إسلام ويب

تفسير سورة آل عمران [21-41]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله...)

    قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]. قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ))، وهم اليهود لعنهم الله، فقد قتلوا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، وقتلوا حزقيال عليه السلام قتله قاض يهودي لما نهاه حزقيال عن منكر فعله. وزعموا أنهم قتلوا عيسى بن مريم عليهما السلام، وسعوا بالفعل إلى قتل المسيح عليه السلام، لكن الله عز وجل أنجاه منهم. ولما كان اليهود الذين في المدينة راضين بصنيع أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم. وقوله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) إشارة أن قتلهم للأنبياء كان بغير حق في اعتقادهم أيضاً، ومعلوم أن مثل هذا القيد لا مفهوم له، أي لا يفهم منه أنه يمكن أن يقتل رجل نبياً ويكون على حق، فمفهوم المخالفة هنا ملغي غير معتبر، بل كل من يقتل نبياً أو يؤذيه فهو بلا شك على غير الحق، ولهذا المفهوم نظائر في القرآن الكريم، وذلك مثل قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31]، فليس معنى ذلك أنه يجوز قتلهم لسبب آخر غير خوف الإملاق؟ ومثل قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، فليس معنى ذلك أنه يجوز أكل الربا إن كان قليلاً لا يصل إلى أضعاف مضاعفة. ومثل قوله عز وجل: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [المؤمنون:117]، هل يحتمل أن يعبد رجل غير الله ويكون له عنده برهان عليه؟ لا يمكن، فمفهوم هذا لا يعتبر بل هو ملغي. إذاً: فكل قتل للأنبياء يكون بغير حق، ولكن الحكمة من نصه تعالى هنا على قوله: (بغير حق) الإشارة إلى أنهم يعتقدون أن قتلهم للأنبياء محرم عليهم، وأنه ليس لهم حق في قتلهم. إن رأس يحيى عليه السلام لما قطعوه أهدوه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. فقتل الأنبياء حرفة يهودية قديمة، فهم مجرمون سفاكو دماء سفاحون، لم تتغير فيهم هذه الطبيعة الخبيثة. لا شك أن ما هم عليه من قتل الأنبياء بغير حق فكذلك هم (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ)، وهذا وإن كان في اليهود نزوله، لكنه عام في كل من يتصف بهذه الصفات، فإن قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس؛ بسبب أنهم يأمرونهم بالقسط، أقبح وأسوأ أنواع الكبر، كما قال النبي صلى الله عليه على آله وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس) ، وهذا رواه مسلم ، فيجمع بين التكبر على الحق وبين غمط الناس وذلك ببخسهم منازلهم وبخسهم حقوقهم، ولهذا لما تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة، فلذلك قال تعالى: (( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )). يقول السيوطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ ))، وفي قراءة: (يقاتلون). (( بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ ))، أي بالعدل. (( مِنَ النَّاسِ ))، وهم اليهود روي أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً، فنهاهم مائة وسبعون من عبادهم فقتلوهم من يومهم. (فبشرهم) أعلمهم. (بعذاب أليم) أي: مؤلم، وذكر البشارة تهكم بهم، ودخلت الفاء في خبر إن لشبه اسمها الموصول بالشرط.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين حبطت أعمالهم...)

    قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:22] يقول السيوطي : قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ))، أي: بطلت. ((أَعْمَالُهُمْ)) ما عملوا من خير كصدقة وصلة رحم. ((فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)) فلا اعتداد بها لعدم شرطها، وشرطها هو الإيمان الصحيح. ((وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)) أي: مانعين من العذاب. فقوله تعالى هنا: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ))، أي: بطلت أعمالهم التي عملوها من البر والحسنات في الدارين، أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن، ويدخل فيه ما ينزل بهم أيضاً من القتل والسبي وأخذ الأموال منهم غنيمة، والاسترقاق لهم، إلى غير ذلك من الذل والصغار الظاهر فيهم، ولا ننخدع بالوضع الراهن الذي وصل إليه اليهود قبحهم الله في هذا الزمان، فهذا استثناء ليس هو الأصل، إذا جئنا للأصل والقاعدة: أنهم ضربت عليهم الذلة والمسكنة أينما كانوا، أما ما نحن فيه فهذا من الأحوال النادرة، باعتبارنا والله أعلم في آخر الزمان وهذا خلاف الأصل. وما هم عليه اليوم هو من العلو الذي عادوا إليه، وأخبر الله سبحانه وتعالى أنه سيعود لتسليط عباد له أولي بأس شديد عليهم، حتى يؤدبوهم ويذلوهم كما قال تعالى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8]، أما حدوثها في الآخرة فإبدال الثواب بالعذاب المقيم. ((وما لهم من ناصرين)) أي: ليس لهم ناصرون ينصرونهم من عذاب الله. وقد دلت الآيات على عظم حال من يأمر بالمعروف وعظم مقامه وشرفه عند الله سبحانه وتعالى، ودلت أيضاً على عظم ذنب قاتله، وأن ذنب من يقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ذنب عظيم؛ وذلك لأنه قرنه بالكفر بالله تعالى وقرنه بقتل الأنبياء. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، وتدل هذه الآيات على صحة ما قاله بعض العلماء: إن للإنسان أن يأمر بالمعروف وإن خاف على نفسه، أو كان في ذلك تلف نفسه؛ لما يكون فيه من إعزاز دين الله عز وجل وتقوية قلوب أهل الإيمان، وإضعاف قلوب الفاسقين، كما جاء في الحديث: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب...)

    قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23]. قوله: ((أوتوا نصيباً من الكتاب)) أي: من التوراة، والمراد بهؤلاء أحبار اليهود. ((يدعون إلى كتاب الله)) وهو هنا القرآن. (( لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ ))، هذا استبعاد لتوليهم بعد علمهم أن الرجوع إلى كتاب الله واجب، إذا قامت عليهم الحجج الدالة على تنزيله. وفي الآية تعجب واستغراب كيف للإنسان بعد أن علم أن الكتاب هو كتاب الله، وأن الحكم هو حكم الله عز وجل، ثم يتولى عن ذلك ويعرض عن حكم الله تبارك وتعالى. ((وهم معرضون)) هذا حال من ((فريق)). ((وهم معرضون)) أي: معرضون عن قبول حكمه.

    وجه حمل لفظ كتاب الله في الآية على التوراة

    ومن المفسرين من حمل قوله تعالى: (( يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ))، لا على القرآن فقط كما ذكرنا وإنما حملوه على التوراة أيضاً، حيث أشاروا إلى أن هذا إشارة إلى قصة تحاكم اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما زنى منهم اثنان، فحكم عليهما النبي صلى الله عليه وسلم بالرجم فأبوا وقالوا: لا نجد في كتابنا إلا التعزير. يعني: تسويد وجوههم فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يأتوا بالتوراة فوجد فيها الرجم فرجما، فغضبوا فشنع عليهم بهذه الآية: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ))، المقصود بهذا التفسير به أيضاً التوراة، (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ). هذه القصة مروية في البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال لهم: كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا: نحممهما ونضربهما، فقال: لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئاً، فقال لهم عبد الله بن سلام كذبتم (( فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ))[آل عمران:93]، فوضع الذي كان يقرؤها منهم إصبعه على آية الرجم، فطفق يقرأ دونها وما وراءها، فنزع الرسول عليه الصلاة والسلام يده عن آية الرجم فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما صلى الله عليه وسلم فرجما قريباً من حيث موضع الجنائز عند المسجد، يقول ابن عمر : فرأيت صاحبها يجنأ عليها يقيها الحجارة) .

