إسلام ويب

شرح الأربعين النووية - الحديث الأول [2]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    أقسام العمل

    (إنما الأعمال بالنيات أو بالنية) بالإفراد وبالجمع -روايتان- والأعمال تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: أعمال اللسان.

    القسم الثاني: أعمال البدن.

    القسم الثالث: أعمال القلب.

    فأعمال اللسان: النطق من ذكر، وتلاوة، وكلام، وغير ذلك.

    وأعمال البدن -الجوارح-: الصلاة من قيام وركوع، والصيام والحج، والجهاد، وغيرها من الأعمال البدنية.

    وعمل القلب: ما ينعقد عليه القلب من عقائد كالإخلاص والخوف والرجاء... كما جاء عن بعض السلف، أظنه عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يخرج عليكم رجل من هذا الفج من أهل الجنة، فخرج رجل معلقاً نعليه في يده، فمضى، ومن الغد قال: يخرج عليكم رجل من هذا الفج من أهل الجنة، فخرج ذاك الرجل الذي خرج بالأمس، ثلاث مرات، قال: فتبعته فقلت: إنه قد وقع بيني وبين أبي ما يكون بين الولد ووالده، وقد أقسمت ألا آتيه ثلاثة أيام، فإن رأيت أن تؤويني هذه الأيام الثلاثة وجزاك الله خيراً، قال: تفضل، وبات عنده لكنه لم ير عنده شيئاً جديداً، فقال: لعله أن يكون اليوم تعب، وفي الليلة الثانية لم ير شيئاً، قال: لعله أن يكون مستحياً، وفي الليلة الثالثة قال له: يا عبد الله! والله لم يكن بيني وبين أبي شيء، ولكني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيك: إنك من أهل الجنة، فطمعت أن يكون عندك عمل خاص، فجئت لأرى ما تعمل، قال: والله يا عبد الله ما هو إلا ما رأيت، فذهب، ثم ناداه وقال: ما هو إلا ما رأيت؛ غير أني أبيت وليس في قلبي غل لأحد، قال: هي هذه، وهي التي لا نطيق) ، كان يبيت كل ليلة صافي القلب، ليس في قلبه غل لأحد، مهما كان من الناس إليه من إساءة، ومهما صدر من الناس نحوه من تقصير فإنه لا يحمل غلاً على أحد.

    ولهذا قال العلماء في قوله سبحانه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] التطهير: التنقية، فإنها تطهر الغني والفقير معاً، تطهر الغني من أدران الشح والبخل، ومن أن يمسك ماله عن الفقراء، وتطهر الفقير من أن يحقد أو يحسد الغني على ما أعطاه الله؛ لأنه يأخذ حقه منه، فإذا كان الفقير يأخذ حقه من مال الغني، فلا يحقد عليه، بل يدعو له بالبركة، لكن إذا أمسك الغني ماله ولم يزكه وحرم الفقير، يتمنى أن يذهب الله مال الغني، لأنه ما أعطى حق الله فيه.

    1.   

    أهمية النية

    فالنية من أعمال القلب، ولهذا يأتي في بحث القصد: أن النية إنما هي القصد إلى العمل، وليس هناك حاجة للتلفظ بها، فيكفي حينما تتوجه إلى القبلة أن ترفع يديك وتقول: الله أكبر! وتستحضر في قلبك ماذا ستصلي من فريضة أو نافلة، وإن كانت فريضة فتستحضر هل هي صلاة العشاء أم المغرب غيرها، وكل هذا محله القلب.

    فهذا الحديث كما أشرنا يعتبر أصلاً من أصول الدين، ويدخل في كل باب، وفي كل عمل لفرد من أفراد المسلمين، سواء كان ابتغاء وجه الله أم لغرض دنيوي.

    وبحسب ما يقصده العبد بعمله يكون أجره وثوابه، أو نكاله وعقابه، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) إذاً نية القصد قد تكلمنا الكلام عنها.

    دخول النية في العبادات وأثرها في صحتها وثوابها

    قال الشافعي رحمه الله: هذا الحديث يدخل في سبعين باباً من أبواب الفقه، وقال غيره: لو ألف مائة كتاب لجعلت مقدمة كل باب هذا الحديث، ولو أردت تتبع ذلك لطال بك المقام.

    نية التعيين التي يتكلم عنها الفقهاء، مثالها: إذا عممت بدنك بالماء فإن أردت النظافة فلك ما نويت، وإن أردت رفع حدث بأعضائك فلك ما نويت، وكذلك أيضاً إذا كان هناك أمران يقتضيان غسلاً أحدهما واجب والآخر مسنون، فإذا نويت المسنون لم يسقط الواجب، وإذا نويت الواجب سقط المسنون ودخل ضمناً، كمن أصبح يوم الجمعة جنباً فاغتسل ينوي غسل الجنابة، فإنه يدخل غسل الجمعة معه، أما إذا نوى غسل الجمعة فإنه لا ترتفع عنه الجنابة؛ لأنه لم ينوها؛ والأعمال بالنيات.

