذكرها. يقول: ففي مواطن أخرى من اليوم الطويل الذي كان مقداره خمسين ألف سنة أحوال متغايرة وليست متعارضة، وإنما في وقت من الأوقات وفي حال من الأحوال لا يسألون وفي أحوال أخرى يسألون، وقد يكون هذا الموطن قبل الموطن الأول في ذلك اليوم وقد يكون بعده. يعني: قد يكون السؤال أولاً ثم بعد ذلك لا يكون هناك سؤال. وكذا قال ابن كثير رحمه الله تعالى: إن هذه الآية كقوله تعالى: هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات:35-36]، فهذا في حال، وثم حال يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم، كما قال الله سبحانه وتعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93] . وفي الآية تأويل آخر قال مجاهد : لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم حينما يستقرون في النار، أو حينما يكونون على وشك أن يقذفوا في النار. يعني: أن الملائكة لا تحتاج إلى أن تسألهم عن ذنوبهم، وإنما تعرفهم حين تأخذهم وتلقيهم في جهنم؛ لأن لهم سيما وعلامات معروفة سوف نبينها، فهذا تفسير آخر. قوله: (( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ )) مبني للمجهول، يعني: احتمال ألا تسأل الملائكة المجرمين وإنما يعرفونهم بسيماهم. ومما يرسخ هذا القول الآية التي تليها مباشرة: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ [الرحمن:41] يعني: تعرفهم الملائكة باسوداد الوجوه وزرقة العيون ونحو ذلك. (( فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ )) يعني: كي يلقوا ويرموا في نار جهنم.

    كلام ابن القيم في السؤال المنفي في قوله: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه ..) والجمع بين الأقوال فيها.

    قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في طريق الهجرتين: اختلف في هذا السؤال المنفي الذي في قوله: (( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ )) فقيل: هو وقت البعث والمصير إلى الموقف، لا يسألون حينئذ في بداية البعث والتحرك إلى موقف العرض الأكبر، وفي حال أخرى يسألون بعد إطالة الوقوف واستشفاعهم إلى الله سبحانه وتعالى أن يحاسبهم ويريحهم من مقامهم ذلك. وقيل: المنفي هو سؤال الاستعلام والاستخبار، أي: لا يسألون سؤال استعلام واستخبار؛ لأن الله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم، وإنما هو سؤال التوبيخ والتقريع كما سنبين إن شاء الله تعالى. إذاً: المنفي سؤال الاستعلام والاستخبار لا سؤال المحاسبة والمجازاة، أي: قد علم الله ذنوبهم، فلا يسألهم عنها سؤال من يريد علمها وإنما يحاسبهم عليها. يقول قتادة رحمه الله تعالى: قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. يعني: حصل السؤال في مرحلة معينة ثم بعد ذلك: (( لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ )) لأنه يختم على الأفواه وتتكلم الأيدي والأرجل بما كانوا يعملون، وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة لا يسأل إنساً ولا جاناً عن ذنبه؛ لأن يوم القيامة مواطن وأحوال، وهو يوم طويل جداً، فيسأل في حال ولا يسأل في حال أخرى، وقد بين هذا المعنى في قوله تبارك وتعالى في سورة القصص: وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78]، قال ابن كثير : هذا في حال وثم حال يسأل الخلائق فيها عن جميع أعمالهم. وذكر جل وعلا في آيات أخر أنه يسأل جميع الناس يوم القيامة، فيسأل الرسل والمرسل إليهم، كما في قوله عز وجل: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]، وقال تبارك وتعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92-93]. نلاحظ هنا ملاحظة دقيقة جداً وهي: أنه في حالة النفي قال الله تبارك وتعالى: (( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ )) فالسؤال هنا المنفي قيد بأن يكون سؤالاً عن الذنب فقط، كذلك في الآية الأخرى في قوله تبارك وتعالى: (( وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ )) فإذاً: هذا يمهد لجواب آخر في الجمع بين هذه الآيات، فجاءت آيات تدل على أن الجميع سوف يسألون: (( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ))، وقال تبارك وتعالى: (( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ )) * (( عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) وهذه تعم كل شيء، وقد جاءت آيات أخرى مبينة لوجه الجمع بين هذه الآيات، التي قد يظن غير العالم أن بينها اختلافاً.

