إسلام ويب

تفسير سورة الزخرف [1-20]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    بين يدي سورة الزخرف

    سميت سورة الزخرف بهذا الاسم لدلالتها على أن الدنيا في غاية الخسة في نفسها، وغاية العداوة مع ربها؛ بحيث لا تليق بالأصالة إلا لأعدائه، كما سيتضح هذا المعنى جلياً عند تفسير الآية التي ذكر فيها الزخرف، فالدنيا ليست للمؤمنين وطناً ولا مقراً. وهي سورة مكية إلا قوله تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]، وآياتها تسع وثمانون آية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (حم. والكتاب المبين. إنا جعلناه قرآناً عربياً ...)

    قال تبارك وتعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:1-3] أي: لعلكم تعقلون معانيه: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ [الزخرف:4] أي: رفيع القدر، بحيث لا رفعة وراءها، حَكِيمٌ [الزخرف:4] أي: ذو الحكمة الجامعة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين)

    قال تبارك وتعالى: أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ [الزخرف:5]. أي: أنهملكم ونصرف عنكم الذكر لإسرافكم، وإنما كانت الحاجة إلى الذكر بسبب الإسراف، يعني: أن الشخص الذي يحتاج إلى تذكير بآيات الله سبحانه وتعالى هو المسرف، فإنه يذكر ليرجع إلى الاعتدال، فيقول الله تبارك وتعالى: (( أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا )) يعني: أنهملكم ونصرف عنكم الذكر لإسرافكم، وإنما كانت الحاجة إلى الذكر للإسراف، إذ لو كانوا على السيرة العادلة والطريقة الوسطى لما احتيج إلى التذكير، بل التذكير يجب عند الإسراف والتفريط، ولهذا بعث الله الأنبياء في زمان الفترة؛ لشدة حاجة الناس إلى التذكير؛ لأنهم يميلون إما إلى الإفراط وإما إلى التفريط.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين. وما يأتيهم من نبي ...)

    قال تعالى: وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا [الزخرف:6-8] أي: قوة، وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ [الزخرف:8] أي: سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصصهم وحالهم مع تكذيبهم وتعذيبهم وما مثلناه لهم، وهذا هو الذي اختاره القاسمي. والمقصود من ذلك أن يتوقع هؤلاء المستهزئون من العقوبة مثل ما حل بسلفهم الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ . قال الألوسي: الضمير في قوله: (أشد منهم) عائد إلى القوم المسرفين المخاطبين في قوله تعالى: أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ، وفيه ما يسميه علماء البلاغة: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة. وقوله: (أشد منهم) مفعول به لأهلكنا، لكن الأصل أن (أشد) نعت لمحذوف؛ لأن المفعول محذوف تقديره: أهلكنا قوماً أشد منهم بطشاً، على حسب قوله في الخلاصة: وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل فهنا حذف المنعوت لوضوح النعت، وعلى هذا فقوله: (( فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا )) يعني: فأهلكنا قوماً أشد منهم بطشاً، والبطش أصله: الأخذ بعنف وشدة، والمعنى: فأهلكنا قوماً أشد بطشاً من كفار مكة الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم؛ بسبب تكذيبهم رسلهم، فليحذر الكفار الذين كذبوك أن نهلكهم بسبب ذلك كما أهلكنا الذين كانوا أشد منهم بطشاً، أي: كانوا أكثر منهم عَدداً وعُدداً وجلداً، فعلى الأضعف الأقل أن يتعظ بالأقوى الأكثر. وقوله تعالى: (( وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ )) أي: صفتهم التي هي إهلاكهم المستأصل بسبب تكذيبهم الرسل، وقول من قال: (مثل الأولين) أي: عقوبتهم وسنتهم راجع إلى ذلك المعنى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض...لعلكم تهتدون)

    قال تبارك وتعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا [الزخرف:9-10]، وفي قراءة: (مهاداً) أي: فراشاً تستقرون عليها، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف:10] أي: طرقاً تمشون عليها من بلدة إلى بلدة لمعايشكم ومتاجركم. وقوله: (لعلكم تهتدون) أي: بتلك السبل إلى حيث أردتم من القرى والأمصار.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر ....)

