إسلام ويب

الحقائق الثلاثللشيخ : سعيد بن مسفر

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بدأ الشيخ بالحديث عن حتمية نفاذ سنن الله في الكون، مبيناً في إطار ذلك أن الخلق والموت والبعث من سنن الله الكونية، وفصل في كل منها على حدة، مبيناً أساليب القرآن في تقرير حقيقة البعث. ثم تطرق الشيخ إلى مشكلة الزواج عند الشباب، وأورد حلولاً لهذه المشكلة.

    1.   

    سنن الله الكونية حتمية النفاذ

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وبعد:

    أيها الأحبة في الله! هناك حقائق ثلاث مترابطة، يلزم من وقوع أولاها وقوع الثانية، ومن وقوع الثانية وقوع الثالثة .. لا تنفك عن بعضها، وهي سنن كونية ربانية يجريها الله عز وجل على أهل هذه الحياة، ولا يستطيع أي إنسان مهما كان أن يخرج على هذه الحقائق الثلاث، ومن يعرفها ويعتقدها ويعمل بمقتضياتها هو من عرف حقيقة الحياة، ومن يجهلها ولا يتأملها ولا يعمل بمقتضاها فهذا ما عرف حقيقة الحياة، ولا حقيقة نفسه، ولا سر وجوده، فهو يعيش عيشة البهائم، ويموت كما تموت الأنعام، ولكن يبعث يوم القيامة ويسأل ويحاسب، فيخف في الموازين، ويتمنى أن لو صار تراباً، ويتحسر ويتألم على أنه ضيع هذه الحياة من غير أن يعرف تلك الحقائق الثلاث، وهي عنوان المحاضرة: "الحقائق الثلاث".

    وقد جاءت هذه الحقائق الثلاث كلها في آية واحدة في كتاب الله عز وجل، هذه الحقائق هي:

    أولاً: حقيقة الخلق: خلق الله لك أيها الإنسان.

    ثانياً: حقيقة الموت.

    ثالثاً: حقيقة البعث.

    هذه السنن تجري على الناس من غير اختيار، هل هناك أحد أُخذ رأيه حينما خلق فقيل له: أتريد أن تخلق أم لا؟ لا. تخلق من غير أن يؤخذ برأيك، وهل من أحد يؤخذ برأيه عند الموت: أتريد أن تموت أم لا؟ لا. وهل من أحد سيؤخذ رأيه عند البعث: أتريد أن تبعث أم لا؟ لا. فهي سنن كونية جارية.

    كنت أتحدث قبل فترة مع تاجر، فدعوته إلى الله، فكأنه استيقظ من النوم، وكنت قد دعوته إلى الله عن طريق الحديث عن البعث والآخرة والجنة والنار، فقال لي عبارة ساذجة، لكن لها معنى في قلبه، قال لي: حسناً! والذي لا يريد أن يبعث؟ أي: إذا جاءه الموت والشخص لا يريد أن يبعث؟ قلت: من لا يريد أن يبعث كمن لا يريد أن يموت، ما رأيك أنت تريد أن تموت؟ قال: لا. لكني سوف أموت رغماً عني، قلت: وتبعث رغماً عنك، مثلما أنك خلقت رغماً عنك، وتموت رغماً عنك، فإنك تبعث رغماً عنك.

    ولو أن شخصاً استطاع أن يخرج عن هذه السنن، وأراد الله له الخلق، فقال: أنا لا أريد أن أخلق، أو أراد الله له خلقاً فخلقه، ولما أراد الله له أن يموت قال: أنا لا أريد أن أموت، كيف أموت وأنا ملك، وكل شيء عندي؟ هل صنع أحد هذا من نبي أو قوي، أو تاجر وثري؟ لا. كل الناس يموتون، لا يوجد شخص يستطيع أن يشذ عن هذه القاعدة.

    ومادام أن قاعدة الخلق جرت على الناس كلهم، وقاعدة الموت جرت على الموتى كلهم، إذن تبقى الثالثة، وهي قاعدة البعث، ستجري على الناس كلهم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتسألن عما كنتم تعملون).

    بداية خلق الإنسان من طين

    هذه الحقائق الثلاث -كما قلت لكم- جاءت في آية من كتاب الله عز وجل، وهي قول الله عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12] هذه الحقيقة الأولى.

    لست أنت من خلق نفسه، يقول الله: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36] فما خلقت من غير شيء، وما أنت الخالق، وما من أحد خلقك إلا الله.

    يقول الله: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة:58-59] الأم نفسها تحمل الجنين في أحشائها ولا تعرف عنه شيئاً، يقول الله عز وجل: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [النجم:32] فالذي خلقك هو الله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12] هذا الأصل، أصل الإنسان طيني .. السلالة، التكوين، التركيبة الأولى للإنسان طين، لكن عبر مراحل انتقل من الطين وصار نطفة.

    هل تصدق أن هناك من يقول: كيف كنت طيناً؟ أيعقل أني كنت طيناً؟ نقول: نعم كنت طيناً، كيف؟ نقول: انظر حين تمني وتضع المني في سروالك أو ثوبك، هل تصدق أنك كنت هذا؟ نعم. يا صاحب العضلات! يا صاحب العقل! كنت يوماً من الأيام هذه النطفة.

    ولهذا لما مر المهلب بن أبي صفرة على الحسن البصري، وكان يمشي متبختراً متكبراً، وهو قائد من قواد الجيوش، فقال له الحسن: [إن هذه مشية يبغضها الله، قال: أما تدري من أنا؟ -تقول لي هذا الكلام وما تدري من أنا؟- قال: بلى أعرفك، أنت الطين، أنت الماء المهين، أنت من خرجت من موضع البول مرتين، الأولى من ذكر أبيك، والثانية من رحم أمك، أولك نطفة مذرة، ونهايتك جيفة قذرة، وفي بطنك وثناياك تحمل العذرة!].

    من أنت أيها الإنسان؟!

    أطوار خلق الإنسان في الرحم

    بعض الناس متكبر متغطرس يقول: أنا أتيت من السماء في صندوق، بل أنت في مرحلة من مراحل خلقك كنت طيناً، ثم مرحلة ثانية كنت نطفة، الرجل يضع في الدفقة الواحدة أربعمائة مليون حيوان منوي -واحد منها هو أنت- تموت جميعها ولا يبقى إلا واحد، البقاء للأقوى الذي يصل إلى البويضة في أعلى قناة فالوب، والبقية تموت في الطريق وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12].

    ثم المرحلة الثانية والطور الثاني من أطوار الخلق؛ لأن الله يقول: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:14] أي: طوراً من بعد طور، ومراحل .. وتركيبات، قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13] جعل الله هذا الإنسان نطفة في قرار مكين، أين القرار المكين؟ قناة فالوب في أعلى رحم المرأة، قال عز وجل: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات:20-23] ولهذا بعض النساء حينما تمرض يؤدي مرضها إلى الإجهاض، ما هو الإجهاض؟

    إن البويضة والنطفة إذا حصل بينهما امتزاج تخلق حينها المولود، وإذا كان الرحم والقناة فيهما مرض فلا يسمح ببقاء هذا المولود فتحمل شهراً أو شهرين ثم تسقط، فهذا مرض يعالج الآن، لكن غالبية النساء يحملن ويبقى الولد أو البنت في هذا المكان؛ لأنه قرار مكين، المرأة تتعرض لصدمات، ولآلام، ولشبع، وتنام على بطنها، وجنبها، وظهرها، والولد في مكانه في قرارٍ مكين، قال عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:12-13].

    ثم المرحلة الثالثة من مراحل الخلق، وهي: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون:14] أربعون يوماً نطفة كما هي، ثم بعد أربعين يوماً يحول الله النطفة إلى علقة.

    والعلقة أنا رأيتها بعيني في المجهر عبارة عن قطعة من اللحم طويلة مثل الإصبع، أشبه بدودة صغيرة تعيش في المياه يسمونها علقة، يعرفها أهل البادية، فهي تأتي في الماء وتنفرد وتمشي وتعلق في ألسنة البهائم، تأتي البهيمة أو البقرة أو الجمل -مثلاً- فيشرب، فيمتصها مع الماء فتعلق في فمه وبالتالي لا يستطيع أن يأكل حتى يخرجها، وإلا ماتت البهيمة.

    فأصلي وأصلك مثل هذه التي سماها الله علقة: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون:14] بعد ذلك فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون:14].

    ثم جاءت المرحلة الرابعة: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً [المؤمنون:14] بعد أن تكون فترة أربعين يوماً علقة، تتحول بعد أربعين يوماً أخرى إلى مضغة، ما هي المضغة؟ قطعة لحم، كانت علقة دماً، ثم صارت دماً متماسكاً يعني: فيها نوع من التماسك، كأنها لقمة شخص مضغها على أضراسه وأخرجها، ولو دققت النظر في المضغة البشرية للإنسان لوجدت، هذه الآثار، ويقولون: إنها تأسيسات للعمود الفقري للإنسان، وتنظره متعرجاً، وآثار التضاريس طالعة ونازلة مثل آثار الأضراس إذا مضغت قطعة لحم ثم أخرجتها، فالإنسان في يوم من الأيام كان مضغة على هذا النحو.

    قال عز وجل: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً [المؤمنون:14] فالمضغة هذه تصبح هيكلاً عظمياً كاملاً، وبعد ذلك: فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً [المؤمنون:14] هذه العظام تكون هيكلاً عظمياً كاملاً يشمل الجمجمة والعمود الفقري والأضلاع والذراعين والكتفين والساقين والفخذين والأقدام، وقد رأيت الأضلاع في مرحلة من مراحل الخلق كمثل الدبابيس منحنية ومتشابكة مع العمود الفقري من الوراء، ومتقابلة عند الصدر .. هيكل كامل! هذه المضغة تحولت إلى عظام، وهذه العظام يكسوها الله عز وجل لحماً وعضلات مترابطة لكي تتماسك هذه الخلقة في أصل تكوين الإنسان، قال عز وجل: فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً [المؤمنون:14].