    وفي باب الصلاة أشرنا إلى أن الصلاة نافلة وفريضة، فإذا أراد النافلة لم تندرج تحتها الفريضة بحال، وإذا نوى الفريضة فقد تندرج معها النافلة، فإذا جئت والإمام في الصلاة في صلاة الصبح ونويت الفريضة دخلت تحية المسجد معها، وكذلك إذا أردت سنة الفجر ونويت تحية المسجد معها، دخلت تحية المسجد مع سنة الفجر؛ لأنها أقوى في الطلب، وهكذا النية تحدد وتعين وتبين المطلوب.

    وهكذا إذا جئت إلى الصيام، فقد يكون فريضة أو قضاءً أو كفارة، فحسب ما نويت يكون لك ما نويت في صيامك، وإذا جئنا إلى الحج أيضاً، فإذا أخرت طواف الإفاضة ونويت معه طواف الوداع أجزأك ذلك، بل إن الإمام مالكاً يقول عن الذي يأتي متأخراً: قد يحج حجه كله بطواف واحد بالبيت، يعني إذا ضاق عليه الوقت، فإن طاف طواف القدوم فاته الوقوف بعرفات، فيسرع ليدرك الموقف في عرفات ويترك طواف القدوم، فإذا جاء ونزل من عرفات إلى منى، وبقي هناك بعد رمي الجمار أيام التشريق، ثم نزل إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة ويسافر فإنه يطوف طواف الإفاضة فيسقط القدوم تبعاً لأنه بالنسبة إليه قدوم، وهو ركن في الحج وهو طواف الإفاضة، ويجزئه أيضاً عن طواف الوداع.

    وهكذا نجد جميع الأعمال فيما يتعلق بالعبادات في تعيينها وفي تصحيحها.

    أثر النية في المعاملات

    وإذا جئنا إلى المعاملات، وأهم ما يكون في ذلك الأيمان: إذا حلف إنسان على شيء وكان اللفظ يحتمل معنيين فإن ما نواه هو الذي تنعقد عليه اليمين.

    ويقولون في باب القضاء، يمينك على ما يصدقك فيه خصمك، فإذا حلفت وكان القسم يحتمل أمرين، فإذا نويت غير ما يريده خصمك، تريد أن تدلس على خصمك، فلا ينفعك هذا التأويل إذا كان الأمر بخلاف ذلك، بل تنعقد عليك اليمين على ما يصدقك الخصم فمثلاً: شخص مظلوم وطولب باليمين، فحلف على نية تخرجه من ظلم الظالم فإنه على نيته، كما ذكروا أن جماعة خرجوا إلى رسول الله فلقيهم خصومهم فأخذوا عدي بن فلان فجاءوا إليهم وقالوا: ليس هذا خصمكم، إنه أخونا. فامتنع القوم أن يحلفوا لهم، فتقدم رجل وحلف إنه أخي فتركه خصومه، فلما أتوا رسول الله وعرضوا عليه الأمر قال: (صدقت! إنه أخوك في الإسلام).

    وهكذا كان صلى الله عليه وسلم حينما كان يمر على القبائل في الهجرة، فليقيهما هو وأبو بكر رجال، وخاف أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: من هذا الذي معك يا أبا بكر ؟ -لأنهم يعرفونه، حيث كان تاجراً وعالماً بأنسابهم- فلم يقل: هذا رسول الله؛ لأنه يخاف على النبي عليه الصلاة والسلام، فكان يرد عليهم بقوله: هذا هاد يهديني الطريق. يقصد: إلى الله سبحانه وتعالى.

    وهكذا إذا كنت في معاملة مع آخر، وتكلمت بكلمة لها معنيان ويمثل العلماء بما إذا قال لامرأة أو قال عند امرأة: فلانة طالق، ويعني بفلانة ناقة تطلق من عقالها، أو من رباطها، وكان ينوي ذلك، وكان عنده ناقة حقيقة، وهي طالق من العقال، ولم يرد طلاق زوجته، فالرواية عن أحمد رحمه الله أن زوجته لا تطلق لأنه لم ينو طلاقها.

    وكذلك يورد العلماء مثالاً: لو أن رجلاً رأى امرأة أجنبية وظنها زوجته وقال: أنتِ طالق يريد الزوجة، فإن هذه لا تطلق لأنها أجنبية، وفي طلاق الزوجة خلاف، والراجح عند أحمد أنها تطلق؛ لأنه نواها بطلاقه.

    ويتفق العلماء على أنه لو كان عنده أربع نسوة فقال: إحداكن طالق ولم يعين ولم يسم، أنه يسأل: من أردت بإحداهن؟ فإن عيَّن واحدة طلقت، والنية هي التي خصصت وهي التي حددت.