    كلام الشنقيطي في الجمع بين قوله: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه ...) وغيرها من الآيات التي تثبت السؤال

    يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أولاً أن السؤال المنفي في قوله هنا: (( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ ))، وقوله: (( وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ )) هذا السؤال أخص من السؤال المثبت في قوله: (( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ )) * (( عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))؛ لأن هذه فيها تعميم السؤال في كل عمل، والآيتان قبلها ليس فيهما نفي السؤال إلا عن الذنوب خاصة. وللجمع بين هذه الآيات أوجه معروفة عند العلماء: الأول منها -وهو الذي دل عليه القرآن الكريم، وهو محل الشاهد عندنا من بيان القرآن بالقرآن هنا- هو: أن السؤال نوعان: أحدهما: سؤال التوبيخ والتقريع، وهو من أنواع العذاب. والثاني: هو سؤال الاستخبار والاستعلام. فالسؤال المنفي في بعض الآيات هو سؤال الاستخبار والاستعلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلم بأفعالهم منهم أنفسهم، كما قال عز وجل: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]. يعني: أن العبد نفسه ينسى معاصيه، فإذا واجه الحساب يوم القيامة يكون قد نسيها، لكن الله سبحانه وتعالى أحصاها عليه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (لا يسألهم: هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا؟). ثم يقول الشنقيطي رحمه الله: وعليه فالمعنى: (( لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ )) سؤال استخبار واستعلام؛ لأنه أعلم بذنبه منه. والسؤال المثبت في الآيات الأخرى هو سؤال التوبيخ والتقريع، سواء كان عن ذنب أو عن غير ذنب، ومثال سؤالهم عن الذنوب سؤال توبيخ وتقريع قول الله سبحانه وتعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران:106]. ومثاله عن غير ذنب قول الله تبارك وتعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات:24-26] وقوله تبارك وتعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [الطور:13-15] وقوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130]. أما سؤال الموءودة في قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [التكوير:8] فلا يعارض الآيات النافية السؤال عن الذنب؛ لأنها سئلت عن أي ذنب قتلت. وهذا ليس من ذنبها، والمراد بسؤالها توبيخ قاتلها وتقريعه؛ لأنها هي تقول: لا ذنب لي، فيرجع اللوم على من قتلها ظلماً. وكذلك سؤال الرسل فإن المراد به توبيخ من كذبهم وتقريعه، مع إقامة الحجة عليه بأن الرسل قد بلغته. يعني: سوف يقع في يوم القيامة سؤال الرسل، وهذا لا مانع من وقوعه؛ لأنه ليس عن ذنب فعلوه؛ ولأن المنفي هو خصوص السؤال عن ذنب: (( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ ))، وقال في الآية الأخرى: (( وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ))، فالنهي هو عن الذنب بالذات، أما الرسل فإنهم يسألون كما في قوله تبارك وتعالى: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب:8]، ومن ذلك سؤال الله سبحانه وتعالى المسيح عليه السلام: أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ [المائدة:116]، إلى قوله تبارك وتعالى: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]. هناك أوجه أخرى للجمع بين هذه الآيات ربما مررنا على معظمها، لكن العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى يقول هنا: وباقي أوجه الجمع بين الآيات لا يدل عليه قرآن، وموضوع هذا الكتاب -أي: كتاب أضواء البيان- بيان القرآن بالقرآن. فهذه لفتة مهمة جداً حتى نعرف أن هذا الكتاب المبارك مختص بتفسير القرآن بالقرآن أساساً، ولذلك من لم يفهم عنوان الكتاب (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) يظن أنه كتاب شامل لتفسير جميع آيات القرآن الكريم بينما هو يتعرض فقط للآيات التي شرحت بآيات أخرى، أي: تفسير القرآن بالقرآن الكريم. هناك تفسير آخر لقوله: (( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ )) يعني: لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم، وإنما كل إنسان يسأل عما فعل. يقول مجاهد في تفسير هذه الآية: (( لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ )): لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم بدليل ما بعدها وهي قوله تعالى: (( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ )). قال بعض المفسرين: إن هذا بعدما يؤمر بهم إلى النار، فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم، بل يقادون إليها ويلقون فيها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم ... فبأي آلاء ربكما تكذبان)

    يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:41-42]. قوله: (( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ )). (سيما) أي: علامة، ولذلك حتى أصحاب الأعراف يعرفون كلاً من الفريقين بهذه السيما، كما قال الله تبارك وتعالى: يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ [الأعراف:46] يعني: كلاً من أهل الجنة وأهل النار، كذلك قوله: (( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُم )) يعني: بعلامات تظهر عليهم. ولقد أوضح القرآن الكريم هذه العلامات كما في قول الله تبارك وتعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، فالكفار تكون وجوههم سوداء، كذلك عيونهم تكون زرقاء: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه:102] يعني: أن العين تكون زرقاء حتى البياض فيها، فهذا هو المقصود وليس الصفة التي تكون عليها الناس في الدنيا. ومن هذه السيما: الغبرة والقترة في وجوههم، كما يقول الله تبارك وتعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس:40-41]، فهذه كلها من السيما ومن العلامات التي يعرف بها المجرمون، فتأخذهم الملائكة ويلقونهم في جهنم. كما يعرف المؤمنون أيضاً بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء، قال الله تبارك وتعالى في وصف المتقين: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:24]، وقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22]. قوله: (( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ )) يقول القاسمي : أي: بما يعلوهم من الكآبة والحزن والذلة. وقيل: بسواد الوجوه وزرقة العيون. (( فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ )) يعني: فتأخذهم الزبانية بنواصيهم وأقدامهم فتسحبهم إلى جهنم وتقذفهم فيها، والباء للآلة، كأخذت بالخطام، أو للتعدية، والناصية: مقدم شعر الرأس. وفيه بيان لكيفية إلقائهم في النار والعياذ بالله، حيث تجمع الزبانية ناصيته مع قدميه، حتى قال بعض المفسرين: إن الأمر ليس كما نتصوره نحن أنه يجمع الناصية مع القدم من الأمام بل تجمع الناصية مع القدم من الخلف حتى تتكسر عظامه والعياذ بالله. أي: تجمع الزبانية ناصيته مع قدميه ويلقونه في النار كذلك، وقيل: يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين ناصيته حتى يندق ظهره ثم يلقى في النار.

    تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم ...)

    يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله: (( بِسِيمَاهُمْ )) أي: بعلامتهم المميزة لهم، وقد دل القرآن على أنها هي سواد وجوههم وزرقة عيونهم، كما قال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران:106] الآية. وقال تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر:60]، وقال تعالى: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:27]، وقال تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس:40-42]؛ لأن معنى قوله: (ترهقها قترة) : يعلوها ويغشاها سواد كالدخان الأسود. وقال تعالى في زرقة عيونهم: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه:102]، ولا شيء أقبح وأشوه من سواد الوجوه وزرقة العيون؛ ولذا لما أراد الشاعر أن يقبح علل البخيل بأسوأ الأوصاف وأقبحها وصفها بسواد الوجوه وزرقة العيون حيث قال: وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود ولاسيما إذا اجتمع مع سواد الوجه اغبراره، كما في قوله: عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس:40-41] فإن ذلك يزيده قبحاً على قبح. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (( فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ )) قد قدمنا تفسيرها في الكلام على قوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور:13] قيل: تسحبهم الملائكة إلى النار، وفي قول آخر: تارة تأخذ بناصيته، أي: بمقدم شعر الرأس ثم تجره في النار على وجهه، وتارة تأخذ بقدميه وتسحبه على رأسه، والظاهر هو ما ذكرناه آنفاً من أنه تجمع النواصي إلى الأقدام ثم يلقى في النار أعاذنا الله وإياكم منها. (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))، كما قلنا في صدر السورة: إذا ذكر قوله تبارك وتعالى: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) فيراد بها تقرير العباد بامتنان الله عليهم بما سبق ذكره قبل هذه الآية الكريمة من النعم. وفي بعض المواضع التي قد لا يظهر فيها معنى الامتنان بالنعمة وبالآلاء نحتاج إلى أن نتدبر ونتفكر حتى نعرف وجه الامتنان في قوله: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))، نقول: بعد أن وصف سبحانه أحوال أهل العذاب وأهل الجحيم وأهوال القيامة وعقاب المجرمين، تبين لنا أن هذا من رحمة الله بنا، وأن هذا من أعظم النعم؛ لأنه حذرنا من المعاصي كي لا نقع فيما نستحق به هذا العذاب، هذا هو وجه النعمة. فإذاً: النعمة فيما وصف من أهوال القيامة وعقاب المجرمين ما في ذلك من الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات، ولذلك يقول بعض المفسرين: ولما كان معاقبة العصاة المجرمين وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه، وكان إنذاره لهم عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك، قال تعالى ممتناً بذلك على بريته: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) أي: من عقوبته أهل الكفر به وتكريمه أهل الإيمان به.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون ... فبأي آلاء ربكما تكذبان)