    اختلاف الصور رغم اتحاد الأطوار

    ثم قال: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون:14] هل هناك نسبة بينك وبين النطفة؟ لا. خلقاً آخر يختلف كل الاختلاف عن أصلك الطيني، ولكن ليس فيك طين، هل أنت طوبة نبني بك؟ لا. أصلك نطفة لكنك لست نطفة الآن، أصلك علقة لكنك لست علقة، بل خلق آخر: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14] لا إله إلا الله ما أعظم الله في هذه الصنعة!! فهو أحسن الخالقين! وبعد ذلك خلق خلقاً آخر في كل واحد.

    الآن المطبعة تطبع كتاباً واحداً ملايين النسخ، والمصنع يصنع قطعة غيار وينتج منها مائة أو ألفاً أو عشرة آلاف، السيارة ينتجون من نوع واحد عشرات الآلاف.

    لكن ليس هناك إنسان مثل الإنسان الثاني أبداً، لو أتيت الآن بمن على وجه الأرض، وتعدادهم الآن خمسة مليارات إنسان، وأدخلتهم في فناء وأخرجتهم واحداً تلو الآخر فلن تجد اثنين متطابقين مائة في المائة، لابد من وجود اختلاف بينهم، ولن تجد شبيهاً لإصبعي الإبهام، هذه المنطقة الصغيرة (2سم×1سم) لا يوجد في الأرض الآن اثنين سواء، ولا يوجد في الأرض ممن ماتوا سواء، ولا يوجد ممن سيأتون إلى يوم القيامة اثنين سواء، ما هذا الخلق العجيب؟! لا إله إلا الله!

    كنت أتصور أن (الكوريين) سواء؛ لأنهم على صورة رجل واحد، أشاهدهم دائماً سواء في شكلهم وطولهم، وجوههم مستديرة، وعيونهم دائرية، وأنوفهم صغيرة، فقلت: إنهم كلهم سواء، ولهذا أقول: كيف يتعارفون؟ كيف يعرف الشخص أخاه وأباه وجده؟ وقدر لي أن عملت في شركة (كهرباء) الجنوب وأن أكون متعاملاً مع الكوريين، وحين اقتربت منهم وإذا بكل واحد منهم له خلقة ثانية، ليس هناك اثنان متشابهان أبداً بأي حال من الأحوال، الأفارقة ليس فيهم اثنان متشابهان، والأوروبيون كذلك، والعرب والهنود والباكستانيون والفلبينيون والأندنوسيون، جميع فئات الأرض لا تجد فيهم اثنين متشابهين، بل حتى التوأم لابد من وجود اختلاف بينهم، أنا مرة قدر الله لي أن أرى توأمين فيهما وجه شبه كبير، وكانا يعملان في إدارة حكومية في أبها ، فهما في الطول والوجه سواء، لكن حين تكلما إذا بهذا صوته منخفض وهذا صوته غليظ، لابد من وجود فارق، من الذي يستطيع أن يوجد هذه الفوارق كلها؟ إنها قدرة الله فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14].

    هذه هي الحقيقة الأولى: حقيقة الخلق، وليس فيها مراء، هل من أحد عنده مراء أو جدال في هذه الحقيقة أيها الإخوة؟ لا. والذي عنده مراء ينظر حين يتزوج كيف يأتيه الولد، ثم يراقب مراحل النمو، يكون جنيناً أولاً، ثم يبلغ يومين وثلاثة وأربعة ثم سنة وإذا به يمشي .. ثم يذهب إلى المدرسة في السادسة، ثم صار بعدها في المتوسطة والثانوية، وإذا به يصبح رجلاً، ولم يعلم وهو يعيش هذه المراحل من النمو من الذي ينميه ويراعيه ويربيه. إنه الله فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14] هذه هي الحقيقة الأولى.

    المصير المنتظر بعد الخلق هو الموت

    جاءت بعدها الحقيقة الثانية، قال عز وجل: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ [المؤمنون:15] بعد حقيقة الخلق جاءت مباشرة حقيقة الموت، وهذه لا مراء فيها ولا جدالاً، ولا يوجد أحد يماري فيها؛ لأن الذي يماري نقول له: إذاً اصبر قليلاً، فأنت الآن لا تصدق بالموت، ولكن اصبر وستموت كما مات أبوك، وجدك، والبشر من قبلك، مذ آدم عليه السلام، يقول الشاعر:

    سر إن استطعت في السماء رويداً     لا اختيالاً على رفات العباد

    خفف الوطء ما أظن أديم الأرض     إلا من هذه الأجساد

    صاح هذي قبورنا تملأ الرحب     فأين القبور من عهد عاد؟

    يقول: إذا أردت أن تمشي متبختراً فطر أو امش لا مختالاً على رفات العباد، وعظام الناس، يقول: فما أظن أصل هذا الطين الموجود الآن إلا من رفات الذين قد ماتوا، كم عاش على وجه الأرض من البشر؟ ملايين بل مليارات من البشر عاشوا وماتوا كلهم وأكلهم الطين، خلقوا من الطين، وعادوا إلى أصلهم الطين، وهم الآن ينتظرون الحقيقة الثالثة.

    الحقيقة الأولى نحن الآن نعيشها وهي الخلق.

    والحقيقة الثانية وهي: الموت، نحن الآن قد حجزنا لها، وأكدنا الحجز؛ لأن الناس ثلاثة أصناف:

    - صنف سافروا.

    - وصنف حجزوا.

    - وصنف في الانتظار.

    فالذين سافروا هم الذين ماتوا، والذين حجزوا هم الأحياء، وكل شخص رحلته معلومة، والذين في الانتظار هم الذين لم يأتوا بعد، فإذا وصلوا حجز لهم.

    فمنذ أن كان الإنسان في بطن أمه حجز له متى يسافر إلى الآخرة.

    فهنا الحقيقة الثانية وهي حقيقة الموت، قال عز وجل: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ [المؤمنون:15] والضمير هنا عائد على الخلق، أي: بعد ذلك الخلق لميتون.

    سبحان الله! لماذا يخلقك الله هذا الخلق العجيب ثم تموت؟ لابد من وجود حكمة، هل يعقل أن الله يخلقك هذا الخلق، وتتعب أمك في حملك ووضعك وتربيتك، ثم أنت تتعب في معاناة الحياة ومصارعة الدنيا لكسب العيش، ومقابلة المشاكل، والصبر على الأمراض والمصائب من أجل أن تموت؟!

    لا. لاشك أن هناك حكمة، لا بد أن الله خلقك لشيء، ما هو هذا الشيء؟ هو الذي أخبر الله به في كتابه، وهو العبادة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

    ثم جاءت بعد ذلك في هذه الآية نفسها الحقيقة الثالثة، وهي الأخيرة من حقائق هذه الحياة، والتي بعدها ينقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، قال عز وجل: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:16] الخلق تم، ثم حصل الموت، ثم جاء البعث، وبعد البعث يأتي الحساب، حساب ونقاش ومؤاخذات وسؤال، ومن ينجح فاز، ومن يسقط خسر، والمنهج واضح، وهو الكتاب والسنة، والمصدق له الجنة، والمكذب والمتساهل والكافر والفاجر -والعياذ بالله- له النار قال تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:227].

    هذه هي حقائق الحياة الثلاث، وسوف نتكلم عن كل واحدة بالتفصيل.

    1.   

    الحقيقة الأولى: حقيقة الخلق وما فيها من إعجاز

    يتم الخلق -أيها الإخوة- بقدرة الله عز وجل، وبعناية ودقة وإحكام متناهٍ.

    اعتدال خلقة الإنسان وتسويتها

    الحيوان المنوي الذي هو أصل الإنسان يتكون من ثلاثة أجزاء: رأس، وجسم، وذنب. الرأس والذنب للتوجيه، والجسم يحتفظ بكامل خصائص الإنسان، يعني: أنت -أيها الإنسان- موجود في الحيوان المنوي بكامل خصائصك، طولك وعرضك ولونك وذكاؤك، وبعد ذلك أعضاؤك، وبعد ذلك صورتك العامة، خلايا العين في مكان خلايا العين، خلايا القدمين في مكان خلايا القدمين، فلو جاءت خلية العين مكان خلية الأذن، وجاءت خلية الرجل مكان خلية العين، لخُلِقَ لنا ولد مشوه عينه في رجله، له رجل وعين تحت وله عين ورجل فوق، ما رأيكم، كيف تكون الحياة؟

    بعد ذلك يكون له أذنان سواء، هل رأيتم في الدنيا شخصاً له أذن كبيرة وأذن صغيرة؟ بل أذنان متساويتان وعينان ويدان ورجلان، بعد ذلك تتأمل في مفاصل العظام، مفصل العظم الناتئ يدخل في العظم الذي يتجوفه، لو زاد هذا قليلاً لما صلح، ولو نقص لما صلح، من ركبه هذا التركيب؟ كم هي من عظام؟ وكم هي من عروق؟ ثلاثمائة وستون عرقاً، ثلاثمائة وستون عضلة، ثلاثمائة وستون مفصلاً، ثلاثمائة وستون عظمة، كل هذه مركبة فيك من أولك إلى آخرك.

    يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8] خلقك فسواك فعدلك، ليس هناك أجمل من خلقة الإنسان، جميع الحيوانات تمشي وظهورها أفقية، إلا أنت فمستو على رجلين، وجرب أن تمشي يوماً من الأيام على أربع، كيف تمشي؟ لكن الله سواك فعدلك، وبعد ذلك في أي صورة -في أي شكل جمالي- ما شاء ركبك، ثم قال: كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار:9] فخالقك هذا الخلق العجيب، وبهذا الإبداع والتركيب هو الله تبارك وتعالى، يقول الله عز وجل: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4] الذي خلقك هو الله تبارك وتعالى، ويقول عز وجل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق:1-2] ويقول عز وجل: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ [الإنسان:1-2] من نطفة أمشاج يعني: أخلاط، تختلط النطفة مع بويضة المرأة، نبتليه: نختبره فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:2-3].