    فوائد وثمرة الآية الكريمة

    قال بعض المفسرين: وللآية ثمرتان: الأولى: أن من دعي إلى كتاب الله وإلى ما فيه من شرع وجب عليه الإجابة، وقد قال العلماء رضي الله تعالى عنهم: يستحب أن يقول: سمعاً وطاعة؛ لقوله تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51]، أو يقول: نعم وكرامة، أو: على العين والرأس، أو غير ذلك من العبارات المهذبة التي تليق بالأدب مع حكم الله سبحانه وتعالى وكتابه، لا كما يقول بعض الأجلاف المعتدين الظالمين من عبارات قد تكفرهم! وزير العري والسفور لما صدر حكم المحكمة من أيام قليلة في قضية الحجاب، أول تصريح بادئ الرأي قال: سنحترم حكم القضاء. يا خبيث! وأين أنت من حكم الله الذي نزل من فوق سبع سماوات؟! آيات الحجاب التي تعبدنا الله بها في القرآن الكريم، أما تؤمن بها؟! قلها صراحة وأرحنا، ولا تخادع الناس وتقول: أنا مسلم. كيف يصدر قراراً يمنع الحجاب، ثم بعد ما يفضحه الله سبحانه وتعالى ويصدر الحكم ببطلان هذا القرار، إذا به يستأنف الحكم إصراراً وعناداً على هذه المحادة والمحاربة لله ولرسوله وللمؤمنين، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يذله وأن يقصم ظهره، وأن يريحنا من شره وأمثاله. الثمرة الثانية: أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين ونزلت الآية مقررة له.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات...)

    قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24]. ((ذَلِكَ)) يعني ذلك التولي وذلك الإعراض. ((بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)) الباء هنا سببية يعني: بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم، فهم غروا أنفسهم وخدعوا أنفسهم لما دعوا إلى كتاب تبارك وتعالى ليحكم بينهم، (( ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ )) أي: هم يعلمون أنهم آثمون، وأنهم عاصون، لكنهم يغرون أنفسهم ويقولون: حتى لو عذبنا بسبب هذه الأشياء فنحن لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات. ((وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) أي: من الكذب والقول الباطل من أنهم لن يعذبوا إلا أياماً معدودات، وفي التعبير بالغرور والافتراء إعلام بأن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل، كما مر نظير ذلك في قوله تبارك وتعالى في أوائل سورة البقرة: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، أي: يمنون أنفسهم بهذه الأماني، على ما يقوله لهم أحبارهم من هذه الأماني الكاذبة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه...)

    قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:25]، أي: فكيف يصنعون أو كيف تكون حالهم -إذا جمعناهم ليوم- اللام هنا بمعنى في، يعني: في يوم. ((لا رَيْبَ فِيهِ)) أي: لا شك فيه وهو يوم القيامة. ((وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ)) أي: جزاء ما عملت من خير أو شر. ((وهم لا يظلمون)) الضمير يعود لكل نفس على المعنى، وإلا فالأصل أن يكون الضمير (وهي لا تظلم نفس شيئاً)، لكن لم ينظر إلى اللفظ وإنما نظر إلى المعنى؛ لأن كل نفس تعبر عن عدد كبير، فلذلك قال تعالى: (وهم لا يظلمون)؛ لأنه في معنى كل إنسان، أي: لا يظلمون لا بزيادة عذاب ولا بنقصان الثواب.

    1.   

    تفسير السيوطي لقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب...) والآيتين بعدها

    يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (( أَلَمْ تَرَ )) ألم تنظر: (( إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا )) أي: حظاً. (( مِنَ الْكِتَابِ )) أي: التوراة. (( يُدْعَوْنَ )) هذا حال. (( يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ))، أي: عن قبول حكمه، نزلت في اليهود زنى منهم اثنان فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحكم عليهما بالرجم فأبوا، فجيء بالتوراة فوجد حكم الرجم فيها فرجما فغضبوا. السيوطي كأنه يميل إلى القول إلى أن لفظ (كتاب الله) في الآية المقصود به التوراة. قوله: (ذلك) أي: ذلك التولي والأعراض. ((بِأَنَّهُمْ قَالُوا)) أي: بسبب قولهم. ((لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)) هنا السيوطي يميل إلى تفسير هذه الأيام المعدودات بأنها أربعون يوماً مدة عبادة آبائهم العجل ثم تزول عنهم. ((وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) من قولهم ذلك. إذاً: إعراب كلمة ((ما)) في قوله تعالى: ((وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) هو أنها اسم موصول بمعنى الذي مبني على السكون في محل رفع فاعل. ((فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ)) يعني: كيف يكون حالهم إذا جمعناهم في يوم. ((لا رَيْبَ)) أي: لا شك ((فِيهِ)) وهو يوم القيامة: ((وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ)) من أهل الكتاب وغيرهم جزاء ((مَا كَسَبَتْ)) عملت من خير وشر، ((وهم)) أي: الناس ((لا يظلمون)) بنقص حسنة أو زيادة سيئة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء... بغير حساب)

    يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ثم علم نبيه صلى الله عليه وسلم كيف يدعوه ويمجده بقوله: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27]. (قل اللهم مالك الملك) أي: مالك جنس الملك على الإطلاق ملكاً حقيقياً، فهو المالك الحق لكل ما في هذا الوجود بحيث يتصرف فيه كيفما يشاء، إيجاداً وإعداماً، وإحياء وإماتة، وتعذيباً وإثابة، من غير مشارك ولا ممانع. (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) هذا بيان لبعض وجوه التصرف الذي تستدعيه مالكية الملك، وتحقيق لاختصاصها به تعالى حقيقة، فلا يوجد مالك في الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى، ما الذي عندك؟ لا الملك ولا الرياسة ولا الحكم، ولا حتى أرواحنا التي بين جنبينا ما هي إلا ملك لله عز وجل، إنا لله وإنا إليه راجعون. (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) هي تؤكد ما قبلها وتحققه وتجزم به، (( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ))، يعني أنت المالك لهذا الملك كله على الحقيقة، وملكيتك له ملكية كاملة وتامة وشاملة لا يشاركك فيها أحد، ولا يمانعك فيها أحد.