    فكما قال الشافعي عن هذا الحديث: إنه يدخل في أكثر من سبعين باباً من أبواب الفقه، ولو تتبعنا الكلام في هذا لوجدنا جميع ما يعقد من أبواب الفقه يدخل فيه هذا الحديث، وقال العلماء: إنه يدخل بين العادة والعبادة فيصير العادة عبادة.

    وقالوا: لو أنه نام للقيلولة ينوي بها التقوي والاستعانة على قيام الليل لكان نومه عباده، وله في ذلك أجر، ولو أنه أكل وشرب ليتقوى على الجهاد في سبيل الله لكان أكله وشربه عبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما خرجوا في فتح مكة وكانوا يصومون قال: (إنكم دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم)، فمن أفطر في ذلك اليوم وأكل بنية التقوي بأكله على قتال أعداء الله، فله على هذه النية أجر.

    وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أن الذي يرتبط الفرس في سبيل الله -ينوي إعدادها للجهاد في سبيل الله- فما أكلت ورعت ولا استنت شرفاً، ولا شربت من واد؛ إلا كان في ميزانه) .

    ترغيب النبي عليه الصلاة والسلام في النية الحسنة والترهيب من ضدها

    وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (ألا إنما الدنيا لأربعة: رجل أعطاه الله مالاً وعلماً، فعرف حق الله فيه فهو في أعلى عليين، ورجل لم يعطه الله مالاً وأعطاه علماً فقال: لو أن لي من المال ما لفلان لعملت فيه كما يعمل، فهما في الأجر سواء، ورجل أعطاه الله مالاً ولم يعطه علماً، فلم يعرف حق الله فيه فهو في أسفل سافلين، ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً فقال: لو أن لي مالاً لعملت فيه مثلما يعمل فلان، فهما في الوزر سواء)، فالذي بلغه ماله وعلمه أعلى عليين أدركه صاحب النية الحسنة، وذاك جاهل يعمل في ماله بما لا يرضي الله، وذاك نوى لو كان عنده مال لعمل فيه مثل عمل الذي قبله، فأدركه في أسفل سافلين؛ لا لشيء إلا بالنية، والأخبار في ذلك طويلة.

    إذاً: هذا الحديث من أهم الأحاديث التي تدخل في العبادات وفي العادات وفي المعاملات وفي جميع أحوال الناس.

    وفي الحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وليس هذا تكراراً للمعنى، بل تقرير لصحتها ومرادها وتوجيهها، أي: كل عمل فهو بنيته.

    والجملة الثانية: (وإنما لكل امرئ) امرئ: مذكر، مؤنثها: امرأة، وإذا جاء بلفظ امرئ فإنه يشمل المرأة فتكون داخلة فيه، بخلاف ما إذا عيَّن كقول من قال: (امرؤ القيس) فإنه خاص بشخص معين.

    (وإنما لكل امرئ ما نوى): (إنما) أيضاً للحصر، فلا يتعدى عمل العبد ما نواه، ثم فصل صلى الله عليه وسلم فقال: (فمن كانت هجرته).

    ذكر الهجرة خاصة مع أن هناك الجهاد وغيره: فمن كان جهاده لله فجهاده لله، ومن كانت صلاته لله فصلاته لله، وكذلك الزكاة، بل كل عمل يندرج تحت الأعمال بالنيات، ولكن نص على الهجرة بخصوصها.

    والهجرة أصلها مأخوذ من الهجر، والهجر البعد والافتراق، والهجر مأخوذ من الهجير، والهجير شدة الحر في الظهر، ومنه الهاجرة، وهي شدة الحر، وانتقلت حقيقة اللغة المحسوسة -شدة الحر- إلى الهجرة بمعنى الانتقال إلى الهجران وهو المقاطعة، لأن الناس في وقت الهجير والهاجرة يعتكفون في ظلهم ويتقاطعون عن التواصل مخافة شدة الحر.

    1.   

    حكم الهجرة وأهميتها

    وكذلك الهجران: تهجر صديقك، أي: تقاطعه، وفي الحديث: (ولا يحل لامرئ أن يهجر أخاه فوق ثلاث)، والهجرة انتقال وانقطاع عما كان فيه، إلى ما ذهب إليه.

    وفي الاصطلاح: انتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، أو انتقال من بلد لا يستطيع المسلم أن يؤدي أحكام دينه فيها، ولا أن يعبد ربه على ما ينبغي إلى بلد آخر يستطيع فيه ذلك.

    وقد سبقت الهجرة إلى الحبشة مرتين، وجاءت الهجرة الكبرى إلى المدينة المنورة، وكانت الهجرة إلى المدينة ركناً من أركان الإسلام حتى جاء الفتح، (فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية).