    قال الله تعالى: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف:11]. قال تعالى: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ أي: بمقدار الحاجة إليه، فلم يجعله طوفاناً يهلك، ولا رذاذاً لا ينبت، بل قدره بما ينفعكم ويقضي حاجاتكم، فهو غيث مغيث. وقوله تعالى: فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا أي: أحيينا به بلدة ميتاً من النبات، قد درجت من الجدب، وعتت من القحط، فأحياها الله سبحانه وتعالى بعد موتها بهذا الماء. وقوله: كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ أي: من بعد فنائكم ومصيركم في الأرض كذلك يخرجكم الله سبحانه وتعالى أحياءً، وقد تقدم أن من أدلة البعث والنشور الاعتبار بإحياء الله تعالى الأرض بعد موتها. قال بعض العلماء في قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر): أي: بقدر سابق وقضاء، وهذا تفسير آخر. وقال بعض العلماء: أي: بمقدار يكون به إصلاح البشر، فلم يكثر الماء جداً فيكون طوفاناً فيهلكهم، ولم يجعله قليلاً دون قدر الكفاية، بل نزله بقدر الكفاية من غير مضرة، كما قال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [المؤمنون:18]، وقال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر:21]، إلى قوله تعالى: .. وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [الحجر:22].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذي خلق الأزواج كلها ...)

    قال تعالى: وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ [الزخرف:12]. قال تبارك وتعالى: وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا أي: خلق كل شيء فزوجه، أي: جعله صنفين، كما قال تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى [القيامة:39]، والأزواج هي الأصناف، والزوج تطلق في لغة العرب على الصنف، وقد بين تعالى أن الأزواج المذكورة هنا تشمل أصناف النبات وبني آدم وما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36]، وقال أيضاً: وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى [طه:53]، وقال أيضاً: فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5] أي: من كل صنف حسن من أصناف النبات، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [لقمان:10] . ومن إطلاق الأزواج على الأصناف في القرآن الكريم قول الله سبحانه وتعالى: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [ص:58] أي: أصناف، وقال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [طه:131] أي: أصنافاً منهم، وقال تعالى أيضاً: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [الصافات:22] يعني: والأصناف الذين كانوا على شاكلتهم. وقوله: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ أي: جعل لكم من السفن والبهائم ما تركبونه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم ...)

    قال تعالى: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13-14]. قال السيوطي في (الإكليل): في الآية استخدام هذا الذكر عند ركوب الدابة والسفينة، وكان صلى الله عليه وسلم يقوله كلما استوى على راحلته أو دابته. ومما يلفت النظر هنا أن الآية تشير إلى هذا الذكر بعد قوله سبحانه وتعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ [الزخرف:12] و(الفلك): سفن، والسفن جمادات ليس فيها روح. فإذاً: هذا الذكر يقال عند ركوب أي شيء من وسائل المواصلات، سواء كان المصعد مثلاً؛ لأنه من تسهيل الله، أو كانت الحافلة أو السيارة أو الدراجة، أو أي شيء مما سخره الله سبحانه وتعالى من أنواع الجمادات، بجانب المخلوقات الحية من الخيول والجمال وغيرها، فيستحب أن يقال هذا الذكر عند الاستواء عليها. فالله جل وعلا جعل لبني آدم ما يركبونه من الفلك التي هي السفن، ومن الأنعام. وقوله: (( لِتَسْتَوُوا )) أي: ترتفعوا؛ لأن الاستواء بمعنى الارتفاع، أي: لترتفعوا معتدلين على ظهورها، ثم تذكروا في قلوبهم نعمة ربهم عليهم بتلك المركوبات، فلابد من شكر هذه النعمة بالقلب، ثم يضيف إلى ذلك الشكر باللسان، بأن يقولوا بألسنتهم مع تفهم معنى الكلام الذي يقولونه: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ .

    معنى قوله تعالى: (سبحان الذي سخر لنا هذا)

    قوله: (سبحان) تدل على تنزيه الله عز وجل أكمل تنزيه وأتمه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وقوله: (الذي سخر لنا هذا) (هذا) راجعة إلى لفظة: (ما) في قوله سبحانه وتعالى: مَا تَرْكَبُونَ يعني: الذي تركبون، والمعنى: (سبحان الذي سخر لنا هذا الذي نركبه. ويلاحظ أن الله سبحانه وتعالى جمع الظهور مع أن كلمة: (ما) مفرد، فقال: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ فجمع الظهور نظراً إلى معنى ما؛ لأن معناها عام شامل لكل ما تشمله صلتها، فعام، فالجمع في الآية باعتبار معناها، والإفراد في قوله: (عليه) باعتبار لفظها. وقوله: (( سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا )) أي: ذلل لنا هذا الذي نركبه من الأنعام والسفن؛ لأن الأنعام لو لم يذللها الله لهم لما قدروا عليها، ولا يخفى أن الجمل أقوى من الإنسان، فلابد للإنسان أن يستحضر هذه النعمة، وأن يشكرها بقلبه، ثم يتدبر ويتفكر فيما يقول ليحسن أداء الشكر بلسانه، وقد رأينا صور الفيلة في بلاد الهند وغيرها، ومع هذا يأتي طفل صغير فيركب على الفيل ويقوده، وكم بين طفل وبين فيل! وأيضاً الجمال، فالجمل بلا شك أقوى من الإنسان، ويعرف هذا جيداً من يعرف طبع الجمل إذا نفر وتمرد على صاحبه، فهذا التسخير هو بقوة الله عز وجل وإرادته. وكذلك البحر، فإنه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وفيه من القوة ما لا يجهله أحد، ففيه من الأمواج ما قد تغرق أقوى السفن على الإطلاق، ومع ذلك يذللـه الله سبحانه وتعالى ويسخره لبني آدم، فلو لم يذلل الله هذا البحر لإجراء السفن فيه لما قدر الناس على شيء من ذلك. وقد يقول بعض الناس: إن الذي يحكمه أحوال الطبيعة، وإن السفينة تحمل الأثقال الكبيرة وتثبت فوق الماء.. وكذا، فنقول: ينبغي أن ننتبه إلى أن الله هو الذي أودع فيه هذه السنن وهذه القوانين، ونحن فقط نكتشفها، أو نكتشف ما نستطيعه مما يتوافق مع حاجاتنا ومصالحنا، ولا شك إنها كلها من فعل الله سبحانه وتعالى. والقوانين التي تسمى بقوانين الفيزياء كلها عبارة عن سنن موجودة منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى هذا الخلق، فأودعها فيه، ونحن نكتشفها، فالفضل لله عز وجل أولاً وآخراً.

    معنى قوله تعالى: (وما كنا له مقرنين)

    وقوله تعالى: وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف:13] أي: مطيقين، والعرب تقول: أقرن الرجل بالأمر وأقرنه إذا كان مطيقاً له كفؤاً للقيام به، من قولهم: أقرنت الدابة بالدابة، إذا قرنتها في حبل بدابة أخرى قدرت على مقاومتها، ولم تكن أضعف منها، فتجرها؛ لأن الضعيف إذا لز في القرن -الذي هو الحبل- مع القوي جره ولم يقدر على مقاومته، كما قال جرير : وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس والبزل: جمع بازل: وهو البعير الذي يضع نتاجه وهذا كله في السنة الثامنة أو التاسعة. وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معدي كرب -وقد حمله قطرب على هذا المعنى-: لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنين

    وسائل المواصلات من تسخير الله عز وجل

    وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن ما ذكر من السفن والأنعام فإنه لو لم يذللـه الله لهم لما قدروا عليه ولما أطاقوه، كما جاء ذلك مبيناً في آيات أخر، منها قوله سبحانه وتعالى مبيناً العلامات العظام على قدرة الله سبحانه وتعالى ومننه على خلقه، وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس:41-42]، وكما سبق في تفسير سورة يس أن في قوله: (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) إشارة إلى ما استجد من وسائل المواصلات، سواء في البر أو البحر أو الجو، فكلها داخلة في قوله: وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ . وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [النحل:14]، وقال عز وجل: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الجاثية:12]، وقال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ [إبراهيم:32]، وقال تعالى: وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:72] وغير ذلك من الآيات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجعلوا له من عباده جزءاً ...)