    أسباب الحصول على الملك وأسباب نزعه

    (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) فكلمة: (تؤتي) الذي يؤتي الملك هو الله الذي يملك كل ما في الدنيا وكل ما في هذا الوجود، فهو الذي يعطي، فلذلك أثر في النظم الكريم لفظ: (تؤتي) على لفظة (تملك) إشارة إلى أن مالكية غيره هي على سبيل المجاز، أما الملكية الحقيقية فهي لله سبحانه وتعالى، ولذلك كان بعض السلف إذا سئل عن شيء معين كان يملكه، يقول: هي لله عندي، ويتحرج أن يقول: هي ملكي. يقول تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]. وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، لم يقل: أن استغنى؛ لأنه في الحقيقة يظل فقيراً إلى الله سبحانه وتعالى، ولكنه يرى نفسه أنه استغنى، وهو لا يملك شيئاً في الحقيقة وفي التعبير بمن العامة للعقلاء إشعار بأن الملك يناله من لم يكن من أهله، وأخص الناس بالبعد منه العرب؛ لأن العرب كانت من أذل الأمم قبل الإسلام، كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما نبتغي العزة في غيره أذلنا لله)، وفي قصة أبي سفيان مع هرقل وذلك عندما رأى كأنه ينظر في النجوم وقال لهم: إني أرى ملك الختان قد ظهر، فقالوا له: إنه لا يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم. وفسر ذلك بأنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم. كانت الأمم كلها تحتقر العرب وكانوا في أذل الأوضاع وفي ذيول الأمم، فالله سبحانه وتعالى اصطفى أمة العرب بهذا الدين، وأعزها بهذا الدين كما قال تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء:10]، أي فيه رفعة شأنكم ومجدكم، فإذا كفرت هذه الأمة بنعمة الله سبحانه وتعالى، فمن عدل الله فيها أنه يعيدها إلى ما كانت عليه من قبل، وهو الذل والهوان والصغار، ولا يترجم لهذا المعنى شيء أبلغ مما نحن فيه الآن من الذل والصغار والدمار الذي حل على هذه الأمة لما تخلت عن دينها، وبحثت عن العزة في غير جناب ربها تبارك وتعالى، يتذللون على أعتاب أمريكا وعلى أعتاب الغرب وغيرهم الكفار، ويتمسحون بأحذيتهم، ومع ذلك: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] فهاهم المسلمون في البوسنة والهرسك ليس لهم من الإسلام إلا اسمه، فهم في انحراف شديد جداً عن الإسلام ما بين خمر وفواحش وفساد في النساء وفي الرجال، وعدم صلاة وغفلة عن الدين إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك ما رضي عنهم الغرب، وعاملهم على أنهم ما زالوا أعداء لهم. فهم لم يعودوا إلى دينهم، فكذلك كل هؤلاء الذين يبتغون العزة في غير جناب الله لم يجدوا إلا الذل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل الذل والصغار على من خالف أمري)، قد يقول قائل: كيف يعيش الغرب الكافر في ذل وصغار مع أنهم يعيشون في قصور، ويعذبون الناس، ويجولون في الأرض متكبرين مغرورين يتقلبون فيها كيفما يشاءون؟ نقول: مهما أظهروا من العزة فهم في الحقيقة مهزومون في أنفسهم. يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: إنهم وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم الخيول، فإن ذل المعصية لا يفارق رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه. لا يمكن أبداً لهذا الذي يحارب دين الله سبحانه وتعالى أن يكون آمناً، لابد أن يكون في قلبه انهزام، ومهما أظهر من عناد أو تبجح أو إصرار على محاربة الله ورسوله فهو في الحقيقة ذليل حقير، ولابد أن يكون منهزماً ومغموراً بالذل، لكن عندما تكون إنساناً ضعيفاً وأنت متوكل على الله سبحانه وتعالى موحد لله، طائع لله، قائم بحق الله، أنت أقوى منه وأعز، حتى وإن كان في أبهته وغروره وزينته. فالشاهد الذي دفعنا إلى هذا: أن الله سبحانه وتعالى كأنه يلفت أنظارنا إلى أن العرب كانوا أحقر أمة، ومن آياته أنه آتاهم ملكه وائتمنهم على دينه، وجعلهم سادة العالم كله حتى امتدت دولتهم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في مدة وجيزة جداً تقل عن خمسين سنة. الدولة الإسلامية انطلقت من قلب الجزيرة العربية وحطمت تماماً فارس والروم، وامتدت شرقاً وغرباً حتى تغلغلت في أحشاء سويسرا، ودخلت على حدود فرنسا، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. من الذي آتى هذه الأمة الضعيفة المهينة الذليلة هذا الملك؟ إنه الله سبحانه وتعالى. وفي قوله تعالى: ((تؤتي الملك من تشاء)) إشعار بأن الله ينيل ملك فارس والروم للعرب، مع أنهم كانوا من أبعد الأمم عن الملك، حتى ينتهي الأمر إلى أن يطلب الله الملك من جميع أهل الأرض، وذلك بظهور ملك يوم الدين، فآتى الله هذه الأمة الملك والتمكين على سائر الأمم؛ بسبب تمسكها بالدين، وإقامة دين الله تبارك وتعالى. يقول عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55]، فكما هو معلوم أن أقوى مؤثر في الإنسان هو مؤثر البيئة المحيطة به (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، ولا يوجد شيء يغلب تأثير البيئة إلا شيئاً واحداً فقط وهو العقيدة والدين. تجد أن الناس في هذه البيئة كسالى مقصرون خاملون متخلفون، فلم يلغ هذه الصفات ولم يطهرهم من هذه الرذائل إلا الإسلام، فإذا تخلوا عن الدين فإنهم سيعودون إلى الوضع الأصلي، وهذا ما نحن فيه الآن، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى أن يمكن لدينه ويعيد المسلمين إلى عزهم ومجدهم.

    تفسير قوله تعالى: (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل...)

    قوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27] ((تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ))، أي: تدخل أحدهما في الآخر؛ إما بالتعقيب وإما بالزيادة أو بالنقص. ((وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ))، كالحيوان من النطفة والنطفة منه، والبيض من الطير وعكسه، وقيل: ((تخرج الحي من الميت)) أي: تخرج المؤمن الحي من صلب الكافر الميت. قال القفال : والكلمة محتملة للكل، أما الكفر والإيمان فقد قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاه [الأنعام:122]، أي: كان ميتاً بالكفر فهديناه، فجعل الكفر موتاً والإيمان حياة، وأخرج النبات من الأرض فصارت حية وكانت قبل ذلك ميتة فقال: وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم:19]، وقال: فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [فاطر:9]، وقال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28]. ((وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ))، أي: ترزق رزقاً واسعاً غير محدود من غير تضييق ولا تقصير، كما تقول: فلان يعطي بغير حساب، يعني: لا يحسب ما يعطيه، فكذلك هنا قال تعالى: ((وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)).

    تفسير السيوطي لقوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك ...) والآية بعدها

    يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ونزلت لما وعد صلى الله عليه وسلم أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون: هيهات! يعد أتباعه ملك فارس والروم، فنزل قوله تعالى: (قل اللهم) يعني: يا ألله (مالك الملك) أي: يا مالك الملك. (تؤتي الملك) أي: تعطي الملك (من تشاء) من خلقك. (وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء) تعزه بإيتائه الملك. (وتذل من تشاء) أي: بنزعه منه (بيدك) أي: بقدرتك. السيوطي فسر اليد بالقدرة، وهذا تأويل باطل بلا شك. (بيدك الخير) أي: والشر. قوله: أي: والشر؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق الخير وهو الذي يخلق الشر، وإن كان لا يحب الشر، ولا ينسب الشر إليه سبحانه وتعالى. (إنك على كل شيء قدير). (تولج) أي: تدخل (الليل في النهار وتولج النهار) أي: تدخله (في الليل) فيزيد كل منهم بما نقص من الآخر. (وتخرج الحي من الميت) كالإنسان والطائر من النطفة والبيضة. (وتخرج الميت) كالنطفة والبيضة (من الحي وترزق من تشاء بغير حساب) أي: رزقاً واسعاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء... والله رءوف بالعباد)

