إسلام ويب

تفسير سورة (ق) [1-16]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تقسيم القرآن الكريم وتحزيبه للتلاوة والصلاة

    سورة (ق) أول المفصل في القرآن

    نشرع إن شاء الله تعالى في تفسير سورة ق. تسمى سورة ق، وتسمى أيضاً سورة الباسقات، وهذه السورة مكية بالإجماع، وآيها خمس وأربعون آية. وسورة ق هي أول الحزب المفصل على الصحيح. وهناك قول آخر: أن الحزب المفصل يبدأ بسورة الحجرات. أما ما يذهب إليه بعض العوام من أن أول حزب المفصل يبدأ من سورة عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ [النبأ:1] فلا أصل له، ولم يقل أحد من العلماء المعتبرين بهذا القول فيما نعلم، كما قال القاسمي رحمه الله تعالى. أما الدليل على كون سورة ق أول الحزب المفصل فهو ما رواه أوس بن حذيفة ، قال: (سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف يحزبون القرآن؟ فقالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده). ويبدأ العد من سورة البقرة، لا من الفاتحة.

    حكم تحزيب القرآن وتقسيمه

    إن معنى تحزيب القرآن هو تقسيم القرآن إلى أجزاء، وقد كان الصحابة يحزبون القرآن ويقسمونه على سبعة أحزاب، يختمون في كل يوم حزباً من هذه الأحزاب. هذا هو تحزيب الصحابة والسلف للقرآن. وقد وجدت بعد ذلك أنواع أخرى من التحزيب أشهرها ما هو موجود الآن من تقسيم القرآن إلى ثلاثين جزءاً، ثم الجزء إلى حزبين، والحزب إلى أربعة أرباع، وهذا التحزيب حدث بعد القرون الأولى، وفيه شيء من النظر؛ لأن هذا التحزيب يتوقف أحياناً عند جزء من السورة لم يكن المعنى قد تم عنده. فمثلاً: الربع الذي يبدأ بقوله تعالى: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ [المؤمنون:36] قد بدأ بما هو مرتبط بالسياق قبله من حيث المعنى، فلا يحسن الوقوف قبله، ولا ابتداء القراءة به، فهذا التحديد لا يبتني على أساس تحزيب الصحابة، فتحزيب الصحابة كما نلاحظ يبدأ دائماً برأس سورة.

    القراءة في الصلاة من المفصل

    إن من خصائص حزب المفصل أن قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلوات الخمس كانت من حزب المفصل. وكان إذا قرأ من خارج المفصل يقرأ السورة كاملة. فمثلاً: قرأ مرة في المغرب بسورة الأعراف كلها، فالأصل فيمن قرأ بسورة أن يتمها، إما على ركعتين، وإما كل سورة في ركعة كاملة. ولكن رغبة في التخفيف على المصلين كان يغلب على النبي عليه الصلاة والسلام القراءة بسور المفصل، وهي ما بين قصار وأوساط وطوال. فكان يقرأ في الفجر مثلاً بطوال المفصل. إذاً: ينبغي أن يغلب في قراءة الإمام في الصلاة من حزب المفصل، وإذا قرأ من خارجه فالمستحب والأفضل أن يقرأ السورة بتمامها كما جاء في بعض الأحاديث: (كان يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بالصافات). إلا إذا عرض عارض كما اختصر قراءته عليه الصلاة والسلام لما طرأت عليه سعلة أثناء الصلاة، أو لما دخل في الصلاة ويريد أن يطولها فسمع بكاء الصبي الصغير فاختصر وأوجز، لكن ينبغي أن يكون الغالب قراءة سورة بكاملها، والغالب كما قلنا هو من حزب المفصل.

    الاهتمام بتلاوة القرآن

    يمكن لكل إنسان أن يكون له حزب خاص به يحافظ على تلاوته هو حسب ظروفه؛ لأن الارتباط بالقرآن الكريم هذه سمة أساسية لكل مسلم، فينبغي لكل مسلم أن يكون له ورد خاص من القرآن الكريم؛ لكن يحذر المسلم أن يهجر كتاب الله، فيدخل ضمن من سيشتكيهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه يوم القيامة: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]. فهذه درجة من درجات الهجر، وهو هجر تلاوة القرآن الكريم، ومنها هجر تدبره، وهجر حفظه، وهجر الحكم والعمل به، ولذلك (لما أتى وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبطأ عن الخروج إليهم، ثم خرج إليهم وقال: إنه كان قد بقي علي شيء من حزبي، فكرهت أن أخرج حتى أتمه). ومن فاته ورده أو حزبه من الليل فله أن يعوضه في النهار كما قال الله تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62]. قوله: (خلفة) يعني: يخلف أحدهما الآخر، فكما أن لكل مسلم رقم بطاقة وله اسمه ووظيفته وعنوانه؛ فله ورده من القرآن الكريم.