    قال الله تبارك وتعالى: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:43-45]. قوله: (( هَذِهِ جَهَنَّمُ )) يعني: يقال لهم توبيخاً وتقريعاً وتحقيراً وتصغيراً: (( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ )) أي: هذه النار التي كان يكذب بها المجرمون في الدنيا، أما في الآخرة لا يكذبون بها، فيوبخهم الله قائلاً: أَفَسِحْرٌ هَذَا [الطور:15] أي: أهذا الذي كنتم تقولون عليه: سحر وكهانة؟ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا [الطور:15-16]. وقال تبارك وتعالى هنا: (( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ )) يعني: النار التي كنتم تكذبون بوجودها ها هي حاضرة تشاهدونها عياناً. (( يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ )) الحميم هو الماء الحار، والحميم أخذ منه كلمة الحمام؛ لأنه يكون فيه الماء المسخن. أما قوله: (( آنٍ )) أي: انتهى حره واشتد غليانه، حتى إنه لا يستطاع من شدة حرارته. وقال بعض المفسرين: (حميم آن) يعني: حميم حاضر، وفي الحقيقة لا تعارض بين وصفه بأنه حار شديد الحرارة انتهى غليانه إلى أقصى ما يصل إليه من الحرارة، وفي نفس الوقت كونه حاضراً. ومما يدل على كونه حاراً قوله تبارك وتعالى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5] يعني: التي اشتدت حرارتها جداً. ومما يدل على كونه حاضراً قول الله تبارك وتعالى: غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ [الأحزاب:53] يعني: إدراكه وبلوغه واستواءه ونضوجه. قوله: (( يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ )) أي: تراهم يسعون بين عذاب الجحيم وبين الحميم، فإذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الشديد الحرارة، كما في قوله تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، فهم ما بين هذا أو ذاك. وقال تبارك وتعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج:19-20]، وهذه الآية مثل قول الله تبارك وتعالى: إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:71-72]. فهذا مما يوضح معنى قوله تعالى: (( يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ )) يعني: تارة في الجحيم وتارة والعياذ بالله يسقون من الحميم، وهو شراب كالنحاس المذاب يقطع الأمعاء والأحشاء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

    وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:46-47]. قوله: (( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ))، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أي: قيامه عند ربه للحساب. (( مَقَامَ )) هنا مصدر بمعنى القيام. إذاً: فمعنى (( مَقَامَ رَبِّهِ )) : قيام الشخص ووقوفه بين يدي الله للحساب، فحينما خاف مقام ربه للحساب ترتب على ذلك أنه في الدنيا أطاعه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. فإذاً: إذا كان المقصود مقام العبد أمام ربه للحساب يوم القيامة، فلماذا أضيف للرب؟ أضيف للرب لأنه سوف يكون عند الله سبحانه وتعالى وأمام الله، وهذا كقول العرب: ناقة رقود الحل، يعني: رقود عند الحل. تفسير آخر لقوله تعالى: (( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ )) أي: موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب، وذلك لاختصاص الملك يومئذ بالله تعالى، أو هو كناية عن خوف مقام الرب، بمعنى: من حصل له الخوف من مكان أحد يهابه وإن لم يكن فيه، فخوفه بطريق الأولى، يعني: لو أن شخصاً يحصل له الخوف إذا رأى المكان الذي يجلس عليه القاضي أو الملك أو كذا، فيهاب المكان حتى وإن لم يكن جالساً عليه، فلا شك أنه لو كان جالساً عليه فسيكون خوفه أشد بطريق الأولى.

    تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه ...)

    يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: (( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ )): قد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد يكون فيها وجهان صحيحان كلاهما يشهد له القرآن، فنذكر ذلك كله مبينين أنه كله حق، من ذلك هذه الآية الكريمة. وإيضاح ذلك أن هذه الآية الكريمة فيها وجهان معروفان عند العلماء كلاهما يشهد له قرآن: أحدهما: أن المراد بقوله: (( مَقَامَ رَبِّهِ )) أي: قيامه بين يدي ربه، فالمقام اسم مصدر بمعنى القيام، وفاعله على هذا الوجه هو العبد الخائف، وإنما أضيف إلى الرب لوقوعه بين يديه، وهذا الوجه يشهد له قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] فقوله: (( وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى )) قرينة دالة على أنه خاف عاقبة الذنب حين يقوم بين يدي ربه، فنهى نفسه عن هواها. والوجه الثاني: أن فاعل المصدر الميمي الذي هو المقام هو الله تبارك وتعالى، أي: خاف هذا العبد قيام الله عليه، ومراقبته لأعماله وإحصاءها عليه، ويدل لهذا الوجه الآيات الدالة على قيام الله على جميع خلقه وإحصائه عليهم أعمالهم، كقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، وقوله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الرعد:33]، وقوله تبارك وتعالى: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61] الآية. إلى غير ذلك من الآيات. وعلى هذا التفسير فإن الإنسان إذا هم بمعصية فذكر أن الله سبحانه وتعالى يراقبه، وأن الله عز وجل مطلع عليه وقائم عليه فيترك المعصية خوفاً من الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية دليل على مسألة فقهية أفتى بها سفيان الثوري وهي: أن من قال لزوجته: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق، فإنه لا يحنث؛ لأنه لو هم بمعصية في يوم من الأيام وتركها استحياء من اطلاع الله سبحانه وتعالى عليه وخوفاً من الله فلا تطلق زوجته ولا يحنث في يمينه. ثم يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وقد قدمنا في سورة الأحقاف في الكلام على قوله تبارك وتعالى في شأن الجن: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31]، أن قوله تبارك وتعالى: (( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ))، وتصريحه بالامتنان بذلك على الإنس والجن في قوله: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))، نص قرآني على أن المؤمنين الخائفين مقام ربهم من الجن يدخلون الجنة.