    ثم يتم هذا الخلق عبر المراحل التي ذكرناها، يقول نوح لقومه: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:13-14] من هي المرأة التي تستطيع أن تحملك لو أن الله خلقك بصورتك هذه في بطن أمك؟ لكن الله خلقك في بطن الأم نطفة، وبعد ذلك تتدرج في النمو وهي تعاني أياماً إلى أن تكتمل، وإذا جاء الشهر التاسع، والذي يسمونه شهر الكرب، يقولون: فلانة أكربت يعني: بلغ بها الضيق والكرب مبلغه؛ لأنك اكتملت وأصبحت جاهزاً للخروج فتصبر عليك شهراً واحداً فقط، ثم تخرج ويقولون: فرّج الله كربها؛ لأن الله خلصها منك، لكن لو أن الله خلقك هكذا كاملاً في بطن أمك، ترفس وتركل في بطنها من يوم أن خلقت، كيف تكون حال أمك؟ لا تستطيع أن تتحملك يوماً واحداً.

    أنت الآن إذا أكلت وشبعت، وأتيت لتنام لا يأتيك النوم فبطنك تؤلمك! لماذا؟ لأنك أكلت كيلو أو نصف كيلو لحم، وتبحث عن مهضمات أو عن شيء يخرج منك هذا الطعام، فكيف لو أنك مكتمل في بطن أمك. لكن الله خلقك أطواراً، تتدرج من نطفة إلى علقة إلى مضغة، إلى أن صرت إنساناً وأخرجك الله إلى هذه الحياة.

    الإعجاز في تركيب الرأس جملة

    هذا الخلق يتم بدقة وإعجاز لا يعلمه إلا الله، وسوف أذكر لكم شيئاً من الإعجاز في خلق الإنسان:

    الرأس: هذا الرأس يحمي الجواهر التي تتحكم في حياة الإنسان: العينين، الأذنين، الأنف، اللسان، الفم، الأضراس، هذه كلها في الرأس، ولو فقد الإنسان يده أو رجله يمكن أن يعيش، لكن لو قطعت رأسه مات؟ ولهذا الذي يحكم عليه بالإعدام ماذا يقطعون منه؟ رأسه، لكن لو قطعوا يده أو رجله فيمكن أن يعيش، لكن لو قطعوا رأسه لا يعيش.

    إن الرأس فيه أسرار من الخلق لا يعلمها إلا الله، فيها ثمانية أنهار، عينان تفرزان ماءً مالحاً، وأذنان تفرزان مادة صمغية، وأنف فيه فتحتان تفرزان مادة مخاطية لزجة، والفم يفرز مواد لعابية حلوة، ثمانية أصناف تصب من هذه الرأس، فإذن من الذي جعل العين تفرز ماءً مالحاً؟ لو كان هذا الذي في العين ليس مالحاً لفسدت العين من أول يوم؛ لأن العين شحمة، والشحم يتعفن، إذا لم تضع عليه ملحاً، فجعل الله في عينك مادة ملحية من أجل أن تبقى عينك سليمة، وتعمل على مدار اليوم.

    وجعل الله في أذنيك مادة صمغية، فحين تغسل أو تحك أذنك بقطعة من القطن حاول أن تضعها في فمك أو على لسانك، فتجد لها طعماً مراً أمر من العلقم، لماذا؟ من أجل الحشرات، فحين تنام وأذنك مفتوحة لا يدخل في أذنك شيء، فحين يشم الرائحة يمتنع عن الدخول، والله سبحانه وتعالى جعل هذه المادة في أذن الإنسان من أجل أن تحميه وهو نائم.

    وجعل الله عز وجل في أنفك مادة مخاطية من أجل أن تمسك الأتربة والغبار الذي تستنشقه أثناء تعاملك مع الحياة، هذا الجو الذي نحن الآن نعيش فيه جو ملطخ، مملوء بالأتربة، وبالميكروبات وبالجراثيم، ولو أننا نستنشق كل شيء كما هو لكانت رئة كل منا ممتلئة أتربة وغباراً، لكن جعل الله في هذا الأنف شعيرات، ومادة مخاطية تمسك الأتربة، ولهذا حين تشتغل بعمل مهني في تراب، ثم تأتي تتوضأ وتستنثر، تجد أن التراب يخرج مع الاستنثار، ولولا هذه الشعيرات لدخل هذا التراب في رأسك، وبعد يوم ويومين وثلاثة أيام يصير في رأسك طين فلا تقدر أن تعيش.

    بعد ذلك يكيف الجو هنا، فدرجة حرارة الجو غير درجة حرارة الجسم، فحرارة الجسم في الغالب سبع وثلاثون درجة، لكن في المناطق الباردة تجدها درجتين مئويتين أو خمساً أو عشراً فتجد الإنسان إذا برد يحصل عنده ظاهرة، وهي أن أنفه تصير حمراء، إذا برد الشخص احمّرت أنفه، لماذا تحمرُّ أنفه؟ قال العلماء: لأن أنفه تحتوي على خلايا دموية تستنشق الهواء البارد وتقوم بتدفئته وتكييفه من أجل أن يدخل الجسم وهو على درجة حرارة الجسم، وهي سبعة وثلاثون درجة، فهذا المكيف يكيف الجو، لكن بعض الناس إذا خرج من جو رطب إلى جو بارد مباشرة، فيدخل الهواء البارد الذي حرارته عشر درجات إلى الجسم الذي حرارته سبع وثلاثون درجة دون أن يكون لدى الأنف فرصة للتكييف، فيدخل الهواء البارد بسرعة، فماذا يحصل للإنسان؟ زكام، نزلة برد؛ لأنه دخل هواء أقل حرارة من حرارة الجسم. أهل المناطق الباردة إذا بردوا ترى الواحد منهم وجهه عادياً، وأنفه أحمر كالجمرة لماذا؟ لأن الدم يتدفق في الشعيرات الدموية والدماء تتدفق فيها أكثر فتحمر لكثرة حمرة الدماء في الأنف من أجل أن تقوم بتكييف الهواء الداخل حتى يتناسب مع درجة حرارة الجسم الداخلية، هذا خلق عجيب! ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14].

    الفم يفرز مادة لعابية، هذا اللعاب حين تتذوقه تحس أن طعمه مستساغ، لو خرج هذا اللعاب من عينك لفسدت، ولو خرجت المادة الصمغية من فمك لما استطعت أن تأكل، فكلما أردت أن تأكل وإذا بهذا الصديد في فمك أو المادة الصمغية المرة تأكلها مع طعامك إذن تفسد حياتك، من علم الأذن أن تفرز هذه المادة؟ ومن علم العين أن تفرز تلك المادة؟ ومن علم الغدد اللعابية أن تفرز هذه المادة؟

    إنه الله الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50].

    الإعجاز في خلق الفم ووظائفه

    هذا الفم عبارة عن مصنع صغير لتجهيز الطعام، عندما تأكل الطعام عن طريق هذا الفم، وهذا الفم يقوم مباشرة بعملية التقطيع والطحن والتمزيق والتقليب، جعل الله فيه أداة اسمها: اللسان، هذه الأداة تقوم بخلط الطعام، وجعل الله فيه مجموعة من الأضراس تتقاسم الأدوار، فهنا اثنان للتقطيع، فإذا أردت أن تقطع شيئاً تضعه عند القواطع، واثنان للتمزيق وهي الأنياب، والبقية للطحن من أجل أن تطحن بها، فإذا كنت تريد أن تقطع تمرة فتضعها في موضع معين وإذا أردت أن تقطع قطعة خبز فتضعها بكيفية أخرى، ولكن تريد أن تطحن فتحول على الأسنان الداخلية من أجل أن تطحن، كما أن الله جعل لك خلايا يسمونها غدداً لعابية تقوم بإفراز اللعاب، فاللسان يعمل، والأسنان تعمل، وتلك الغدد تقطر اللعاب كي تهضم الطعام، فإذا أصبح الطعام جاهزاً قذف به عبر البلعوم، وهناك قناة تليها اسمها المريء، فالمريء للطعام والبلعوم ينظم دخول الطعام والهواء.

    وهناك قصبة هوائية غضروفية تنتهي بالحنجرة، وهي مفتوحة دائماً لدخول الهواء.

    أما البلعوم والمريء فقد جعلها الله من أجل أن تسمح بدخول الطعام وعدم خروجه، ولذا حين تأخذ الطعام وتبتلع اللقمة فالمريء فيه عضلات لا تسمح بعودة شيء إلى الأعلى، لكن يسمح بمرور الشيء، وبمجرد دخولها فإن العضلات تعصرها حتى تنزل، ولولا هذه العضلات لكنت تحتاج كلما ابتلعت لقمة أن تأتي بعصا وتدفعها في فمك حتى تنزل، ولكن اللقمة تنزل بسهولة، وإذا أردت أن ترجع اللقمة لا ترجع، فبعض الرياضيين ينتكس على رأسه وبطنه ممتلئ فهل يخرج من فمه شيء؟ لا. لماذا؟ لأن العضلة لا تسمح بذلك، متى تسمح؟ في حالة واحدة يسمونها الاستفراغ، إذا كان في الإنسان مرض، أو إذا ملأ إنسان معدته فوق طاقتها، فيقوم المخ بإرسال إشارة إلى تلك العضلة لإخراج الزائد.

    كما أن الأسنان مركبة ومرتبة ترتيباً خاصاً، فتجد الثنايا في الأعلى وتقابلها ثنايا مثلها في الأسفل، وناباً تحته ناب، وضرساً تحته ضرس حتى تتم الاستفادة منها، إذ لو ركب الله ناباً في الأعلى وركب ضرساً في الأسفل يقابله لما أدت عملها بشكل صحيح، كذلك لو ركب الله ثنية يقابلها ضرس.

    بعد ذلك أسنان الفك العلوي تنمو إلى أسفل، وأسنان الفك السفلي تنمو إلى أعلى، ثم تلتقي في مستوى معين وتتوقف عنده، من الذي أوقف نمو أسنانك عند هذا الحد؟ لماذا لم يستمر نمو الأسنان إلى أن وصل سنك إلى رأسك؟ ونزل السن الآخر إلى أن وصل إلى بطنك؟ فكيف تعمل بها؟ لا إله إلا الله! الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى!