    مقدار ما ينبغي للمرء أن يقرأه من القرآن وضوابط ذلك

    إن مقدار ما يقرأ المرء من القرآن في اليوم أمر لا نستطيع أن نضع له حداً ثابتاً يلتزم به كل الناس؛ لاختلاف الأحوال والله سبحانه وتعالى قد أشار إلى هذا المعنى في القرآن كما قال تبارك وتعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20] أي: يبحثون عن الرزق، ثم قال: وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل:20]. فالناس يختلفون فمنهم من يستطيع أن يفعل كما كان الصحابة يفعلون، بأن يحزب القرآن على سبعة أحزاب، ومنهم من يختمه في عشرة أيام، ومنهم من يختمه في ثلاثة، ومنهم من يختم في شهر، وهكذا، المهم ألا يكون هناك هجر للقرآن الكريم، بل كل واحد لا بد أن يكون له حزب خاص به من القرآن الكريم، بحيث يختم فيه القرآن حسب ظروفه؛ لأن هناك طالب العلم، وهناك التاجر، وهناك المجاهد، وهناك المتفرغ، وهناك العابد، فالناس أنواع شتى ولا نستطيع أن نلزم الجميع بقدر ثابت، ولكن كلما حافظ الإنسان على شيء حتى ولو كان قليلاً كان أفضل وأنفع. فالذي يؤثر في إصلاح القلب هو ما داوم عليه الإنسان، لذلك (كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا عمل عملاً أثبته)، و(كان عمله ديمة) يعني: كان يحافظ عليه ولا يقطعه. وقال عليه الصلاة والسلام: (خير الأعمال أدومها وإن قل)، فالمداومة والمثابرة والثبات على العمل الصالح أفضل بكثير من أن تأتي الإنسان الشرة والحدة والحمية في أول الأمر ثم بعد ذلك يهدأ تماماً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن لكل عمل شرة). أي: قوة وشجاعة وهمة عالية تكون في أول العمل، ثم بعد ذلك يئول إلى الفترة والتراخي والكسل. فينبغي أن ينظر الإنسان إلى هذا، وأن يراعي الوسطية والتوازن بين الحقوق والواجبات، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فأعط كل ذي حق حقه)، فللزوجة حق وللبدن حق وللضيوف حق، ولطلب العلم حق، وللعبادة حق، فأعط كل ذي حق حقه. كذلك على الإنسان ألا يبالغ في الآمال والأحلام، ويقول: أختم القرآن في ثلاثة أيام مثلاً، ثم في الواقع لا يستطيع أن يختم في ثلاثة أيام، فكن واقعياً حتى تستمر، وألزم نفسك بما تستطيع المواظبة عليه، فتحدد لك حداً أدنى كجزء أو جزأين في اليوم على حسب ما تستطيع، ثم واظب على هذا الحد الأدنى الذي تستطيع أن تحافظ عليه فإن زدت فهو خير، وينبغي أن يكون اختيارك للحد الأدنى مبنياً على أن ذلك بالنسبة لظروفك أمر مستطاع. فلابد أن يكون كل يوم حزب من القرآن تقرؤه، ولا بد أن توثق صلتك بقراءة القرآن الكريم، وهذه الوظيفة مختلفة عن وظيفة الحفظ ووظيفة المراجعة، فختم القرآن في حد ذاته وظيفة أساسية كما تأكل وتشرب وتنام، فهي وظيفة يومية. وبعض العلماء لما أرادوا أن يحددوا الحزب قالوا: نبدأ بسورة الفاتحة، لكن لو بدأنا من سورة الفاتحة فسوف يبدأ الحزب المفصل من سورة الحجرات، والدليل واحد، وهو ما ذكرنا عن أوس بن حذيفة لكنهم اختلفوا في تفسيره، والراجح أنهم كانوا يبدءون التحزيب من البقرة وأما من بدأ العد من الفاتحة فسوف يبدأ حزب المفصل بسورة الحجرات. ومن بدأ العد من البقرة، فسيبدأ حزب المفصل بسورة (ق). أما بيان ذلك فهو كما قلنا: ثلاث، خمس، سبع، تسع، إحدى عشرة، ثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده فيكون القرآن كله سبعة أحزاب. فإذا عددت ثمانية وأربعين سورة من البقرة فتكون السورة التي بعدهن هي سورة ق. أما ترتيب سورة ق في المصحف فهي السورة الخمسون. إذاً: سنبدأ العد في هذه الحالة من سورة البقرة. فالثلاث الأولى: البقرة، آل عمران، النساء. ثم الخمس: المائدة، الأنعام، الأعراف، الأنفال، براءة. ثم السبع: من يونس إلى النحل. ثم التسع: من سورة سبحان الإسراء إلى سورة الفرقان. ثم الإحدى عشرة: من الشعراء إلى يس. ثم الثلاث عشرة: من الصافات إلى الحجرات، ثم بعد ذلك الحزب المفصل. وسمي بالمفصل؛ لأنه يكثر الفصل بين سوره لقصرها بالنسبة لما تقدم من سور القرآن الكريم. فإذاً: يتعين أن أول حزب المفصل هي سورة ق.

    1.   

    فضائل سورة ق

    روى الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي رضي الله عنه: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيد، قال: بـ(ق) واقتربت الساعة). فالسنة في صلاة العيد أن يقرأ إما بسبح اسم ربك الأعلى وسورة الغاشية، وإما بسورتي (ق) واقتربت الساعة. وروى مسلم وغيره، عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: (ما حفظت (ق) إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقرأ بها كل جمعة -وفي رواية-: كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس)، ومن كثرة قراءته إياها حفظت أم هشام هذه السورة. فيلاحظ أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار، كصلاة العيد كما ذكرنا، وفي خطبة الجمعة؛ لأنها تشتمل على ابتداء الخلق، والبعث والنشور، والمعاد والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد)

    يقول الله تبارك وتعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]. ((ق)) من حروف التهجي التي تفتح بها أوائل بعض السور مثل: (ص) و(ن) و(الم) و(حم) ونحوها. وأشرنا مراراً إلى الاختلاف في المراد بهذه الحروف المقطعة في أوائل السور، فقلنا: إن الأرجح أن يقال: الله أعلم بمراده من ذلك. القول الثاني: أنها إشارة إلى تأَلف القرآن الكريم من نفس حروف اللغة العربية، وكيف أن العرب يعجزون مع بلاغتهم وفصاحتهم عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن الذي هو مؤلف من نفس حروفهم، فهي إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم. ويعتقد القاسمي أن الصحيح من الأقوال: أن هذا الحرف علم على السورة، وهو في هذه السورة أمر معروف؛ لأننا نسميها سورة (ق). يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: روي عن بعض السلف أنهم قالوا: (ق) جبل محيط بجميع الأرض. ويشيع مثل هذه الأقوال التي لا أصل لها في بعض كتب التفسير للأسف الشديد، بل هي أقوال خرافية، مثل اعتقاد بعض الناس أن الأرض محمولة على مخلوق ضخم الجثة جداً، وأن له قرنين، وأن الأرض محفوظة ما بين القرنين، وإذا تحرك تحصل الزلازل، هذه كلها أساطير وخرافات ما أنزل الله بها من سلطان. كذلك قولهم إن (ق) جبل هو والله تعالى أعلم من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس؛ لأنهم رأوا جواز الرواية عن بني إسرائيل في القسم الذي لا يصدق ولا يكذب، لحديث: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).

    الإسرائيليات بين القبول والرد وأقسامها

    قال العلماء: إن أخبار الإسرائيليات ثلاثة أقسام: الأول: ما نعلم كذبه قطعاً ومخالفته للشرع، فهذا ينبغي رده قولاً وحداً. الثاني: ما نعرف صدقه قطعاً، فهذا نقبله. الثالث: الذي لا نعرف هل هو صادق أم كاذب، فالاحتياط الإمساك عنه؛ لأنه إذا كان من الوحي الذي أوحاه الله إلى أنبيائهم، فينبغي ألا نكذب به، ويحتمل أنه ليس من الوحي، فإذا صدقنا به نكون قد صدقنا بشيء ليس من الوحي. فعلى أي حال تأول بعض العلماء هذا الحديث: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) على أن هذا في القسم الذي هو مما لا يصدق ولا يكذب، فيجوز حكايته عنهم وروايته. يقول ابن كثير : وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افتري في هذه الأمة مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها، أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما بالعهد من قدم. يعني: نحن أحدث ديناً، أو أحدث رسالة، ومع ذلك افتري على النبي عليه الصلاة والسلام أحاديث، وهذا مع وجود العلماء والحفاظ وحراس السنة. ثم يقول: فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى وقلة الحفاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فيما قد يجوزه العقل، فأما فيما تحيله العقول ويحكم عليه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه؛ فليس من هذا القبيل، والله أعلم. وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكايات عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم، ولله الحمد والمنة. للأسف أن من آفات كتب التفاسير وجود الإسرائيليات الكثيرة في أثنائها، مع أن الله سبحانه وتعالى قد أغنانا عن أن نقتبس من هذه الإسرائيليات.

