إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. محمد حسان
  5. قواعد منهجية لترشيد الصحوة الإسلامية

قواعد منهجية لترشيد الصحوة الإسلاميةللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شاء الله أن يبزغ في الأفق نور مشرق، وأمل متجدد، أضحى حقيقة كبرى لا تنكر، وهو هذه الصحوة الإسلامية المباركة، ولابد لهذه الصحوة من قواعد وأصول تسير عليها؛ لتؤتي ثمارها، وتنتج خيراتها.

    1.   

    انتشار الصحوة الإسلامية

    بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] . يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة التي طال شوقي إليها، وزكى الله هذه الأنفس التي انصهرنا معها في بوتقة الحب في الله، وشرح الله هذه الصدور التي جمعنا وإياها كتاب الله. أحبائي يا ملء الفؤاد تحية تجوز إليكم كل سد وعائق لقد شدني شوق إليكم مكلل بالحب والتقدير والدعاء المشفق وأرقني في المظلمات عليكم تكالب أعداء سعوا في البوائق أردتم رضا الرحمن سمتاً وقالباً وما أرادوا إلا خطير المآزق فسدد الله على درب الحق خطاكم وجنبكم فيه خفي المزالق مرحباً بأحبابي، مرحباً بإخواني، أسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين، في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أحبتي في الله: لقد شاء الله جل وعلا -وهو الحكيم الخبير- في وقت تجمعت فيه كل جاهليات الأرض مرة أخرى للقضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين أن يبزغ في الأفق نور يشرق، وأمل يتجدد، أضحى حقيقة كبيرة لا تنكر، بل وأفزعت هذه الحقيقة المشرقة العالم بأسره، كيف لا وهي أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من القرن العشرين، متمثلاً في هذه الصحوة الإسلامية العالمية المباركة؟! فها نحن نرى -بفضل من الله جل وعلا- كوكبة كريمة وثلة مباركة عظيمة من طلائع البعث الإسلامي المرتقب، من شباب في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، تلكم الكوكبة الكريمة التي بدأت تتنزل -بفضل من الله جل وعلا وحكمة- في كل بقاع الدنيا، كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى، والأرض العطشى، أو كنسمات ربيع باردة عطرتها وطيبتها أنفاس الزهور، تلكم الكوكبة الكريمة المباركة من هذا الشباب الكريم الطاهر، ومن هؤلاء الفتيات الطيبات الطاهرات العفيفات الشريفات، تلكم الكوكبة الكريمة التي جاءت من جديد بعد القادسية واليرموك وحطين وبدر وأحد، جاءت لتمضي على طريق الدعوة الطويل، على طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً، جاءت لتمضي على ذات الطريق الطويل، جاءت لتنضم إلى ركب الدعاة المبارك، الموغل في القدم، الضارب في شعاب الزمان من لدن نوح عليه السلام. جاءت هذه الكوكبة لتمضي على ذات الطريق، مستقيمة الخطى، ثابتة الأقدام، تجتاز الشوك والصخور والحجارة، تسيل دماء، وتتمزق هنا وهناك أشلاء، ولكن الركب الكريم من هذه الكوكبة الكريمة في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا يحيد؛ لأنه على ثقة مطلقة، وعلى يقين جازم بنهاية الطريق، وعلى ثقة أن قوى الباطل مهما رصدت من قوى الحديد والنار لهذا الدين العظيم، فإن النهاية كما قال الله جل وعلا: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، فإن النهاية تتألق كالأمل، وتشرق كالفجر، وتتحرك كالنسيم، كما قال الله جل وعلا: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]. تأتي هذه الكوكبة الكريمة المباركة من جيل الصحوة الإسلامية الكريمة المباركة، الجيل الذي تفتحت عينه على نور الإسلام .. الجيل الذي انشرحت بصيرته لتقبل الحق .. الجيل الذي لم يخدع بصره بريق الحضارة الغربية الخاطف للأبصار .. الجيل الذي لم يؤثر فيه سحر الحضارة الغربية المغير للعقول والأفكار .. الجيل الذي بدأ يوجه وجهه من جديد إلى مكة المكرمة، زادها الله تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، ويولي ظهره لواشنطن وباريس ولندن وبانكوك ومدريد، إنه الجيل الكريم المبارك. يا أحبابي! أبشركم -والله- حيثما توجهتم في كل بقاع الدنيا وجدتم صحوة إسلامية عظيمة كريمة مباركة، وجدتم إقبالاً شديداً على الله جل وعلا، وجدتم نفوساً مشتاقة لدين الله، وجدتم نفوساً متعطشة للإسلام بعد أن أحرقها لفح الهاجرة القاتل، وأضناها وأرهقها طول المشي في التيه والظلام، حيثما توجهتم وجدتم نفوساً راجعة خاشعة خاضعة، ووجدتم شباباً وفتيات، وجدتم عودة صادقة إلى الله جل وعلا، وسمعتم آهات التائبين ونبرات العابدين تردد، ودموع الخشية من الله تبلل خديها، وهي تناجي ربها وتقول: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، والله إنه لصبح كريم مبارك، صبح هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي بدأت تتنزل بفضل الله جل وعلا في كل بقاع الدنيا.