    أقوال العلماء والمفسرين في قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه ...)

    قيل في هذه الآية أقوال: منها: أنها نزلت في أبي بكر الصديق . وقيل: نزلت في الرجل الذي قال: (أحرقوني بالنار لعلي أضل الله) يعني: أفوته ويخفى عليه مكاني. والصحيح أن الآية عامة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) رواه البخاري . وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذه الآية عامة في الجن والإنس، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا، ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء، فقال: (( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ )) * (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))، فقوله: (ربكما) أي: الإنس والجن.

    ترجيح ابن القيم بين الأقوال في قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه ...)

    وللإمام ابن القيم كلام قيم جداً في الترجيح بين القولين اللذين ذكرناهما في تفسير الآية: (( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ))، هل هي ولمن خاف مقامه بين يدي الله يوم القيامة للحساب، أو ولمن خاف قيام الله عليه وشهوده واطلاعه على أعماله في الدنيا، فيتقي منه ويترك المعصية. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى مرجحاً أن المعنى: ولمن خاف مقامه بين يدي ربه في الحساب يوم القيامة. أي: أن الإنسان يهم بالمعصية فيتذكر أنه واقف بين يدي الله يوم القيامة وأنه محاسب فينزجر عنها، هذا الذي يرجحه ابن القيم وترجيحه هذا لوجوه: الأول: أن طريقة القرآن في التخويف أن يخوفهم بالله واليوم الآخر، فإذا خوفهم به علق الخوف به لا بقيامه عليهم، كقوله تعالى: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقال تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:8]، وقوله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12]، ففي هذا كله لم يذكر خشية مقامه عليهم، وإنما مدحهم بخوفه عز وجل وخشيته، وقد يذكر الخوف متعلقاً بعذابه، كقوله تعالى: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57]، وأما خوف مقامه عليهم فهو وإن كان كذلك فليس طريقة القرآن. الثاني: أن هذا نظير قوله تعالى: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ [الأنعام:51]، فخوفهم أن يحشروا إليه هو خوفهم من مقامهم بين يديه، والقرآن يفسر بعضه بعضاً فقوله: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ [الأنعام:51]، معناها: (( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ )) يعني: من خاف مقام ربه للحساب بين يدي الله بعد الحشر. الثالث: أن خوف مقام العبد بين يدي ربه في الآخرة لا يكون إلا ممن يؤمن بلقائه وباليوم الآخر وبالبعث بعد الموت، وهذا هو الذي يستحق الجنتين المذكورتين، فإنه لا يؤمن بذلك حق الإيمان إلا من آمن بالرسل، وهو من الإيمان بالغيب الذي جاءت به الرسل، وأما مقام الله على عبده الدنيا واطلاعه عليه وقدرته عليه على القول الثاني فهذا يقر به المؤمن والكافر والبر والفاجر، وأكثر الكفار يخافون جزاء الله لهم في الدنيا لما عاينوه من مجازاة الظالم بظلمه، والمحسن بإحسانه، وأما مقام العبد بين يدي ربه في الآخرة فلا يؤمن به إلا المؤمن بالرسل. فإن قيل: إذا كان المعنى أنه خاف مقام ربه عليه في الآخرة فقد استوى التقديران، فمن أين رجحتم أحدهما؟ قيل: التخويف من مقام العبد بين يدي ربه أبلغ من التخويف بمقام الرب على العبد؛ ولهذا خوفنا الله سبحانه وتعالى بقوله: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]؛ لأنه مقام مخصوص مضاف إلى الله تبارك وتعالى وذلك في يوم القيامة، بخلاف مقام الله على العبد فإنه في كل وقت. وأيضاً: فإنه لا يقال لقدرة الله على العبد واطلاعه عليه وعلمه به: مقام الله، ولا هذا من المألوف إطلاقه على الرب. وأيضاً: فإن المقام في القرآن والسنة إنما يطلق على المكان كقوله: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، وقوله تعالى: خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم:73].

