إسلام ويب

تفسير سورة الأعراف [31-46]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد... إنه لا يحب المسرفين)

    قال تبارك وتعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]: ((يا بني آدم خذوا زينتكم)) المقصود هنا: الزينة من اللباس. ((عند كل مسجد)) إذا قلنا: إن المسجد يعني اسم مكان، فسيكون معناها: خذوا زينتكم عند كل بيت بني للعبادة، وإذا قلنا: إن المسجد مصدر فسيكون المقصود من قوله: ((خذوا زينتكم عند كل مسجد)) أي: عند كل سجود، أي: كلما هممتم بالصلاة والعبادة فخذوا زينتكم، فإن العبادة أولى أوقات التزين. ((وكلوا واشربوا)) يعني: أيام الحج لتتقووا على العبادة. ((ولا تسرفوا)) يعني: إسرافاً يوجب الانهماك في الشهوات ويشغل عن العبادة، أو: لا تحرموا الطيبات من الرزق واللحم والدسم. ((إنه لا يحب المسرفين)) أي: المعتدين.

    سبب نزول هذه الآية أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بالبيت عراة

    روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانت المرأة تطوف في البيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافاً تجعله على فرجها) والتطواف هو: ثوب تلبسه المرأة تطوف به. وكانوا في الجاهلية يطوفون عراة ويرمون ثيابهم ويتركونها ملقاة على الأرض، ولا يأخذونها أبداً، بل يتركونها تداس بالأرجل حتى تبلى، ويسمى: اللقاء، حتى جاء الإسلام، فأمر الله سبحانه وتعالى بستر العورة فقال تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يطوف بالبيت عريان). فالمقصود هنا: ستر العورات إبطالاً لما كان عليه الجاهليون من الطواف عراة. يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار والنساء بالليل، وكانت المرأة تقول: (اليوم يبدو بعضه أو كله.. فما بدا منه فلا أحله) فنزلت هذه الآية الكريمة: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]. وفي رواية أخرى عن ابن عباس : فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا. وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً في هذه الآية قال: كان رجال يطوفون في البيت عراة فأمرهم الله بالزينة، والزينة: اللباس، وهو ما يواري السوءة، وما سوى ذلك من زينة البز والمتاع، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد. وأخرج أبو الشيخ عن طاوس قال: أمروا بلبس الثياب. وأخرج من وجه آخر عنه قال: الشملة من الزينة. وقال مجاهد : كان حي من أهل اليمن إذا قدم أحدهم حاجاً أو معتمراً يقول: لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه، فكان يقول الواحد منهم: من يعيرني مئزراً، فإن قدر عليه وإلا طاف عرياناً، فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون: (( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا )). وقال الزهري : إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس هم: قريش وأحلافهم، فمن جاء من غير الحمس وضع ثيابه وطاف في ثوب أحمسي، ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه، فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه ويطوف عرياناً، وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها، يعني: إذا قضى طوافه جعلها حراماً عليه؛ فلذلك قال تعالى: ((خذوا زينتكم عند كل مسجد)) والمراد من الزينة: لبس الثياب التي تستر العورة. قال مجاهد : ما يواري عوراتكم ولو عباءة. وقال ابن كثير : هكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك ومالك عن الزهري ، وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها، إنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة. انتهى كلام ابن كثير . يقول القاسمي : فظهر أن المراد بالزينة ما يستر العورة؛ لأنه اللازم المأمور به الذي بينه سبب النزول، دون لباس التجمل المتبادر منه. وذلك أن أول ما يتبادر للذهن من كلمة (زينة) أن الزينة تعني الرياش أو الأشياء التي يتجمل بها الإنسان وهي من قبيل الكماليات أو التحسينيات؛ لكن إذا رجعنا إلى سبب النزول، نعرف أن هذا ليس هو المقصود، وإنما المقصود بصفة أصيلة ما يواري العورات؛ لأن المستفاد من قوله: (خذوا) هو وجوب الأخذ، فهو أمر، وظاهر الأمر الوجوب، فالذي يجب أن يلبسه الإنسان هو ما يستر به العورة. ولباس التجمل مستحب وليس واجباً، قاله الشهاب .

    الزينة لفظ يطلق على كل ما يستر العورة

    وأقول: دلت الآية بما أفاده سبب نزولها، على أن الزينة لا تختص لغة بالجيد من الثياب كما توهم كلمة الزينة، التي تستعمل كرياش أو للتجمل فقط، لكن الزينة لفظ يطلق أيضاً على ما يستر به العورة. وفي التهذيب: الزينة اسم جامع لكل شيء يتزين به. وقال الحرالي : الزينة تحسين الشيء بغيره، من لبسة، أو حلية، أو هيئة. وقال الراغب : الزينة الحقيقية ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله، لا في الدنيا لا في الآخرة. ونقل الرازي إجماع المفسرين على أن المراد بالزينة: لبس الثياب التي تستر العورة، قال: والزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات، قال: وأيضاً فإنه تعالى قال في الآيات المتقدمة: قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا [الأعراف:26]، فبين أن اللباس الذي يواري السوءة من قبيل الرياش والزينة. ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية، فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية، وهي قوله: (( قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا ))، ما وظيفته؟ (( يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا )). وأيضاً فقوله: خذوا زينتكم: أمر، والأمر للوجوب فثبت أن أخذ الزينة واجب، وكل ما سوى اللبس فغير واجب، فوجب حمل الزينة على اللبس عملاً بالنص بقدر الإمكان.

    من الزينة في الصلاة لبس النعال إذا أمنت الفتنة

    وقد روى بعض المفسرين ما يدل على أن الآية نزلت في الصلاة في النعال، هذا روي عن أنس رواه الحافظ ابن مردويه ، من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي عن قتادة عن أنس مرفوعاً، وعن أبي هريرة مثله، وقال ابن كثير : وفي صحته نظر، والله تعالى أعلم، يعني أنه من حيث السند غير صحيح وفيه نظر، أما من حيث المعنى فالمعنى صحيح؛ لأن النعال مما تشمله الزينة، وقد أسلفنا في المقدمة أن قولهم: نزلت في كذا لا يقصد به أن حكم الآية مخصوص به، بل مخصوص بنوعه، فتعم ما أشبهه. والأحاديث في مشروعية الصلاة في النعال كثيرة جداً، منها: حديث سعيد بن يزيد قال: (سألت أنساً أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم)، وهذا متفق عليه. وقال العراقي في شرح الترمذي : وممن كان يفعل ذلك -يعني لبس النعل في الصلاة- عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وعويمر بن ساعدة وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وأوس الثقفي ، وذكر عدداً كبيراً من التابعين كانوا يصلون في النعال. وقد ثبت أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما)، وكذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافياً ومنتعلاً). فإذاً يمكن على هذا الأساس إدراج لبس النعال على أنه من الزينة التي يتخذها الإنسان عند الصلاة، والمقصود بالصلاة في النعال أن الإنسان يصلي حسبما يتيسر له الحال، فإن كان منتعلاً يصلي منتعلاً، ولا يتكلف خلع النعل من أجل الصلاة، وإن كان حافي القدمين فلا يتكلف لبس النعلين لأجل الصلاة، وهذا بشرط ألا يؤذي من في المسجد، فإذا كانت المساجد -كما هو الحال الآن- مفروشة بالبسط والسجاجيد، وكثرة توارد الأقدام بالأحذية عليها مما يؤذي الناس ويلوث ثيابهم، فهنا: (لا ضرر ولا ضرار)، وفي مثل هذه الحالة ليس من الحكمة أن يتعمد الإنسان لبس النعل ويصلي فيها، ويستفز مشاعر الناس ويؤذيهم، لكن على الأقل ينبغي عليه أن يعلم الناس أن هذه سنة. وأحياناً يحتاج الإنسان إلى الصلاة في النعال، كأن يكون المسجد مزدحماً، والصفوف موجودة في خارج المسجد، وهو يريد أن يلتحق بها بسرعة، وليس هناك شيء مفروش على الأرض، ففي هذه الحالة يصلي بدون أن يتكلف خلع النعل حتى لا يفوته جزء من الصلاة، فيصلي بالنعلين، والناس الآن بسبب شدة غربة الإسلام، وشدة تفشي الجهل بينهم، يستقبحون أن يصلي الإنسان في النعل، وهذا بسبب جهلهم بالسنة، وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح.