    قال تبارك وتعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ [الزخرف:15]. قوله: (وجعلوا له من عباده جزءاً) أي: جعل هؤلاء المشركون لله من خلقه نصيباً، وذلك قولهم للملائكة: هم بنات الله. قال القاشاني : أي: اعترفوا بأنه خالق السماوات والأرض ومبدعهما وفاطرهما، وقد جسموه وجزءوه بإثبات الولد له الذي هو بعض من الوالد مماثل له في النوع. يعني: لا شك أن الولد فرع عن الوالد الذي هو الأصل، فإثبات الولد فيه تجسيم لله سبحانه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فالولد يكون مماثلاً في النوع لوالده، فهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم ماديين وظاهريين جسمانيين، لا يتجاوزن عن رتبة الحس ولا يتجردون عن ملابس الجثمانيات حتى يدركوا الحقائق المجردة والذوات المقدسة فضلاً عن ذات الله تعالى، فكل ما تصوروا وتخيلوا كان شيئاً جسمانياً، يعني: كحالة الماديين في عصرنا الذين يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بما يرونه ويحسونه، ويجعلون جهلهم بما وراء ذلك من الغيبيات دليلاً كافياً في التكذيب بها، ولهذا كذبوا الأنبياء في إثبات الآخرة والبعث والنشور وكل ما يتعلق بالمعاد، وكذبوا بالجن وبالملائكة، وبغير ذلك مما لا يقع تحت حسهم؛ إذ لا يتعدى إدراكهم الحياة الدنيا، وأيضاً لا تتعدى عقولهم المحجوبة عن نور الهداية أمور المعاش، فلا مناسبة أصلاً بين ذواتهم وذوات الأنبياء إلا في ظاهر البشرية، فلا حاجة إلى ما وراءها. وقوله: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أي: لجحود نعم ربه التي أنعمها عليه، وهذا يبين كفرانه لمن تدبر حاله.

    خلاف العلماء في معنى قوله تعالى: (جزءاً)

    يقول الألوسي رحمه الله تعالى في تفسير قوله عز وجل: (وجعلوا له من عباده جزءاً): قال بعض العلماء: (جزءاً) أي: عدلاً ونظيراً، يعني: الأصنام وغيرها من المعبودات من دون الله عز وجل. وقال بعض العلماء: (جزءاً) ولداً. وقال بعض العلماء: (جزءاً) البنات. وذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية أن الجزء هو النصيب، وتبعه القاسمي على ذلك؛ فـالقاسمي ذهب إلى أنه النصيب، واستشهد ابن كثير على ذلك بآية الأنعام، وهي قوله تبارك وتعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا [الأنعام:136]. قال الألوسي عفا الله عنه وغفر له ورحمه: إن الذي يظهر أن قول ابن كثير رحمه الله هذا غير صواب في الآية؛ لأن المدعى لله في آية الأنعام هو النصيب مما ذرأ من الحرث والأنعام، والمدعى له في آية الزخرف هذه جزء من عباده، لا مما ذرأ من الحرث والأنعام، فبين الأمرين فرق واضح كما ترى. وقول قتادة ومن وافقه: إن المراد بالجزء: العدل والنظير الذي هو الشريك غير صواب أيضاً؛ لأن إطلاق الجزء على النظير ليس بمعروف في كلام العرب، أما كون المراد بالجزء في الآية الولد، وكون المراد بالولد خصوص الإناث، فهذا هو التحقيق لمعنى هذه الآية الكريمة. يعني: أن هناك من قال: إن الجزء هو: الولد، وهناك من قال: إن الجزء هو البنات، والعلامة الألوسي رحمه الله تعالى يقول: المذهب الأول صحيح باعتبار عمومه، لكن المراد من هذا العموم الخصوص (البنات) يعني: أن كلمة الولد تعم الذكور والإناث، كما قال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، ثم خصص وقال: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، فالبنت يطلق عليها أيضاً ولد. فإذاً: لا تعارض بين التفسيرين، بل بينهما عموم وخصوص، فالبنت تدخل في قوله الولد، لكن المراد خصوص البنت من قسمي الولد، فيكون إطلاق الجزء على الولد يوجه بأمرين: أحدهما: ما قاله بعض علماء العربية: إن العرب تطلق الجزء مراداً به البنات، فيقولون: أجزأت المرأة إذا ولدت البنات، وامرأة مجزئة، أي: تلد البنات، ومنه قول الشاعر: إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب قد تجزئ الحرة المذكار أحياناً وقول الآخر: زوجتها من بنات الأوس مجزئة للعوسج اللدن في أبياتها زجل وأنكر الزمخشري هذه اللغة قائلاً: إنها كذب وافتراء على العرب، وقال في (الكشاف) في الكلام على هذه الآية الكريمة: ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب ووضع مستحدث ملحون، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتاً وبيتاً: إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب ... زوجتها من بنات الأوس مجزئة ... إلى آخره. وقال ابن منظور في (اللسان): وفي التنزيل العزيز وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا [الزخرف:15] قال أبو إسحاق: يعني به الذين جعلوا الملائكة بنات لله تعالى وتقدس عما افتروا، قال: وقد أنشدت بيتاً يدل على أن معنى جزءاً معنى الإناث، قال: ولا أدري البيت هو قديم أم مصنوع: إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب ... إلى آخر البيت. فالمعنى في قوله: (وجعلوا له من عباده جزءاً) أي: جعلوا نصيب الله من الولد الإناث، قال: ولم أجده في شعر قديم، ولا رواه عن العرب الثقات، وأجزأت المرأة: ولدت الإناث، وأنشد أبو حنيفة: زوجتها من بنات الأوس مجزئة انتهى الغرض من كلام صاحب (اللسان). وظاهر كلامه هذا الذي نقله عن الزجاج أن قولهم: أجزأت المرأة إذا ولدت الإناث معروف، ولذا ذكره وذكر البيت الذي أنشده له أبو حنيفة كالمسلم له. إذاً: لاحظنا أن هناك اختلافاً في ثبوت المعنى المذكور لكلمة (جزءاً).