    قال تبارك وتعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:28-30]. (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ) أولياء جمع ولي ومعانيه كثيرة منها: المحب والصديق والنصير. قال الزمخشري : نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر، وقد كرر ذلك في القرآن، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، لذلك قال بعض الصحابة محذراً: (ليحذر أحدكم أن يصير يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر، وتلا هذه الآية: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ .. [المجادلة:22]، إلى آخر الآية). والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73] إذا فقد موضوع الولاء والبراء من قلوب الناس فإنه ستقع فتنة وفساد كبير جداً، إن قضية الولاء والبراء من أكثر القضايا التي تظاهرت عليها الأدلة في القرآن والسنة بعد توحيد الله سبحانه وتعالى، فهي أصل متين من أصول الدين، لكن في ظل العلمانية التي تزخر بها وسائل الإعلام الآن، وفي ظل دعاوى حقوق الإنسان المزعومة، تعتبر التفرقة على أساس الدين جريمة، أما الإسلام فيفرق -لا التفرقة العنصرية- لكنه تفريق على أساس الدين؛ لأنه يقسم الناس إلى مؤمن وكافر، فالمؤمن يحب في الله ويبغض في الله، فإذا انهار هذا الجدار وقع الفساد، كما قال تعالى: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، وذلك كما نرى اليوم، فإن انهيار هذا الحاجز بين المسلمين والكافرين أدى إلى التمييع والذوبان بين الحق والباطل بحيث يلتبس على عامة الناس. قوله: (من دون المؤمنين) أي: لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن، والمعنى: لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين، وهذا كلام جرى على المثل في المكان؛ لأنه كلمة (دون) تستعمل في المكان، فتقول: مثلاً: زيد دونك، أي: تحتك، وأنت لست تريد المكان، وإنما تريد أن زيداً دونك في الشرف، فجعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان، والخِسّة كالاستفال في المكان؛ ولذلك قال تعالى هنا: (( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ )). وقوله تعالى: (من دون المؤمنين) أي: حال كونكم متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالاً أو اشتراكاً، بمعنى: أن يترك المؤمنين ويوالي الكافرين، أو يوالي المؤمنين ويوالي معهم المشركين، فلا ينبغي لمؤمن أن يوالي ويحب بقلبه وجوارحه أعداء الله تبارك وتعالى. ففيه إشارة إلى أن الأحق بالموالاة هم المؤمنون، وأنهم الذين يستحقون الموالاة، وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة. قوله تعالى: ((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)) أي: أن من يوالي الكفرة فليس من ولاية الله في شيء، فالله سبحانه وتعالى بريء منه وهو يفعل ذلك؛ لأن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان، كما يقول بعض الشعراء: تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك ليس النوك عنك بعازب أي: تحب عدوي ثم تزعم أنني صديقك، ليست الحماقة عنك ببعيدة. قوله تعالى: (( إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً )) أي: إلا أن تخافوا منهم محذوراً، فأظهروا لهم الموالاة باللسان دون القلب لدفعه؛ لأن البغض بالقلب فرض عين على المسلم في كل حال؛ لكن يجوز إظهار الموالاة تقية إذا خشي على نفسه بشرطه. كما روى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم)، يعني: تقية. فثمرة هذه الآية: (( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ )) هو تحريم موالاة الكفار. إذاً: هناك مسالك محددة يستنبط منها الحكم بالتحريم. والدليل على التحريم في هذه الآية هو النهي المستفاد من قوله: (لا) وهي هنا ناهية. ومن أقوى ما يستفاد منه التحريم قوله تعالى: (( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ )) أي: من يوالي الكفار، (( فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ))وقضية البراء من الكفار وبغضهم في الله سبحانه وتعالى من أخطر الفتن التي يتعرض لها الناس، فلا شك أن الناس يتأثرون كثيراً بهذا الواقع. فتضيع معالم الدين بسبب الإلحاح والتكرار على هذه المبادئ وهذه الديانة الجديدة التي طلعت تحت مسمى: حقوق الإنسان، ونحن قد ذكرنا من قبل أن أعظم حق من حقوق الإنسان هو ألا يحال بينه وبين هذا الدين، وأن من حق كل إنسان أن يسمع سماعاً صحيحاً عن الإسلام، وأن كل من يشوه الدين أو يصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى أو ينفر الناس من دين الله عز وجل، فهو منتهك لأعظم حق من حقوق الإنسان.

    تفسير قوله تعالى: (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله)

    قال تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:29]. هذا توعد لمن أراد إخفاء مودة الكفار وموالاتهم أو إظهارها، أو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو الكفر. وهذا فيه تخويف للناس من أن يقعوا في ذلك.

    تفسير قوله تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً)

    قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30]. قال تبارك وتعالى من قبل: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28]؛ وقال هنا أيضاً: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30] فكرره؛ ليكون على بالهم ولا يغفلون عنه. وقيل: التكرار هنا ليس للتأكيد فحسب، بل فيه إشارة إلى أن تحذير الله سبحانه وتعالى في قوله: (( وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ))، باعثه، والدافع له هو رأفة الله سبحانه وتعالى ورحمته بعباده؛ لأنه سبحانه وتعالى غني عن تعذيبهم، قال عز وجل: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء:147]، الله سبحانه لا يريد أن يهلككم أو يعذبكم؛ لأنه رحيم بكم، ورءوف بكم، ومن رأفته أنه يحذركم نفسه حتى لا تتعرضوا لعقابه، وكذلك قال: (( وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ )).

    تفسير السيوطي لقوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون..) إلى قوله تعالى: (يوم تجد كل نفس ..) الآيات

    يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ )) أي: يوالونهم. (( مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ )) أي: من غير المؤمنين. (( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ )) أي: يواليهم. (( فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ )) أي: ليس من دين الله في شيء. (( إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً )) مصدر تقيته، أي: تخافوا مخافة فلكم موالاتهم باللسان دون القلب. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (التقاة: التكلم باللسان والقلب مطمئن بالإيمان)، رواه البيهقي في السنن والحاكم وغيرهما. وهذا قبل عزة الإسلام، ويجري حكم التقية في كل بلدة ليس الإسلام قوياً فيها. (( وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ )) أي: يخوفكم الله نفسه أن يغضب عليكم إن واليتموهم. (( وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ )) أي: المرجع فيجازيكم. (( قُلْ إِنْ تُخْفُوا )) أي: قل لهم إن تخفوا. (( مَا فِي صُدُورِكُمْ )) أي: ما في قلوبكم من موالاتهم. (( أَوْ تُبْدُوهُ )) أي: تظهروه. (( يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ )) يعني: وهو يعلم (( مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) ومنه تعذيب من والاهم. ثم يقول تعالى: (( يَوْمَ تَجِدُ )) أي: اذكر: (( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ ))، أي: ما عملته (( مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ )) أي: ما عملته (( مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ))، أي: أن النفس التي عملت السوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً. فإذاً: (وما عملت) ما: هنا مبتدأ خبره: (تود) (( لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ))، يعني: غاية في البعد فلا يصل إليها. (( وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ )) كرر للتأكيد: (( وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ )).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ...)

    قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، أي: قل لهم يا محمد: (( إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ )). يقول السيوطي : إن معنى يحببكم يثيبكم، وهذا التأويل مرفوض وغير مقبول؛ لكن منهج السلف في هذا إثبات صفة المحبة لله عز وجل. (( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) أي: إن اتبعتموني يغفر لكم ما قد سلف. (( رَحِيمٌ )) أي: رحيم بكم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل أطيعوا الله والرسول ...)