    فالهجرة في بادئ الأمر كانت ركناً، حيث كان يجب أن ينتقل الأعراب وأهل القرى المدن من ديارهم إلى المدينة المنورة، ولماذا كانت ركناً؟

    لأنها كانت بداية تكون النواة الأولى للدولة الإسلامية التي ستصبح عاصمتها المدينة، لذا كان لزاماً على كل فرد آمن بالله أن يهاجر إليها، لتتكون القاعدة الصلبة لهذه الدولة والتي منها ينطلقون إلى الأمصار، وفيما بعد رجعوا إلى مكة فاتحين، فكانت الهجرة في أول الإسلام واجبة ليتجمع المسلمون ويتحدوا ليفتحوا القرى والأمصار على ما تم ولله الحمد، وأكمل الله سبحانه الدين للأمة.

    وبعد أن فتحت مكة طهرت الجزيرة من درن الأصنام، وقضي على دولة الشرك وبقيت البلاد إسلامية من أقصاها لأقصاها، ثم بدأ المسلمون ينطلقون منها إلى ما جاورها.

    ثم انطلق خلفاؤه من بعده صلى الله عليه وسلم، فـأبو بكر رضي الله عنه في خلافته تصدى للمرتدين من الأعراب ممن سولت لهم نفوسهم أمراً، حتى استتب الأمر وثبت الناس على دينهم، وبدأت الفتوحات في زمن عمر رضي الله عنه فانطلقت الجيوش وفتحت الأمصار، وفتح الله للمسلمين البلاد شرقاً وغرباً.

    فقد كانت الهجرة في أمر الأمر واجبة، ثم بعد ذلك صارت مندوبة، أو صارت بحسب حال الفرد، فمن استطاع أن يؤدي أمور دينه في بلده فليثبت، ومن لم يستطع فليهاجر إلى المكان الذي يستطيع فيه تأدية شعائر دينه.

    وأحب أن أنبه أنه في بعض البلاد تحدث مضايقات للدعاة ولشباب الحركات الإسلامية،مما يحدو بالبعض إلى الهجرة، وترك البلاد لما فيها من فساد، أقول:

    إذاً: لمن تترك تلك البلاد؟ ومن يقوم بأمر الدعوة فيها إذا تركها الدعاة والصالحون، بل الواجب الصبر، وأن يثبتوا في أماكنهم وأن يدعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لعلهم أن يدرءوا الشر عن ضعاف المسلمين، أو أن يكونوا ردءاً لضعاف الإيمان فيعلموهم ويبينوا لهم ما ينبغي أن يفعلوه، وما يجب أن يتركوه، ولكن مع مصانعة الأعداء بالحكمة.

    ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة في مكة وهو يدعو إلى الله والأصنام مثبتة في بناء الكعبة، ويصلي إلى البيت وربما يقع الصنم على ظهره، وهو لم يغير شيئاً، حتى إذا أراد الله النصر وجاء الأوان، وفتحت مكة أخذ يشير إلى الأصنام بقضيب في يده ويقول: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [الإسراء:81] فتتساقط تلك الأصنام مع أنها مثبتة بالحديد.

    الهجرة والتاريخ بها

    إذاً: فقد كانت الهجرة أمراً عظيما وهي أعظم حدث في الإسلام، كما بين عمر رضي الله تعالى عنه حينما أراد أن يضع تاريخاً للمسلمين، والأمم متعودة أن تؤرخ بأحداثها العظام، كما أرخ الروم بمولد المسيح، فتفكر عمر رضي الله عنه فما وجد في الإسلام حدثاً أعظم من الهجرة، لأن بها تمكن الإسلام وانتشر في العالم، فجعلها مبدأ تاريخ المسلمين.

    1.   

    الهجرة إلى الحبشة

    والسؤال هنا: لماذا خصت الهجرة بهذا التنبيه، مع أن في لفظ الأعمال ما يفيد الاستغراق؟ وأيضاً ما هي الهجرة حقاً؟

    نعلم جميعا أن أعظم حدث في الإسلام بعد الوحي وبعد الرسالة هو حدث الهجرة، وكلنا يعلم أن الهجرة من مكة إلى المدينة سبقتها هجرتان إلى الحبشة، ومجمل ذلك: أن المسلمين حينما ضاق عليهم الأمر بمكة واشتد عليهم إيذاء قريش، ما خرجوا فراراً من الإيذاء، ولكن خرجوا يرتادون موطناً رحباً يستطيعون أن يقيموا فيه شرع الله، ويؤدوا عباداتهم في بلد آمن، وكان ذلك بإرشاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال لهم: (إن بالحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم أحد في جواره).

    وهنا وقفة: فهذا ملك نصراني وهو ملك في الحبشة، والرسول صلى الله عليه وسلم يصفه بأنه عادل، ومن هنا نعلم أن العدل من الكافر يثبت له ملكه، كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله الملك يدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم.