    الصحوة الإسلامية تبشر بخير قادم

    أبشركم أيها الأحبة! والله لقد رأينا في مصر في خطب الجمعة وفي المحاضرات ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الشباب والفتيات، وجدنا عودة صادقة إلى الله جل وعلا، ورأينا دموع الخشوع، ودموع الخشية، ودموع الخوف، وسمعنا آهات التائبين، ونبرات العائدين تناجي ربها جل وعلا، وتسأل الله التوبة والأوبة والصفح والعفو والمغفرة، وجدنا نفوساً قد اشتاقت للإسلام، وجدنا نفوساً قد تعطشت للقرآن وسنة الحبيب عليه الصلاة والسلام، والله إنه لصبح كريم مبارك. صبح تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا وما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى فيا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك قدوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى بالتزامك أسمقا

    1.   

    قواعد وأصول لترشيد الصحوة المباركة

    هذه الصحوة الإسلامية المباركة من أجل أن تكون صحوة قوية بناءة مثمرة راشدة تحتاج إلى منهج يضبطها، ويقوم مسيرتها، ويقود سيرها وخطاها ومسراها، وما لم تكن هذه الصحوة الكريمة منضبطة بهذا المنهج الشرعي، فإنها ستضيع كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب. واسمحوا لي أيها الأحبة -كابن من أبناء هذه الصحوة الكريمة المباركة- أن أضع اليوم بين أيدي حضراتكم بعض قواعد وأصول هذا المنهج الشرعي؛ لترشيد هذه الصحوة الكريمة المباركة.