    قال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:32] ((قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ)) أي: قل لهم: أطيعوا الله والرسول فيما يأمركم به من التوحيد. ((فَإِنْ تَوَلَّوْا)) أي: أعرضوا عن الطاعة. ((فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ))، فيه إقامة الظاهر مقام المضمر؛ والمقصود أن الله لا يحبهم، لكن أبرز صفة الكافرين إيماءً إلى أن سبب بغض الله سبحانه وتعالى أو عدم محبته لهم هو هذا الكفر. لم يقل: (فإن تولوا فإنه لا يحبهم)؛ لأن العرب إذا عظمت الشيء أعادت ذكره، أنشد سيبويه يقول: لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقير فحين عظم الموت فكرر ذكره. يؤخذ من هذه الآية: أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم هي اتباعه صلى الله عليه وسلم، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر، إذ لو كان محباً له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة قد تجلب الطاعة، ومنه قول الشاعر: لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع وعمر بن أبي ربيعة المخزومي يتكلم عن محبوبته ويقول: ومن لو نهاني من حبه عن الماء عطشان لم أشرب يعني: أنه لو نهاني -من حبه- عن الماء، وقال لي : لا تشرب، وأنا عطشان وأعاني الظمأ الشديد لم أشرب؛ طاعة ومحبة لامتثال أمره. وقد أجاد من قال: قالت وقد سألت عن حال عاشقه بالله صفه ولا تنقص ولا تزد فقلت لو كان رهن الموت من ظمأ وقلت قف عن ورود الماء لم يرد فإذا كان هذا في مخلوق ضعيف يحبه إنسان فيطيعه هذه الطاعة، فكيف بطاعة الله سبحانه وتعالى؟! يقول: (قالت وقد سألت عن حال عاشقها) أي: سألت صديقاً لعاشقها يعرف أحواله وأخباره فتقول: بالله صفه ولا تنقص ولا تزد، فأجابها بهذا الجواب: (فقلت لو كان رهن الموت من ظمأ) أي: لو كان يكاد يموت من شدة العطش، وكنت أنت حاضرة، وقلت له: قف عن ورود الماء لم يرد. أي: أنه يقدم طاعتك التي فيها الموت على الحياة التي فيها معصية لأمرك مع شرب الماء. قال سهل بن عبد الله : علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة، وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي صلى الله عليه وسلم وحب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة أن يحب نفسه، وعلامة حب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزاد والبلغة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم...)

    قال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33]. قوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى )) أي: اختار للنبوة، أو اصطفى بالنبوة آدم ونوحاً. (وآل إبراهيم وآل عمران)، بمعنى: أنفسهما، ولا شك أنه لا يفهم من الآية أن هذا الاصطفاء لكل من انحدر من ذرية هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وإنما المقصود الثناء على المؤمنين منهم والصالحين، ولا يدخل في هذا الثناء من كفر بالله تبارك وتعالى من ذرية إبراهيم وعمران. وآل إبراهيم: هم عشيرته وذوو قرباه، وهم: إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما، ولا شك أن من جملتهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يدخل في الاصطفاء بطريق الأولى، وعدم التصريح به اختلف فيه المفسرون؛ ولم يصرح الله تبارك وتعالى هنا بأفضلية محمد صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الأنبياء المذكورين عليهم السلام؛ للإيذان باستغنائه صلى الله عليه وسلم عن أن يذكر في هذا السياق؛ ولكمال شهرة أمره في الخلة، فإن الله سبحانه وتعالى اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولشهرة مقامه الشريف حتى على لسان من سبقه من الأنبياء، فإنه كما قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه: (أنا دعوة أبي إبراهيم)، والمقصود دعوته التي سبق الكلام عليها في سورة البقرة: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ .. [البقرة:129] إلى آخر الآية، فلشدة شهرته بأنه أفضل خلق الله سبحانه وتعالى أجمعين، أو أفضل بني آدم على الإطلاق لم يحتج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكر هنا في هذا السياق. أو لم يذكر؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم جاوز مرتبة الاصطفاء، وارتفع على جميع الأنبياء والمرسلين، فالرسل عليهم الصلاة والسلام خلقوا للرحمة، أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد خلق بنفسه رحمة ولم يخلق للرحمة، كما قال تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وكما جاء في بعض الأحاديث قال صلى الله عليه وسلم: (أنا رحمة مهداة)، ولذلك جعله الله سبحانه وتعالى أماناً للخلق مؤمنهم وكافرهم؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لما بعثه الله أمنت البشرية كلها من العذاب الذي يستأصل هذه البشرية، فلن يهلك الله سبحانه وتعالى هذه الأمة بسنة عامة، أو بعذاب عام يستأصلهم كما حصل للأمم الكافرة من قبلهم. إذاً: هو داخل في هذا الاصطفاء بطريق الأولوية، وإنما استغني عن ذكره؛ لأن رتبته أعلى من مجرد الاصطفاء المذكور هنا. (( وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ )) اصطفى آل عمران؛ لأنه جعل فيهم عيسى عليه السلام؛ لأن من آل عمران عليه السلام عيسى، وعمران هنا هو والد مريم التي هي أم عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. (( عَلَى الْعَالَمِينَ )) أي: عالمي زمانهم، أما الذي فضل على العالمين بإطلاق فهو نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قوله (عَلَى الْعَالَمِينَ) أي: بجعل الأنبياء من نسل هؤلاء المذكورين، ويستدل بهذه الآية على تفضيل الأنبياء على الملائكة لدخولهم في العالمين؛ لأن العالم يشمل الأنبياء ويشمل الملائكة، فهذه الآية مما يحتج به لمذهب من فضل الأنبياء عليهم السلام على الملائكة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذرية بعضها من بعض)

    قال تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:34]. ((ذريةً)) أي: نسلاً. ((بعضها من بعض)) أي: أن هذه الذرية مسلسلة في وراثة هذا الاصطفاء؛ وأن بعضها من ولد بعض. ((وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً ...)

    قال تعالى: إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35] ((إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ)) أي: اذكر إذ قالت امرأة عمران ، واسمها: حنة ، لما أسنت واشتاقت للولد فدعت الله عز وجل، فلما أحست بالحمل قالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35]. (إِنِّي نَذَرْتُ) أي: نذرت أن أجعل، (لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا). يقول الزجاج : كان على أولادهم فرضاً أن يطيعوهم في نذرهم، وهذا في شريعتهم، أي: لو أن الأب نذر ابنه للتفرغ لعبادة الله سبحانه وتعالى كان على الولد أن يطيع أباه في ذلك، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادماً في مكان العبادة. وقال القاضي أبو يعلى : والنذر في مثلما نذرت صحيح في شريعتنا، فإنه إذا نذر الإنسان إن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته وأن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين صح مثل هذا النذر. وانظر إلى قولها: ((ما في بطني)) ولذلك قدر السيوطي -وهذا من دقته في التفسير- في الجملة السابقة: ((إذ قالت امرأة عمران)) قال: لما أسنت واشتاقت للولد فدعت الله وأحست بالحمل، فقوله: أحست بالحمل، استنبطها من قولها: ((ما في بطني)) لأنها أحست بهذا الحمل. ((محرراً)) أي: عتيقاً خالصاً من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس. هذا التعبير في غاية الدقة في الحقيقة، فهو يتحرر من أن يعبد الدنيا، ويتذلل في طلبها؛ ليكون خالصاً لعبادة الله وحده. معنى قولها: ((نذرت لك ما في بطني محرراً)) أي: نذرته وقفاً على طاعتك، لا أشغله بشيء من أموري، فلم تطلب منه الاستئناس به، ولا ما يطمع الناس من أولادهم؛ لأن الناس يطمعون من وجود الذرية إشباع ما في الفطرة من الاستئناس بالأولاد، كذلك أيضاً الاستنصار بهم، والاستعانة بهم، فهي تنازلت عن حظ نفسها من هذا الولد. يقول العلماء: وهكذا على كل أحد إذا طلب ولداً أن يطلبه بالوجه الذي طلبت امرأة عمران وطلب زكريا حيث قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران:38] أي: صالحة. وما سأل إبراهيم عليه السلام: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:100]. وقال تعالى في دعاء عباد الرحمن: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74] هبة من الله سبحانه وتعالى. فهكذا الواجب أن يطلب الولد لا من أجل الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم، فانظر إلى امرأة عمران لما منّ الله تعالى عليها بالولد نظرت أن حظها من الأنس به متروك، فنذرته على خدمة الله تعالى في مكان العبادة، وهذا نذر الأحرار من الأبرار. قال القرطبي رحمه الله تعالى: وأرادت بقولها: ((محرراً)) أي: محرراً من رق الدنيا وأشغالها. وهذه إشارة إلى أن من لا يشتغل بطاعة الله سبحانه وتعالى اشتغالاً محضاً فهو لا بد له من نوع من الاسترقاق لمطالب الدنيا ومآربها، ويشبه هذا ما حكاه القرطبي أيضاً عن رجل من العباد أنه قال لأمه: يا أمه! ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم، فقالت: نعم، فسار حتى تبصر، ثم عاد إليها فدق الباب، فقالت: من؟ فقال لها: ابنكُ فلان، قالت: قد تركناك لله ولا نعود فيك. هذه القصة قد يكون فيها شيء من النظر. و((محرراً)) كما ذكرنا مأخوذ من الحرية، والحرية ضد العبودية، ومن هذا تحرير الكتاب، يقال: الكتاب الفلاني حرره المصنف الفلاني، وخلصه من الاضطراب والفساد، والمحرر: هو الخالص لله عز وجل لا يشوبه شيء من أمر الدنيا، تقول: طين حر، أي طين لا رمل فيه، وهناك عبارة مشهورة عند الناس يقولون: ذهب حُر، أي: لم يخالطه النحاس ولا غيره. ((فَتَقَبَّلْ مِنِّي)) ، التقبل: هو أخذ الشيء على وجه الرضا. ((إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ )) أي: السميع للدعاء، والمقصود بالسميع هنا هو المجيب، كما تقول في الصلاة: سمع الله لمن حمده، يعني: أجاب الله سبحانه وتعالى. (( الْعَلِيمُ )) أي: بالنيات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى...)