    التحقيق في معنى الآية

    أما الوجه الثاني وهو التحقيق إن شاء الله: أن المراد بالجزء في الآية: الولد، وأنه أطلق عليه اسم البنت؛ لأن الفرع كأنه جزء من أصله، والولد بضعة من الوالد. لأن معنى الجزء المذكور لله من عباده هو بعينه الذي أنكره الله إنكاراً شديداً، وقرع مرتكبه تقريعاً شديداً في قوله تعالى بعده مباشرة: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [الزخرف:16-17]، إلى قوله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، ففي سياق الآيات عموماً في هذا الموضع كلها يتكلم الله على ما هو معروف من بغض العرب للإناث، وكيف أنهم نسبوا البنات -وهن أخس النوعين في نظرهم- إلى الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين)

    قال تعالى: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ [الزخرف:16]. (أم اتخذ) يعني: بل اتخذ، والهمزة للإنكار تكذيباً لهم وتعجيباً من فعلهم؛ حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءاً حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزئين وهو الإناث دون الذكور، مع أنهم أنفر خلق الله عن الإناث وأمقتهم لهن، وقد بلغ بهم المقت إلى أن وأدوهن، وكأنه قيل: هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه جائزة فرضاً وتمثيلاً، أما تستحيون من السقوط في الفتنة ومن ادعائكم أنه آثركم على نفسه بخير الجنسين وأعلاهما وترك له شرهما وأدناهما؟! أفاده الزمخشري . يقول الألوسي رحمه الله في قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ : (أم) هنا بمعنى استفهام الإنكار، فالكفار لما قالوا: الملائكة بنات الله، أنكر الله عليهم أشد الإنكار موبخاً لهم أشد التوبيخ، حيث افتروا عليه الولد، ثم جعلوا له أنقص الولدين وأحقرهما وهو الأنثى، كما قال تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات) وهي النصيب الأدنى من الأولاد، (وأصفاكم) أي: خصكم وآثركم (بالبنين) الذين هم النصيب الأعلى من الأولاد، وهذا ما وضحه تعالى في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [الزخرف:17]، وقال تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل:58] يعني: فكيف تجعلون لله الإناث وأنتم لو بشر الواحد منكم بأن امرأته ولدت أنثى لظل وجهه مسوداً من الكآبة وهو كظيم، أي: ممتلئ حزناً وغماً؟ وقوله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، فيه إنكار شديد وتقريع عظيم لهم؛ لأنهم مع افترائهم عليه جل وعلا الولد جعلوا له أنقص الولدين؛ وفي هذا إشارة إلى نوعين من الضعف والنقص يوجدان في المرأة: النوع الأول: نقص ظاهري. والنوع الثاني: نقص باطني. أما النقص الظاهري فمن حيث الصورة؛ فإنه لا شك أن الرجل أكمل من المرأة من الناحية البدنية، ولذلك تحاول النساء تكميل هذا النقص في الظاهر بارتداء الحلي والزينة، أما الرجل فزينته هي الرجولة نفسها، ولذلك لا يليق بالرجل أن يلبس الذهب ولا يلبس الحرير ونحو ذلك، ومع تحريم الذهب والحرير إلا أن الله تعالى -مراعاة لفطرة النساء- أباح لهن هذه الأشياء، وقال هنا: ((أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين))، أي: أتختارون لله سبحانه وتعالى النصيب الأدنى والأضعف والأنقص؟! كيف والأنثى لنقصها الظاهري تنشأ في الحلية، وتنجذب إلى الزينة لتكملة هذا النقص بالملابس والزينة وغير ذلك؟ قال الشاعر: وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا وأما إذا كان الجمال موفراً كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا فالنقص الظاهري تجبره المرأة بالزينة من الذهب وغيره. وقوله: وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ هذا هو النقص الداخلي الباطني، فالغالب في المرأة أنها حيية لا تفصح ولا تقوى على المناظرة ولا المحاورة عند الخصام والجدال، فالنساء إذا شئن أن يفتخرن في الشعر لم يقارن الرجال، بخلاف الرثاء فإن فيه ضعفاً؛ فرثاء الخنساء لأخيها صخر بالنسبة لرثاء الشعراء من الرجال فيه تميز واضح جداً. إذاً: هنا إنكار شديد وتقريع عظيم لهم بأنهم مع افترائهم على الله سبحانه وتعالى الولد جعلوا له أنقص الولدين الذي لنقصه الخلقي ينشأ في الحلية من الحلي والحلل وأنواع الزينة من صغره إلى كبره، حتى ترى الطفلة الصغيرة التي لا رأت التلفزيون ولا رأت الأفلام ولا خالطت المتبرجات تذهب بالفطرة إلى المرآة، ولا شغل لها إلا المرآة والزينة وتسريح الشعر والفرح والسعادة بهذا الحلي، لتجبر بتلك الزينة نقصها الخلقي الطبيعي، والأنثى غالباً لا تقدر على القيام بحجتها ولا الدفاع عن نفسها. وقد يقول بعض الناس: هناك بعض النساء عندهن قدرة على الخصام، فنقول: نعم، لكن هل هو خصام مبين ينفع أو يشفع؟ الجواب: لا، ففي الغالب أن المرأة لا تقوى على مثل ذلك، ولكن توجد بعض استثناءات، كما قال الشاعر: فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال فالأنثى غالباً لا تقدر على القيام بحجتها ولا الدفاع عن نفسها.

    ضلال الجاهلية في نسبة البنات إلى الله

    قال تبارك وتعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57]. وقال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النحل:62]؛ لأن كراهية البنات سنة جاهلية قبيحة ومبغوضة من الله سبحانه وتعالى. وقال تعالى: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [الإسراء:40]. وقال سبحانه وتعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم:21-22]. وقال تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الصافات:149-157]. كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله، وحينما يئدون البنات ويدفنونهن أحياء كانوا يقولون: نلحقهن ببنات الله، وندفنهن حتى يلتحقن بالملائكة الذين زعموا أنهم إناث، وبعض الجهلة يزينون ستائر البيوت بالتماثيل، ولكن ليت الأمر وقف عند حد التزيين بالتماثيل، بل يصنعون تماثيل على هيئة عرائس صغيرة بأجنحة، يعني: على نفس المعنى الجاهلي الذي نعاه الله سبحانه وتعالى واستنكره على أهل الجاهلية، أي: أنهم يصفون الملائكة بأنهم إناث، فتراهم يصنعون تمثالاً صغيراً على هيئة البنات، ذوات أجنحة، على أساس أن هذه هي الملائكة، وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وهذا يخرج من نفس المنبع الجاهلي، فينبغي للمسلم أن يحذر من ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ...)