    الإعجاز في خلق الشعر ووظيفته

    نأتي إلى الشعر الموجود في الجسم، فقد ركب الله عز وجل شعراً في الحواجب، هذا الشعر له مهمة في الرؤية لماذا؟ لأنه يجمع الأشعة الشمسية ويكيفها بحيث لا تصل العين إلا بقدر مناسب، وبعد ذلك جعل الله هنا جفوناً، هذه الجفون وسائل حماية، ولهذا ترى شعر الجفن ينمو بشكل مستقيم، وتكون مثل الرماح المركوزة للدفاع عن العين؛ لأنها جوهرة، وبعد ذلك شعر الجفون ينمو إلى حد معين، وشعر الحواجب ينمو إلى حد معين، ما رأينا شعر جفن نما إلى أن صار شبراً، ما ظنكم لو نما شعر الجفون وصار طويلاً جداً؟ الناس يتغنون الآن بالجفون الطويلة، والرمش الطويل، لكن الطويل المعقول، أما إذا صار رمشك أو جفنك شبراً، هل يتغنى بك أحد حينذاك؟ لو زاد طول شعر الحاجب عن الحد المعقول لغطى على العين ولما تيسر لك النظر، بينما شعر الرأس ينمو وتقصه وشعر اللحية ينمو إلى مستوى معين وتبقيه أو تحلقه إن كنت من الذين يحلقون لحاهم، لكن شعر العين لا. ينمو إلى مستو معين ويقف، من الذي أوقف نمو هذا الشعر ولم يوقف نمو الشعر ذاك؟ إنه الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.

    الإعجاز في خلق المعدة ووظيفتها

    ينزل الطعام إلى المعدة، والمعدة جهاز يستقبل الطعام ويقوم بإفراز مواد قلوية وحمضيات أشبه بالأسيد، ولهذا الذي يمرض ثم يتقيأ يصعد مع القيء سائل أصفر مر وحامض جداً، هذه هي الأحماض والعصارات القلوية الموجودة داخل المعدة، مهمة هذه الأحماض أنها تهضم الطعام، كيف تهضمه وهو ممضوغ داخل الفم؟

    لكن إذا وصل إلى البطن فإنه يحتاج إلى هضم، أي: تتحلل أجزاؤه بعضها عن بعض، من يقوم بهذا الدور؟ المعدة، تهضم الطعام وهي لا تهضم نفسها، تهضم اللحم وهي لحم ولكنه لا ينهضم، فالمعدة عبارة عن لحمة تفرز مادة عصارية تهضم اللحوم لكنها لا تهضم نفسها، وبعد ذلك ينتقل هذا الطعام بعد الهضم إلى مراحل أخرى، وهي الأمعاء الدقيقة والغليظة، ثم يبدأ الناتج بالتوزع والمرور على أجهزة أخرى عن طريق الدم، ومن ثم تخرج المواد الزائدة عن طريق الجهاز البولي على شكل بول، والجهاز الإخراجي على شكل فضلات، وأنت لا تعلم كل ذلك، أنت تدخل الطعام وهناك معامل ربانية، وأجهزة صنعها الله لك لا تعلم عنها، ولكن الله يجريها لك.

    الإعجاز في خلق الكلية ووظيفتها

    هناك جهاز واحد فقط أتكلم عنه باختصار؛ لأن أمراضه شائعة في هذا الزمان، وهو الفشل الكلوي.

    الكلية ركبها الله في ظهر كل إنسان، والكلية الواحدة أصغر من قبضة الكف، وتحتوي كل كلية على ثلاثة ملايين وحدة تنقية، أي: مركب لك أنت الآن ستة ملايين وحدة تنقية، وتستطيع أن تعيش بكلية واحدة، ولكن الله عز وجل ركب لك اثنتين من أجل إذا مرضت واحدة عملت بالثانية، أو إذا مرض أخوك أو أبوك أو زوجتك وتريد أن تسعفه تعطيه إحدى كليتيك، وتموت أنت ولديك كلية واحدة، هذه الكلية مهمتها استقبال الدم وتنقيته وتخليصه من السموم والشوائب والأملاح والأخلاط التي ترادفه ثم تحول هذه السموم والأخلاط إلى البول، والبقية من الدم يرجع إلى الجسم وقد تصفي مائة في المائة.

    وقد يحصل للإنسان مرض يسمونه مرض الفشل: وهو أن الكلية لا تستطيع أن تؤدي دورها كاملاً في تنقية الدم، فكان الناس في الماضي يعانون حتى الموت، لكن مع تقدم الطب استطاعوا أن يقوموا بإيجاد أجهزة يسمونها الكلية الصناعية، هذه الأجهزة تقوم بوظيفة الكلية، لكن ليس بكل وظائفها وإنما تقوم فقط بعشرة في المائة من وظيفة الكلى، وهي تخليص الدم من السموم، أما جميع الأشياء فلا، والكلية الصناعية كبيرة جداً، وفيها أجهزة معقدة وأشياء تبهر العقل، ومع هذا تحتوي كل كلية صناعية على خمسين ألف وحدة تنقية، بينما كليتك الصغيرة تحتوي على ثلاثة ملايين وحدة تنقية، والجهاز الكبير هذا يحتوي على خمسين ألفاً فقط، تصور إذا أردنا أجهزة على عدد وحدات كلية إنسان، كم نحتاج إلى أجهزة؟ نحتاج إلى عشرين كلية صناعية من أجل أن توفر مليون وحدة تنقية، أي: ستون كلية صناعية تقوم بدور واحدة فقط من كليتيك، أي: مائة وعشرون كلية صناعية تقوم مقام كليتين معلقتين في ظهرك وزن الواحدة منها ثلاثمائة جرام، أو مائتان وخمسون جراماً، هذه الكلى التي معك لا تعلم بنعمة الله عليك فيها، فأنت تأكل الطعام وتخرج منك هذه الفضلات، ولو حبس الله فيك البلاء لمت.

    أحد الإخوة أصيب بفشلٍ كلوي، فأصبح يغسل الدم مرتين كل أسبوع، يأتي يوم الأحد والأربعاء من كل أسبوع، ويجلس ساعتين تحت الكلية الصناعية، يسحبون دمه كله ويذهب في الكلية الصناعية ويرجع من هناك ويخرج وهو متعب يحتاج إلى ساعات من الراحة بعد هذه العملية الشاقة، وبعد ذلك تبرع له أحد أقاربه بكلية بشرية، وعملت له عملية، ونجحت العملية والحمد لله، يقول هذا الأخ: بعد انتهاء العملية كانت أول مرة أذهب فيها إلى دورة المياه منذ أكثر من خمس سنوات، فالبول من أين يأتي؟ عن طريق الكلية، فالذي عنده غسيل صناعي لا يبول أبداً، يقول: لما دخلت دورة المياه وخرج مني هذا البول حمدت الله حمداً لا أشعر بأن في الدنيا أعظم مني حمداً لله عز وجل، لماذا؟ يقول: لأنه خرج مني هذا الشيء بسهولة، كان يخرج مني بعد تعب عن طريق الكلية الصناعية، وأنت -يا أخي- الآن تعيش هذه النعمة ولا تقدر نعمة الله عليك.

    كان أحد العلماء عند أحد الخلفاء، وكان يوماً شديد الحر، فعطش الملك فقال لخادمه: عليَّ بالماء، فجاءوا له بالماء، فلما أراد أن يشرب، قال له العالم الذي بجانبه: يا أمير المؤمنين! لو حبست عنك هذه الشربة إلا بنصف ملكك أكنت تفتديها؟ قال: نعم. لأنه سوف يموت عطشاً، ماذا يعمل بملكه وليس معه ماء، قال: تفضل اشرب فشربها، فلما شرب وارتوى أراد أن يقوم، قال: إلى أين؟ قال: إلى الحمام، يريد أن يخرج هذه الشربة، قال: لو حبست فيك تلك الشربة إلا بالنصف الثاني من الملك أكنت تفتديها؟ قال: نعم. أفتديها، قال: والله لا أحزن على ملكٍ لا يساوي شربة ماء ولا دفقة بول.

    فخلقك عجيب -أيها الإنسان- وهو آية من آيات الله تبارك وتعالى الذي خلقك على هذه الهيئة، يقول الله عز وجل: فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:5-6] المني يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ [الطارق:7-8] ويقول عز وجل: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس:17-19] ويقول: كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ [المعارج:39] يتنزه الله عز وجل أن يذكر ذلك، كأنه يقول لنا: إنه يعلم من أي شيء خلقنا؟ من أي شيء؟ مما يعلمون فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ [المعارج:40-41] .. يقول الله: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ [عبس:17-23] ويقول عز وجل: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [المرسلات:20] لماذا تتعالون على الله وتتكبرون؟ لماذا التغطرس؟ أبالمال؟ المال مال الله. أبالخلق؟ الخلق من الله. أبالعز والجاه؟ الجاه من الله، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، إذاً لا مبرر لأن تتكبر -أيها الإنسان- لا مبرر لأن تتعالى -أيها الإنسان- إنما تتعالى بشيءٍ يحصل منك، وليس يحصل منك شيء قال تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53] يقول عز وجل: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ [الزمر:6] ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [الزمر:6] نطفة، ثم علقة، ثم مضغة: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [الزمر:6] وهذه العملية تتم أمامنا في كل يوم، ونشهد كل يوم مولوداً يولد، ويبشر بقدومه إلى هذه الحياة، مَنْ خَلَقَه؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو.

    هذه الحقيقة الأولى: حقيقة الخلق والإيجاد.

    1.   

    الحقيقة الثانية: حقيقة الموت

    تأتي الحقيقة الثانية، الحقيقة المرة التي لا يودها أحد ألا وهي: الموت.

    الموت مفرق الجماعات، مبدد الشعوب والأمم، قاهر الظلمة، لا يستأذن على أحد، ولا يخاف من أحد، يقول الله عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز [آل عمران:185] هذا هو الفوز، وليس الفوز أن تبني عمارة، أو تنكح زوجة، أو تحتل وظيفة، أو يكون لك أي شيء في هذه الدنيا، فإن هذا فوز مؤقت .. محدد يزول بانتهاء الحياة، لكن الفوز يوم أن تزحزح عن النار وتدخل الجنة فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185] ويقول عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] ويقول عز وجل: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] ويقول عز وجل: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] تحيد أي: تفر.