    فهذا كافر عادل، أي: يحكم بالعدل، ومن هنا ننبه على الحديث الصحيح: (سبعة يظلهم الله في ظله... إمام عال) وفي بعض الروايات: (عدل) وهي الصحيحة؛ لأن العادل قد يكون كافراً وقد يكون مسلما؛ لأن العادل الذي يعادل ويساوي بين المتساويين، والأصل في العدل والعدالة: عِدْلَة الحمل من البعير، وحمل البعير عِدلتان، عِدلة في اليمين وعِدلة في اليسار، فإذا ما كانت العدلتان مملوءتين من شيء واحد متعادلتين في الوزن كان التعادل بينهما حاصلاً، وإذا ما نقصت إحدى العدلتين مال الحمل إلى شق الثقيلة وطاشت كفه الخفيفة.

    فالعدل والعدالة من العدلتين المتعادلتين في الحمل، وقد يعدل حمل كافر أو مسلم، وهكذا العادل في الحكم قد يساوي بين القوي والضعيف وبين الشريف وغير الشريف، وذلك لعدله في الحكم.

    أما الإمام العدل: فالعدل هو نهاية أوصاف مكارم الأخلاق كما يقول ابن مسكويه في كتاب فلسفة الأخلاق: بأن جماع الفضائل في الإنسان هو أن يكون عدلاً، بأن يكون مؤمناً عفيفاً شجاعاً كريماً، فإن اجتمعت كل خصال الخير فيه كان إماماً عدلاً، ولذا يقول سبحانه: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2] أي: عدول في الشهادة موثوقين في نقل الأخبار لا يتهمون بكذب ولا بتزوير ولا بحيف، قد اجتمعت فيهم خصلة العدالة فأصبحوا عدولاً على الناس.

    (إن بالحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم أحد بجواره) وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إقرار بالحق وإن كان لكافر، فهو مستحق لهذه المدحة.

    وفعلاً خرج المسلمون أولا وأتبعهم المشركون برسلهم وهداياهم وأرادوا أن يعودوا بهم، ولكن عدل الملك أبى عليه أن يسلم المهاجرين حتى يسمع ما عندهم، ولما تكلم جعفر رضي الله تعالى عنه عن رسالة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما كانوا عليه في الجاهلية، وبما أتاهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما زاد ما جاء به رسولكم على ما جاء به عيسى ولا هذه القشة، وهكذا أعلن النجاشي إسلامه أو إقراره بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعلنها أكثر من ذلك، حينما قال: لولا ما أنا فيه من الملك لخلصت إليه وأتيته، وغسلت التراب عن قدميه.

    وكانت الهجرة إلى المدينة، وقد كان أبو بكر يريد أن يهاجر فيمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: (انتظر يا أبا بكر! لعل الله يجعل لك صاحباً أو رفيقاً)، وكان المهاجرون يخرجون خفية إلا عمر بن الخطاب ، فقد ملأ كنانته وأخذ قوسه، وجاء إلى البيت وطاف به، ثم نادى في قريش: شاهت الوجوه! إني مهاجر، فمن أراد أن تثكله أمه أو تيتم أولاده، أو ترمل زوجه، فليلقني خلف ذاك الكثيب. ولم يخرج وراءه أحد.

    1.   

    قصة الهجرة إلى المدينة المنورة

    التخطيط للهجرة

    وأخذ النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر يعدان للهجرة، فـأبو بكر أخذ راحلتين وعلفهما من أجل الطريق الطويل، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الظهيرة، في وقت لم يكن يأتينا فيه، فقال لأبي بكر: أخرج من عندك! فقال أبو بكر: ليس إلا فلانة وفلانة وأمنه من أن يفشو سره، قال: أذن الله لي في الهجرة قال: الصحبة يا رسول الله. قال: نعم. وعرض على رسول الله الراحلة والزاد فقال بثمنها.

    ثم رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق الخطة، على أساس أن يخرج صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ويأتي عبد الله بن أبي بكر بالأخبار، وتأتي أخته بالطعام، ويأتي راعي أبي بكر بالغنم بعدهما ليعفي الأثر ويسقيهما اللبن.

    واجتمع كبار كفار قريش وتآمروا في دار الندوة على حبس النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله أو نفيه، وجاءهم الشيخ النجدي فصوب رأي أبي جهل لعنه الله، ولكن الله سبحانه الذي اختاره صلى الله عليه وسلم واصطفاه والذي بعثه وأرسله كان يتولاه ويرعاه، فعصمه من السفاح قبل ولادته كما جاء في آثاره، وعصمه من كل سوء في طفولته، وشق صدره ليخرج منه خظ الشيطان، وهكذا تولته عناية الله.

    ففي تلك الليلة يأتي جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: لا تبت في فراشك الليلة، ويأتي أول فدائي كما يقولون: بل أول مسلم من الشباب، علي بن أبي طالب، ويقول له صلى الله عليه وسلم: (نم في فراشي وتسجى ببردي، فلن يصلوا إليك بأذى)، وهذا ضمان من الصادق المصدوق أنهم لن يصلوا إليه بأذى.

    ويخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنوف أولئك الفتية، وهم واقفون بباب الدار، ولم يكفه أن يمر عليهم بل يأخذ التراب ويضعه على رءوسهم ويقرأ قوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9] فلم يبصره واحد منهم، ثم يذهب إلى الغار، وهنا تتجلى عظمة أبي بكر وتظهر محبته رضي الله تعالى عنه، فتارة يمشي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارة يمشي وراءه، فإذا رسول الله يقول: (يا أبا بكر ما لي أراك تارة أمامي وتارة من ورائي؟ فيقول: يا رسول الله! أتذكر الرصد فأكون أمامك، وأتذكر الطلب فأكون وراءك، فيقول صلى الله عليه وسلم: أردت يا أبا بكر لو كان شيء يكون فيك أنت؟ يقول: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن أهلك أنا أهلك وحدي، أما أنت فمعك الرسالة) .

    وقد رسمت الخطة للهجرة، وهذا يدل على أنه يجب على كل داع أن يسلك، إعداد العدة والتحفظ والاحتياط، وكل ما يكون في إمكانية البشر.

    بل قبل سنة أو عدة أشهر من الهجرة كانت رحلة فريدة، وهي رحلة الإسراء والمعراج، وكانت رحلة تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم رداً على المشركين، وعلى ثقيف، وعلى ما لقي في الطائف، وعلى ما لقي في مكة عند عودته، حيث منع من دخول بلده مكة، فلم يدخل إلا في جوار رجل مشرك، مع أن جبريل قال له: يا محمد! هذا ملك الجبال؛ إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين، قال: لا. إني لأرجو أن يخرج من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله.

    ودخل في حماية رجل مشرك، لماذا لم يدخل في جوار حمزة وعمر وأبي بكر ؟ لأنه يسن ويشرع في سياسة الدعوة التي يجب على كل داعية أن يسلكها ويدرسها ذلك.

    فأرسل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مطعم بن جبير ودخل في جواره وهو على دين قومه، وخرج مطعم وكان له أربعة من الأبناء الشباب، وقف كل ولد من أولاده عند ركن من أركان البيت متقلداً سيفه لابساً سلاحه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، وجاء أبو سفيان وكشف عن الحقيقة، فقال له: أتابع أنت أم مجير، قال: إني مجير، قال: أجرنا من أجرت، وانتهت القضية.

    فلو كان هذا المجير مسلماً وتابعاً لمحمد، لوقعت حرب أهلية حرب داخلية، تقضي على جميع المسلمين، وليسوا آنذاك بقوة تستطيع أن تقاوم تلك القوة.

    وكما أشرت أن الداعية حسن البنا رحمه الله كان يريد أن يفتح مركزاً في قرية، وكان عمدة القرية ضد هذا المركز، فسبق أحد أبنائه إلى القطار قبل البلدة بمراحل، وركب معه القطار وأخبره، قال له: أرى أن ترجع، أرى ألا تذهب إلى المركز لأن عمدة القرية جمع رجاله وأعوانه، ويريد أن يضرب من يجتمع في هذا المركز، قال: هل علم بك أحد؟ قال: لم يعلم بمجيئي أحد، قال: إذاً فاسكت، فلما وصل القطار إلى محطة المركز، كان الناس ينزلون على الرصيف المرتفع وهو نزل من الخلف، ولم يشعر به أحد، وأخذ صاحبه بيده وترك المستقبلين المحتشدين عند القطار، وما علموا إلا بالشيخ حسن قد وصل المركز لكن لم يذهب إلى مركزه ولا إلى أحد من أبنائه ولا إلى أحد من أتباعه، بل ذهب إلى بيت العمدة بنفسه، سلام عليكم نحن ضيوفكم، فقام العمدة بأريحية أهل الريف بحق الضيافة، ثم بعد أن تناولوا القهوة أو الغداء قال: نحن جئنا لافتتاح المركز ولا يكون حفل الافتتاح إلا على شرف العمدة الذي هو أمير القرية.

    فذهب العمدة مع حسن البنا بعد أن كان رجاله قد أعدوا لإحباط الافتتاح ولضرب الحاضرين فصاروا حراساً لهذا الحفل، ثم ما خرج من هناك حتى ولى العمدة رئاسة هذا المركز.

    نرجع إلى موضوعنا: مشى الصديق رضي الله تعالى عنه مع رسول الله حتى وصلا إلى الغار وهناك قال أبو بكر : على رسلك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار، ويدخل رضي الله تعالى عنه الغار ليلاً، يفادي بنفسه، ودخل حتى استبرأ الغار، فقال: على بركة الله.. باسم الله يا رسول الله، فينزل صلى الله عليه وسلم ويجلس.

    وقاية الله لنبيه من كيد المشركين

    ومن الغد تأتي قريش بقلوب حاقدة وسيوف مصلطة يطلبون محمداً، الآثار تأتي بهم إلى فم الغار، لكن يكذب أعينهم عنكبوت قد نسجت خيوطها، ونبت قد تدلى، وحمامة قد باضت، فكيف سيدخل من أراد الدخول دون تمزيق هذا النسيج؟ فكذبوا أنفسهم ورجعوا.