    قال تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [الزخرف:17]. وقوله تبارك وتعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً) فيه إشارة إلى أسلوب آخر من أساليب الإنكار عليهم فيما يزعمون؛ لأن هذه البنات المزعومة يلزم من ادعائها أن تكون من جنس من نسبت إليه؛ لأن الوالد والولد من جنس واحد، وكلاهما يشبه الآخر في صفاته، فهذا هو السر في قوله تبارك وتعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا [الزخرف:17] يعني: أنهم بزعمهم أن لله بنات وهي الملائكة، فهذا يقتضي أنهم يجعلون هؤلاء الملائكة من المثل لله سبحانه وتعالى. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ووجه التعبير عن الأنثى بما ضرب مثلاً لله في قوله: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظاهر؛ لأن البنات المزعومة يلزم من ادعائها أن تكون من جنس من نسبت إليه؛ لأن الوالد والولد من جنس واحد، وكلاهما يشبه الآخر في صفاته، فلذا قال: (مثلاً). ويقول القاسمي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا : أي: من البنات، ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أي: من الكآبة والغم والحزن، (وهو كظيم) أي: مملوء قلبه من الكرب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين)

    قال تبارك وتعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]. قوله: (أومن ينشأ) أي: يربى، (في الحلية) أي: في الزينة، يعني البنات، (وهو في الخصام) أي: في المجادلة، (غير مبين) أي: لمن خاصمه ببرهان وحجة، لعجزه وضعفه، والمعنى: أومن كان كذلك جعلتموه جزءاً لله من خلقه، وزعمتم أنه نصيبه منهم. قال إلكيا الهراسي رحمه الله تعالى: فيه دليل على إباحة الحلي للنساء، سئل أبو العالية عن الذهب للنساء فلم ير به بأساً، وتلا هذه الآية: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ...)

    وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19]. قال تبارك وتعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أي: جعلوا ملائكة الله الذين هم عنده يسبحونه ويقدسونه إناثاً، والتفسير لـ (عنده) مبني على قراءة أخرى في نفس هذه الآية وهي أن بعض القراء يقرءونها: (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً)، أخذاً من قوله تعالى: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ [فصلت:38] وليس هناك إشكال؛ لأن من شروط القراءة الصحيحة أولاً: أن توافق الرسم والخط العثماني، والخط العثماني لم يكن منقوطاً، وذلك أن (عند وعباد) تكتب بنفس الحروف العين والباء والدال، لأن عباد تكتب في المصحف العثماني (عبد) لكن تُقرأ عباد إذا قدرنا النقطة تحت الباء، أما إذا قرأناها: الذين هم عند الرحمن، فتكون النقطة فوق، وسبب هذا أن المصحف العثماني لا توجد فيه هذه النقطة لا فوق ولا تحت. ثانياً: أن تكون موافقة للإعراب ولقواعد النحو العربي. ثالثاً: أن تثبت بالتواتر. وقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19]، في القراءة الأخرى: (الذين هم عند الرحمن إناثاً) أي: جعلوا ملائكة الله الذين هم عنده يسبحونه ويقدسونه إناثاً، فقالوا: هم بنات الله، جهلاً منهم بحق الله سبحانه، وجراءة منهم على قول الكذب. وقوله: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي: أحضروا خلق الله إياهم فوصفوهم بذلك لعلمهم بهم وبرؤيتهم إياهم؟! وهو إنكار عليهم. وقوله: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ أي: على الملائكة بما هم مبرءون منه، وَيُسْأَلُونَ أي: يسألون عنها يوم القيامة، بأن يأتوا ببرهان على حقيقتها، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً، وفيه من الوعيد ما فيه؛ لأن كتابتها والسؤال عنها يقتضي أنهم سوف يعاقبون ويجازون على ذلك أشد الجزاء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم )

    قال تعالى: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:20-22]. في هذه الآيات الرد على من يقلدون آبائهم على الباطل، وبيان أن ذلك من عبادة الطاغوت؛ لأن الله يكره ويبغض عبادة الطاغوت، والناس في ذلك أصناف، كما قال تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ [النحل:36] وهم الذين عبدوا الله ووحدوه، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36] وهم الذين عبدوا الطاغوت من دون الله، فعبادة الطاغوت من دون الله لا يمكن أن يكون صاحبها مهتدياً، ولهذا كذبهم الله في قولهم: وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ، بأنهم ليسوا مهتدين، بل هم ضالون. وأوضح أنه لم يكن راضياً بكفرهم، وأنه بعث في كل أمة رسولاً، وأمرهم على لسانه أن يعبدوا الله وحده ويجتنبوا الطاغوت، أي: يتباعدوا عن عبادة كل معبود سواه، وأن الله هدى بعضهم إلى عبادته وحده، وأن بعضهم حقت عليه الضلالة، أي: ثبت عليه الكفر والشقاء، كما قال تعالى في آية الأنعام: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]، فالله وحده هو الذي يملك التوفيق والهداية، وله الحجة البالغة على خلقه، يعني: فمن هديناه وتفضلنا عليه بالتوفيق فهو فضل منا ورحمة، ومن لم نفعل له ذلك فهو عدل منا وحكمة؛ لأنه لم يكن له ذلك ديناً علينا ولا واجباً مستحقاً، بل إن أعطيناه ذلك ففضل، وإن لم نعطه فعدل.