    هل هناك شخص يريد الموت؟ كل شخص يرى أن الموت آتٍ فهو يهرب منه لا يريده، لكن الله عز وجل يقول: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8] كل شيء إذا فررت منه تبتعد عنه إلا الموت، إذا فررت منه اقتربت إليه، أي شيء تفر منه من ثعبان أو أسد فإن المسافة تزداد بينك وبينه، إلا الموت إذا فررت منه تقرب المسافة بينكما، إذاً لا تفر منه، واقترب منه، فإذا اقتربت فإنك تصل وأنت سالم، لكن إذا فررت كأنك تستعجل الموت أيها الإنسان، قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم [الجمعة:8] وهل سمعنا أن أحداً استطاع أن يمتنع من الموت؟ قال عز وجل: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عليهمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154].

    والموت سنة كونية لا تأتي بالحوادث ولا بالحروب ولا بأي شيء، وإنما وفق تقدير الله، تجد حادثاً مرورياً يموت فيه عشرة أشخاص إلا طفلاً رضيعاً، أصحاب العضلات ماتوا والطفل الرضيع وجدوه في مهده معافى.

    في الزلزال الذي حصل في مصر وجدوا شخصاً بعد ثمانين ساعة تحت الأنقاض، وأتوا عليه وهو سالم، لا هواء ولا ماء ولا غذاء والله كتب له النجاة، لماذا؟ لم يأذن الله بموته، ليس الذي يميت هو الزلزال أو البحر، أو الطائرات .. هذه أسباب لكن الذي يحيي ويميت هو الله، فإذا أراد الله أن تحيا حييت ولو كنت في البحر، أو الحريق أو الطائرة أو السيارة، وإذا أراد الله أن تموت فإنك تموت ولو كنت على فراشك.

    امرأة كان لها ولد يدرس في أمريكا، وجاء يقضي إجازته عندها، وبعد ذلك انتهت الإجازة وأراد أن يرجع إلى دراسته التي يريد أن يكملها في أمريكا، وأمه تريد أن يطيل الإجازة ولا تريده أن يسافر، فأخبرها بأنه حجز على الرحلة الفلانية، وطلب منها أن توقظه قبل الرحلة بحوالي ساعتين أو ثلاث من أجل أن يدرك الطائرة، فتركته ينام ولم توقظه من أجل أن يستيقظ وقد فاتت الرحلة، فيذهب ليحجز من جديد فيطيل المكث معها، الأم تطمع في ولدها، وهو مسكين يريد أن يسافر، فلما نام وانتهت الرحلة وهو نائم قامت تسمع الأخبار وإذا بها تسمع خبر أن الرحلة التي كان مقرراً أن يركب فيها هذا الولد قد أقلعت من المطار، وعند نهاية المدرج حصل في الطائرة خلل فاحترقت، وهلك جميع الركاب الموجودين في الطائرة، والطائرة لا زالت في بداية الإقلاع، وأذاعوا البيان والتعازي -وكان ذلك في بلد عربي قبل سنوات- فالأم فرحت أن ولدها لم يسافر، وأنها كانت السبب في أنه موجود، فجاءت تبشره أن الله نجاه، فلما جاءته وجدته ميتاً في فراشه، فكان متوقعاً أن يموت في الطائرة فمات في فراشه.

    آخر كان يعمل في عمارة في الدور السابع، وأثناء عمله فقد توازنه وسقط من أعلى، وأخذ يسقط على الألواح الخشبية الواحد إثر الآخر حتى سقط على كومة رمل أسفل العمارة، وإذا به واقف ولم يصبه شيء، فنظر فيمن حوله وضحك من الفرحة، والناس الذي رأوه يسقط من السماء يضحكون ويتعجبون من سلامته، وزملاؤه الذين معه في عجب، ففرح الرجل ومن فرحته قال لمن حوله: والله لأسقينكم شراباً، أي: بمناسبة السلامة، من أين يسقيهم شراباً؟ الشراب في بقالة مقابلة للعمارة، فقطع الشارع يريد أن يأتي بالشراب وكان ذلك مع مجيء سيارة مسرعة قطعته قطعة قطعة.

    الله عز وجل قد قدر عليه أن يموت في تلك اللحظة وهو في الدور السابع على الألواح، ولو نزل بواسطة الدرج فسوف يتأخر، فالله أنزله بقوة، أنزله بسقطة من أجل أن يموت في تلك اللحظة، قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8].

    فحقيقة الموت مرة .. نعيشها ونستقبلها، ولكن ليس الموت هو المهم، يقول خبيب بن عدي:

    وما بي حذار الموت إني لميتٌ     ولكن حذاري جحم نار تلفع

    والآخر يقول:

    ولو أنا إذا متنا تركنا     لكان الموت راحة كل حي

    ولكنا إذا متنا بعثنا     ونسأل بعده عن كل شيء

    والآخر يقول:

    لهوت وغرتك الأماني وعندما     أتمت لك الأفراح فوجئت بالقبر

    الإنسان يتعب طيلة حياته ويجمع ويبني، فإذا تزينت له من كل جانب، فكثرت الأموال، وزادت العمارات، وكثر الأولاد، وأصبح منعماً، جاءه الموت فأفسد عليه تلك الحال.

    زرت رجلاً من الأثرياء جاءته تعويضات بالملايين عن أراضٍ له ومزارع وبيوت اخترقها مشروع حكومي، ولما صار عنده الملايين زرته، وإذا بالرجل مسكين في السبعين من عمره، وإذا به يكاد يتقطع قلبه من الحسرات والندامات، قلت: ما بك؟ قال: مصيبة يا ولدي، قلت: ما الأمر؟ قال: الملايين ما أتتني إلا وأنا كهل، يقول: ملايين وأنا كهل! ماذا أفعل بها؟ قلت: مم تشكو؟ قال: أشكو من السكري ولا أذوق شيئاً .. لا اللحم ولا الشحم ولا الرز .. لا آكل إلا خبزة يابسة مع فنجان حليب بدون سكر، والملايين موجودة في البنك، يقول: والمرأة لا أقدر على ضربها؛ لأنه كهل، يقول: والنوم لا يأتيني، يقول: أتمنى أن الملايين أتتني وأنا شاب، كنت استفدت منها، إذاً، قلت له: أتريد أن تستفيد منها؟ قال: نعم. قلت: أرسلها إلى الآخرة حتى تستفيد منها، قال: هل تريدني أن أضيع مالي، قلت: أنت مضيع مالك لا محالة ولكن قدمه لك فلا تضيعه، ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، يقول: إنك تريدني أن أضيع مالي، قلت: الذي يضيع ماله هو الذي يتركه، أما الذي يقدمه إلى الله عز وجل فإنه لم يضيّع نفسه ولا ماله، بل هو والله العاقل.

    1.   

    الحقيقة الثالثة: حقيقة البعث وأساليب القرآن في إثباتها

    فالموت -أيها الإخوة- يأتي على الناس وينقلهم من هذه الدنيا إلى الحقيقة الثالثة وهي: حقيقة الآخرة، حقيقة البعث، وهذه الحقيقة هي التي نحتاج أن نتوسع فيها إن شاء الله.

    قضية البعث من أبرز قضايا العقائد، وهي ركن من أركان الإيمان في حديث جبريل لما سأل عن الإيمان قال: (وأن تؤمن بالبعث بعد الموت) وكادت تكون القضية الكبرى بعد قضية التوحيد في كتاب الله، خصوصاً في القرآن الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة لتثبيت العقيدة، فكانت قضية التوحيد ومحاربة الشرك، والتركيز على البعث هما أهم قضيتين تناولهما القرآن:

    القضية الأولى: لإفراد العبودية لله.

    والقضية الثانية: للإيمان بالبعث.

    لأنه إذا آمن الإنسان بالبعث انضبط سلوكه، واستقام في منهجه؛ لأنه يعرف أنه سيبعث، فجاء التركيز عليها بشكل قوي، وعالجها القرآن بوسائل وأساليب كثيرة.

    ومن هذه الأساليب:

    أسلوب القسم

    أقسم الله في القرآن الكريم أن البعث كائن، والله لا يقسم بذاته عز وجل ولا يأمر نبيه أن يقسم بذاته إلا على أمرٍ هام، يقول عز وجل: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7] الذين أنكروا البعث يصعب عليهم تصديق أن الله يرد هذا الطين آدمياً بعدما يصير طيناً، قال الله لهم: وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7] إذا كان صعباً عليكم لأنكم بشر ضعفاء، فليس بصعب على الله، ولما سألوا قالوا: كيف يخلقنا ربنا ويعيدنا كلنا وقد مات الأولون؟ قال الله عز وجل: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28] قال: خلقكم ومن قبلكم ومن بعدكم إلى يوم القيامة وبعثكم مثل خلق وبعث نفس واحدة، وقال عز وجل: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57] ويقول: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا [النازعات:27] أنت -يا إنسان- خلقك أشد أم خلق السماء؟ فكيف تستغرب أن الله يخلقك مرة ثانية وقد خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن؟ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:38-39] ويقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق:16-17] فيقسم الله، ويأمر رسوله أن يقسم ويقول: قل يا محمد، قل يا أيها النبي: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7] بعد أن قال: زعم، والزعم هو الكذب زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7] قال الله: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7] ويقول له: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ [يونس:53] يقول: الكفار يسألونك: أحق البعث؟ قال الله: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:53].. وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53] هناك: وذلك على الله يسير، وهنا: وما أنتم بمعجزين.

    وقال عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3] الذين كفروا قالوا: ليس هناك ساعة، قال الله: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3] ويقول عز وجل: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:23] أمر البعث حقٌ مثلما أنك تنطق، ألست الآن تنطق؟ والله إن أمر البعث حق مثلما أنك تنطق، وبعد ذلك من الذي قال هذا؟ الله، يقول: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:23] وبعد ذلك هذا الأسلوب الأول، أسلوب التأكيد عن طريق القسم.

    أسلوب المعالجة العقلية

    وعالج القرآن قضية البعث علاجاً عقلياً، عن طريق رد الإنسان إلى أصله، وتذكير الإنسان بأصل خلقته، فالقادر على البدء قادر على الإعادة، من صنع سيارة من أولها ثم تفككت بعد ذلك ألا يستطيع أن يركبها مرة ثانية؟ من صنعها من لا شيء قادر على إصلاحها وهي شيء، هذا بالنسبة للإنسان فكيف لا يكون الله قادراً على إعادة الإنسان وهو خلقه من غير شيء؟!! وإن الله ليس عنده شيء أصعب ولا شيء أسهل، كل شيء عنده سهل، قال عز وجل: إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39] .. إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل:40] ليس هناك صعب ولا سهل عند الله.