    أوجه دخول الجن مع الإنس في التكليف والثواب والعقاب

    قوله تبارك وتعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ يتناول الصنفين من وجوه، تقدم منها وجهان. يعني: أنه يشمل الجن ويشمل الإنس؛ لأن أساس السياق كان في إثبات أن الجن مكلفون كالإنس، ويترتب على أعمالهم الثواب والعقاب، فمحسنهم في الجنة كما أن مسيئهم في النار، قال الله تعالى حكاية عن المؤمنين من الجن: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا [الجن:13]، وبهذه الحجة احتج البخاري . قوله: (( فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا )) البخس هو: نقصان الثواب، والرهق هو: الزيادة في العقوبة على ما عمل، فلا ينقص من ثواب حسناته ولا يزاد في سيئاته، وهذا مثل قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112] أي: لا تزاد سيئاته عما عمل ولا تنقص حسناته عما عمل ولا ينقص ثوابها. وقال تعالى: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا )) يعني: يا معشر الجن والإنس! (( تُكَذِّبَانِ )) ثم ذكر ما في الجنتين إلى أن قال: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، فهذا يدل على أن محسنهم -أي: الجن- في الجنة؛ لأن قوله تعالى: (( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ )) يعني: إنس من أهل الجنة ولا جن من أهل الجنة. فقوله: (( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ )) هذه صفة عموم، فتتناول كل من خاف مقام ربه سواء كان من الجن أو الإنس. كذلك رتب الجزاء المذكور على خوف مقامه، فكل من أتى بالشرط ينال الجزاء، أي: فكل من خاف مقام الله فإنه يكون له جنتان سواء كان من الجن أو من الإنس. لقد استطرد ابن القيم في المقصود بقوله: (( مَقَامَ رَبِّهِ )) ثم عاد إلى المسألة الأصلية التي كان يتكلم فيها فقال أيضاً: قول الله سبحانه وتعالى عقب هذا الوعد: (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )) أيضاً يدل على ذلك. وأيضاً: وصف نساء أهل الجنة بقوله: (( لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ )) يعني: لم يطمث نساء الإنس إنس قبلهم، ولا نساء الجن جن قبلهم. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30]، وهذا يشمل الجن أيضاً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث للثقلين، ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [الكهف:31] وأمثال هذا من العمومات، وقد ثبت أن منهم المؤمنين فيدخلون في العموم كما أن كافرهم يدخل في الكافرين المستحقين للوعيد، ودخول مؤمنهم في آيات الوعد أولى من دخول كافرهم في آيات الوعيد، فإن الوعد فضله والوعيد عدله، وفضله من رحمته وهي التي تغلب غضبه. وأيضاً: فإن دخول عاصيهم النار إنما كان لمخالفته أمر الله، فإذا أطاع الله دخل الجنة. وأيضاً: فإنه لا دار للمكلفين سوى الجنة والنار، وكل من لم يدخل النار من المكلفين فالجنة مثواه. وأيضاً: ثبت أنهم إذا أجابوا داعي الله غفر لهم وأجارهم من عذابه، وكل من غفر الله له دخل الجنة ولابد، وليس فائدة المغفرة إلا الفوز بالجنة والنجاة من النار. وأيضاً: ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهم وأنهم مكلفون باتباعه، وأن مطيعهم لله ورسوله مع الذين أنعم الله عليهم كما في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.. [النساء:69]، إلى آخر الآية. وأخبر الله سبحانه وتعالى عن ملائكته حملة العرش ومن حوله أنهم يستغفرون للذين آمنوا، سواء من الجن أو الإنس، وأنهم يقولون: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم [غافر:7-8]، فدل على أن كل مؤمن غفر الله له ووقاه عذاب الجحيم فقد وعده الجنة، وقد ثبت في حق مؤمنهم الإيمان ومغفرة الذنب ووقاية النار كما تقدم فتعين دخولهم الجنة. قوله: (( جَنَّتَانِ )) يقول القاسمي : أي: جنة لمن أطاع من الإنس وجنة لمن أطاع من الجن، أو هو كناية عن مضاعفة الثواب وإيثار التثنية للفاصلة، وهذا كلام فيه نظر، لكن الصحيح والأظهر في تفسير الآية: (( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ )) يعني: جنتان كل على حدة، فلكل خائف جنتان. كما لا يصح في قول الله تبارك وتعالى: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30] أن يقال: هم عشرون، لكن لأجل الفاصلة قال: هم تسعة عشر، هذا لا يجوز أبداً وما ينبغي.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذواتا أفنان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