    تقدير الله للمقادير قبل خلق الخلق

    الله تبارك وتعالى قدر مقادير الخلق قبل أن يخلقهم، وعلم أن قوماً صائرون إلى الشقاء، وقوماً صائرون إلى السعادة، كما قال تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]، وأقام الحجة على الجميع ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحق لبساً، فقامت عليهم حجة الله في أرضه بذلك، ثم إنه تعالى وفق من شاء توفيقه، ولم يوفق من سبق له في علمه الشقاء الأزلي، وخلق لكل واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر، وصرف قدرتهم وإرادتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في علمه من أعمال الخير المستوجبة للسعادة، وأعمال الشر المستوجبة للشقاء، فأتوا كل ما أتوا وفعلوا كل ما فعلوا طائعين مختارين غير مجبورين ولا مقهورين، كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:29]، وقال: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]. وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء، ومن أعظم الضروريات الدالة عليه: أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية فرقاً ضرورياً، لا ينكره عاقل، وأنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون وفقأت عينه -مثلاً- وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر فقلت له: أنا مجبور، ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك، بل هو فعل الله، وأنا لا دخل لي فيه، فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك، بل يبالغ في إرادة الانتقام منك، قائلاً: إن هذا بإرادتك ومشيئتك، مع سبق الإصرار والترصد. ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية أن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته: أنه لا يمكن لأحد أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر، وسبق علم الله فيما يقع من العبد قبل وقوعه برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى. وإيضاح ذلك: أنك لو قلت للقدري الذي ينفي القدر السابق: إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا بمحل كذا وفي وقت كذا، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه، فهل يمكنك أن تستقل بذلك، وتصير علم الله جهلاً بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له؟! والجواب بلا شك: هو أن ذلك لا يمكن بحال، كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:29]، وقال تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]، ولا إشكال البتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه، فيأتيه العبد طائعاً مختاراً غير مقهور ولا مجبور، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته، كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:29]. والمناظرة التي ذكرها بعضهم بين أبي إسحاق الإسفراييني وعبد الجبار المعتزلي توضح هذا، وهي أن عبد الجبار المعتزلي قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، يريد أن يقول: إن المعاصي مثل السرقة والزنا لا تقع بمشيئة الله؛ لأنه في زعمه يريد أن ينزه أن تكون هذه الرذائل بمشيئة الله، فهم يريدون نفي القدر السابق تنزيهاً لله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا تقع المعاصي بمشيئته، فلما قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، قال له أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال -أي: أبو إسحاق - رداً عليه: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال عبد الجبار : أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه؟ فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبراً عليه، فأنت الرب وهو العبد؟ فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى علي بالردى، أتراه أحسن أم أساء؟ فقال أبو إسحاق : إن منعك حقاً واجباً لك عليه فقد ظلمك، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل. فبهت عبد الجبار ، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب. ومضمون جواب أبي إسحاق هذا الذي أفحم به عبد الجبار هو معنى قوله تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]. وذكر بعضهم: أن عمرو بن عبيد جاءه أعرابي فشكا إليه أن دابته سرقت، وطلب منه أن يدعو الله أن يردها إليه، فقال عمرو ما معناه: اللهم إنها سرقت ولم ترد سرقتها؛ لأنك أنزه وأجل من أن تدبر هذا الخنا، فقال الأعرابي: ناشدتك الله يا هذا إلا ما كففت عني من دعائك الخبيث؛ فإن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد، ولا ثقة لي برب يقع في ملكه ما لا يشاؤه. فألقمه حجراً. والله أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756190098