    يقول الله عز وجل: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] انظر كيف يكون الرد، قال الله: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79].. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً [يس:78] هذا العاص بن وائل أخذ عظماً من المقبرة وأتى به وفته في يد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أتزعم يا محمد أن ربك يعيدنا بعد أن نكون عظاماً رميماً؟ ثم نثر الطين بيد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: (نعم. ويدخلك الله النار!) وفعلاً مات العاص بن وائل -أبو عمرو بن العاص - مشركاً ولم يسلم، ويدخله الله النار، ونزل القرآن مباشرة: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77] خصيم أي: مجادل، يجادل النبي صلى الله عليه وسلم وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً [يس:78] أي: بالعظم الذي قد رم وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78] أي: نسي العظم الذي يحمل العظم، هو الآن جاء بعظم مفتت على عظم مركب، مَنْ خلق الأول حتى تنكر العظم الثاني؟ وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] قال الله: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79] الذي خلقها أول مرة، أليس قادراً على إعادتها ثانية؟ بلى إنه قادر تبارك وتعالى، فهذا رد عقلي.

    والرد الثاني: يقول الله عز وجل: وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً [مريم:66] قال الله: أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مريم:67] الإنسان يقول: أئذا ما مت لسوف أخرج حيا مرة ثانية؟ قال الله: أَوَلا يَذْكُرُ [مريم:67] أي: لا تذكر أنك كنت ميتاً فخلقناك ولم تك شيئاً، فالذي خلقك ولم تكن شيئاً فإنه قادر على أن يعيدك بعد أن تكون شيئاً، هذه ردود عقلية منطقية من أجل إيقاف الناس على حقيقتهم، ويقول عز وجل: فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق:5] إذا كان عندك شك في البعث فانظر من أين خلقت، ويقول عز وجل في سورة الحج يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ [الحج:5] إن كان عندكم شك من البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً [الحج:5] هذا المثال ً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:5-7] هذه خمس نتائج تقريرية للآية، إن كنتم في ريب من البعث فهذا الخلق يتم أمامكم، فالذي خلق وأمات يبعث، وهو الله تبارك وتعالى.

    أسلوب نقل صور الآخرة ومشاهدها

    ثم جاء الأسلوب الأخير في القرآن الكريم لتقرير قضية البعث، ينقل صور ومشاهد مما سيحدث يوم القيامة بين المصدقين والمكذبين بالبعث، أناس آمنوا -نسأل الله أن يجعلنا منهم- بالبعث وعبروا عن إيمانهم بالعمل؛ لأن الذي يؤمن بالبعث لابد أن يعمل الصالحات ويترك السيئات، أما الذي لا يعمل الصالحات ويقع في المعاصي والسيئات -والعياذ بالله- هذا إيمانه بالبعث قليل أو معدوم.

    علامة الإيمان بالبعث انضباطك، الآن الناس لماذا ينضبطون عند إشارات المرور؟ آمنوا بجندي المرور، علموا أن هناك جندياً أو سيارة تختفي في بعض الزوايا تضبط المخالفين، ولهذا يأتي الشخص فيقف عند الإشارة الحمراء ولو كان مستعجلاً، ولو كان معه مريض، آمنوا بالجزاء وأن هناك قسيمة بثلاثمائة ريال على قطع الإشارة، كل واحد يقف، لكن لو أن هناك إشارات لكن الدولة ألغت جهاز المرور، ,أعطت للناس حرية السير كيفما شاءوا فهل يقف أحد عند الإشارة؟ والله ما ترى شخصاً يقف عند الإشارة، لماذا؟ لا يوجد أحد عنده يقين أنه سوف يجازى! وكذلك الذي يعرف أنه سيجازى يوم القيامة ينضبط سلوكه، لا يزني؛ لأنه يعرف أن الزنا حرام، لا يلوط؛ لأنه يعرف أن اللواط محرم، لا يأكل حراماً، لا يغني، لا ينظر إلى حرام، لا يتكلم في حرام، لا يسمع حراماً، لماذا؟ انضبط سلوكه، لكن لو لم يكن مؤمناً فإنه يخبط خبط عشواء ذات اليمين وذات الشمال؛ لأنه ما آمن بالله، فالله عز وجل نقل لنا في القرآن الكريم صوراً من أحداث يوم القيامة، تبين حالة أهل الإيمان بالبعث، وحالة أهل الكفر الذين كذبوا بالبعث، في مشاهد كثيرة أذكر لكم بعضها:

    ومنها قوله عز وجل في سورة الصافات، بين رجل مكذب ورجل مصدق، قال عز وجل: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:50] وهم في الجنة، أهل الجنة على الأرائك والسرر يتحادثون، ويتنادمون، ويتكلم بعضهم مع بعض، غاية النعيم أنهم يتحادثون في الجنة قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ [الصافات:51] واحد من أهل الجنة إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [الصافات:51] يقول: كان لي رفيق وصديق يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:52-53] هذا الكافر يقول: أأنت مصدق أنا إذا متنا يبعثنا الله ونحاسب وندان بأعمالنا؟ يقول المؤمن: كان لي صديق بهذا الوضع، إذاً فأين هو الصديق هذا؟ وإذا بربك الرحمن يقول في القرآن: قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ [الصافات:54] يعني: هل تريدون أن تنظروا حال هذا الرفيق؟ فهو موجود، لم يفلت من قبضة الله، وهو موجود في الدار الثانية، في النار قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:54-55] نظر إليه من الجنة، وإذا به يراه في سواء النار أي: وسطها، مثل الفحمة السوداء يتعذب في النار، فلما نظر إليه قال له: قَالَ تَاللَّهِ [الصافات:56] حلف بالله إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي [الصافات:57-58] أي: بثباتي على الإيمان والدين لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:57] ثم قال لإخوانه: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [الصافات:58-61].

    قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:57-57] ثم التفت إلى من حوله من إخوانه في الجنة وقال مغتبطاً ممتناً بنعمة الله بأن أدخله الله الجنة ونجاه من النار أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ [الصافات:58] يعني: انتهى الموت الذي كنا نخاف منه، من أن ينغص علينا نعيمنا في الدنيا، ويهددنا في أولادنا وأزواجنا، الآن توجد زوجات خالدات، وقصور عاليات، وأنهار جاريات، ونعيم -نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا من أهله وإخواننا في الله في جميع بلاد المسلمين وآبائنا وأمهاتنا- يقول: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [الصافات:57-61].

    يذكر ابن كثير قصة في سبب نزول هذه الآية: أن رجلين من بني إسرائيل، رجلٌ مؤمن بالبعث وآخر كافر بالبعث، وكانا شريكين في تجارة، وكان صاحب الإيمان يعمل للتجارة، ولكنه يعمل لتجارة الآخرة أكثر، أما الكافر فكان يشتغل ليلاً ونهاراً على تجارة الدنيا، فكأنه ضجر من رفيقه المؤمن وطلب منه أن يفترقا، فاجتمعا وجمعا المال، فوجداه ثمانية آلاف دينار، فقسماه وأخذ كل واحد أربعة آلاف دينار، وقام التاجر الكافر واشترى بألف دينار أرضاً واسعة، واشترى فيها عبيداً بألف دينار أخرى، وبنى فيها قصراً بألف دينار، وتزوج زوجة كلفته في جهازها وتجهيزها ألف دينار، وعاش في هذه المزرعة الكبيرة، يخدمه العبيد، ومعه الزوجة الجميلة في القصر العالي.

    أما ذلك المؤمن فأخذ الأربعة الآلاف دينار، وكلما سمع بأن صاحبه عمل شيئاً للدنيا، عمل شيئاً للآخرة، فحين اشترى أرضاً، قال: اللهم إن رفيقي فلاناً اشترى أرضاً سيموت ويتركها، اللهم إني أشتري عندك أرضاً في الجنة بألف دينار، ووزعها على الفقراء، وبعد ذلك علم أنه اشترى عبيداً قال: اللهم إني أشتري عبيداً عندك في الجنة بألف دينار، وعلم أنه بنى قصراً قال: اللهم إن رفيقي بنى قصراً في الدنيا سيموت ويتركه، اللهم إني أشتري عندك قصراً في الجنة بألف دينار، ووزعها على الفقراء، علم أنه تزوج قال: اللهم إن رفيقي تزوج امرأة سيموت ويتركها أو تموت هي وتتركه، اللهم إني أخطب عندك حوراء عيناء في الجنة بألف دينار ودفعها، ولم يبق معه شيء من المال، فقد قدمه كله في سبيل الله، فأراد الله عز وجل أن يمتحنه، ويجري عليه اختباراً، فضاقت عليه سبل المعيشة، حتى أصبح يسأل الناس، وصدته الحياة ولم يجد من يعطيه لقمة عيش، فتذكر صاحبه وشريكه الأول فذهب إليه يدق عليه الباب، ويطلب منه أن يعطيه شيئاً، ولما قرب من القصر طرده العبيد؛ لأن عليه أسمالاً بالية وثياباً مقطعة رثَّة، قال له العبيد: اخرج ولا تأتنا ولا تقترب، حتى لا يأتي سيدنا فيراك ويعاقبنا؛ لأنك تشوه منظر القصر، فقال: قولوا لسيدكم: فلانٌ يريدك، قالوا: نقول له أنت تريده؟ ومن أنت؟ قال: قولوا له هذا الكلام فقط، فصعد شخص إليه وقال له : بالباب شخص فقير مقطع الثياب يقول: إنه يريدك واسمه فلان بن فلان، فتذكر فنزل إليه ولما رآه صافحه وسلم عليه، وقبل أن يتكلم معه قال له: قبل كل شيء أين أموالك؟ قال: أقرضتها، قال: من أقرضتها، ومن الذي يقرض ماله؟ قال: أقرضتها المليء الوفي، وأشار إلى الله، المليء الذي لا يأخذ حقك، والوفي الذي سوف يعطيك ويوفي لك، فنزع يده منه وضربه في صدره، وقال: اذهب إليه، فرجع الرجل بحسرة وندامة ما بعدها حسرة، وعاش بقية عمره إلى أن مات، ولما مات ودخل الجنة أعطاه الله القصر والأرض والعبيد والزوجة، وذاك مات وترك كل شيء ودخل النار.