    الاستدلال بالآية على اشتراط وجوب ستر العورة عند الطواف

    دلت الآية أيضاً على وجوب الستر عند الطواف؛ لأنه سبب النزول، خلافاً لبعض المذاهب ممن يرى أن ستر العورة ليس بواجب في الطواف، ولكن هذه الآية؛ لأن سبب نزولها هو حال المشركين الذين كانوا يطوفون عراة، فنزلت الآية توجب ستر العورة في أثناء الطواف؛ لأن الطواف صلاة، والفرق بين الطواف وبين الصلاة: أن الله سبحانه وتعالى أباح فيه الكلام. قالوا: واللفظ شامل للصلاة لأنها مفعولة في المسجد: ((خذوا زينتكم عند كل مسجد)) فيستدل بنفس هذه الآية -أيضاً- على أحد شروط الصلاة وهو ستر العورة، فهذه الآية يصح الاستدلال بها على اشتراط ستر العورة في الطواف وفي الصلاة.

    مشروعية التجمل عند الصلاة استدلالاً بالآية

    وقد حاول بعض العلماء استنباط التجمل عند الصلاة من هذه الآية، حيث قال: لما دلت على وجوب أخذ الزينة لستر العورة في الصلاة، فهم منها في الجملة حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال فيها. هذه الآية هي أساساً في الأمر بالزينة الأساسية التي هي ستر العورة، لكن يفهم من روح الآية أيضاً أنها تندب المسلم إلى أن يحسن هيئته إذا أراد أن يصلي أو أن يذهب إلى المسجد، خاصة في الجماعات وفي صلاة الجمعة والأعياد وغير ذلك. قال الكيا الهراسي : ظاهر الآية الأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد للفضل الذي يتعلق به، تعظيماً للمسجد والفعل الواقع فيه، فالإنسان إذا لقي صديقه، أو قريبه، أو صاحب وجاهة أو سلطة، فإنه يتزين ويهتم بمظهره، فأولى أن يهتم الإنسان بمظهره وزينته إذا أراد أن يقف بين يدي الله عز وجل، وكان بعض السلف يختار أحسن وأفضل ما قدر عليه من الثياب حينما يلقى الله سبحانه وتعالى في الصلاة. وقال ابن الفرس : استدل مالك بالآية على كراهية الصلاة في مساجد القبائل بغير أردية. وهذا يعني أن الزينة مسألة نسبية، خاضعة لحال المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، فينظر كيف تكون زينتهم فلا يتعمد أن يشذ عن ملابس القوم الذين يعيش فيهم، لكن بشرط أن يكون هؤلاء ملتزمين بالشرع، وملابسهم على هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن غرائب الغلو في انتزاع المعاني من الآيات، ما ذهب إليه بعض الناس من أنه لا يجوز للمرأة أن تصلي بغير قلادة أو قرطين! باعتبار أن هذه زينة. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأن الطيب من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل اللباس البياض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم)، وروى الطبراني بسند صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين : أن تميماً الداري اشترى رداءً بألف وكان يصلي فيه.

    وجه الربط بين الأمر في قوله: (خذوا زينتكم) وقوله بعدها: (وكلوا واشربوا)

    وهنا سؤال وهو: لماذا أتبع الله سبحانه وتعالى الأمر في قوله: (( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ))، بقوله: (( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ))، فما وجه الربط بين هذين الأمرين؟ يقول: إن بني عامر كانوا لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتاً، ولا يأكلون دسماًً، يعظمون بذلك حجهم، أي أنهم كانوا يعتبرون الامتناع عن أكل الشحوم والدهون من تعظيم الحج، فقال المسلمون: نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله، فأنزل الله عز وجل: (( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا )). وقال السدي : كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم -يعني الشحم- فقال الله تعالى لهم: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا)، فسر الإسراف بمجاوزة الحد فيما أحل، وذلك بتحريمه.

    وجوه الإسراف

    وقيل: تدل الآية على المنع من الإسراف، وهو على وجهين: أولهما: إنفاق في معصية، كأن يصرف الإنسان أمواله في القمار واللعب والزنا والخمر ونحوها. وثانيهما: أن يتعدى الحدود، وذلك مختلف بحال اليسار والإعسار، أي: أن موضوع الإسراف فيما أباحه الله سبحانه وتعالى بتعدي الحدود المعقولة، أمر نسبي يتفاوت بتفاوت أحوال الناس، فمثلاً الإسراف في حق الرجل الذي عنده قدر يسير من المال، أن ينفقه في ضيافة أو في طيب أو في ثياب خز، فهذا ترف محرم؛ ولذلك فإن قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3]، بينه قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة:219] يعني: ما فضل عن النفقة الأساسية، وهي نفقة الأهل والأولاد وغير ذلك من أنواع النفقة الواجبة، ولهذا لا يكون التصدق إلا بعد أداء الفريضة أولاً، لأن التطوع يكون بعد الفريضة، فكذلك الإنسان الذي عنده مال محدود يحتاجه هو وعياله وأطفاله، فإذا أنفقه في إكرام الناس بالضيافات أو بالطيب أو بثياب فخمة فهذا بلا شك إسراف؛ لأنه هو نفسه وأولاده ومن يعولهم يحتاجون إلى هذا المال. ومثل هذا القدر من المال الذي ينفقه في الطيب أو في الملبس الجيد رجل موسر، نسبة هذا المال إلى ماله نسبة قليلة، لا تفقره ولا تضره، فمثل هذا في الموسرين لا يقبح، وإذا اشترى هذا الموسر طيباً أو ثياباً جيدة فهذا لا يكون في حقه من الإسراف. فإذاً موضوع الإسراف موضوع نسبي، والعبرة بأن يؤدي الإنسان ما عليه، خاصة من الزكاة. وتدل الآية على أن الأشياء على الإباحة: (( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ))، والعقل يدل على ذلك؛ لأنه تعالى خلقه لمنافعهم، والسمع ورد مؤكداً، ولذلك قال: (( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ )) يعني: معناها أنه لا يطالب بدليل سمعي، فكلمة: (من حرم) يعني: ائتونا بدليل سمعي يدل على أن الله سبحانه وتعالى حرم ما تذكرون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، من غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده)، وقال البخاري : قال ابن عباس : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: ترف أو مخيلة. هذا هو الضابط في النفقة: (كل ما شئت والبس ما شئت) ما لم تقع في إحدى هاتين الاثنتين، وهما الإسراف أو المخيلة، والتكبر على عباد الله عز وجل. وقال الشهاب : هذا لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء: أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي، ويلبس ما يشتهيه الناس. نصيحة نصيحة قالت بها الأكياس كل ما اشتهيت والبسن ما اشتهته الناس ((إنه لا يحب المسرفين)) وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء؛ لأن من لم يحبه الله سبحانه وتعالى لم يرض عنه. ثم ذكر القاسمي هنا كلاماً مفصلاً في الربط بين قواعد الصحة الغذائية في قوله تعالى: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) فذكر أن هذه الآية الكريمة جمعت الطب كله، ثم نقل عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ما يدل على اشتمال التنزيل العزيز على أصول الطب واشتمال السنة المطهرة على بدائعه في كتابه زاد المعاد، فتكلم بالتفصيل عن أمراض القلوب وعلاجها من القرآن الكريم والسنة، فبين أن أمراض القلوب إما مرض شبهة وشك، وإما مرض شهوة وغي، وبين أيضاً أمراض الأبدان، وتكلم عنها بالتفصيل، ثم تكلم عن الحمية التي هي الوقاية، ثم فصل بعد ذلك في الكلام على طب القلوب، وذكر كلاماً كثيراً جداً، لكن لضيق الوقت لن نفصله. ونحن الآن حالنا في الحقيقة من أعجب الأحوال، يعاني كثير من الناس الآن من أمراض السمنة التي تنشأ من كثرة الأكل وعدم الانضباط في تناول الطعام والشراب، أو الإسراف الذي نهى الله عنه في هذه الآية، ثم ينفقون من الأموال القدر العجيب في سبيل أن يحافظوا على نظام غذائي معين، من أجل أن يوقف وزنه! ولو أن الواحد منهم التزم بالهدي القرآني: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) ما احتاج إلى ما وقع فيه من هذه السمنة، ولا ما وقع فيه من الكلفة التي تكلفها في سبيل التحرر من هذه الأوزان الزائدة، فهذا أيضاً من الحيدة عن الاعتدال: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده... كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون)

    قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:32]. ((قل)) أي: لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وبطباعهم. ((من حرم زينة الله)) يعني: من الثياب وسائر ما يتجمل به، ( التي أخرج لعباده) يعني: أخرجها من النبات كالقطن والكتان، وأخرجها من الحيوان: كالحرير والصوف، ومن المعادن كالدروع، هكذا عمم المفسرون هنا. (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) أي: من المستلذات من المآكل والمشارب. قال المهايمي : إن زعموا أن التزين والتلذذ ينافيان التذلل -الذي هو العبادة- فيحرمان معها فأعلمهم أنه قد أخرجها لعباده الذين خلقهم لعبادته، ليتزينوا بها حال العبادة. وهذا طبعاً كان مفهوماً طارئاً على الإسلام، وإن كانت الصوفية قد اقتبسته من الرهابنة ومن نساك النصارى، وهو أن كل ما يتمتع به الإنسان من ملاذ الدنيا، فهو مضاد لعبادة الله سبحانه وتعالى، فيزعمون أن التزين والتلذذ ينافي ويضاد التذلل والعبادة، ولهذا حرموا هذه الطيبات لأنها تنافي عبادة الله سبحانه وتعالى. فهذه الآية ترد على هؤلاء، حيث أعلمهم سبحانه وتعالى فيها أنه قد أخرج هذه الطيبات لعباده الذين خلقهم لعبادته ليتزينوا بها حال العبادة، ولذلك أمرنا بالتزين: (( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )). ((قل من حرم)): ائتونا بدليل ((من حرم زينة الله التي أخرج لعباده))، فهذه الزينة أخرجها لعباده الأتقياء العباد ليتزينوا بها حال العبادة، فعبيد الملوك يحرصون على التزين وأن يظهروا بمظهر لائق أمام سادتهم، ولا ينافي ذلك تذللهم لهؤلاء الملوك، ولله المثل الأعلى، وكذلك الطيبات التي خلقها لتطييب قلوب عباده، فهي نعمة على عباده الموحدين ليشكروه، والشكر عبادة، ويكون على التنعم بنعم الله سبحانه وتعالى، فلا ينافي الشكر العبادة لأن الشكر في حد ذاته عبادة يحبها الله سبحانه وتعالى. بل قد يكون الشكر مدعاة إلى هذه العبادة: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، والشكر ليس بالكلام، إنما الشكر بالعمل، اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا [سبأ:13]، وذلك بأن تصرف النعمة في مرضاة مهديها ومعطيها وهو الله سبحانه وتعالى. وفسرت الطيبات في قوله: (( وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ )): بالحلال، وفسرت أيضاً: باللحم والدسم الذي كانوا يحرمونه أيام الحج كما تقدم، وفسرت: بالبحائر والسوائب كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا [يونس:59]، إلى آخر الآية. والعبرة بعموم اللفظ، فكل ما ذكر يدخل في الآية دخولاً أولياً. وقوله: ((قل من حرم زينة الله)) هذا اللفظ يتناول جميع أنواع التزين، ومنه تنظيف البدن؛ لأن العرب كان عندها مثل مشهور يقولون: أطيب الطيب الماء، يعني: الإنسان يهتم بنظافة بدنه بالماء نظافة جيدة، ثم بعد ذلك يضع الطيب، وإنما اشتهر الغربيون بالعطور لأنهم ما كانوا يعرفون عادة الاغتسال، وحتى الآن قد يمكث الواحد مدة طويلة قد تزيد على سنة لا يقرب الماء، فلما كانت تتراكم على أجسادهم الروائح الخبيثة والعرق كانوا يجتهدون في اختراع العطور التي تحاول أن تغطي هذه الروائح المنتنة التي تنبعث من أجسادهم، وهم ما عرفوا الاستحمام إلا من المسلمين عندما كانوا في الأندلس، فكان الطلبة يفدون للتعلم من المسلمين، فإذا عادوا نقلوا من المسلمين هذه العادات، حتى إنه لما كان أيام نفي المسلمين من الأندلس وكان من المسلمين من ينكر أنه مسلم بسبب المذابح التي حصلت في محاكم التفتيش، فكانوا يلجئون إلى التعرف على هؤلاء الناس، هل هم مسلمون أم غير مسلمين بأن يفتشوا البيوت، فالبيت الذي فيه حمام هو بيت مسلم، فيقتلون من فيه أو يجبرونه على التنصر، فكانت علامة الإسلام وجود حمام في البيت. فالأوروبيون ما برعوا في صناعة العطور -وبالذات العطور الفارسية المشهورة- إلا بسبب أنهم كانوا يجتهدون في اصطناع العطور التي تغطي الروائح المنبعثة من أجسامهم، وهذا إلى الآن موجود، ومن عاش مع القوم يعرف هذه الروائح الخبيثة التي يكاد الإنسان أن يختنق منها، وهذا كلام حقيقي ليس مجازياً، وفي وقت من الأوقات توقف المصعد ودخل بعض هؤلاء الكفرة، فما وجدت حيلة سوى أني أتوقف تماماً عن التنفس، وإلا فالإنسان يكاد يختنق من خبث روائحهم. فالإسلام دين النظافة، وأهم النظافة هو ما يزيل هذه الروائح، فالإنسان يهتم أولاً بتطييب بدنه بالماء، ثم بعد ذلك يضع العطور ويضع الروائح الطيبة. فالزينة تشمل جميع أنواع التزين ومنه تنظيف البدن، ومنه المركوب، ومنه أنواع الحلي، يعني: حلي النساء، ويدخل تحت الطيبات: كل ما يستلذ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات، ويدخل تحته التمتع بالنساء والطيب، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، ولا حرج في ذلك على الإطلاق، ما دام يصادف ما أحل الله سبحانه وتعالى للمؤمن، ويروى الحديث بلفظ موضوع: (حبب إلي من دنياكم ثلاث)، فكلمة (ثلاث) معناه: إن الصلاة تكون من الدنيا، وفي هذا المعنى نكارة إلى جانب عدم ثبوته. وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، حيث هم عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه بالتبتل والاختصاء كي يتقي الشهوة، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لأن هذا ليس من هدي النبي عليه الصلاة والسلام. وذهب ثلاثة رهط إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فكأنهم تقالوها لما أخبروا بها، فكل واحد أراد أن يسلك مسلكاً من الاجتهاد في العبادة والامتناع عن الطيبات، يظن أنه يقربه إلى الله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الغضب وقال: (أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، أي: ليس على هديي، وليس على طريقي، وليس على ديني، فانظر كيف زجر بهذا الزجر الشديد الذي يقال غالباً في الكبائر من الذنوب، وذلك لأجل إبطال هذه العادات المقتبسة من الرهابنة ومن غير المسلمين. ودلت الآيات على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة؛ لأن الاستفهام في قوله: (قل من حرم) لإنكار تحريمها على وجه بليغ؛ لأن إنكار الفاعل يوجب إنكار الفعل لعدمه بدونه. وفي الآية رد على من تورع في أكل المستلذات ولبس الملابس الأنيقة، ويمكن أن تراجع التفاصيل في كتاب: تلبيس إبليس، أو نقد العلم والعلماء للإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى. فبعض الناس حكي عنه كما في بعض الكتب أنه كان يتورع عن أكل اللحم، فلما سئل، قال: لا أستطيع أن أؤدي شكره، فأنكر عليه العالم الجليل وقال له: هل تؤدي شكر شربة الماء؟! فالمسألة ليست مقايضة، بمعنى أن تأتي النعمة ونحن نشكر شكراً مكافئاً لها، وإلا فلا يمكن للإنسان أن يتعاطى أي نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى على الإطلاق، فأيهما أهم قطعة اللحم، أم الماء الذي تشربه؟ الماء أهم؛ فلذلك هذا المتفلسف لما امتنع عن أكل اللحم بحجة أنه يخشى ألا يؤدي شكرها، أفحمه ذلك العالم بقوله: هل أنت تؤدي شكر نعمة الماء؟! يعني: إذاً لا تشرب الماء، وإلا فكيف ستؤدي شكر نعمة الماء؟ وما أحسن ما قال ابن جرير الطبري : لقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان، مع وجود السبيل إليه من حله، يعني: ما دام الإنسان يستطيع أن يلبس القطن ويلبس الكتان، وأيضاً أخطأ من أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر، ومن ترك أكل اللحم خوفاً من عارض الشهوة. وبعض الناس أخطأ أيضاً فاستدل بالآية على تجويز الحرير والخز للرجال، فأخرج ابن أبي حاتم عن سنان بن سلمة أنه كان يلبس الخز، فقال له الناس: مثلك يلبس هذا؟ فقال لهم: من ذا الذي يحرم زينة الله التي أخرج لعباده؟ ولكن أخرج عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال: لم يأمرهم بالحرير ولا بالديباج، ولكن كانوا إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت عنه. وعلى أي الأحوال: فهذه الآية لا تشمل الحرير، وهذا أمر غني عن البيان؛ لأن ما خصه الدليل لا يتناوله العام (( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))، هذا عام، لكن أتى ما يخصص هذا العام في تحريم الذهب والحرير على الرجال، فاستنباط حله من الآية مردود على قائله. وقوله: (( قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) يعني: زينة الله والطيبات، مخلوقة للذين آمنوا في الحياة الدنيا. أي: هذه الزينة ما خلقها الله سبحانه وتعالى إلا للذين آمنوا في الحياة الدنيا بالأصالة، والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع. أما في الآخرة فلا تحصل هذه المشاركة، بل تكون الطيبات خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، أي: لا يشاركهم فيها غيرهم؛ لأن الله حرم الجنة وما فيها من النعيم على الكافرين. وانتصاب (خالصةً) على الحالية وقرئ بالرفع: (خالصةٌ) خبر بعد خبر. قال المهايمي : إنما خلقت للمؤمنين ليعلموا بها لذات الآخرة، وما خلق الله سبحانه وتعالى في الدنيا شيئاً إلا لجعله أمارة على الآخرة، حتى الحر والقر إنما هو أمارة وعلامة كي يعرف الإنسان إذا أخبر عن الزمهرير، وعن حر جهنم، لأنه إذا لم يذق ذلك ويعانيه فلن يستطيع أن يتخيل هذا العذاب؛ فلذلك جعل الله سبحانه وتعالى من حكمة خلق النعيم والآلام في الدنيا أن تكون