    الإسرائيليات المعاصرة ودروها في الحرب النفسية على المسلمين

    إن من المناسب أن نعرج تعريجاً سريعاً على الإسرائيليات المعاصرة، فالعلماء دائماً يتكلمون في الإسرائيليات التي تناقلوها عن كتب أهل الكتاب السابقة كالتوراة والإنجيل وغيرهما، وقد أشرنا من قبل إلى أن الإسرائيليات لا تقتصر على الإسرائيليات التي اختلقها بنو إسرائيل من قبل، بل هناك إسرائيليات معاصرة، وهي أكاذيب يفتريها اليهود ومن شايعهم في هذا الزمان، ثم يروجونها في الناس كنوع من الحرب النفسية، فكم قد تكلموا من قبل كمحررين على أساس حساب الأرقام أن الحرب بين المسلمين واليهود ستكون سنة (1997م) وردد الناس ذلك كالبغبغاوات، ثم مرت سنة (1997م) وما حصل شيء. مرة أخرى أشاعوا عن الألفية هذه أنه سوف يحصل فيها انقلاب كامل في نظام الكون. والألفية من كذباتهم فنحن الآن ما دخلنا الألفية، بل ما زلنا في آخر سنة من الألف الثانية الميلادية، أما الألفية الحقيقية فسوف تبدأ إن شاء الله في العام القادم. إذاً: هذه من الإسرائيليات الكاذبة، لغرض أن يظل الناس مشغولين طوال هذه السنة بالنفخ في قضية الألفية، حتى إن المسلمين ابتلعوا هذه الإسرائيليات المعاصرة، وصار عندهم اهتمام غير عادي بهذه الألفية. ما علاقتنا نحن بهذه الألفية؟ نحن لا نعترف أصلاً بالتقويم الميلادي؛ لأنه خاص بالكفار، أما نحن فكان الأولى أن نحتفل إن كان يجوز بدخول الإسلام إلى مصر منذ أربعة عشر قرناً، فهذا هو الذي نسعد ونفرح به. على أي حال فموضوع الألفية قد اكتنفها تضخيم وتهويل ومؤامرات، فنقول: إن هذه العلامات الزمنية سواء ألفية أو غير ألفية هي عبارة عن خطوط وهمية، مثل الخطوط الوهمية في أعلى الخريطة التي تقسم الكرة الأرضية إلى خطوط طول وخطوط عرض، وهذه الأشياء كلها خطوط وهمية، فالأوقات يشبه بعضها بعضاً، والسنوات يشبه بعضها بعضاً، والأيام يشبه بعضها بعضاً، وأنت محاسب عن كل لحظة من الزمان، أما أن نتصور أن تنقلب الأمور رأساً على عقب عند حد معين، فلا. إن اليهود زرعوا في قلوب الناس أن كل شيء سيتغير في الدنيا عند حلول الساعة الثانية عشرة في آخر ليلة من (ديسمبر)، ومرت الأيام ولم يحدث شيء، أو أن اليهود سوف تقود الحرب سنة (2000م) وسيعود المسيح الدجال الذي ينتظرونه إلى آخره. هو قطعاً سيعود، ولكن متى؟ الله أعلم. إذاً: علينا ألا نعتمد على كلام اليهود؛ لأن هذه من الإسرائيليات المعاصرة، وهي كثيرة يبثونها في عقولنا ونحن نبتلعها، أو أن إسرائيل دولة لا تقهر، ويثبون أن الحرب ستقوم في وقت كذا، هذه أيضاً من الإسرائيليات، فينبغي أن نلتفت إلى رفض هذه الإسرائيليات المعاصرة وردها.

    توجيه معنى قوله تعالى: (ق)

    رد الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى على قول بعض المفسرين حيث قالوا: إن المقصود بقوله تعالى: (ق) يعني: قضي الأمر والله. على أساس أنه حذف كل هذه العبارة، واقتصر على كلمة (ق) كما يقول الشاعر: (قلت لها قفي فقالت ق) يعني: أنا واقفة. رد ابن كثير هذا القول وقال: وفي هذا التفسير نظر؛ لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه، ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف؟ يعني: مجرد ذكر هذا الحرف لا يكفي؛ لأن هذا الشاهد الذي يستدل به وهو قول الشاعر: (قلت لها قفي فقالت ق)، نقول: إذا صح هذا الشطر من البيت كشاهد، وقبل هذا على أنه شاهد شعري مقبول، ينطبق عليه شروط الشواهد، فنقول: إن السياق الشعري هنا يدل على هذا الحذف. أما في الآية: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] فأين ما يدل على الحذف، وأن (ق) معناها: قضي الأمر والله. فقوله: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) هذا قسم فأين المقسم عليه؟ يفهم أيضاً من السياق، (( وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ )) يعني: أقسم أن النبي صادق وأن رسالته حق وهكذا. قوله: ((المجيد)) أي: ذي المجد والشرف على غيره من الكتب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ...)

    يقول تبارك وتعالى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق:2]. ((بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ)) يعني: عجبوا لأنهم جاءهم منذر من جنسهم، لا من جنس الملائكة ولا من جنس الجن مثلاً، وإنما هو من جنسهم بشر مثلهم. أو المقصود منه من جلدتهم، وهذا إضراب عما ينبئ عنه جواب القسم المحذوف، كأنه قيل: (( وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ )) أي: أنزلناه إليك لتنذر به الناس. وكأنه قيل بعد ذلك: لم يؤمنوا به، وجعلوا كلاً من المنذر والمنذر به عرضة للنكير والتعجب، مع كونهما أوثق شيء من قضية العقول وأقربه إلى التلقي بالقبول. يعني: مم يتعجبون؟! مع أن العقل والقلب السليم يقبل الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالرسالة. فقوله عز وجل: ((فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)) فيه تفسير لتعجبهم وبيان لكونه مقارناً لغاية الإنكار مع زيادة تفصيل لمحل التعجب. وفيه إشارة إلى كونه صلى الله عليه وسلم منذراً بالقرآن ((فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)) يعني: أن يأتي وينذرنا بالقرآن ((هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)). فأضمرهم أولاً في قوله: ((بَلْ عَجِبُوا)) ثم أظهرهم فقال: ((فَقَالَ الْكَافِرُونَ)). وإضمارهم أولاً لإشعاره بتعينهم بما أسند إليهم، والسياق فيه إشارة إلى تعجبهم بغض النظر عن أنهم هم الكافرون. وإظهارهم ثانياً للتدليل عليهم بالكفر بموجبه، لأنهم رفضوا القرآن فصاروا كافرين، فلذلك قال: ((فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)). وهذا تقرير للتعجب وتأكيد للإنكار.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أئذا متنا وكنا تراباً...كتاب حفيظ)