    العودة إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة

    القاعدة الأولى من قواعد ترشيد هذه الصحوة هي: وجوب العودة إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، والعودة إلى القرآن وإلى السنة ابتداءً ليست نافلة، ولا تطوعاً، ولا اختياراً، لا، بل إنه الإيمان أو لا إيمان، إنه شرط الإسلام وركن الإيمان: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]. العودة إلى القرآن الكريم بائتمار أوامره، واجتناب نواهيه، والوقوف عند حدوده، وأن نحول هذا القرآن في حياة الأمة إلى تشريع، وإلى واقع، وإلى منهج حياة، وإلى مجتمع متحرك به، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [يوسف:40] إلى كتاب الله جل وعلا وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله ما ذلت الأمة إلا يوم أن ضيعت كتاب ربها، وسنة الحبيب نبيها صلى الله عليه وسلم، وراحت تلهث وراء الشرق الملحد تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى، وبين يديها مصدر عزها، وأصل شرفها وكرامتها، وبقائها ووجودها. فالعودة إلى القرآن بالوقوف عند أوامره، بأن نمتثل أوامره أمراً أمراً ونهياً نهياً، وحداً حداً، بل وكلمة كلمة، وحرفاً حرفاً، وأن نرجع إلى سنة الحبيب الصحيحة صلى الله عليه وسلم. وها نحن نسمع شنشنة قديمة حديثة، ونرى من ينادي بين أبناء الأمة بوجوب العودة إلى القرآن دون السنة، ويقولون بأن السنة فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها الموضوع، فلابد من العودة إلى القرآن فقط وتنحية السنة، وهذه شنشنة قديمة حديثة، فقديماً جلس الصحابي الجليل عمران بن حصين يحدث الناس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل: يا أبا نجيد ! حدثنا بالقرآن -أي: لا تحدثنا بالسنة-. فقال الصحابي الجليل رضوان الله عليه: أنت وأصحابك تقرءون القرآن، فحدثني عن الصلاة، وأركانها، وشروطها، وحدودها، هل هناك آية في القرآن الكريم تقول بأن الجمعة ركعتين؟! هل هناك آية في القرآن تقول بأن الظهر أربع ركعات؟! هل هناك آية في القرآن تقول بأن الصبح ركعتين؟! كلا، إن السنة هي التي بينت، وهي التي وضحت؛ لأن السنة مبينة وموضحة ومفسرة للقرآن، ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ما ورد في الحديث الذي رواه أبو داود ، وصحح الحديث شيخنا الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معهوَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:1-5]، (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) أي: يقول: عليكم بالقرآن فقط دون السنة، وهذا من أعلام نبوته، وقد وقع ما أخبر به رسول الله؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، ألا وإن رسول الله قد آتاه الله الكتاب والحكمة، والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة، (ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه) أي: السنة. فلابد -أيها الأحبة- من العودة إلى القرآن والسنة الصحيحة، ولكن هناك قيد وشرط؛ لأن كل من يعمل الآن على الساحة يقول: إنني أعمل بالقرآن والسنة. وحتى تتآلف القلوب، ويتحد الصف، ويجتمع الشمل، لابد من هذا القيد ومن هذا الشرط، ألا وهو وجوب العودة إلى القرآن والسنة بفهم سلف الأمة الصالح، مَن مِن المسلمين لا يريد أن يفهم القرآن والسنة بفهم أبي بكر رضي الله عنه؟! مَن مِن المسلمين لا يريد فهم عمر؟! مَن مِن المسلمين لا يريد فهم علي؟! أو فهم عثمان؟ أو فهم معاذ؟! أو فهم أبي ذر؟! أو فهم غيرهم من الصحابة الأخيار الأبرار الأطهار؟! ومن تبعهم في القرون الخيرية الثلاثة الأولى، وكما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية : (لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)، فإن الطائفة المنصورة قائمة في كل زمان ومكان، لا يخلو منها زمان ولا مكان بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد من أن نعود إلى القرآن والسنة بفهم السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، لابد من العودة إلى هذين النبعين الصافيين بهذا القيد وهذا الشرط، لماذا؟ لأن سلف الأمة هم أفهم الناس للقرآن والسنة، وهم أقعد الناس بالعلم، وهم أقرب الناس للحق، ورضي الله عن ابن مسعود إذ يقول: من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. هذا هو الطريق يا أبناء الصحوة! هذا هو السبيل أيها المسلمون! هذا هو السبيل لرضوان الله جل وعلا ولمرضاته، ولجنات النعيم في الآخرة. والله لقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراط وهذا السبيل تحديداً جلياً واضحاً، كما في الحديث الذي رواه الدارمي في السنن، وأحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي ، إلا أن الحديث ما ارتقى لدرجة الصحة فهو حديث حسن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً، وقال: هذا سبيل الله، وخط عن يمينه وعن شماله خطوطاً متعرجة، ثم قال الحبيب: وهذه سبل، وعلى رأس كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا النبي قول الله جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]). بل وحدد النبي أهل هذا السبيل وأهل هذا الصراط، كما في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام الترمذي في السنن، وأحمد في المسند، واللالكائي في السنة، والطبراني في معجمه الكبير وغيرهم، من حديث معاوية وأبي هريرة وأنس وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، وفي رواية: (على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار).