    قال تعالى: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36] قال بعض المفسرين: هلك عمران بعد ذلك وهي حامل، كلمة هلك تأتي في سياق الذم، كما تقول: هلك الطاغوت الفلاني مثلاً، لكن قد يعبر بها أحياناً عن الموت، كما قال تبارك وتعالى حاكياً على لسان مؤمن آل فرعون: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غافر:34]، كذلك قوله تعالى: إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ [النساء:176] أي مات؛ ولذلك يشيع في مسائل الميراث هلك هالك عن كذا وكذا. ((فَلَمَّا وَضَعَتْهَا)) أي: ولدتها جارية. يعود الضمير في قوله: ((وضعتها)) إلى مذكور من قبل في الآية السابقة: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا [آل عمران:35-36]، الضمير يعود إلى؟ إلى ((ما)) التي في قولها: ((ما في بطني محرراً)) والأصل أنه يكون مذكراً؛ لكن أنث على المعنى؛ لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله. أو يكون على تأويل: ((فلما وضعتها)) أي: هذه النسمة أو هذه النفس، وهي مؤنث. ((فلما وضعتها)) أي: ولدتها جارية، وكانت ترجو أن يكون غلاماً، إذ لم يكن يحرر إلا الغلمان، قالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى [آل عمران:36] إما أنها قالت ذلك على سبيل الاعتذار، أو أنها تحسرت؛ لأنها كانت أنثى، إذ جهلت قدرها، ولو علمت أم مريم عليها السلام قدر مريم لما تحسرت، لكن إن قلنا: إنها تحسرت فيكون ذلك على أنها جهلت قدر مريم عليها السلام. ((فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ)) أي: معتذرة أو متحسرة، إذ جهلت قدرها: ((رَبِّ)) أي: يا رب، ((إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ)) أي: أن الله عالم بما وضعت. وفي قراءة: ((وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتُ))، بضم التاء، أو: ((وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتِ)) بكسر التاء على أنه خطاب من الملائكة. ((وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ))، هذه جملة اعتراض من كلامه سبحانه وتعالى. ((وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى))، أي: ليس الذكر الذي طلبتُ كالأنثى التي وهبت؛ لأن الذكر يحرر ويقصد للخدمة، والأنثى لا تصلح لها؛ لضعفها وعورتها، وما يعتريها من الحيض ونحوه، مما يمنع أن تتفرغ لهذه العبادة. ((وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ))، ومريم في لغتهم هي العابدة، سمتها بذلك تفاؤلاً ورجاء أن يكون فعلها مطابقاً لاسمها. وهكذا ينبغي عند اختيار الأسامي أن يتفاءل الإنسان عندما يسمي ابنه أو بنته، عسى أن يكون مثل هذا المسمى. ((وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا )) أي: أولادها، ولم يكن لها من الذرية سوى المسيح عليه السلام. ((مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) بمعنى: المرجوم المطرود، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها)، وهذا رواه الشيخان وغيرهما. فقوله: (ما من مولود يولد): هذا يعم كل مولود بما في ذلك الأنبياء والمرسلين، وإلا لما كان لاختصاص مريم وعيسى عليهما السلام بهذا الأمر معنى. ليس معنى ذلك: أن الشيطان إذا نزغ أو نفث في خاصرة هذا المولود أنه يكون مسلطاً عليه؛ لا يشترط ذلك؛ لأن الأنبياء معصومون من ذلك: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42] لكن هو عبارة عن إعلان بالعداوة منذُ اللحظة الأولى، لا شك أن هذا الصراخ الذي يحصل من الطفل المولود عند ولادته له سببان: السبب الأول: سبب مادي يمكن التوصل إليه بالخبرات البشرية والعلم البشري، فلذلك تركه الله سبحانه وتعالى للأطباء والمتخصصين في هذا المجال، برقي علمهم يكتشفون هذه الأسباب، وفوائد الصراخ بالنسبة للمولود وغير ذلك. السبب الثاني: وهو السبب الغيبي الذي لا يمكن أن يدرك بالحواس، ولا بتجارب ولا بعلوم مادية تترقى من وقت لآخر، فهو سبب غيبي لا نراه؛ ولذلك أخبرنا عنه الله تبارك وتعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً)، كما جاء في بعض الروايات: (يصرخ)، لماذا يصرخ؟ السبب الذي لا نستطيع أن نعرفه إلا من طريق الوحي، هو هذا الذي ذكره عليه الصلاة والسلام، وهو: (أن الشيطان يعلن له العداوة منذُ اللحظة الأولى فينخسه ويطعنه في خاصرته أو في جنبه فيستهل صارخاً إلا ابن مريم وأمه، استجابة لدعوة امرأة عمران حينما قالت: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]، فهذا الحديث يدل على إجابة هذه الدعوة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فتقبلها ربها بقبول حسن...)