    ولما دخل المؤمن الجنة أخبر الله بما سيكون يوم القيامة فقال: إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [الصافات:51] هذا الرفيق يقول: يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:52-55] هذا يحصل بين من كذب بالبعث وبين من آمن به.

    مشهد ثانٍ من مشاهد القيامة ذكره الله في سورة الأعراف وهي قوله عز وجل: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [الأعراف:50] أصحاب النار وهم في النار يعانون من لهيبها وحرها، وسمومها وسلاسلها، وأغلالها وأنكالها، وحياتها وعقاربها، وظلماتها -والعياذ بالله- نعوذ بالله من لظى جهنم، وهم في هذا العذاب الأليم يسمعون أهل الجنة وهم يتنادمون ويتحدثون فينادونهم كما قال الله: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50] من هم؟ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الأعراف:51] هؤلاء الذين غرتهم الحياة الدنيا، واتخذوا آيات الله ودينهم هزواً ولعباً، وكانوا يجحدون بآيات الله، وبلقاء الله عز وجل، كانت نتيجتهم النار، وأولئك المؤمنون كانت نتيجتهم الجنة.

    فيا أخي في الله! يجب أن تعمق هذه القضية والعقيدة في قلبك، وأن تشعر بأنك مؤاخذ ومسئول عن كل عمل تعمله، والله تبارك وتعالى يقول: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] والله ما من حركة تتحركها، ولا لفظةٍ تتلفظها، ولا خطوة تخطوها، إلا مسجلة عليك، وسوف يخرج الله لك كتاباً تقرأه يقول الله عز وجل: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29].

    اسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يرزقنا وإياكم الإيمان، وأن يوفقنا جميعاً للعمل الصالح، وأن يثبتنا على ذلك حتى نلقى الله، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

    كما نسأله تعالى أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنه سميع الدعاء.

    كما نسأله عز وجل أن ينصر إخواننا المجاهدين في فلسطين ، والبوسنة والهرسك ، وجميع ديار المسلمين، اللهم أنزل عليهم نصرك المبين، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم قوهم وانصرهم على أعدائهم إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

    1.   

    الأسئلة

    حلول عملية لمشكلة الزواج عند الشباب

    السؤال: نرجو من الشيخ أن يذكر لنا حلولاً لمشكلة العنوسة وكثرة العزاب؟

    الجواب: أولاً: من الحلول العملية لمشاكل الأمة ومعضلاتها ما حصل في مدينة جدة ، كانت أزمة ولكنها كبرت حتى صارت مشكلة، ثم نمت حتى أصبحت معضلة تهدد بانهيار مجتمعنا، ألا وهي: عضل النساء، وعدم تزويجهن، بيوت مملوءة ومكدسة بالنساء، وبيوت مملوءة ومكدسة بالرجال، وعراقيل وعقبات توضع في سبيل هذا اللقاء الشرعي وهو الزواج، مما اضطر الناس يوم أقفلت الأبواب الشرعية، أن يفتح لهم الشيطان أبواباً غير شرعية، لا سيما مع وفرة الإمكانيات التي توصل إليها، كان الناس في الماضي لا يستطيع أحد أن يصل إلى أحد، كل بنت في بيت أبيها ودونها جبال، الآن لا، أصبح الواحد يستطيع أن يقتحم البيت وأنت نائم لا تعلم عن شيء يقتحم البيت عن طريق رقم يرمي به الشاب عند الباب، وحصل ما حصل من الفساد.

    ولكن قيض الله لكم في هذه المدينة وغيرها من المدن بعض الرجال الصالحين الذي نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً، يتمتعون بشجاعة وجرأة في الحق، وأيضاً عندهم عقل استعملوه في تقديم حلول عملية، ليست الحلول كلاماً، مهما قلنا للناس ومهما حدثنا سيبقى الكلام توجيهياً فقط، لكن عملياً في حياة الناس لا بد من أن يقوم واحد بالمبادرات، ولديكم مبادرتان:

    المبادرة الأولى: مبادرة اللجنة الخيرية لمساعدة المتزوجين هذه تمثل جسراً بين الأغنياء القادرين، وبين الفقراء غير القادرين، تجمع التبرعات من المحسنين، وتتعرف على الشباب الذين لا يستطيعون أن يتزوجوا، ثم تهيئ لهم معونة مالية وأثاثاً، وتستأجر لهم شقة، وجائزة على أول مولود، وجائزة على ثاني مولود، من أجل تشجيعهم على النسل، هذا خير كبير، بعض الأثرياء عنده مال يريد أن يتصدق، لكن لا يعرف من يعطي، فلا يتصدق، لكن حين يجد من فيه خير ويقول له: هاتها وأنا أضعها في محلها، ويكون ثقة مثل هؤلاء المشايخ والعلماء، فهذه الجمعية المباركة تقوم بنشاط كبير، وقد حصل منها خير كبير، وتزوج منها آلاف البنات وآلاف الفتيان، وأنشئت منها آلاف الأسر، وحصل منها النسل الكثير، وما حصل إلا خير إن شاء الله، فنريد منكم إن شاء الله استمرار الدعم لهذه الجمعية.

    هذه الجمعية الخيرية ليس عملها عملاً منقطعاً، بحيث تهب لها مرة واحدة ثم تكف يدك، بل لابد أن تستمر في الخير ليكون لك مساهمة في بناء أسرة ولو بلبنة واحدة، ولو بعشرة ريالات من راتبك الشهري، في السنة مائة وعشرون تضعها في الصندوق من أجل المساهمة في القضاء على هذه المعضلة، وتزويج النساء والرجال، هذا شيء عظيم تحتسبه عند الله.

    ولذا يقف على الأبواب إخوانكم الذين يجمعون التبرعات لهذا المشروع، وأنا أحثكم وأسأل الله أن يعينكم عليه، وأيضاً يوجد صندوق عند النساء.

    المشروع الثاني: وهو عملي لا يقل عن الأول بل يمكن أن يكون أهم منه؛ لأنها الخطوة التي تسبق الزواج وهو قضية الدلالة والوساطة بين من يريد أن يتزوج ومن يريد أن يزوج، كثير من الناس عنده بنات يريد أن يزوجهن، لكن لم يأته أحد، فماذا يصنع؟ لا يستطيع أن يذهب إلى الحراج ويقول: والله عندي أربع بنات أو ثلاث أو اثنتان، فإن جاء أحد كان بها، وإلا قعدن في البيت، بعضهن بلغت من العمر أربعين سنة، وهي تريد الزواج ولكن لم يتزوجها أحد، لا يستطيع هو أن يخبر الناس، رغم أنه لو دعا أحداً من أهل الدين فليس عليه حرج، لكن بعض الناس رأسه جاهلي، يقول: أأذهب أعرض بابنتي؟ لا. لا تحرج عليها، لكن اختر لبنتك كما فعل من هو أكرم منك القرشي الهاشمي عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان يدفن ابنته حية من العار، لكن لما هداه الله إلى الإيمان ما دفنها وهي حية في البيت، وإنما بحث لها عن زوج، عرضها على عثمان وأبي بكر فأعرضا عنها، لأنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها، وخطبها النبي صلى الله عليه وسلم ففرح عمر بذلك، وأصبحت أماً للمؤمنين وهي حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها وأرضاها.

    ليس عيباً إذا رأيت شاباً ملتزماً متديناً يصلي في المسجد، وتعرفت على أخلاقه عن طريق سؤالك عنه، لا يكفي فقط أن تأخذ من الصلاة دليلاً، الصلاة أكبر دليل لكن ابحث عن الأمور الأخرى عن تعامله وخلقه وحياته، فإذا تأكدت فادعه وقل: يا فلان، أنا عندي بنت أحبها مثل عيني، قطعة من كبدي، ومن حبي لها اخترتك لها، فما أريد أنك يوم من الأيام تقول: والله أنت الذي عرضتها علي ثم تنتقصني، تعال انظر إليها، فإن ناسبتك وأعجبتك قرنت بينكما وعقدت لك، فإن لم تناسبك فالسر عليه الله، لا تذهب وتقول: فلان دعاني ورأيت بنته، وهي ليست جميلة، تكشف عرضي، لم ينظر إليها أحد إلا أنت، أنا أغار عليها من الشمس تنظر إليها، ولكن بأمر الشرع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر أن تراها، فتأتي به إلى ابنتك ويراها وتراه، فإذا ناسبها وناسبته تعقد لهما على مائة ريال أو عشرة ريالات أو ألف ريال، هذا هو الزواج الشرعي، أما أن تنام كل ليلة عند زوجتك، وبيتك ممتلئ بالبنات أو الشباب ولا تزوجهم فهذه مصيبة، كثير من الناس يريد أن يزوج، ولكن لا يعرف ولا يستطيع.

    وقد قام أحد الإخوة في الله وهو الشيخ: عبد العزيز الغامدي حفظه الله، بهذا الجهد مشكوراً، وهذا الجهد متعب ومضنٍ جداً؛ لأنه تعامل مع شيء حساس في حياة الناس وهو العرض، صعب أنك تدخل في هذه الأشياء، لكن يحتاج إلى نوع من الصبر، ويحتاج أيضاً إلى نوع من السيطرة على النفس، وعلى الاستمرارية وعدم الضجر، فقام بهذا العمل جزاه الله خيراً ورتب إدارة وشكل جمعية، تقوم هذه الجمعية بتعريف الشباب، فالذي يريد أن يتزوج يذهب إليه ويقول: يا شيخ! أنا أريد أن أتزوج، وهذه مواصفاتي: أنا شاب جامعي، راتبي كذا وكذا، أسكن في كذا وكذا، الجنسية كذا، وهذا وضعي، وهذه مواصفاتي، وأنا أريد بنتاً مواصفاتها كذا، ويأتي الرجل من أهل الخير الذي عنده بنات، يقول: يا شيخ! أنا رجل عندي بنات وأريد تزويجهن، الكبيرة عمرها كذا، والثانية عمرها كذا، والثالثة عمرها كذا، وأنا أريد أن أزوج من صفته كذا ووضعه كذا، فيقوم الشيخ يقابل بين الشروط، فإذا رأى أن هذا يصلح لهذا دعاه وقال: تعال يا أخي! اذهب إلى فلان، وقل: دلني عليك فلان، ومن فضل الله يذهب ويتزوج وتقوم الأسر، وحصل خير كثير، والآن عنده كما يقول لي: أكثر من خمسين ألف من الشباب يريدون أن يتزوجوا، وعنده مثلها بنات، وهو الآن من فضل الله كل يوم وهو يزوج، لكن هذا الجهد يحتاج أيضاً إلى دعم منكم؛ لأنه يحتاج إلى إدارة، ومبنى مستأجر، وعاملين، ومكالمات هاتفية.