    قال تعالى: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:3-4]. ((أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا)) هذا تقرير للتعجب وتأكيد للإنكار، يعنون: حين نموت ونصير تراباً نرجع كما نطق به النذير والمنذر به، مع كمال التباين والفرق بين الموت والحياة؟ ومع ذلك قالوا: ((أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا)) أي: سنبعث وننشر ونعود إلى الحياة؟! ثم قالوا: ((ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ)) أي: عن الأوهام أو العادة أو الإمكان. قوله: ((قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ)) أي: ما تأكل من أجساهم بعد مماتهم. والله سبحانه وتعالى لا يغيب عن علمه شيء، ومما لا يغيب عن علم الله سبحانه وتعالى أنه حتى أجزاء وذرات جثثهم التي تبلى وتفنى يعلمها أين تذهب وأين مصيرها. فقوله: ((قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ)) هذا رد لاستبعادهم البعث والنشور، فإن من عم علمه ولطف حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى، وتأكل من لحومهم وعظامهم، كيف يستبعد أن يرجعهم أحياء كما كانوا! وقيل قوله: ((قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ)) يعني: ما يموت فيدفن في الأرض منهم. ((وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ)) أي: حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، فالإشارة هنا إلى اللوح المحفوظ. فـ(حفيظ) بمعنى محفوظ من التغير، فإن المراد تمثيل علم الله سبحانه وتعالى بكليات الأشياء وجزئياتها بعلم من كان عنده كتاب محيط يتلقى منه كل شيء، أو تأكيد لعلمه تعالى بها لثبوتها في اللوح المحفوظ عنده.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (بل كذبوا بالحق لما جاءهم ...)

    قال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5]. قوله: ((بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ)) وهو القرآن. قوله: ((لَمَّا جَاءَهُمْ)) أي: أنهم بادروا بالتكذيب دون أن يتمعنوا ويتفكروا ويتأملوا. قوله: ((بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ)) هذا الإضراب الثاني أتبع الإضراب الأول الذي مضى، للدلالة على أنهم أتوا بشيء هو أفظع من التعدي. فقوله: ((بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ)) هذا الإضراب الأول، لكن هناك أشد من هذا العجب وهو: ((بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)) فقد أتوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات من أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر. وكونه أفظع للتصريح بالتكذيب من غير تدبر بعد التعجب منه، ولأن التعجب أخف، أما التكذيب فهو أشد. وأيضاً: كذبوا بالحق ولم يكلفوا أنفسهم عناء التأمل والتدبر والتفكر، وإنما رفضوا الحق لأول وهلة بادئ الرأي. قوله: ((فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)) أي: مضطرب، والاضطراب هنا هو اختلاف مقالتهم في الحكم على القرآن، تارة يدعون أنه شعر وأخرى أنه سحر، وثالثة أنه كهانة أو غير ذلك؛ تعنتاً وتكبراً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ...)

    قال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]. قوله تعالى: ((أَفَلَمْ يَنْظُرُوا)) يعني: هؤلاء المكذبون بالبعث المنكرون قدرتنا على إحيائهم بعد فنائهم ((أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)). ((كَيْفَ بَنَيْنَاهَا)) أي: رفعناها بغير عمد، وكما جاء في الآيات الأخرى: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد:2] ومن ثم ذهب بعض المعاصرين ممن يعتمدون التفسير العلمي لبعض آيات القرآن الكريم أن هناك أعمدة بين هذه الكواكب وبين البنيان الذي في السماء، ولكنها غير مرئية، فكأنه استدل بمفهوم قوله تعالى: ((بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)) يعني: بعمد لا ترونها، وذهب إلى أنها هي قوى التجاذب وهذه الأشياء المعروفة. ((وَزَيَّنَّاهَا)) أي: زيناها بالنجوم. ((وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)) يعني: ما لها من صدوع وشقوق، ولا نجد فيها تجاويف أو فراغات كقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:3-4] أي: وهو كليل عن أن ترى عيباً أو نقصاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والأرض مددناها...لكل عبد منيب)

    وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق:7-8]. ((مَدَدْنَاهَا)) بسطناها. ((وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ)) أي: جبالاً ثوابت حفظاً لها من الاضطراب لقوة الجيشان في جوفها. ((وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ)) أي: من كل صنف. (( بَهِيجٍ )) أي: حسن المنظر يبتهج به لحسنه. ((تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)) هذا مفعول لأجله، يعني: لتبصر وتذكر كل عبد منيب راجع إلى ربه، متفكر في بدائع صنعه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ونزلنا من السماء ماءً مباركاً ...)

    قال تعالى: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ [ق:9] ((وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ)) المقصود بالسماء هنا المزن، وذلك لقوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ [الواقعة:69]. المزن هو السحاب. ((ماءً مباركاً)) أي: كثير المنافع. ((فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ)) أي: أشجاراً ذوات أثمار. ((وَحَبَّ الْحَصِيدِ)) أي: الزرع المحصود من البر والشعير وسائر أنواع الحبوب. وتخصيص إنبات حبه بالذكر لأنه المقصود بالذات، مع أن النبات ينبت نباتاً متكاملاً وليس الحب فقط، ولكن هنا التركيز على المقصود من هذا النبات: الحبوب، فلذلك خصها بالذكر؛ لأن المقصود من الزرع هو الحصول على هذه الحبوب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والنخل باسقات لها طلع نضيد)

    يقول عز وجل: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:10]. أي: وأنبتنا بالماء الذي أنزلناه من السماء النخل. وقوله: ((بَاسِقَاتٍ)) يعني: طوالاً أو حوامل، من أبسقت الشاة إذا حملت، فيكون من أفعل فهو فاعل، والفعل إذا أتى على وزن (أفعل) فاسم الفاعل منه على وزن (مفعل) كقولك: أركب فهو مركب، وأظهر فهو مظهر، هذا هو الأصل والقياس، وما جاء على خلاف هذا فهو من النوادر، كالصوائخ واللواقح في أخوات لها شاذة. فمثلاً: الفعل الرباعي أصاخ الأصل أن يكون الفاعل على وزن (مفعل) مصيخ، لكنها جاءت على وزن (فاعل) (صائخ) شذوذاً. كذلك الفعل الرباعي ألقح، المفروض أن يكون على وزن (مفعل) ملقح، لكنه جاء على (فاعل) لاقح: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [الحجر:22] جمع لاقح. كذلك قوله: (باسقات) أصلها أبسق، فالمفروض أن تكون على وزن (مفعل) لكنها جاءت على (فاعل) (باسق). نلاحظ هنا في هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى أفرد النخل بالذكر: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) مع دخولها في جنات، لبيان فضلها لكثرة منافعها؛ لأن النخلة شجرة مباركة مثمرة. فكل شيء في النخل مفيد، وأصحاب النخل والزروع يعرفون أنه لا يوجد شيء في النخل يستغنى عنه، وإنما هي شجرة مباركة، كما قال الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم:24-25]. ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام سأل الصحابة سؤالاً، وكان ابن عمر موجوداً مع كبار القوم، فقال: (إن من الشجر شجرة تعرفونها هي مثل المؤمن؟ فخاض الناس في أنوع الشجر، لكن عبد الله بن عمر مع صغر سنه عرف أنها النخلة، فاستحيا أن يتكلم وفي المجلس من هم أكبر منه سناً)، والحديث رواه البخاري . فالشاهد أن النخل له من البركة والخيرات خصائص معروفة لدى الجميع، ولذا أفردها بالذكر بعد الجنات مع أنها نوع منها. قوله: ((لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ)) الجملة في محل نصب. (لها) شبه جملة في محل رفع خبر مقدم. و(طلع) مبتدأ مؤخر مرفوع بالضم، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب صفة لباسقات. ((نضيد)) يعني: متراكب بعضه فوق بعض.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج)