    قال تعالى: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37] ((فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا)) أي: قبل مريم من أمها، والقبول هو أخذ الشيء على وجه الرضا. ((فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ)) يعني: أنها صالحة؛ لأن تكون محررة، وأن امرأة عمران وفت بنذرها، وذلك كما جاء في بعض التفاسير: أنها لفتها في خرقة وأرسلتها إلى المسجد، وورد أنها ربتها حتى كبرت وصلحت لخدمة المسجد فأرسلتها؛ لكن الإمام القرطبي رحمه الله تعالى لم يفته أن ينوه على شيء مهم جداً قال: حتى لو كانت تصلح في شريعتهم أن تقوم بخدمة المسجد، فلعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام. واستدل بالحديث المتفق عليه: (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فماتت ...) والحديث معروف، فمعنى ذلك: أن هذا كان في بداية الإسلام، وفي صدر الإسلام؛ كذلك كانت المرأة تصلح أو الأنثى تصلح في شريعتهم لمثل هذا، ولم يكن الحجاب بنفس الصورة في الإسلام موجوداً عندهم، فلأجل ذلك كانت في المسجد، والله أعلم. بعض القضايا نريد أن نتوقف عندها قليلاً: فأولى هذه القضايا: قوله تعالى هنا: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، يخبرنا سبحانه وتعالى بهذه القضية السالبة، والكفرة والملحدون الآن يقولون: بل الذكر كالأنثى فيجعلونها موجبة، فلا شك بعد قول الله سبحانه وتعالى في صدق هذه السالبة، وكذب هذه الموجبة. ((فَتَقَبَّلَهَا رَبُهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا))، أي: أنشأها بخلق حسن. وجاء في التفسير أنها من حيث معدل النمو قد كانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام، وأتت بها أمها. وهناك تفاسير أخرى لقوله تعالى: وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا أي: بجعل ذريتها من كبار الأنبياء. والتفسير الأول يحتاج إلى دليل مرفوع. أما التفسير الثاني فقد جعل الله من ذريتها المسيح عليه السلام من أولي العزم من الرسل ومن كبار الأنبياء. قال الزمخشري عند قوله تعالى: (( وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا )) مجاز عن التربية الحسنة، هي العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها، كالصلاح والسداد والعفة والطاعة. وأتت بها أمها الأحبار سدنة بيت المقدس، فقالت: (دونكم هذه النذيرة خذوها، فتنافسوا فيها؛ لأنها بنت إمامهم وسيدهم عمران ، فقال زكريا: أنا أحق بها؛ لأن خالتها عندي، فقالوا: لا، حتى نقترع. فالأقرب أنهم تنافسوا أيهم يكفل مريم تنافساً في الخير؛ لأنهم جميعاً كانوا يحبون ذلك ويتنافسون عليه، لا كما زعم بعضهم أنهم أصابهم فقر، وتنازعوا فيمن يتحمل نفقتها كأنهم كانوا متضررين من ذلك، فحسماً للنزاع اقترعوا. هذا بعيد! فقال زكريا: (أنا أحق بها؛ لأن خالتها عندي، فقالوا: لا، حتى نقترع، فانطلقوا وهم تسعة وعشرون إلى نهر الأردن، وألقوا أقلامهم على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها، ومن غرق قلمه أو ذهب مع الماء فلا حق له فيها، فثبت قلم زكريا، فأخذها وبنى لها غرفة في المسجد بسلم لا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها، فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، كما قال تعالى: (( وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ))[آل عمران:37])، أحد الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضاً كان له مثل هذه الكرامة، وذلك عندما كان مأسوراً عند الكفار، فكان يوجد عنده قطف من العنب في الشتاء، والله أعلم. ((وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا)) أي: ضمها إليه، أصل كلمة: ((زكريا)) تذكار الرب، يعني: تذكر الرب سبحانه وتعالى، وهي تقرأ: ((زكريا)) أو (زكرياء) والمكفل هو الله سبحانه وتعالى: (( وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ))، إذاً: إعراب زكريا مفعول ثان. ((وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ )) ، المحراب: هو أشرف المجالس؛ لأن المحراب هو الغرفة والموضع العالي، وهو سيد المجالس ومقدمها وأشرفها. وسمي محراب المسجد بهذا الاسم؛ لانفراد الإمام فيه وبعده عن القوم يقال: فلان حرب لفلان؛ يعني: إذا كان بينهما مباغضة ومباعدة وخصام، فيعبرون عن ذلك بكلمة: (حرب) لأن فيه معنى البعد. وقيل: المحراب مأخوذ من المحاربة؛ لأن المصلي يحارب الشيطان، ويحارب نفسه بإحضار قلبه. وعلى أي الأحوال فالمحراب المقصود به أنه أشرف الأماكن وأكرم المواضع من المجلس، وأشرف المسجد هو مقام الإمام. (( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ ))، (كلما) صيغة عموم تعم الوقت كله، أي: كلما دخل الغرفة ((وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا)) أي: من أين لك هذا؟ ((قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) ، مع أنها كانت صغيرة؛ لكنها أجابت هذه الإجابة التي تفصح عن يقينها وإيمانها، بالله عز وجل، (( هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ )) أي: أنه يأتيني به من الجنة. ثم ذكرت التعليل؛ حيث قالت: ((إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ))، الحساب هنا بمعنى: التضييق والتقتير. فقولها: (( إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ ))، فيه كرامة لـمريم عليها السلام. (( بِغَيْرِ حِسَابٍ )) أي: رزقاً واسعاً بلا تبعة، أو (( بِغَيْرِ حِسَابٍ )) أي: بغير تقدير لكثرته، أو بغير استحقاق تفضلاً منه تبارك وتعالى ومحض فضل ومنّة من الله عز وجل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هنالك دعا زكريا ربه...)

    قال تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]. زكريا عليه السلام رأى هذه الآية وهذه العلامة على قدرة الله سبحانه وتعالى، فلما رآها قد رزقها الله سبحانه وتعالى شيئاً في غير حينه وفي غير أوانه وكان يتوق إلى الولد، حينها طمع في رحمة الله سبحانه وتعالى، فلما سمعها تقول له ذلك: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37]. (( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ))، أي: أنه طمع في أن يحقق الله سبحانه وتعالى له ما يصبو إليه؛ لأنه لما رأى أن الله سبحانه وتعالى رزقها الفاكهة في غير حينها، وعلم أن القادر على الإتيان بالشيء في غير حينه قادر على الإتيان بالولد حين الكبر، وكان أهل بيته انقرضوا. (( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ)) ، أي: لما دخل المحراب للصلاة في جوف الليل: (( قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ)) أي: من عندك، ((ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)) أي: ولداً صالحاً. (( إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ )) أي: مجيب الدعاء.

    وقفة مع قوله تعالى: (هب لي ذرية)

    نود أن نقف وقفة عند قوله تعالى: ((هَبْ لِي)). نقول: إن الذرية هبة من الله سبحانه وتعالى، ونعمة من الله عز وجل لا ينبغي أبداً السعي في إنقاصها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: (اللهم زدنا ولا تنقصنا)، والملحدون اليوم يقولون: اللهم انقصنا ولا تزدنا، هؤلاء سفهاء العقول والأحلام، حالهم وطريقتهم في التعامل مع ما يسمونه: الانفجار السكاني، يريدون بذلك أن يستروا خيبتهم وفشلهم وتآمرهم على شعوبهم باسم الانفجار السكاني، وكأن الناس لم تخلق إلا بأفواه فقط لتأكل، ولم تخلق معها أيدي تعمل وتكتسب! قال الشاعر: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق أي: أن عقولهم هي الضيقة. فحالهم كحال شخص عنده ثوب، هذا الثوب قصير عليه جداً، فيريد أن يحل مشكلة الثوب القصير! فيقوم ببتر ساقيه حتى يناسب طول الثوب! مثلاً: في مصر بلد الخير والفضل العميم من الله سبحانه وتعالى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15] بكل ما فيها من الخير، فإنه لا يستثمر من أرض مصر ويستغل إلا بنسبة قد لا تصل إلى (5%) من مساحة الجمهورية كلها، ثم نشكو بعد ذلك ضيق الرزق، إنما هو ضيق العقول والتآمر على المسلمين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب...)