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ... )

    قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]. ((قل)) لا تحرموا من تلقاء أنفسكم (( إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )) يعني: ازهدوا في هذا الحرام، وهي أعلى وأهم درجات، ولاشك أن الزهد يمدح ويستملح حتى في الطيبات، لكن هذا موضوع آخر، فنحن الآن بصدد بيان الزهد الواجب وهو الزهد عن الحرام وليس الزهد عن التمتع بالطيبات. فالطيبات والزينات من المنافع لا تستلزم الوقوع في التكبر أو الانهماك في الشهوات، فهذا أمر غير متحقق، فإذا أفضت إلى ذلك فالحرام هو المفضى إليه بالذات؛ لأنه (إنما حرم ربي الفواحش) يعني: ما تفاحش قبحه من الذنوب وتزايد كالكبائر، والفواحش هي ما تعلق بالفروج: (( مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )) يعني: ما جاهر فيه بعضهم بعضاً، وما ستره بعضهم عن بعض، وما ظهر من أفعال الجوارح، وما بطن من أحوال أو أفعال القلوب. ((والإثم)) يعني: ما يوجب الإثم، وهو عام لكل ذنب، وذكر هنا التعميم بعد التخصيص: وقال بعض المفسرين: إن الإثم هو الخمر، قال الشاعر: نهانا رسول الله أن نقرب الزنا وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا يعني: أن نشرب الخمر. وأنشد الأخفش : شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول ويصدقه قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة:219]، وقال ابن الأنباري : لم تسم العرب الخمر إثماً في جاهلية ولا إسلام، والشعر المذكور موضوع، ورد بأنه مجاز؛ لأنه سببه سبب الإثم، وقال أبو حيان : هذا التفسير غير صحيح هنا، لأن سورة الأعراف سورة مكية، وإنما نزل تحريم الخمر في المدينة بعد غزوة أحد، فلم تكن الخمر قد حرمت وقت نزول هذه الآيات حتى يقال إن الإثم هو الخمر. كذلك الحصر يحتاج إلى دليل، والإثم عام لكل ذنب، فحصره في نوع واحد من الذنوب -وهو الخمر- يحتاج إلى دليل. (( وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ )) البغي الاستطالة على الناس وظلمهم، وإنما أفرده بالذكر مع دخوله فيما قبله للمبالغة في الزجر عنه. وقوله: (بغير الحق) متعلق بالبغي، يعني: البغي بغير الحق، وقيل: البغي قد يخرج عن كونه ظلماً إذا كان بسبب جائز في الشرع كالقصاص، إلا أن مثله لا يسمى بغياً حقيقة بل مشاكلة، أي: فإذا أطلق البغي بحق على مثل القصاص فهذا ليس حقيقة، وإنما هذا نوع من المشاكلة، كما في قوله تعالى مثلاً: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126]، وكما في قوله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]. ((وأن تشركوا بالله)) يعني: وقد حرم الله أن تشركوا به (ما لم ينزل به سلطاناً) أي: برهاناً، والمعنى: ما لم يقم عليه حجة. قال الزمخشري : فيه تهكم، فالله سبحانه وتعالى هنا يتهكم هؤلاء المشركين الذين يشركون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً. لأنه لا يجوز أن ينزل برهاناً بأن يشرك به غيره، وليس من المحتمل أن إنساناً يعبد غير الله أو يشرك بالله ويكون عنده برهان على هذا الباطل، بل هذا مستحيل. وهذا كما في قوله تبارك وتعالى في آخر سورة المؤمنين: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [المؤمنون:117]، فهذه الآية ليس لها مفهوم معتبر، فكل ما عبد من دون الله لا يمكن أن تقوم حجة أو دليل أو برهان على صحة عبادته. قال الرازي : وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل، وتبعه البيضاوي فقال: في الآية تنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان. (( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ )) يعني: وحرم عليكم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون أي: أن تتقولوا عليه الكذب في التحليل والتحريم أو في الشرك. وهذه الآية ذكرت فيها هذه المحرمات من باب التدرج من الأدنى إلى الأعلى. فأكبر الكبائر أن يقول على الله بغير علم، وقد وضح ذلك الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى في: إعلام الموقعين، وبينه بياناً شافياً. وتدل هذه الآية على تحريم جميع الذنوب؛ لأن قوله الفواحش والإثم يشتمل على الصغير والكبير والأفعال القبيحة والعقود المخالفة للشرع والأقاويل الفاسدة والاعتقادات الباطلة. فدخل في قوله: ((ما ظهر منها وما بطن)) أفعال الجوارح وأفعال القلوب والخيانات والمكر والخديعة. ودخل تحت قوله: ((والبغي)) كل ظلم يتعدى فيه على الغير، فيدخل فيه ما يفعله البغاة والخوارج والأمراء إذا انتصروا بغير حق. ودخل تحت قوله: ((وأن تشركوا)) تحريم كل شرك وعبادة لغير الله. ودخل تحت قوله: ((وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)) كل بدعة وضلالة وفتوى بغير حق وشهادة زور ونحو ذلك. فالآية جامعة في المحرمات كما أن ما قبلها جامعة في المباحات، وهي قوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:32]. أما هذه فجامعة في المحرمات: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]. وفيها تعليم للآداب ديناً ودنيا، وتدل على بطلان التقليد؛ لأنه أوجب اتباع الحجة لقوله: (ما لم ينزل به سلطاناً) والسلطان: الحجة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)

    قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]. وهذه الآية تدل على أن لكل أحد وقت حياة ووقت موت لا يجوز فيه التقديم والتأخير، فيبطل قول من يقول: المقتول مات قبل أجله. ثم أوعد تعالى أهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عنده سبحانه وتعالى كما نزل بالأمم فقال عز وجل: ((ولكل أمة أجل)) أي: مدة أو وقتاً لنزول العذاب بهم. ((فإذا جاء أجلهم)) أي: ميقاتهم المقدر لهم. ((لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)) أي: لا يُتركون بعد الأجل شيئاً قليلاً من الزمان، ولا يهلكون قبله كذلك، والساعة مثل في غاية القلة من الزمان، وليست الساعة الستين دقيقة التي نعرفها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)

    ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلاً يهدونهم وبشر وأنذر بقوله سبحانه: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف:35-36]. قوله تعالى: ((يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي)) ذكره بحرف الشرط، للتنبيه على أن إتيان الرسل أمر جائز غير واجب، وضمت إليها ما: (إما) لتأكيد معنى الشرط، ولذلك أكد فعلها بالنون الثقيلة أو الخفيفة فقال: ((إما يأتينكم)). والمراد ببني آدم جميع الأمم، وهو حكاية لما وقع مع كل قوم، ولا يدخل في المراد بالرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا خلاف الظاهر. وجواب الشرط قوله تعالى: ((فمن اتقى)) أي: اتقى التكذيب ((وأصلح)) أي: عمله، ((فلا خوف عليهم)) من العذاب ((ولا هم يحزنون)) في الآخرة، لأن سياق الكلام في الرسل السابقين: (( يَا بَنِي آدَمَ )) يعني: الأمم الأخرى، (( إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ )) * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا [الأعراف:36] أي: تكبروا عنها، أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف:36].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته... وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين)

    ثم ذكر تعالى وعيد المكذبين الذين تقدم ذكرهم بقوله سبحانه وتعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأعراف:37]. (من أظلم) يعني: لا أحد أظلم، ممن تقول على الله كذباً بالتحليل والتحريم، أو بنسبة الولد والشريك، أو كذب بآيته المنزلة. (( أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ )) يعني: يصيبهم حظهم مما كتب لهم من الرزق والعمر وغير ذلك، مع أنهم ظلموا وافتروا على الله الكذب وكذبوا الرسل، ولكن لا يحرمون ما قدر لهم من العمر والرزق إلى انقضاء آجالهم. وفي الآية وجوه أخر، هذا أظهرها وأقواها في المعنى، وتتمة الآية تدل عليه، وحينئذ تتلاقى مع نظائرها كقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا [يونس:69-70] والمتاع هو نصيبهم من الكتاب يتمتعون به (( أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ))، أي: يصل إليهم رزقهم وعمرهم ومتاعهم؛ ولذلك قال هنا: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [يونس:69] * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:70]، وهذه الآية نظير قوله هنا: (( أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا ))، وهذه مثل قوله: ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ [يونس:70]. ونظير هذه الآية أيضاً قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان:23-24]. وقوله: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ [الأعراف:37]، أي: ملائكة الموت تقبض أرواحهم. (( قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ )) أي: أين الآلهة التي كنتم تعبدونها ليكونوا لكم شفعاء، فلا نراهم يخلصونكم مما تحقق عليكم من هذه الشدائد؟ وفائدة السؤال وجهان: توبيخ وتبكيت لهم يزيدهم غماً إلى غم. ولطف بالمكلف؛ لأنه إذا استحضر ذلك صرفه عن التكذيب، لأنه يتذكر أنه سوف يسأل هذا السؤال: (( أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ )). (( قالوا ضلوا عنا )) أي: غابوا عنا فلم يخلصونا من شيء. (( وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين )) أي: عابدين لما لا يستحق العبادة، واعترفوا بأنهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس... )

    قال تعالى: (( قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ ))[الأعراف:38]. ((قال ادخلوا في أمم)) أي: قال الله سبحانه وتعالى لهم في الآخرة: ((ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ))، يعني: في جملة أمم قد مضت. ((من قبلكم من الجن والإنس)) يعني: كفار الأمم الماضية من النوعين من الجن والإنس ((في النار)) أي: انضموا إليهم في جملة واحدة في النار. ((كلما دخلت أمة)) يعني: كلما سقطت وهوت أمة في النار -والعياذ بالله- ((لعنت أختها)) التي قبلها لضلالها بها، تنزل أمة ثم تأتي الأمة التي بعدها فتلقى في النار فتلعن التي قبلها؛ لأنها هي التي دعتها إلى الضلال، كما قال الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [العنكبوت:25] هذا ما نراه اليوم في كثير من الشعارات كقول: بالروح والدم نفديك يا فلان! وغير ذلك من هذه العبارات التي فيها المودة والارتباط والتحزب. ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت:25]. قوله: ((حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا)) أي: تداركوا، بمعنى: تلاحقوا وراء بعض واجتمعوا في النار، فكل الأمم المهلكة دخلت النار واستقرت فيها واجتمعوا جميعاً بعد تتابعهم ولعن بعضهم بعضاً. وفي هذه الحالة بعد الاستقرار معاً في جهنم والعياذ بالله: (( قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ ))، والأوائل هم الرؤساء المقدمون، كما قال الله سبحانه وتعالى عن فرعون أنه يَقْدُمُ قَوْمَهُ [هود:98] أي: يسوق قومه إلى النار وهو في مقدمتهم، فالذي يدخل العذاب أولاً هم الرؤساء والوجهاء والسلاطين ورؤساء البدع والضلالات والكفر والطواغيت، ثم يتبعهم الأتباع. و((أخراهم)) الذين هم في الذيل وهم الأتباع. (( قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ )) أي: لأجل أولاهم؛ لأن الخطاب ليس لأولاهم إنما الخطاب هو لله سبحانه وتعالى، والمعنى: قالت أخراهم لأجل أولاهم مخاطِبةً الله عز وجل. قال ابن كثير : أي ((قالت أخراهم)) دخولاً وهم الأتباع، ((لأولاهم)) وهم المتَّبَعون؛ لأنهم أشد جرماً من أتباعهم فدخلوا قبلهم، وهؤلاء الأتباع الذين يشكون الرؤساء إلى الله يوم القيامة؛ لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل فيقولون: (( رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا )) يعني: سنوا لنا الضلال ودعوا إليه فاقتدينا بهم، ((فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ)) يعني: مضاعفاً؛ لأنهم ضلوا وأضلوا، وكفروا وصدوا عن سبيل الله. ((قال)) الله تعالى: ((لِكُلٍّ ضِعْفٌ)) أي: لكل عذاب مضاعف، أما القادة والرؤساء فبالضلال والإضلال، عذاب على الضلال وعذاب على الإضلال: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13]، وأما الأتباع والسفلة فبالضلال وبتقليد أهل الضلال مع ظهور الحق بالبراهين القاطعة، عذاب على الضلال في أنفسهم، وعذاب لأنهم قلدوا الضالين وأعرضوا عن الأنبياء وما جاءوهم به من الحجج والأدلة والبراهين القاطعة. ((قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون)) أي: لا تعلمون ما لكل فرقة منكم، وقرئ بالياء ((ولكن لا يعلمون)) وعليها فهو تذييل لم يقصد إدراجه في جواب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون)