    يقول الله تبارك وتعالى: رِزْقًا لِلْعِبَادِ [ق:11]، أي لأجل أن يرزق العباد منها. قال أبو السعود : هذه علة لقوله تعالى: ((فَأَنْبَتْنَا)) في قوله: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ ))[ق:9-10]. أي: بعد تعليل قوله: (فأَنْبَتْنَا) بالتبصرة والتذكير؛ ليتأمل الإنسان ويتفكر في آيات الله سبحانه وتعالى، جاء التعليل الثاني لقوله: (فَأَنْبَتْنَا) بأنه رزق للعباد، وهذا تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستذكار أهم من تمتعه به من حيث الرزق. ويقول الله سبحانه وتعالى في سورة الواقعة في جملة من الآيات: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ [الواقعة:71-73]. أي: تذكرة أولاً ومتاعاً ثانياً. فإذاً: الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بهذه المخلوقات والنعم أساساً من حيث التذكر والاستبصار، فيتأمل في إبداع الله عز وجل في خلقه، وكيف أن هذه الآيات تدل على رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، وعلى قدرته وعلمه وحكمته، فالانتفاع بهذه الأشياء من حيث التذكر والاستبصار ينبغي أن يكون أهم من تمتعك بها من حيث الزرق والقوت والطعام، فلذلك قدم في الأولى: وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق:7-8]. ثم قال: ((رِزْقًا لِلْعِبَادِ)). ((وَأَحْيَيْنَا بِهِ)) أي: بذلك الماء. ((بَلْدَةً مَيْتًا)) أي: أرضاً جدبة، فأنبتت أنواع النبات والأزهار. ((كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)) أي: خروجهم أحياء من القبور. فشبه بعث الأموات ونشرهم بقدرته تعالى على إخراج النبات من الأرض بعد وقوع المطر عليها. نعم هناك فرق بين الحياة النباتية والحياة الحيوانية، ومع ذلك فالنبات يمارس كل وظائف الحياة، فهو يأكل ويتغذى ويتحرك وإن كان هذا شيئاً غير ظاهر، لكن معروف أن بعض النبات يتحرك، وبعض النباتات قد تفترس الفريسة بأن تحتضنها ثم تمتصها بعد ذلك، هناك بعض النباتات المتوحشة تفعل ذلك بالحشرات. إذاً: فعامة طبيعة الحياة موجودة في النبات، ما عدا الحركة التي هي فرق ظاهر بين الحيوان وبين النبات. كذلك إنبات الأرض بالنبات هي عملية إحياء الأرض بعد موتها، وهذا الإنبات لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى، لذلك قال: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:64] فالزارع في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، ونحن نقوم بالحرث فقط: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ [الواقعة:63]، فنحن نأخذ بالأسباب، لكن قوة الإنبات لا تحصل إلا بقوة الله عز وجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فقوله: ((كذلك الخروج)) معناه أن الذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها بالإنبات قادر على أن يخرجكم من هذه الأرض بعد أن تضل فيها أجسادكم وتذوب. وكما نعلم أن هذا أحد الأدلة من القرآن الكريم على ثبوت البعث والنشور؛ لأن القرآن الكريم كثيراً ما يلفت نظرنا إلى أن من أدلة البعث والنشور إحياء الأرض بعد موتها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح... وإخوان لوط)

    يقول تبارك وتعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ [ق:12-13]. ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ)) أي: قبل قريش. ((قَوْمُ نُوحٍ)) هذا استئناف وارد لتقرير ثبوت البعث؛ وبيان اتفاق كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام عليه وتعزير منكره. فقوله: ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ)) فيه إشارة إلى أن الإيمان بالبعث والنشور ركن من أركان الإيمان، وأن جميع الرسل قد دعوا إلى الإيمان به والتصديق به، وأن الكفار كذبوا جميع الرسل كما كذبوك يا محمد. وما داموا قد كذبوا فإنهم يستحقون الوعيد لكفرهم. ((وَأَصْحَابُ الرَّسِّ)) الرس هو بئر كانوا عنده، فيقال: إنهم قوم شعيب عليه السلام، ويقال غير ذلك، وسبق بيان ذلك في سورة الفرقان. قوله: ((وَثَمُودُ)) وهم الذين جادلوا صالحاً وقتلوا الناقة. قوله تعالى: ((وَعَادٌ)) وهم الذين جادلوا هوداً في أصنامهم. ((وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ)) يلفت النظر في هذه الآية أن فرعون يذكر لوحده، في حين أن كل طوائف الكفر الأخرى تذكر باسم الأمة نفسها أو القبيلة أو القوم؛ لكن فرعون يذكر لوحده، وعندما ييذكر القرآن الكريم شعب فرعون يذكرهم ذيلاً له: إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [الأعراف:103]. فهو الأساس؛ لتجبره وطغيانه. وفرعون هو الذي جادل موسى فيما أرسل به. قال الرازي : ولم يقل: قوم فرعون؛ لأن فرعون كان هو المغتر المستخف بقومه: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، ولتجبره نقم على السحرة حينما آمنوا وأسلموا، كيف أنهم يدخلون الإسلام دون أن يستأذنوه، وهو المغتر المستخف بقومه كما قال تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف:54] فكان مستبداً بأمره مستخفاً بهم، فلذلك إذا ذكروا يذكرون تبعاً له.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأصحاب الأيكة وقوم تبع ...)

    يقول تبارك وتعالى: وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق:14]. الأيكة هي الغيضة من الشجر الكثير الملتف، وهؤلاء هم المجادلون شعيباً بالكيل والميزان. وقوم تبع وهم المجادلون إمامهم وعلماءهم في الدين. ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)) أي: كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذبوا رسولهم. في سياق غير القرآن نقول: كل قبيلة كذبت رسولها؛ لكن الله سبحانه وتعالى قال هنا: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ)) إشارة إلى أن من كذب رسولاً فكأنما كذب بجميع الرسل؛ لأن حقيقة الإيمان لا ينفك بعضها عن بعض، ولذلك قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105] مع أن المبعوث إليهم نوح وحده، لكن لأن نوحاً يدعو بدعوة إخوانه من الرسل وهي لا إله إلا الله، وما دامت دعوة نوح إلى التوحيد فإنهم لو فرض أن جميع الرسل أتوا قوم نوح لكذبوهم أيضاً؛ لأن الدعوة واحدة، فهذا هو السر في قوله: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق:14] أي: فوجب لهم الوعيد الذي وعد به من كفر، وهو العذاب والنقمة.