    ثم لقد شرع عز وجل في وصف هاتين الجنتين فقال تبارك وتعالى: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:48-49]. يقول القاسمي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: (ذواتا أفنان) أي: أنواع من الأشجار والثمار على أساس أن أفناناً جمع فن بمعنى النوع، أو (( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ )) أي: أغصان لينة جمع فنن وهو ما دق ولان من الغصن. إذاً: قوله: (( أَفْنَانٍ )) إما جمع فن، وإما جمع فنن، ومن قال: جمع فن فهو على أساس أن الفن يحتوي على النوع، أي: ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، ومن قال: جمع فنن فهو على أساس أن الفنن هو ما دق ولان من الغصن. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: (( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ )) أي: أغصان نضرة حسنة، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة، (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ))، هكذا قال عطاء الخرساني وجماعة أن الأفنان أغصان الشجر يمس بعضها بعضاً. قال مجاهد الأفنان: الأغصان واحدها فنن. والأفنان هذه كلمة يحبها الشعراء جداً، وتراهم يأتون بكلمة الأفنان بمعنى الأغصان، يقول إقبال : والطير صادحة على أفنانها. يعني: على أغصانها. ويقول النابغة : أسائلها وقد سفحت دموعي كأن مفيضهن غروب شن بكاء حمامة تدعو هديلاً مفجعة على فنن تغني قوله: (بكاء حمامة) يعني: أبكي بكاء حمامة. وقال آخر يصف طائرين: باتا على غصن بانٍ في ذرى فنن يرددان لحوناً ذات ألوان (يرددان لحوناً) أي: لغات ذات ألوان. ويقول الشاعر أيضاً: ما هاج شوقك من هديل حمامة تدعو على فنن الغصون حماما تدعو أبا فرخين صادف طاوياً ذا مخلبين من الصقور قطاما فخلاصة الكلام: أن الأفنان هي الأغصان. وقيل أيضاً: الأفنان ظل الأغصان على الحيطان. وقيل: (( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ )) ذواتا ألوان، يعني: أن فيهما فنوناً من الملاذ. وقال عطاء : كل غصن يجمع فنوناً من الفاكهة. يعني: الغصن الواحد يكون فيه ثمار وألوان كثيرة جداً من الفاكهة، ليس مثل الدنيا يكون في الغصن ثمرة واحدة من نوع واحد. وقال الربيع بن أنس : (( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ )) يعني: واسعتا الفناء. يقول ابن كثير : وكل هذه الأقوال صحيحة ولا منافاة بينها، والله أعلم. وقال قتادة : (( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ )) يعني: بسعتها وفضلها ومزيتها على ما سواها. وروي عن أسماء قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر سدرة المنتهى فقال: يسير في ظل الفنن منها الراكب مائة سنة، أو قال: يستظل في ظل الفنن منها مائة راكب، فيها فراش الذهب، كأن ثمرها القلال).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فيهما عينان تجريان ... فبأي آلاء ربكما تكذبان)

    قال تبارك وتعالى: فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:50-53]. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: (( فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ )) أي: تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان. (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )). قال الحسن : إحداهما يقال لها: تسنيم، والأخرى السلسبيل، وقال عطية : إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، ولهذا قال بعدها : (( فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ )). يعني: صنفان وكلاهما حلو يستلذ به.

    التفاوت بين الجنتين الأوليين والجنتين الأخريين

    إن الجنتين اللتين توصفان الآن هنا أعلى من الأخريين، فلما تتأمل ستجد أن هاتين الجنتين هما للمقربين، أما الأخريين فقال الله عنهما: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ [الرحمن:62]، وهما لأصحاب اليمين، فنلاحظ هنا أن الجنتين الأوليين أفضل في كل شيء، فهنا قال: (( فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ )) وهناك قال: فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ [الرحمن:66] والجري أفضل من النضخ. كذلك قال الله تبارك وتعالى في هاتين الجنتين الأوليين: (( فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ )) فعم جميع أنواع الفاكهة، وهناك قال: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68] وهذا أقل، وهنا قال: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:54] وفي الأخريين قال: مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ [الرحمن:76] والعبقري: الطنافس، ولا شك أن الديباج أعلى من العبقري، والرفرف هي الوسائد، فلا شك أن الفرش المعدة للاتكاء عليها أفضل من الوسائد، وقال في الأوليين: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:58] وقال في الأخريين: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ [الرحمن:70]، وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان. وقال في الأوليين: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن:48]، وقال في الأخريين: مُدْهَامَّتَانِ [الرحمن:64] أي خضراوان كأنهما من شدة الخضرة سوداوان. فوصف الأوليين بكثرة الأغصان (( ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ))، ووصف الأخريين بالخضرة فقط، ولعل ما لم يذكره الله سبحانه وتعالى من التفاوت بين الجنتين أكثر مما ذكر.