    قال تعالى: وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ [الأعراف:39]. يعني: أن الرؤساء يردون على الأتباع بعد الشكوى التي شكوها. فيقولون: ((فما كان لكم علينا من فضل)) يعني: أنتم لستم أحسن منا ولا فضل لكم علينا في ترك الكفر والضلال، حتى يكون عذابنا مضاعفاً دونكم، فقد ضللتم كما ضللنا، فنحن وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب. ((فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون)) وهذا يحتمل أن يكون من قول القادة، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى للفريقين، وهو أظهر. وهذه الآية تدل على أن الكفار والضلال والأتباع وإن تناصروا وتعاونوا على ضلالتهم وتوادوا في الدنيا، فإنهم في الآخرة يتلاعنون ويتقاطعون ويسألون العذاب لمن أضلهم. كما أن الآية تدل على فساد التقليد وفساد الاغترار بقول علماء السوء؛ فبعض المنسوبين للعلم وللفتوى يتكلم كما يتكلم السوقة والرعاع، فتصدر عنه فتاوى مضادة تماماً لكتاب الله ولسنة رسول الله ولإجماع المسلمين، وفيها تحليل لما حرم الله، ومع ذلك يتكلم كما يتكلم الرعاع والسوقة فيقول: اتبعوني وأنا سأتحمل عنكم الوزر! وهذا هو منطق السوقة والغوغاء من الناس، وليس منطق من ينتسب إلى العلم الشريف؛ لأنه يأتسي في ذلك بمن قالوا: اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت:12]. ثم ألم يسمع قوله تعالى: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [النجم:38]، فالإنسان لا يعد معذوراً في متابعة علماء السوء الذين وقفوا يدعون الناس إلى الجنة بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، وكثير من الناس يستند إلى كلام هؤلاء الناس ويقول: "اجعلها في رقبة عالم واخرج منها سالم"، أو: "من قلد عالماً لقي الله سالماً" وينسبون ذلك جوراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بينما هذه الآية بعكس قولهم، فهي تذم التقليد وتذم الانقياد لعلماء السوء، خاصة أن الله سبحانه وتعالى يطفئ نورهم ويجعل على كلامهم ظلمة، ولا يقبلها حتى عوام الناس الذين لا يفقهون ولا يعلمون، ويكون الضلال في كلامهم بحيث لا يفتن به إلا صاحب هوىً له في نفسه غرض، فيسوغ الباطل كتعاطي الربا والتعامل مع البنوك، بحجة أن المفتي قال كذا والعياذ بالله. فلا ينبغي أن يغتر الإنسان بقول علماء السوء. وتدل الآية على أن الداعي إلى الضلال مضل، كما تدل على أن إضلال غيره إياه ليس بعذر له، وتدل أيضاً على أن اشتراكهم في العذاب لا يوجب لهم راحة، بخلاف الاشتراك في محن الدنيا. فإن الناس يقولون: إن المصيبة إذا عمت طابت، وكما تقول الخنساء : ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكـن أعزي النفس عنه بالتأسي فإذا شملت المصيبة عدداً كبيراً هانت على الإنسان، وهذا نحسه حتى في أشياء دقيقة، فلو أن أحداً وهو ذاهب إلى الكلية أو إلى العمل وتأخر قليلاً ثم رأى ناساً معه متأخرين، فالمصيبة تخف عليه، وإحساسه بالتقصير يخف؛ لأن ناساً معه في نفس هذا الشؤم، فالمصيبة إذا عمت طابت. فلا يظن ظان أن الحال سيكون كما كان عليه في الدنيا، بأنهم إن اشتركوا جميعاً وتوحدت الآلام والمحن سيحصل نوع من المواساة، فإنهم سيحرمون من هذا الشعور، وفي ذلك يقول تبارك وتعالى: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39]. وتدل الآية على أن ذلك الإضلال فعلهم، وهذا يبطل قول المجبرة في المخلوق والهدى والضلال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ... )

    قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]. ((لا تفتح لهم)) أي: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله، أي لا يقبل ذلك منهم؛ لأنه ليس صالحاً ولا طيباً، ومن شرط العمل الصالح أن يبنى على الإيمان، وأن يقتدى فيه بالرسول عليه السلام، وأن يراد به وجه الله، وما علق على أكثر من شرط لا يتحقق بشرط واحد، بل لابد أن تجتمع فيه كل الشروط، وإلا عدم الفعل. فالعمل الصالح الذي يقبله الله لابد أن يكون صاحبه أولاً موحداً: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النحل:97]، فلابد أن يكون موحداً، ثم لابد أن يكون مخلصاً خالياً من الرياء. والثالث: لابد أن يكون عمله موافقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فلا يرفع هذا العمل إلى السماء؛ لأن الله قال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] قال ابن عباس : أي لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء. أو أن المعنى: لا تنزل عليهم البركة والرحمة ولا يغاثون؛ لأنه أجرى العادة بإنزال الرحمة من السماء، كما في قوله: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ [القمر:11]. أو المعنى: لا يؤذن لهم في صعود السماء، ولا يطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة. على ما روي أن الجنة في السماء. أو المعنى: لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا أبواب السماء كما تفتح لأرواح المؤمنين، وقد ورد في ذلك حديث طويل عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه. والشاهد منه أنه ذكر في قبض روح الفاجر: (.. وأنه يصعد بها إلى السماء، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه .. فيأتون بها إلى السماء فيستفتحون فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ.. ))) إلى آخر الآية، فكون السماء لها أبواب وأن هذه الأبواب تفتح للدعاء الصالح وللأعمال الصالحة أو للأرواح وارد في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، فلا حاجة إلى تأويلها ولا ينبغي أبداً أن يؤول قوله تعالى: ((لا تفتح لهم أبواب السماء)) بل يقال: هي أبواب حقيقية تفتح كما ذكرنا. كذلك التضعيف في قوله: ((تفتَّح)) ليس لتكثير الفعل وإنما هو لتكثير المفعول مناسبة للمقام، كذلك قرئ بالتخفيف في: (تفتح)، وبالياء: (يفتح)، وقرئ على البناء للفاعل ونصب الأبواب يعني: لا يفتح الله لهم. وقوله: ((وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)) هذا من باب تعليق الأمر على شيء مستحيل، كأن تقول مثلاً: أزورك عندما يشيب الغراب، والغراب لا يشيب. ((حتى يلج الجمل)) يعني: يدخل الجمل ((في سم الخياط)) يعني: في ثقب الإبرة، وهل من الممكن أن يمر الجمل من ثقب الإبرة؟! هذا غير ممكن، فكذلك دخولهم الجنة غير ممكن؛ لأنه علق على شيء لا يقع. وقد قرأ الجمهور: ((الجمل)) بفتح الجيم والميم: وفسروه بأنه الجمل المعروف، وهو البعير، قال الفراء : الجمل زوج الناقة، وقال شمر : البكر والبكرة بمنزلة الغلام والجارية، والجمل والناقة بمنزلة الرجل والمرأة، وقرئ في الشواذ: (الجُمَّل)، كسكّر، و(الجُمَلِ) كسُرَر، و(الجُمْل) كقفل، و(الجُمُل) كعنق. والجمّل كسكر هو حبل غليظ جداً من الحبال التي يستعملها الملاحون، فهذه الحبال الكثيفة في السفينة لا يمكن أن تمر من ثقب الإبرة، لكن هذه القراءة الأخيرة شاذة. وقال أبو البقاء : يقرأ في الشاذ بسكون الميم الجَمْل، والأحسن أن يكون لغة؛ لأن تخفيف المفتوح ضعيف، ويقرأ بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها الذي هو: الجُمّل وهو: الحبل الغليظ، وهو جمع مثل: صوّم وقوّم، ويقرأ بضم الجيم والميم مع التخفيف وهو جمع مثل: أَسَد وأُسُد، ويقرأ كذلك بها إلا أن الميم ساكنة. وذكر الكواشي أن القراءات المذكورة لغات في البعير ما عدا جمّلاً كسكّر وجملاً كقُفْل، ونوقش في ذلك. قال الزمخشري : وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن الله سبحانه وتعالى أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل، لأن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه. إلا أن قراءة العامة التي هي (الجمَل) أوقع؛ لأن سم الإبرة مثَل في ضيق المسلك، والمقصود من ثقب الإبرة مجرد التشبيه، يقال: أضيق من خرق الإبرة، وقالوا للدليل الماهر الذي يكون خبيراً بالطرق والدروب والمسالك في الصحراء (خريت) لأنهم إذا أرادوا أن يمروا في المضايق والطرق الملتوية أو غير المعلومة يبدأ هو أولاً ثم يقود من معه، فقالوا للدليل الماهر (خريت) للابتداء به في المضايق المشبهة بأخراق الإبر، والجمل مثَل في عظم الجرم وعظم الجسم، وسم الإبرة مثَل في ضيق المسلك، كما يقول حسان بن ثابت : لا بأس بالقوم من طول ومـن عظـم جسم البغال وأحلام العصافير وفي رواية أخرى في الديوان: (جسم البغال وأحلام العصافير) وأحلام: المقصود بها العقول. فقيل: لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبداً من ولوج هذا الحيوان في ثقب الإبرة، فالجمل المقصود به ضرب المثل في ضخامة الجثة، وثقب الإبرة المراد به ضرب المثل في ضيق المسلك أو المنفذ. وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال: (زوج الناقة) استجهالاً للسائل. وإجابة ابن مسعود بهذه الإجابة فيها أولاً: الاستجهال للسائل وثانياً: إشارة إلى أن البحث وتطلب معنىً آخر غير هذا المعنى المتبادل نوع من التكلف غير حميد. وخلاصة الكلام أن الجمل لما كان مثلاً في عظم الجسم لأنه أكبر الحيوانات جسماً عند العرب، وخرق الإبرة مثلاً في الضيق، ظهر التناسب، على أن في التفسير بالجمل وهو مما ليس من شأنه الولوج في سم الإبرة مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة. وعكس هذا الكلام حكاه الزمخشري عن ابن عباس قال: الجُمَّل أنسب من الجَمَل؛ لأن الجُمَّل هو الخيط الغيلظ؛ لكن بين القاسمي رحمه الله تعالى أن إيثار الجَمَل أفضل، ومعلوم أنه ليس من شأنه أن يمر من ثقب الإبرة، فكذلك الكفار ليس من شأنهم أصلاً أن يدخلوا الجنة، فهنا ظهر التناسب بهذه الصورة، فهذه فيها مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة. أما السم فهو الثقب الضيق، قال أبو البقاء : بفتح السين وضمها، ويقال أيضاً في القاتل المعروف: السُّم، إلا أنهم قالوا: المشهور في الثقب الفتح كما في التنبيه، والأفصح فيما يشرب ليقتل أنه بالضم (السُّم). وقال الزبيدي : لم أر من تعرض لكسرهما وكأنها عامية: وهي فعلاً عامية، والأفصح أن تقول في الثقب السَم، وفي القاتل السُم. وقال الزمخشري : وقرأ في سم الخياط بالحركات الثلاثة. وكفى به مرجعاً. "الخياط" ككتاب ما خيط به الثوب والإبرة، قال الزمخشري : وقرأ عبد الله (في سم المخيط) وهي قراءة شاذة. قال السيوطي في الإكليل: في قوله تعالى: (( حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ )) جواز فرض المحال والتعليق عليه كما يقع كثيراً للفقهاء، والتعليق على المحال معروف في كلام العرب، كقوله: إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب يعني: فلن يأتيهم أبداً؛ لأن الغراب لا يشيب. (وصار القار) وهو الزفت الأسود الذي ترصف به الشوارع أبيض (كاللبن الحليب). ((وكذلك نجزي المجرمين)) مثل هذا الجزاء الفظيع.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين)

    قال تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41]. ((لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ)) يعني: فرش من تحتهم. ((وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ)) أي: أغطية، إذ أحاطت بهم جهنم كما أحاطت بهم الخطيئة من كل جانب: ((وأحاطت به خطيئته)) وهي الشرك يحيط به من كل جانب، كذلك العذاب يحيطه من كل جانب. ((وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ)) أصلها الغواشي: أغطيه، إذ أحاطت بهم الخطيئة. ((وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)) أي: بالكفر، وإنما عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآيات اتصفوا بكل واحد من ذينك الوصفين القبيحين، وذكر الجرم مع الحرمان من دخول الجنة، والظلم مع التعذيب بالنار الذي هو أشد من الحرمان المذكور، تنبيهاً على أنه أعظم الجرائم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها ... هم فيها خالدون)

    قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف:42]. ثم أتبع الله سبحانه وتعالى وعيده بوعده على طاعته سبحانه عز وجل في تنزيله الكريم فقال عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف:42] الذين آمنوا: مبتدأ والخبر فيه وجهان، إما الخبر لا نكلف نفساً إلا وسعها يعني: فحذف العائد كما حذف في قوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43]. القول الثاني: إن الخبر أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ [البقرة:82]، (ولا نكلف) هذه معترض بينهما، والوسع ما يقدر عليه الإنسان بسهولة ويسر، أما أقصى الطاقة فيسمى جهداً لا وسعاً، وغلط من ظن أن الوسع بذل المجهود.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل... ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون)

    قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]. ((ونزعنا ما في صدورهم من غل)) أي: نخرج من قلوبهم أسباب الحقد والحسد والعداوة أو نطهرها منها، حتى لا يكون بينهم إلا الثواب والتعاطف؛ لأن أهل الجنة كما في الحديث يدخلون الجنة ووجوههم مثل البدر، وقلوبهم على قلب رجل واحد، لا يوجد بينهم نزاع ولا غل ولا أحقاد ((ونزعنا ما في صدورهم)) وهنا عبر عن المستقبل بالماضي إيذاناً بتحققه وتقرره. ((تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا)) هدانا لما جزاؤه هذه الجنة، أي لأسباب هذا العلو بإرسال الرسل والتوفيق للعمل. (( وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله )) أي: ما كنا لنصل لذلك العمل الذي هذا ثوابه لولا أن وفقنا الله بدلائله وألطافه وعنايته. وهم يقولون ذلك: (الحمد لله الذي هدانا لهذا) سروراً واغتباطاً بما نالوا، وتلذذاً بالتكلم به، لا تقرباً ولا تعبداً؛ لأن الجنة ليست دار تكليف وعمل، كما ترى من رزق خيراً في الدنيا يتكلم بنحو ذلك، ولا يتمالك ألا يقوله للفرح والتوبة. (( لقد جاءت رسل ربنا بالحق )) يعني: فاهتدينا بإرشادهم. ((وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) أي: أعطيتموها بسبب أعمالكم في الدنيا، فالميراث مجاز عن الإعطاء، إشارة إلى أن السبب فيه ليس موجباً وإن كان سبباً بحسب الظاهر، أي أن الأعمال ليست أسباباً موجبة لدخول الجنة، لكنها أمارات مخيلة، لأن من وفق إليها فإنه يكون من أهل الجنة، كما أن الإرث ملك بدون كسب، وإن كان النسب مثلاً سبباً للإرث، وعلى ما تقرر فلا يقال: إنه معارض لما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، ولا يحتاج إلى الجواب عنه، ولا أن يقال: الباء للعوض لا للسبب، وهذا تمجيد للوعد بإثابة المطيع، لا بالاستحقاق والاستيجاب، بل هو بمحض فضله تعالى كالإرث، فالباء هنا: (بما كنتم تعملون) ليست باء العوض، كما تشتري ثوباً وتقول: اشتريته بكذا، أي أن الثمن مقابل للسلعة، والعمل الذي تعمله في الدنيا لا يساوي الخلود في جنات النعيم، والفارق شديد، وفي شرح هذا الحديث يطول الكلام، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة مفصلة ومفيدة فيه، نرجو أن تأتي فرصة أخرى ونفصل فيها. وروى الإمام مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، نادى منادٍ: إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً)، فذلك قوله عز وجل: ((ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار... وهم بالآخرة كافرون)