    اعرف الحق تعرف أهله

    أيها الأحبة الكرام: أكتفي بقاعدة أخرى ثانية من قواعد ترشيد الصحوة الإسلامية المباركة، وهي من أهم القواعد التي يحتاجها أبناؤنا وأحبابنا وإخواننا من أبناء هذه الصحوة، ألا وهي: اعرف الحق تعرف أهله، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق. ومن أروع ما قاله الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه القيم الاعتصام: ولقد زل أقوام بسبب الإعراض عن الدليل، والاعتماد على الرجال، وخرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل. إننا نريد من أبناء الصحوة تحرراً، لا نريد تعصباً بغيضاً أعمى، لا للجماعات ولا للأفراد ولا للشيوخ ولا للمناهج، بل نريد من شباب الصحوة تعصباً وتمسكاً بالحق وللحق. لماذا؟ لأن التعصب البغيض الأعمى يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، فإننا لا زلنا نرى من بين أبنائنا وأحبابنا وإخواننا من يتعصب لجماعته، فجماعته هي جماعة المسلمين، وهي وحدها التي على الحق وما عداها من الجماعات فهي على الباطل؛ ولذا فإن كل ما يصدر عن جماعته فهو شرعي، كل ما ينتج عنها من نظريات، ومن أفكار وفتاوى نظرية، أو حتى اجتهادات حركية؛ هو الشرعي، وهو الصواب، وهو الصحيح، ومن ثم فإن شيخه في هذه الجماعة هو الأوسع علماً، وهو الأنصع حجة، وهو الأقوى بياناً، وهو الأعظم دليلاً، حتى ولو لم يكن عند شيخه دليل يقنع، ولا علم يشبع، ومن ثم فهو لا يقبل في شيخه نقداً ولا مراجعة على الإطلاق، وهذا -أيها الأحبة- من التعصب الذي لا يقره الإسلام، ونهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وحذر منه الله تبارك وتعالى. لماذا؟ لأن نتيجة هذا التعصب ظاهرة لكل أحد، ولا يمكن على الإطلاق أن ندفن رءوسنا في الرمال كالنعام، وأن نبرئ بعض أفراد الصحوة الإسلامية من هذا الداء العضال، ومن هذا المرض الفتاك الخطير، لا ينكر هذا المرض إلا أحد جلس ينظِّر للحركة الإسلامية المعاصرة من برج عاجٍ، أو من مكتب مغلق مكيف. إن هذا الواقع نعيشه ونحياه، وإن هذا التعصب شتت الصف، وزرع بذور العداء، وبذر بذور الخلاف، ولابد من التعالي على هذا التعصب، لابد من التحرر منه والتخلص منه، وذلك لا يكون إلا بتجرد القلوب لله جل وعلا، وبأن ننطلق في أعمالنا ودعوتنا قاصدين وجه الله، لا نريد قومية ولا عصبية ولا راية ولا شارة، ولا ندعو لمصلحة أو مغنم، ولا ندعو لتملق أو هوى، إنما ندعو إلى الله جل وعلا وحده، بفهم سلف الأمة الصالح، والله إن هذه الدعوة تجمع القلوب، وتوحد الصفوف، وتزيل بذور العداء والشقاق والنزاع من بين هذا الصف، وإننا لعلى يقين جازم أن أعداء الإسلام قد فشلوا في الوصول إلى قلب الصحوة الإسلامية من الخارج، ولكنني على يقين أنهم يستطيعون أن يدخلوا إلى قلب الصحوة من داخلها، ببذر بذور العداء والخلاف بين أفرادها؛ امتثالاً عملياً لمقولتهم الخبيثة الخطيرة التي تقول: لابد أن يتسبب في قطع الشجرة أحد أغصانها، فلابد أن نكون على مستوى هذه المؤامرة، ولابد أن نكون على مستوى هذه الأمانة وعلى مستوى هذا الدين؛ بالتحرر من التعصب البغيض الأعمى لأي أحد، بل إننا يجب أن نتعصب للحق جاء على لسان أي أحد، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذي يعرفون بالحق، ومن نفيس كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه يقول: ليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي من أجله غير النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن ينصب للأمة كلاماً يدعو إليه ويوالي ويعادي عليه غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل إن هذا من فعل أهل البدع والأهواء الذين ينصبون للأمة شخصاً أو كلاماً يوالون ويعادون عليه، ويفرقون به بين الأمة. ويقول شيخ الإسلام في موضع آخر من مجموع فتاويه المبارك: ومن تعصب لواحد من الأئمة بعينه فهو بمنزلة من تعصب لواحد من الصحابة بعينه، كالرافضي الذي يتعصب لـعلي ، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي ، فمن تعصب لواحد بعينه من الأئمة ففيه شبه من هؤلاء، وهذه طرق أهل البدع والأهواء. أيها الحبيب! اعرف الحق تعرف أهله، وينبغي أن نتعالى وأن نتجرد في دعوتنا لله جل وعلا، وأن نخلص أعمالنا لله عز وجل، لاسيما إذا علمنا أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة عالم وقارئ للقرآن. لأنه ما ابتغى بعلمه ولا بقرآنه الله جل وعلا، وإنما عمل من أجل الزعامة، أو من أجل الريادة، أو من أجل القيادة، أو من أجل السمعة، أو من أجل الشهرة، أو من أجل أن يقال: إنه داعية وإنه عالم، وإنه قارئ، أو إنه منفق، أو إنه مجاهد وقد قيل، فيأمر الله جل وعلا به فيسحب على وجهه في جهنم والعياذ بالله. وفي الصحيحين من حديث أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه -أي: أمعاؤه- فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار ويقولون: يا فلان! مالك؟ ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه). أيها الحبيب! لابد من التجرد والإخلاص لله جل وعلا، أسأل الله أن يجعلني وإياك من المخلصين ومن المتجردين في أقوالهم وأفعالهم لله رب العالمين. أيها الأحبة! ينبغي أن تتحرر الصحوة من هذا الداء ومن هذا المرض، لينتهي هذا الخلاف الذي هو شر كله، ووالله ما ذكر الله الخلاف إلا وحذر الأمة منه، قال الله عز وجل: وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، قال الله عز وجل: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الأنفال:46] نتيجة حتمية وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، وقال الله عز وجل: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:118-119]، ولقد أخرج الله من رحم من الوقوع في شر وبراثن الخلاف. فيا أيها الحبيب! لابد أن نكون على مستوى هذا الدين، وعلى مستوى هذه الأمانة، وأن نتحرر من هذا التعصب البغيض الأعمى، وأن نتمسك بالحق جاء على لسان أي أحد، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق، ولقد ذكر الله أهل الكتاب وشهد لهم بالخيرية التي تمثلوا بها، فقال عز وجل: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75].