    ثم إن هذا الخير لم يكن محصوراً على مدينة جدة ، بل تجاوزها إلى معظم مدن المملكة، بل نقرأ الآن في جريدة المسلمون أن هذا الخير وصل إلى البلدان الإسلامية الأخرى، نسمع عن فتاة من الجزائر، أو المغرب، أو سوريا، أو مصر تبحث عن زوج، وشاب من الكويت يريد زوجة، فحصل خير كبير، وتعارف الناس وحصل منهم خير كثير، بدلاً من بقاء البنت معزولة والرجل معزولاً، أو يلتقون عن طريق الشر، فهيأ لهم هذا الشيخ اللقاء الشرعي فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.

    ونرجو من كل من يقدر على مساعدته أن يدعمه بالتبرع الذي يستطيع به مواجهة تكاليف هذا العمل الخيري الإيجابي، الذي نسأل الله أن يجعله في موازين حسناته.

    الوسواس وحديث النفس

    السؤال: تحدث لي بعض الأفكار التي لا أستطيع ذكرها وهي تقلقني كثيراً فكيف التخلص منها؟ وهل أنا محاسب على هذه الأفكار؟

    الجواب: هذه الأفكار والوساوس التي لا تزال في الذهن دون أن تخرج إلى الواقع لا تحاسب عليها، وهي من كيد الشيطان، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها؟ فقال: (الحمد لله الذي رد كيد عدو الله إلى الوسوسة) وقالوا: (يا رسول الله! إنا نجد في قلوبنا شيئاً لا نقدر أن نسألك عنه -أي: كأنه عن الله - فقال: ذاك صريح الإيمان) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا عن أمتي الخطأ والنسيان، وما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم) فشيء يدور في ذهنك لم يخرج إلى الواقع ليس عليك مؤاخذة، وهذا من الشيطان.

    أما كيف تصنع؟ فتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، قال عليه الصلاة والسلام: (يأتي الشيطان إلى أحدكم فيقول: من خلقك؟ فتقول: الله، فيقول الشيطان: ومن خلق الله؟) هذا من الشيطان؛ لأن الشيطان يريد أن يكون الله مخلوقاً، وإذا قلنا هناك من خلق الله، فسيأتي ويقول: من خلق الذي خلق الله؟ وستستمر السلسلة إلى ما لا نهاية، إذاً فلابد من خالق لا يُخلق، من هو؟ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3].. قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فالله عز وجل له صفة أنه خالق وليس بمخلوق، لكن حين نقول: أنت مخلوق، من خلقك؟ الله عز وجل، من خلق الله؟ كأننا نريد أن يكون الله مثل الإنسان، الآن هل الباب مثل النجار؟ من صنع الباب؟ النجار، أليست صفة الباب غير صفة النجار؟ إذا تزوج الرجل نقول: يا باب تزوج! ما رأيكم؟! وإذا تحرك الباب نقول: قم يا نجار تحرك، لا. صفة الباب غير صفة النجار، وصفة الخالق غير صفة المخلوق.

    من صفات الله أنه الخالق قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر:24] ومن صفتك أنك مخلوق، فكيف تريد صفتك مثل صفة الله عز وجل؟! فإذا جاءك الشيطان بهذا قال: (فإذا جاء أحدَكم الشيطانُ فليقل: أعوذ بالله، آمنت بالله).

    نصيحة لأصحاب الدشوش

    السؤال: يوجد حي يسمى حي (الدشوش) فهل من نصيحة لهم أيها الشيخ!؟

    الجواب: والله ليس بفخر أن يسمى هذا الحي (حي الدشوش) هي في الحقيقة مسبة أن يتصف الإنسان بأنه ركب فوق بيته دشاً، هذا الدش يصب عليه حمم العذاب، ويجمع عليه -والعياذ بالله- الشر من كل حدب وصوب في العالم، المؤمن يحتاج إلى رحمة الله، المؤمن يحتاج أن يتنزل عليه رضوان الله، ليس بحاجة إلى شرور، كفى ما نحن فيه من الشرور -يا إخوان- شرور تغزونا من كل جانب ومن كل اتجاه، لم يبق إلا أن نركب شيئاً يزيد من الشر الموجود حتى في بلاد الكفار من أجل أن نصبه على نسائنا وأزواجنا وأولادنا وبناتنا، ونخرب بها بيوتنا، ونقضي على ما بقي عندنا من دين، ونخرب ما نحن فيه من أمن وطمأنينة.

    أما تعلمون أن هذا الفساد إذا حصل فهو سبب لزوال النعم التي نحن فيها؟ يقول الله: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الروم:41] هذه مصيبة، أنك ترضى بهذا المنكر -يا أخي- فكون حي كامل يسمى (حي الدشوش) فيعني ذلك: أنهم تعارفوا على تركيب هذا.

    فأنا أقول لهم: اتقوا الله في أنفسكم، اتقوا الله في أولادكم وأزواجكم وأمتكم، سوف تموتون، فبم تعتذرون إذا وقفتم بين يدي الله؟ ماذا تقولون وقد قال الله لكم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً[التحريم:6]؟ ماذا تقولون وقد قال الله عز وجل لكم: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عليها لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ[طه:132]؟ بأي وجه تقابل ربك وقد خنت الرسالة والأمانة وضيعت المسئولية؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث في الصحيحين : (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الرجل راعٍ في أهل بيته ومسئول عن رعيته).

    ومن الرعاية لهذه الأسرة: أن ترعى دينها، أما أن تضيع دينها بتركيب هذه الأجهزة التي تجمع الموجات المنتشرة في الفضاء من كل أجهزة الفساد في العالم ثم تصب هذا الشر على بيتك وتراه امرأتك، وبنتك، وولدك، ثم تفرط في هذا كله من أجل متعتك، تتمتع بذلك وأنت مؤمن بلقاء الله؟! تفرح وتمرح وأنت مؤمن بأنك ستموت؟!ألا تذكر القبر وما فيه؟ ألا تذكر الجنة وما أعد الله لأهلها المؤمنين؟ ألا تذكر النار وما أعد الله لأهلها الذين ينحرفون عن منهج الله؟

    أنا أقول لهم محبة لهم ونصحاً: توبوا إلى الله، وأخرجوا إلى هذه (الدشوش) وحطموها إلى غير رجعة، وضع في بيتك الخير، الشريط الإسلامي، والكتاب الإسلامي، وجه بنتك، وولدك، وزوجك إلى الخير، اربط صلتك بالله تسعد في الدنيا، ويرضى الله عنك في الدنيا، ويبارك الله في عمرك وزوجتك وأولادك، وتعيش محبوباً عند الله، وعند خلق الله، ثم إذا مت لقيت الله ووجهك أبيض، وصحائفك بيضاء، وقبرك روضة من رياض الجنة، ثم إذا بعثت تبعث وأنت مكرم معزز، تمر على الصراط كالبرق الخاطف، وتأخذ كتابك بيمينك، وتوزن فترجح موازينك، وتشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم شربة لا تظمأ بعدها أبداً، هذا إذا كنت -أيها المسلم- تريد النجاة.

    أما الذي لا يريد، بل يريد أن يستمر على الدشوش تمطره بوابل من الشرور والمعاصي والمنكرات والأفلام النجسة الرجسة، والبوليسية، والإذاعات التنصيرية، ليسمعها ويتثقف عليها، أي ثقافة هذه أيها الإخوة؟ ثقافة الجنس، هل هي ثقافة؟! أن يشاهد الإنسان رجلاً عارياً ينزو على امرأة عارية؟ أن تراه ابنته، أهذه ثقافة -يا إخواني-؟ هذه الحيوانات تعرفها بدون دشوش، الحمار ليس محتاجاً إلى دش حتى يرى هذه الأشياء، فكيف نحتاج نحن البشر إلى مثل هذه الأشياء؟ والله إنها مصيبة، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون.

    ظاهرة الجنس الثالث

    السؤال: انتشرت ظاهرة الجنس الثالث وخاصة في بعض المدن، والكثير منهم يجتمع في بعض الأماكن ليرقصوا رقصة (الراب) فما توجيهكم لهؤلاء؟

    الجواب: أين هم الآن حتى نوجههم؟ أنا أتمنى أن أذهب إليهم في مطعم حتى نوجههم ونقول لهم: اتقوا الله، ولا يوجد جنس ثالث أصلاً، الله خلق جنسين، خلق رجالاً ونساء، ولكن هذا الذي يريد أن يصير نصف رجل ونصف امرأة، هذا يريد أن يخلق جنساً لم يخلقه الله أصلاً، ولهذا يعطل سنة الله في الخلق، وهو اعتداء على الله تبارك وتعالى، وتنازل عن رجولته، كأنه يقول: أنا لا أريد أن أكون رجلاً فهو أمر يصعب علي، ولا يستطيع أن يكون امرأة كاملة، فقال: آخذ من المرأة نصفها ومن الرجل نصفه، يأخذ من الرجل الشكل العام، ويأخذ من المرأة التخنث والتأنث، وبعضهم يلبس خواتم الذهب، ويقتني سلسلة، ما بقي إلا أن يضع حمالات للصدر وكعباً عالياً، والبعض يضع الشعر المستعار (الباروكة) ويضع حمرة على شفتيه، وبودرة على خديه، ويجلس أمام المرآة ساعة، هذا ما بقي إلا أن يعلن في الجريدة: (أنا راغبة في الزواج) ويريد له بعلاً والعياذ بالله.

    وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755994932