    قال تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:39]. ((فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ))، قيل: الملائكة على ظاهرها، وقيل: المقصود بها: ملك واحد وهو جبريل عليه السلام. (( وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ )) أي: المسجد أو مكان العبادة. (( أَنَّ اللَّهَ )) : يعني: بأن الله، وفي قراءة بالكسر: بتقدير أن الملائكة أو أن جبريل قال: (إن الله). (( يُبَشِّرُكَ ))، إما يُبشِّرُك، أو يَبْشُرك، البَشَرة هي ظاهر الجلد. ((بِيَحْيَى ))، يحيى أصلها في لغتهم: يوحنا، ومعناها في نعمة الرب. (( مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ )) أي: بكلمة كائنة من الله سبحانه وتعالى، وهي كلمة: كن؛ لأن هناك آية أخرى فصلت ما هي هذه الكلمة كما في قوله تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40]. (( بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ )) أي: يحيى، مصدقاً بعيسى أنه روح الله وأمره وكلمته؛ لكن روح المسيح كباقي أرواح المخلوقات، أي أن قوله تعالى: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171] ليس المقصود البعضية أو الجزئية والعياذ بالله، لا يمكن أبداً أن يكون المسيح جزءاً من الله سبحانه وتعالى معاذ الله، هذا كفر بلا شك. لكن المقصود بـ(من) هنا، مِن الابتدائية أي: أن ابتداء خلقه منه سبحانه وتعالى، وذلك كما في قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13] هل كل ما في السماوات والأرض جزء من الله؟! لا، لكن ابتداء خلقها من الله، كذلك قوله: ((بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ)) هي (كن). أما قوله: (( وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ))[السجدة:9]، فكل مخلوق ينفخ الله فيه من روحه، وهذه الروح مخلوقة بلا شك خلقها الله، كما تقول: بيت الله، ناقة الله، هذه إضافة تشريف، فروح الله يعني: الروح التي خلقها الله له. ويقول تعالى: وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ [السجدة:7]، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ [السجدة:9]. (( وَسَيِّدًا )) أي: متبوعاً يسود قومه ويفوقهم ((وَحَصُورًا)) أي: ممنوعاً من النساء من غير علة، بمعنى: أنه لا يرغب فيهن؛ بسبب اشتغاله بطاعته لله سبحانه وتعالى وعبادته، فإنما يمتنع من ذلك عفة وزهداً واجتهاداً في الطاعة؛ لأن هذا بلا شك وارد في سياق الثناء على يحيى عليه السلام، فالثناء يكون بالأمر المكتسب، لا بالأمر الجبلي، بهذا يبطل قول بعض المفسرين: إنه كان عنيناً لا يأتي النساء. وصيغة (حصور) بوزن فعول، وهي بمعنى: حاصر، أي: أنه يحصر نفسه عن الشهوات، ونقول: إن هذا لعله كان في شرعهم، أما شرعنا فهو بخلاف ذلك، فإنه لا يمدح الإنسان بالزهد في هذا الأمر، بل بالعكس حرض نبينا صلى الله عليه وسلم على هذا، ونهى عن التبتل كما نهى عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه، وكما نهى أبا هريرة عن الاختصاء، وكما قال في حديث الرهط الثلاثة: (وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). إذاً: ديننا وشرعنا بخلاف ذلك، وإنما فيه حث وتحريض على النكاح، أما الرهبانية في هذه الأمة فهو الجهاد، وقال عليه الصلاة والسلام: (تناكحوا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة)، وفي حديث عياض بن حمار المشهور في صحيح مسلم ، قال عليه الصلاة والسلام: (وأهل النار خمسة)، فذكر من أهل النار: (الضعيف الذي لا زبر -أي: لا عقل- له، والذين هم فيكم تبعاً لا يبغون أهلاً ولا مالاً)، أي: من لا يطمح في أن يتزوج ويكون له أهل أو يجتهد في توسيع رزقه. قوله: (لا يبغون أهلاً ولا مالاً)، هذا من دناءة الهمة وخستها، يقول: حتى لا أتحمل المسئولية، وإذا انضم إلى ذلك ما يدعو إليه من الفواحش، فإن الأمة تصير إلى المهالك والمفاسد. (( وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ))، أي: ناشئاً من الصالحين؛ لأنه من ذرية قومٍ صالحين ومن أصلابهم، أو كائناً من جملتهم، والصالح: هو الذي يؤدي لله ما افترض عليه، ويؤدي إلى الناس حقوقهم، هذا حد الرجل الصالح. وروي (أنه لم يعمل خطيئة ولم يهم بها عليه السلام).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال رب أني يكون لي غلام وقد بلغني الكبر...)

    قال تعالى: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40]. قال عز وجل حاكياً عن زكريا عليه السلام: ((قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ))، قال بعض المفسرين: لما تحققت البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر! (( قَالَ رَبِّ أَنَّى )) أي: كيف؟ أو من أين؟ (( يَكُونُ لِي غُلامٌ )) أي: ولد. قولهم للطفل: غلام على معنى التفاؤل، أي: أنه سيكبر ويصير غلاماً، ولا يموت طفلاً، وقولهم للكهل: غلام، بمعنى: أنه كان من قبل غلاماً. (( وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ ))، أي: بلغت الكبر وبلغني الكبر. قال بعض المفسرين: ليس المقصود هنا أن زكريا يستبعد هذا الأمر، وإنما كان يريد أن يستفهم عن كيفية وجود الولد، هل ستعود زوجته شابة؟ لأنها كانت عاقراً، وكان كبيراً في السن، أم يأتي وهما على هذه الحال قد بلغا من الكبر عتياً. أو أن قوله: ((رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ)) كان على وجه التواضع، بمعنى: بأي منزلة أستوجب هذا وأنا لست مستحقاً لهذه الكرامة أو لإجابة هذا الدعاء. (( وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ )) أي: بلغت نهاية السن مائة وعشرين سنة. (( وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ )) أي: معقورة قد بلغت ثمانية وتسعين سنة: (( قَالَ كَذَلِكَ )) أي: أن الأمر كذلك في كونه يخلق غلاماً منكما، وأنتما كبيران في السن، بمعنى: أنكما لن ترجعا شباباً. ((اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)) أي: لا يعجزه شيء، ولا يحتاج إلى سبب. ولإظهار هذه القدرة العظيمة ألهمه الله أن يسأل هذا السؤال: ((رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ )) كي يأتي المقصود من الجواب بإظهار قدرة الله عز وجل. وهنا في قصة زكريا قال: (يفعل) أما في قصة المسيح: قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ [آل عمران:47]، وسنوضح الفرق إن شاء الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية...)

    قال تعالى: قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41] ((قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً)) أي: علامة على حمل امرأتي، وسأل الآية لأن شأن الحمل في بداية وقوعه يكون خفياً، وأعراض الحمل تتأخر، فأراد أن يعلمه الله به من أوله، وأن يجعل له آية ظاهرة يعلم بها حصول الحمل من بدايته؛ كي يستصحب الشكر من بداية حصول هذه النعمة ولا يؤخره إلى أن يظهر ظهوراً معتاداً. (( قَالَ آيَتُكَ ))، أي: آيتك عليه. (( أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ )) أي: تمنع من كلامهم، بخلاف ذكر الله تبارك وتعالى فلا تمنع عنه. (( ثَلاثَةَ أَيَّامٍ )) يعني: بلياليها، جمعاً بين هذا وقوله تعالى: ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10]. (( إِلَّا رَمْزًا )) أي: إشارة، والإشارة لا تكون إلا باليد أو بالرأس، أي: تتكلم مع الناس بالإشارة؛ ولذلك بوب الإمام البخاري في صحيحه بقوله: باب وقوع الطلاق بالإشارة، وهو يفيد وقوع الطلاق بالإشارة بالنسبة للأخرس الذي لا يتكلم. والمعنى: أنه يحال بينه وبين الكلام من غير آفة فيه، إنما هذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، بحيث إنه إذا أراد أن يتكلم كلاماً عادياً لا يستطيع أبداً، أما إذا أراد أن يذكر الله أطلق الله لسانه؛ لكن يتعامل مع الناس بالرمز وبالإشارة بالشفتين أو باليد أو بالرأس وغير ذلك، وذلك لمدة ثلاثة أيام. يقول محمد بن كعب رحمه الله تعالى: لو رخص الله لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا؛ لأنه منعه من الكلام وأمره في نفس الوقت بذكر الله تبارك وتعالى. ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ)) أي: صل؛ لأن التسبيح يطلق على الصلاة أحياناً. ((بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ)) أي: أواخر النهار وأوائله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755918299