    التورع في الأقوال والأفعال

    وأخيراً: لابد من أن نتورع في أقوالنا، وأفعالنا، فإنني أرى كثيراً من أحبابنا وإخواننا لا يتورعون أن يحكموا حتى على النيات، وعلى نيات من؟ على نيات بعض العلماء وبعض الدعاة وبعض أهل الخير من المصلحين الصالحين، وهذه مزلة خطيرة أيها الأخيار الكرام! لأن النية لا يعلم بها إلا الله جل وعلا، أما نحن فلا ينبغي أن نتعدى الحكم على الظواهر، أظهروا لنا أحسن أعمالكم، والله أعلم بالسرائر، كما قال فاروق الأمة رضي الله عنه وأرضاه. فينبغي أن نتورع في أقوالنا في الحكم على الناس، لاسيما على العلماء وعلى الدعاة، ونحن نرى حملة شرسة ضارية في الإعلام الغربي وذيوله على الإسلام بصفة عامة، وعلى العلماء والدعاة الصادقين بصفة خاصة، وقد ينجر بعض المسلمين الكرام في ترديد هذه الأقوال وهذه الإشاعات على علماء الأمة ودعاتها دون تورع أو دون خجل أو وجل، والله تبارك وتعالى يقول: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، والله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ [الحجرات:12]، قال جمهور المفسرين: والظن الذي أمر الله عز وجل أن ينتهي المسلمون عنه هو ظن السوء والشر بأهل الخير والصلاح. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً فيرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في جهنم). وأختم بقولة الحافظ الكبير ابن عساكر رحمه الله تعالى إذ يقول: اعلم يا أخي! وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني الله وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته: بأن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب. أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذه الصحوة صحوة راشدة، صحوة مثمرة، صحوة قوية بناءة، وأن يجعلها سبب خير للإسلام والمسلمين. اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المسلمين، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ وأهل الفساد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا وارحمنا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم وفق حكام المسلمين إلى ما تحبه وترضاه، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين! اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره برحمتك يا أرحم الراحمين! أيها الأحبة! أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد كما أمرنا الله جل وعلا بذلك في محكم كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه، هذا وما كان من توفيق فمن الله، ومن كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756517556