    مسألة إخلاف الوعيد من الله في حق العصاة والكفار

    وقوله تعالى: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ في هذه الآية الفرق بين الوعد والوعيد، وذلك بأن الله قد يخلف الوعيد، لكن لا يمكن أبداً أن يخلف وعده سبحانه، وهذا من فضل الله عز وجل على عباده، وإخلاف الوعيد يكون في حق المسلم أما في حق الكافر فلا. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية الكريمة: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)) تدل على أن من كذب الرسل يحق عليه العذاب. أي: يتحتم ويثبت في حقه ثبوتاً لا يمكن أن يتخلف. وهذا دليل واضح على ما قاله بعض أهل العلم من أن الله يصح أن يخلف وعيده؛ لأنه قال: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9]، لكن لم يقل: إن الله لا يخلف الوعيد، فبعض العلماء بنوا على ذلك أن الله سبحانه وتعالى يصح أن يخلف وعيده هكذا وتركوها مطلقة، وقالوا: إن إخلاف الوعيد حسن لا قبيح، وإنما القبيح هو إخلاف الوعد، وأن الشاعر قال: وإني إن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي. يمدح نفسه بأنه يخلف الوعيد، لكنه ينجز الوعد. لكن لا يصح الإطلاق بحال؛ لذلك يقول الشنقيطي : إن القول أن الله يصح أن يخلف وعيده مطلقاً قول غير صحيح؛ لأن وعيده تعالى للكفار حق، ووجب عليهم بتكذيبهم للرسل، كما قال الله سبحانه وتعالى هنا: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)). وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف العلة كقوله: سها فسجد، يعني: فسجد بسبب سهوه، أو لعلة سهوه، أو سرق فقطعت يده، يعني: لعلة سرقته قطعت يده. ومنه قوله تبارك وتعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] فالفاء هنا للسببية، فتكذيبهم الرسل علة صحيحة لكون الوعيد بالعذاب حق واجب عليهم، فدعوى جواز أن يخلف الله الوعيد على الكافر باطلة بلا شك، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في آيات أخر، كقول الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة: قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق:28-29]، فإذا حق عليهم قول الله بالعذاب، فلا يمكن أن يبدل قول الله. فالتحقيق أن المراد بالقول الذي لا يبدل لديه هو الوعيد الذي قدم به إليهم: قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:28-29]. وقال تعالى في سورة ص: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [ص:14]. فإذاً: الوعيد هنا لا يمكن أن يتخلف؛ لأن العقاب حق بسبب أنهم كذبوا الرسل. وبهذا تعلم أن الوعيد الذي لا يمتنع إخلافه هو وعيد عصاة المسلمين؛ بتعديهم على كبائر الذنوب؛ لأن الله تعالى أوضح ذلك في قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]. فالذي يمكن أن يتخلف عنه الوعيد عصاة الموحدين الذين ماتوا على التوحيد، وقد تلبسوا ببعض الكبائر دون أن يتوبوا منها؛ أما إذا تابوا فإن التوبة تقبل إذا استوفت شروطها. يقول الإمام ابن جرير : إنما وصف تعالى في هذه الآية ما وصف من إحلال عقوبته بهؤلاء المكذبين الرسل، ترهيباً منه بذلك مشركي قريش. يعني: إياك أعني واسمعي يا جارة. أي: فقوله: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)) فيه ترهيب لمشركي قريش ألا يكون مصيرهم مصير هؤلاء الذين حق عليهم الوعيد من الأمم السابقة المكذبة، وإعلام منه لهم أنهم إن لم يتوبوا من تكذيبهم رسولهم محمداً صلى الله عليه وسلم أنه محل بهم من العذاب مثل الذي حل بالأمم السابقة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد)

    يقول عز وجل: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:15]. ((أَفَعَيِينَا)) الهمزة للإنكار، يعني أفعجزنا عن ابتداء الخلق في أوله حتى نعجز عن الإعادة؟! فالعي هنا بمعنى العجز، ويأتي أحياناً بمعنى الجهل. قال الكسائي : تقول أعييت من التعب، وعييت من انقطاع الحيلة والعجز عن الأمر. وهذا هو المعروف والأفصح وإن لم يفرق بينهما كثير. والخلق الأول هو الإبداء على ما ذكر، ويحتمل أن يراد به خلق السماوات والأرض؛ لأن خلق الإنسان متأخر عنه، وهذا التفسير يدل له قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ [الأحقاف:33]. وقوله: ((أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)) كأنه قيل: هم معترفون بالخلق الأول، ومعروف أن المشركين يقرون بتوحيد الربوبية وأن الله خلقهم وأنشأهم، فإذا أقررتم بالخلق الأول فلا وجه لإنكار الثاني. قوله: ((بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ)) يعني: بل اختلط عليهم الأمر والسبب؛ لعدم فهمهم إعادة ما مات وتفرق أجزاؤه، وإعراضهم عن سلطان القدرة الإلهية وسهولة ذلك في المقدورات الربانية.