    نقول: نعم. لقد ردهم الله ورد كيدهم، لا بالدروع والسيوف والجنود، ولكن أمام نسج العنكبوت، كأنه يقول لهم: قوتكم لا تساوي هذا النسج، لأن الباطل لا قوة له.

    ثم بعد ذلك يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه، ويضع لنا معلماً عظيماً في طريقه حينما يأتي أم معبد وهي امرأة كانت في الطريق عند خيمتها، عندها عنز عجفاء لا تستطيع أن تلحق بالغنم في المرعى، فيقول لها الصديق رضي الله تعالى عنه، هل عندكم من قِرى؟ قالت: إن أردت القرى فاذهب إلى شيخ الحي، قال: وما هذه العنز قالت: إنها عجفاء. فقال صلى الله عليه وسلم: عليّ بها.

    وفي رواية: ذهب إلى الظل ثم جاءت المرأة بولدها وقالت: اذهب بهذه العنز والشفرة إلى هذين الرجلين فليذحانها وليطعمانا وليطعما، فلما جاء بالعنز وبالمدية قال: رد المدية وأتني بقدح، قال: إنها عجفاء لا حليب فيها، فرد المدية وجاء بالقدح، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم على ضرعها ودعا الله، وحلب فشرب وشرب الصديق، وشرب دليلهم ابن أريقط وبقي الإناء مليئاً بالحليب، فذهب به إلى أم معبد فقالت: والله إن كان هذا ساحراً لهو أكبر السحرة، ولئن كان هذا هو الصابئ في مكة لهو صادق حقاً.

    وفي امتناع الرسول عليه الصلاة والسلام عن ذبح الشاة دليل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام يأبى أن يكون في هجرته وفي طريقه إراقة قطرة دم ولو كانت لشاة، ويختار على ذلك أن يدعو الله وأن يدر له الضرع، فيحلب ويشرب وتبقى العنز كما هي، إن في ذلك إشعاراً بأن الهجرة كانت هجرة خير وبر لا هجرة دم ولا انتقام.

    ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأول من يعلن عن قدومه رجل من اليهود، ينادي: يا بني قَيْلة! هذا جدكم الذي تنتظرون!

    وهنا وقفة: فدليل الرحلة رجل مشرك، وفي الإعلام عن وصوله رجل يهودي، يا سبحان الله، دعوة الإسلام تنتقل إلى المدينة بقيادة رجل مشرك، ورحلة الإسراء والمعراج على براق جبريل عليه السلام، فتلك دعوة تكريم لن تكون لأحد بعده، ولن تتكرر لأحد، وليست للتشريع ولكن للتكريم، أما رحلة الهجرة فكانت للتشريع والتعليم، ولبيان المناهج الصحيحة لدعاة الإسلام.

    فلكأن الله يشعر المسلمين، بأنه سخر المشركين لخدمة الإسلام، وسخر اليهود لخدمة الإسلام أيضاً، إذاً لا مانع أن يستخدم المسلمون المشركين في أمور دنياهم، ولا علاقة لدينهم بذلك.

    كانت الهجرة المباركة ووصل صلى الله عليه وسلم إلى قباء، وبنى مسجد قباء، ثم نزل إلى المدينة وبنى المسجد النبوي وتمت الهجرة النبوية وكانت المدينة منطلق المسلمين وعاصمتهم الأولى.

    ثناء الله عز وجل على المهاجرين والأنصار

    وهنا يسجل الله سبحانه للهجرة وللمهاجرين الأولين فضلهم، فيقول كما في سورة الحشر لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]، فهذه شهادة من الله للفقراء المهاجرين، فقد كانوا فقراء بعد الهجرة، وليسوا فقراء قبلها؛ لأنه يقول تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [الحشر:8] إذاً كانت لهم ديار وكانت لهم أموال.

    وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم لما جاء في فتح مكة وسئل في أي بيت من بيوتك ستنزل يا رسول الله؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من بيت أو دار؟

    فالمشركون أخذوا بيوت المهاجرين وباعوها، واستولوا عليها، والمهاجرون تركوا ديارهم وتركوا أموالهم، وهذا صهيب لما خرج مهاجراً وأدركه المشركون وقالوا: جئتنا صعلوكاً لا مال لك فلما أثريت بالمال تخرج وتهاجر، والله لا يكون ذلك أبداً، فقال: يا معشر قريش أويهمكم المال؟ إنكم تعلمون والله إني لرام لا يخطئ سهمي، وإن كنانتي ملأى، فإن كان همكم المال، فدونكم المال قد دفنته في مكان كذا، ارجعوا إليه فخذوه، فتركوه ورجعوا، وهاجر وبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ربح البيع أبا يحيى) .