    قال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ [الأعراف:44-45]. ((وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ)) الكلام هنا عن أصحاب الجنة بعدما استقروا في منازلهم في الجنة، ((أَصْحَابَ النَّارِ)) توبيخاً وتحقيراً لهم ((أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا))، حيث نلنا هذه المراتب العالية. ((فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا))، يعني: من تنزيلكم أسفل سافلين لاستكباركم على الآيات والرسل ((قَالُوا نَعَمْ))، يعني: وجدناه حقاً. ((فَأَذَّنَ)) أي: نادى ((مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ)) أي: بين الفريقين ليسمعهم، زيادة في شماتة أحد الفريقين، وزيادة في ندامة الآخر. ((أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)) من هم هؤلاء الظالمون؟ ((الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: يمنعون أنفسهم وغيرهم عن دينه القويم الذي بينه على ألسنة رسله لمعرفته وعمارة الدارين، ((الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا))[الأعراف:45] أي: يبغون لها زيغاً وميلاً عما هي عليه حتى لا يتبعها أحد. ((وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ)) أي: وهم بلقاء الله في الدار الآخرة جاحدون لا يؤمنون به، فلهذا لا يبالون فيأتون المنكر من القول والعمل؛ لأنهم لا يرجون حساباً عليه ولا عقاباً فهم شر الناس. وقد سبق أن بينا حكمة وصف الكافرين بأنهم لا يؤمنون بالآخرة، لأن الإيمان بالآخرة ينعكس في سلوك المؤمن، أما إذا كان لا يؤمن بالآخرة فلن يخشى عقاباً ولن يرجو ثواباً، وما أحسن ما صدر الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى أحد مصنفاته، حيث كان يهدي في الصفحات الأولى من الكتاب إلى والده، فيقول ما معناه: إلى أبي الذي علمني أن أقول دائماً لمن يظلمني ومن يتجنى علي: إنه لولا الإيمان باليوم الآخر لكان لنا معه شأن آخر. إيمان المؤمن باليوم الآخر يجعله إذا ظلم ينتظر أن ينصفه الله في الآخرة، وينتظر ثواب الله عز وجل، فيعزيه ذلك على ما يلقاه من الآلام، أما إن كان لا يؤمن باليوم الآخر فإنه يتغير مسلكه تماماً، كما يفعل هؤلاء الملاحدة والمجرمون من الكافرين الذين لا يحرمون حراماً ولا يحلون حلالاً، وإنما يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، هذه ثمرة الإلحاد وثمرة الكفر، وثمرة العقيدة الفاشلة، فلذلك قال عز وجل هنا: ((وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ))، فبالتالي لم يخافوا عقاباً ولم يرجوا ثواباً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال ...)

    قال تعالى: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ . ((وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ)) أي: بين الفريقين سور وستر، أو بين الجنة والنار؛ ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى، وقد سمي هذا الحجاب سوراً في قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13]. (( وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ )) أي: على أعراف الحجاب وشرفاته وأعاليه، وهو السور المضروب بينهما، والأعراف: جمع عرف مستعار من الشيء العالي فيقال: من عرف الفرس لأنه عال، وعرف الديك لأنه عال، وكل ما ارتفع من الأرض عرف، فإنه بظهوره أعرف مما انخفض، يعرف لأنه ظاهر مما انخفض فكان أسفل، فالأعراف هذا جمع عرف وهو: السور الذي يكون بين الجنة والنار أو بين أهل الجنة وأهل النار. وقد حكى المفسرون أقوالاً كثيرة في رجال الأعراف عن التابعين وغيرهم: فقال بعض المفسرين: هم فضلاء المؤمنين، أو: هم الشهداء أو: هم الأنبياء، وأن الحكمة من وجودهم على سور الأعراف أن يرقبوا مصير المؤمنين ومصير الكافرين ويشهدوا نعمة الله عليهم. أو: هم قوم أوذوا في سبيل الله فاطلعوا على أعدائهم ليشمتوا بهم فعرفوهم بسيماهم وسلموا على أهل الجنة، واللفظ لإبهامه يحتمل ذلك، فقوله تعالى: (رجال) مبهم، لم يقطع القرآن الكريم بهوية هؤلاء الرجال، إلا أن السياق يدل على سمو قدرهم لاسيما لجعل منازلهم الأعراف؛ لأن الأعراف هي الأعالي والشرف كما تقدم. ((يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ)) يعني: يعرفون كلاً من أهل الجنة والنار بعلاماتهم التي أعلمهم الله بها كبياض الوجه في المؤمنين، وسواد الوجه في الكافرين، والسيما مقصورة وممدودة، والسيمة والسيماء بكسرهن: العلامة، من سام إبله إذا أرسلها في المرعى، أو من وسم -على القلب- كالجاه من الوجه. ((وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ)) والذين نادوا هم رجال الأعراف، (نادوا أصحاب الجنة) وقد عرفوهم من سيماهم أنهم أهل الجنة. ((أن سلام عليكم)) بطريق الدعاء والتحية أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره، والوجه الأول -الذي هو الدعاء والتحية- مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رضي الله عنه: أنزلهم الله بتلك المنزلة؛ ليعرفوا من في الجنة، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، ويتعوذوا بالله من أن يجعلهم مع القوم الظالمين، وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام. ((لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ))، الضميران في الجملتين لأصحاب الأعراف، والأولى حال من الواو، والثانية: حال من فاعل يدخلوها، أي: نادوهم وهم لم يدخلوا الجنة بعد، حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين. فإن قيل: إذا كان أصحاب الأعراف أفاضل المؤمنين، فلم تأخر دخولهم؟! قلنا: هم تعجلوا اللذة بالشماتة من الأعداء، وإن تأخر دخولهم لظهور فضلهم وجلالة طريقهم إلى منازلهم. فهذا هو الجواب الذي قاله الجشمي . يقول القاسمي : ولا يبعد عندي أن تكون جملة (لم يدخلوها وهم يطمعون) حالاً من أصحاب الجنة، أي: نادوهم بالسلام وهم في الموقف على طمع دخول الجنة، يبشرونهم بالأمان والفوز من العذاب، إشارة إلى سبق أهل الأعراف على غيرهم في دخول الجنة وعلو منازلهم على سواهم، والله تعالى أعلم. وذهب أبو مجلز : إلى أن الضميرين لأصحاب الجنة أي: نادى أهل الأعراف أصحاب الجنة بالسلام، حال كون أصحاب الجنة لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها، وهو وجه جيد، فالجملة الأولى: حال من المفعول وهو أصحاب الجنة، والثانية: حال من فاعل يدخلوها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756186352