    معنى قوله تعالى: (فيهما من كل فاكهة زوجان) والفرق بين ثمار الدنيا وثمار الآخرة

    يقول ابن كثير (( فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ )) يعني: فيهما من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون، ومما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، (( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ )). ثم قال رحمه الله تعالى: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل). لكن الحنظلة في الجنة تكون حلوة وليست مرة كشجر الدنيا. ثم قال رحمه الله: وقال ابن عباس : (ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء) يعني: أن بين ذلك بوناً عظيماً وفرقاً بيناً في التفاضل. وهذا نفس الشيء بالنسبة لعذاب النار، فإذا وصف عذاب النار بوصف في الدنيا فهو مجرد الأسماء، حتى داء الجرب في القرآن إشارة على أنه من عذاب أهل النار، كما في قوله تعالى: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم:50]، ومعروف أن العرب كانوا يعالجون الإبل من الجرب بدهنها بالقطران الأسود، ففي الآخرة يسلط عليهم داء الجرب، ولكن ليس جرب النار والعياذ بالله كجرب الدنيا، مع أنه في الدنيا من أشد الأمراض وأقبحها وأبغضها إلى الإنسان، يقول لك: كأني أجرب وأعياه داء. ففي الآخرة يسلط عليهم أيضاً جرب لكن هناك تفاوت كثير في حقيقة العذاب به، إذاً: قوله: (( سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ )) يعني: فيدهن بقطران، لكن هناك تفاوت بين قطران الآخرة وقطران الدنيا، فقطران الآخرة ستشب فيه النار ويتضاعف العذاب. الشاهد: أنه ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء فقط، وهناك تفاوت وبون شاسع سواء في حالة العذاب أو في حالة النعيم كما أشرنا. وقال أبو بكر الوراق في تفسير قوله تعالى (( فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ )): لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل. يعني: على أساس أن الجزاء من جنس العمل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (متكئين على فرش بطائنها من استبرق ...)

    قال الله تبارك وتعالى: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [الرحمن:54]. قوله: (متكئين) هذا حال منصوب، والاتكاء يطلق على الاعتماد على شيء، قال عز وجل حاكياً عن موسى: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي [طه:18]. ويطلق أيضاً على أن الإنسان يجلس على جنبه ويستند على مرفقه. بالنسبة للاتكاء هناك ظاهرة عجيبة جداً بدأت تشيع في المساجد، وهي أنه في بعض المساجد تجد خطاً من الكراسي يجلس عليها بعض المصلين، ونلاحظ الذي يجلس عليها أحياناً يكون شاباً أو فوق الشباب بقليل -أي: في منتصف العمر- وهو ما شاء الله يسعى وراء الدنيا مثل الجمل أو مثل (البابور) وتراه في منتهى الصحة والعافية، ثم تراه جالساً على الكرسي، وهذا يدل على تهاون الناس بالصلاة، وقد تجد إنساناً يصلي متكئاً أو جالساً على كرسي. نقول: في النافلة يقبل ما لا يقبل في الفريضة، صحيح أن العلماء قالوا في مثل هذا الإنسان: يصلي حسبما يستطيع، يعني: إن كان لا يستطيع القيام فله أن يصلي قاعداً أو على جنب على حسبه، لكن القيام ركن من أركان الصلاة، بمعنى: لو أن رجلاً في الفريضة صلى جالساً وهو قادر على القيام فصلاته باطلة، يقول عز وجل: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]. أما إذا لم يستطع قائماً فله أن يصلي جالساً أو على جنب، وهكذا هناك درجات معينة لا ينتقل إلى التي بعدها حتى يعجز عن التي قبلها. إذاً: ينبغي أن لا توضع الكراسي للناس في المساجد إلا إذا كان أثناء الجلوس خارج الصلاة، كأن يشق على بعض كبار السن فلا بأس بذلك، لكن داخل الصلاة لا ينبغي أن توفر الكراسي؛ حتى لا نفتح هذا الباب للناس المتهاونين؛ لأني أرى في بعض المساجد أناساً في منتهى الصحة والعافية، لكن وقت الصلاة تراه يأخذ كرسياً ويجلس عليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755897344