    إذاً خرج المهاجرون من ديارهم وأموالهم، لما هو أعز من ذلك، ولذا ننظر المعادلة، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8] ماذا كانت المعادلة من إخوانهم الأنصار وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الحشر:9]؛ هكذا المعادلة: مهاجرون تركوا ديارهم وأموالهم لله فوجدوا إخوانهم يؤثرونهم على أنفسهم؛ فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وسجل الله للفريقين الفضل العظيم والشرف الكبير، سواء المهاجرون الذين يريدون بهجرتهم نصرة الله ورسوله، ويقر لهم سبحانه بذلك، ويشهد لهم بأنهم صادقون في هجرتهم.

    علة اختبار المهاجرات دون المهاجرين

    ويهمنا في ذلك القسم الثاني من المهاجرين وهو هجرة النسوة المؤمنات حيث يقول الله تعالى فيهن:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة:10].

    فالمهاجرون من الرجال بين الله صدقهم في قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8] فلا يحتاجون إلى امتحان، والنسوة يأتين مهاجرات فنمتحنهن، ويذكر ابن كثير في كيفية الامتحان أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول لإحداهن: والله ما خرجت من ضيق عيش، ولا هرباً من زوجٍ. فلماذا هذا الامتحان؟

    لأن الرجل حينما يخرج من مكة يعلم بأن عليه واجباً، ألا وهو القتال، إذاً: ما خرج من مكة إلا وهو مستعد ملتزم بهذا الأمر الشاق العظيم، فلم يكن لامتحانه حاجة، لأن واقع أمره يصدق فعله، أما النسوة فلا قتال عليهن، فقد تهاجر وتأتي وتتزوج، وقد تهاجر وتأتي ولا تطالب بضريبة الجهاد، إذاً: هجرة النسوة كانت محتملة، ومن هنا فلابد أن تمتحن.

    1.   

    أقسام الناس في الهجرة

    يقول عليه الصلاة والسلام: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله) كأولئك الذين شهد الله لهم بأنهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا، وأنهم ينصرون الله ورسوله، وأنهم صادقون (فهجرته إلى الله) ، أي: من كانت هجرته إلى الله ورسوله قصداً واحتساباً وصدقاً فهجرته إلى الله فعلاً، وجزاءه على الله سبحانه.

    أما القسم الثاني: (ومن كانت هجرته إلى دينا يصيبها، أو امرأة يتزوجها).

    وخصت الهجرة من دون سائر الأعمال؛ لأنها أعظم حدث في تاريخ الإسلام، ولذا نوه بها صلى الله عليه وسلم إعظاماً لشأنها.

    والله تعالى أعلم.

    أما (فمن كانت هجرة إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها)، فيذكر العلماء أن سبب الحديث أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة يقال لها: أم قيس فامتنعت عليه حتى يهاجر فهاجر ليتزوجها.

    وكما جاء عن ابن مسعود: كنا نقول: مهاجر أم قيس ، ويقول ابن رجب: لم يثبت هذا الأثر، أي: لم يثبت سنداً بهذا السبب، ولكن يهمنا الأمثلة التي يوردها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وإذا نظرنا إلى هذا التحديد: دنيا، وامرأة، والمرأة من الدنيا، ودنيا إذا أطلقت فهي تأنيث الأدنى، وهي بالنسبة إلى الآخرة أدنى، سواء كانت أدنى زماناً، بأن يكون سبقها أزمان، أو أدنى منزلة بأنها بالنسبة إلى الآخرة لا تساوي شيئاً: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) فهي دنية دنية، وسواء في ذلك المال أو الجاه... إلى آخره.

    الذي يهمنا أن أي إنسان هاجر لشيء فهجرته إلى ما هاجر إليه، وهنا حكم مبتدأ وخبر، هجرته إلى ما هاجر إليه، أي: هجرته إلى ما هاجر إليه لا إلى الله ورسوله.

    وإذا تأملنا حال المهاجرين فقد يهاجرون حقاً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيجدون الكرامة ويجدون العوض عند الله عز وجل، ومن الناس من قد يهاجر لأجل الدنيا فيجدها، فيأتي فقيراً ويغنيه الله، وقد يأتي مهاجراً للزواج فييسر الله له زواجه. ولذا نقول: وهل الهجرة للدنيا ممنوعة؟ وهل المرأة ممنوعة من السفر؟

    إن السفر للتجارة الرابحة قد بينه سبحانه وتعالى، فالمرء إذا ضرب في الأرض ليبتغي من فضل الله، أو ليتزوج امرأة صالحة؛ فلا مانع، بل جاءت الرحلة كما في الحديث الصحيح، (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فليس هناك مانع، فمن أراد الدنيا فليعلنها: جئت للدنيا، ومن أراد الزواج فليقل: جئت لأتزوج، لا أن يأتي في إطار الهجرة لله ورسوله بينما يبطن في نيته دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها.

    ومن هنا يرجع أول الحديث على آخره (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755969907