    كلام الناصر على تعريف الخلق الأول وتنكير اللبس والخلق الجديد

    قال الناصر : في الآية أسئلة ثلاثة: لِم عرف الخلق الأول، ونكر اللبس، والخلق الجديد؟ فاعلم أن التعريف لا غرض منه إلا تفخيم ما قصد تعريفه وتعظيمه. يعني: التعريف غير التنكير، التنكير ممكن أن يأتي للتعظيم، ويأتي أحياناً للتقليل أو التحقير، أما التعريف فلا يأتي إلا للتعظيم. ثم قال: ومنه تعريف الذكور في قول الله تبارك وتعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49]. إشارة إلى تعظيم الذكر على الأنثى، فأتى بالتعريف لأنه لا يحتمل إلا التفخيم والتعظيم، ولذلك لما أقام أصحاب تحرير المرأة مؤتمرهم الأخير كانت الآية هذه من ضمن الأشياء التي جعلت إحدى المرشدات تقول: أنا أعترض على هذا التعريف؛ لأنها فهمت أن تعريف الذكورة يقتضي تفضيل الذكر على الأنثى. واعتراضهم على القرآن الكريم كفر وخروج من الملة. وكذلك كان الاعتراض على عدم المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، وهو من إلحادهم، واستعملوا تعبيراً وقحاً جداً في مؤتمر للمرأة أيضاً عقد في اليمن، سموها جندرة اللغة، أنا وقتها لما قرأت المحاضرة لم أكن أستحضر ما هو معنى كلمة جندرة؟! قلت: يمكن أن تكون لهجة يمنية، بعد ذلك لفت نظري كلمة جندر، وجندر تعني الانتماء إلى أحد النوعين الذكر أو الأنثى في اللغة الإنجليزية، فهم ولدوا منها تعبير جندرة اللغة، وهذا مطلب من أيام هدى شعراوي فقد كانوا يعقدون المؤتمرات، وفي إحدى المؤتمرات طالبت بإلغاء نون النسوة من اللغة العربية، وغير ذلك من مطالبهم التافهة ومقاصدهم السخيفة. فالشاهد من الكلام أن التعريف يفيد التفخيم، وإن كان الله تفضل على الإناث بأن قدمهن على الذكور، فقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [الشورى:49]. ثم يقول: ولهذا المقصد عرف الخلق الأول؛ لأن الغرض جعله دليلاً على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى، فإذا لم يعي تعالى بالخلق الأول على عظمته، فالخلق الآخر أولى ألا يعيا به، فهذا سر تعريف الخلق الأول. أما التنكير فأمره منقسم، فمرة يقصد به تفخيم المنكّر من حيث ما فيه من الإبهام، كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة، ومرة يقصد به التقليل من المنكّر والوضع منه، وعلى الأول قوله تبارك وتعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، وقوله تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [المائدة:9]، وقوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ [الطور:17] وهو أكثر من أن يحصى. أما الثاني: وهو الأصل في التنكير أنه للتقليل، فلا يحتاج إلى تنكيره، فتنكير اللبس من التعظيم والتفخيم، وتنكير الخلق الجديد للتقليل منه والتهوين لأمره بالنسبة إلى الخلق الأول، ويحتمل أن يكون للتفخيم، وكأنه أمر أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه ملتبساً عليه، مع أنه أول ما تبصر فيه صحته. وهذه الآية الكريمة: ((أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)) هي من براهين البعث والنشور، وبراهين البعث والنشور سبق أن قلنا: إن منها إحياء الأرض بعد موتها. ومنها أيضاً الاستدلال بإمكان الخلق الثاني؛ لأن من لم يعي بخلق الناس ولم يعجز عن إيجادهم الأول فلا شك أن في قدرته إعادتهم وخلقهم مرة أخرى؛ لأن الإعادة تكون أصعب من البدء، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً، كقوله تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79]. وقال تعالى: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء:51]. وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]. وإعادة الخلق والبعث والنشور (أَهْوَنُ عَلَيْهِ) من البدء. لكن يجب أن يفهم أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وأنه لا يوجد سهل وأسهل، وهين وأهون في حق الله، لكن القرآن يخاطبنا بما تقتضيه عقولنا فيما نعتاده نحن من أفعال، فالإعادة أهون بالقياس إلى ما تقتضيه عقول المخاطبين؛ لأن من أعاد منهم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، أما بالنسبة لله سبحانه وتعالى فالابتداء والإعادة سواء في السهولة. فإياك أن تفهم أن قوله: ((وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)) يعني: وهو أسهل على الله؛ لأن كل شيء بالنسبة إليه سبحانه بين الكاف والنون، يقول عز وجل: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ...)

    يقول الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]. (( مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ )) أي: تحدث به نفسه. ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) هذا تمثيل للقرب المعنوي بالصورة الحسية المشاهدة، وقد جعل ذلك القرب أتم من غاية القرب الصوري، الذي لا استطالة أشد منه في الأجسام، إذ لا مسافة بين الجزء المتصل به وبينه.

    كلام من فسر القرب بالعلم

    واختلف العلماء في تفسير قوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). فقال بعض العلماء: إن المقصود بالقرب هنا قرب العلم. يقول الشهاب : تجوّز بقرب الذات عن قرب العلم. يعني: كأنه يرى أن هذا تعبير مجازي، أي أن المقصود قرب العلم؛ لتنزهه عن القرب المكاني، فهذا هو الذي ألجأه إلى أن يقول: إن هذا تجوز مجازي، لأن الله منزه. إذاً: القرب من الشيء سبب للعلم به وبأحواله في العالم، والمعنى أنه تعالى أعلم بأحواله خفيها وظاهرها من كل عالم، فقد ضرب المثل في القرب بحبل الوريد؛ لأن أعضاء المرء وعروقه متصلة على طريق الجزئية، وحبل الوريد عرق معروف في جانبي العنق، فهي أشد اتصالاً بما اتصل به من الخارج. وخص هذا الوريد؛ لأن به حياته. والحبل العرق، وشبه بواحد الحبال، فإضافته للبيان، أو هي من إضافة العام للخاص. فقوله: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) قرب الله أشد في الحقيقة من قرب حبل الوريد؛ لأن أعضاء الإنسان يحجب بعضها بعضاً، لكن هل يحجب علم الله شيء؟ لا يحجب علم الله شيء.

    تفسير ابن كثير للآية بأن المراد بها قرب الملائكة

    أما ابن كثير فتأول الآية على غير ما تقدم، لكن هذا ليس من التأويل المذموم، فقال ابن كثير في قوله: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ)): يعني: ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه. يعني: إذا كان قرباً حسياً فهو قرب الملائكة. ثم يقول ابن كثير : ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع؛ تعالى الله وتقدس عن ذلك علواً كبيراً، ولكن اللفظ لا يقتضيه، فإنه لم يقل: وأنا أقرب إليه من حبل الوريد، وإنما قال: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) كما قال تعالى في المحتضر: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85] يعني: ملائكته. إذاً قوله: (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) بمعنى: الملائكة بدليل الآيات الكثيرة كقوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ [الأنفال:50] إلى آخره. ثم قال: وكما قال تبارك وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فالملائكة نزلت بالذكر -وهو القرآن- بإذن الله عز وجل، وكذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه بإقدار الله جل وعلا لهم على ذلك، فللملك لمة من الإنسان كما أن للشيطان لمة، وكذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، ولهذا قال تعالى هاهنا: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق:17]. إذاً: الذي شجع ابن كثير على أنه يفسرها بهذا المعنى قوله: (وَنَحْنُ) وقوله في الآية التي بعدها: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق:17]، بسبب قربهما المشار إليه في الآية السابقة، وعزز مذهبه بآية الواقعة وآية الحجر. والوجه الأول الذي ذهب إليه القاسمي أدق وأقرب يعني أنه تمثيل للقرب المعنوي بالصورة الحسية المشاهدة، وفيه من سعة العلم مع التعريف بجلالة المقام الرباني ما لا يخفى. وليس تأويل من تأول بالعلم للفرار من الحلول والاتحاد فقط، بل له ولما تقدم أولاً، كما أن إيثار (نحن) على (أنا) لا يحسم ما نفاه؛ لأن احتمال إرادة التعظيم بـ(نَحْنُ) أمر شائع. نعم اللفظ الكريم يحتمل ما ذكره، بأن يكون ورد ذلك تعظيماً للملك، لأنه بأمره تعالى وبإذنه، ولكن لا ضرورة تدعو إليه مع ما عرف من أن الأصل الحقيقة.

    كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في صفة القرب لله تعالى

    ثم يقول القاسمي رحمه الله تعالى:رأيت ابن كثير مسبوقاً بما ذكره شيخه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى. و ابن كثير من أوفى تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية ، فكان يحبه حباً شديداً، حتى إنه أوصى أن يدفن معه بعد موته رحمه الله وقد تم له ذلك. فسبق شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "شرح حديث النزول". يقول شيخ الإسلام : ليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب من كل شيء أصلاًً، بل قربه الذي في القرآن خاص لا عام كقوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] فهو سبحانه قريب ممن دعاه، وكذلك ما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذين تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته). فقال: (إن الذين تدعونه أقرب إلى أحدكم..) ولم يقل: إنه قريب إلى كل موجود. يعني: هو أقرب إلى أحدكم إذا دعاه وإذا ذكره، ولم يقل: إن الله سبحانه وتعالى قريب إلى كل موجود. وكذلك قول صالح عليه السلام: فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود:61]. ومعلوم أن قوله: (( قَرِيبٌ مُجِيبٌ ))، مقرون بالتوبة والاستغفار، أراد بـ (( قَرِيبٌ مُجِيبٌ )) لاستغفار المستغفرين التائبين إليه، كما أنه رحيم ودود. وقد قرن القريب بالمجيب، ومعلوم أنه لا يقال: مجيب لكل موجود وإنما الإجابة لمن سأله ودعاه، فكذلك قربه سبحانه وتعالى. فالقرب يأتي في القرآن خاص، لكن العلم عام. وأسماء الله المطلقة كاسمه السميع والبصير والغفور والشكور والمجيب والقريب لا يجب أن تتعلق بكل موجود، بل يتعلق كل اسم بما يناسبه، واسمه العليم لما كان كل شيء يصلح أن يكون معلوماً تعلق بكل شيء، لكن اسم القريب إنما يتعلق تعلقاً خاصاً. وأما قوله تعالى: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) فالمراد به قربه إليه بالملائكة. هذا هو المعروف عن المفسرين المتقدمين من السلف، قالوا: ملك الموت أدنى إليه من أهله، ولكن لا ترون الملائكة. وقد قال طائفة: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ)) بالعلم، وقال بعضهم بالعلم والقدرة والرؤية، وهذه الأقوال ضعيفة، فإنه ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عام من كل موجود، حتى يحتاجوا أن يقولوا بالعلم والقدرة. هكذا شيخ الإسلام يرد على من قال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) يعني أقرب إليه بالعلم، فيقول: العلم عام وشامل، ولكن القرب خاص، وليس في القرآن أن الله قريب من كل موجود، كما يفهم ذلك في العلم؛ لأن الله بكل شيء عليم. يقول: ولكن بعض الناس لما ظنوا أنه يوصف بالقرب من كل شيء، تأولوا ذلك بأنه عالم بكل شيء قادر على كل شيء، وكأنهم ظنوا أن لفظ القرب مثل لفظ المعية، وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا في قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]: أي: هو معكم بعلمه مع علوه على عرشه. وذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لم يخالفهم فيه أحد. ثم قال: ولم يأت في لفظ القرب مثل ذلك، أنه قال: هو فوق عرشه وهو قريب من كل شيء، وإنما قال تعالى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56] وقال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] يعني: قربه ممن يدعوه ويسأله. وقد روى ابن أبي حاتم بسنده: (أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]) ولا يقال في هذا قريب بعلمه وقدرته؛ فإنه عالم بكل شيء قادر على كل شيء. أي: فهم لم يشكوا في ذلك ولم يسألوا عنه، وإنما سألوا عن قربه إلى من يدعوه ويناجيه، فأخبر أنه قريب مجيب. قال: وطائفة من أهل السنة تفسر القرب في الآية والحديث بالعلم، فإنه إذا كان يعلم ويسمع دعاء الداعي حصل المقصود، وهذا هو الذي جعلهم يقولون: إن القرب بمعنى العلم والقدرة، فإن هذا قد قاله بعض السلف وكثير من الخلف، ولكن لم يقل أحد منهم: أن ذات الله سبحانه وتعالى هي قريبة من كل موجود، وهذا المعنى يقر به جميع المسلمين، من يقول إنه فوق العرش، ومن يقول إنه ليس فوق العرش. أما أصحاب المواويل وهذه الأشياء فإنهم يقولون كلاماً فظيعاً، وهو فساد في العقيدة، والناس تردده دون أن تعي، يقولون في بعض الأناشيد: موجود في كل وجود. إذاً: هذه عقيدة باطلة؛ لأن اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى موجود في كل وجود بذاته حلول والعياذ بالله وكفر، وإنما العموم هنا لعلمه وسمعه وبصره. ثم قال شيخ الإسلام : وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات البارئ جل وعلا قريبة من وريد العبد ولما ظنوا أن المراد قربه وحده دون الملائكة، فسروا ذلك بالعلم والقدرة كما في لفظ المعية. أي: لما فهموا أن القرب مثل العلم، فسروا القرب بأنه مثل المعية، ولا حاجة إلى هذا، فإن المراد بقوله: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الواقعة:85] يعني: بملائكتنا في الآيتين، وهذا بخلاف المعية، فإنه لم يقل: ونحن معه، بل جعل نفسه هو الذي مع العباد، وأخبر أنه يجزيهم يوم القيامة بما عملوا، وهو نفسه الذي خلق السماوات والأرض، وهو نفسه الذي استوى على العرش، فلا يُجْعلَ لفظ مثل لفظ، مع تفريق القرآن بينهم، لأن هناك فرقاً بين القرب وبين العلم والمعية. قال: ثم قال تعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) لا يجوز أن يراد به مجرد العلم؛ فإن من كان بالشيء أعلم من غيره لا يقال: إنه أقرب إليه من غيره لمجرد علمه به ولا بمجرد قدرته عليه، ثم إنه سبحانه وتعالى عالم بما يسر من القول وما يجهر به وعالم بأعماله، فلا معنى لتخصيصه حبل الوريد. أي: لو كان قرب العلم فلا معنى لتخصيص حبل الوريد؛ لأن الله عالم بكل شيء، ولأن العلم عام لكن القرب خاص فلا يصح تفسير القرب بالعلم؛ لأنه لا فرق بين حبل الوريد وغيره في العلم، لكن قربه هنا قربه بالملائكة كما ذكرنا. قال: فإن حبل الوريد قريب إلى القلب وليس قريباً إلى قوله الظاهر، فهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه، قال تعالى: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]. ومما يدل على أن القرب ليس المراد به العلم سياق الآية؛ فإنه سبحانه وتعالى قال: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)) وأخبر أنه يعلم وسواس نفسه، ثم قال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) فأثبت العلم وأثبت القرب، فيفهم من هذا أنهما شيئان مختلفان فلا تجعل أحدهما هو الآخر. أي: فهنا لا يصح تفسير قربه بالعلم؛ لأنه قرن بينهما في الآية فقال: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)) ثم قال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) فأثبت العلم وأثبت القرب وجعلهما شيئين، فلا يجعل أحدهما هو الآخر. قال: وقيد القرب ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذات الرب من حبل الوريد، وأن ذاته أقرب إلى الميت من أهله، فهذا في غاية الضعف، وذلك أن الذين يقولون: إنه في كل مكان وإنه قريب من كل شيء بذاته لا يخصون بذلك شيئاً دون شيء. أي: وحتى على مذهب هؤلاء لا يصح هذا التفسير، هذا هو المقصود من كلام شيخ الإسلام . ولذلك أهل السنة يقولون لهؤلاء: إذا كان الله في كل مكان، فهل الله في أماكن النجاسات ونحوها؟! لكي يلزموهم أن هذا مذهب باطل، وأن الله منزه عن أن يتواجد في كل مكان.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756459778