إسلام ويب

من أحكام الصيامللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الصيام عبادة عظيمة، يجب على العباد العناية والاهتمام بها، ومن رام ذلك فإن عليه أن يتفقه في أحكامها، فيعلم أركانها وواجباتها ومستحباتها، ويعمل بها ويحرص على أدائها، ويعلم أيضاً مبطلاتها ومحرماتها ومكروهاتها، وبذلك يكون قد أدى هذه العبادة كما أمره الله تعالى، ويرجى له الأجر بغير حساب كما وعد الله بذلك.

    1.   

    معنى الصيام وحكمه مشروعيته

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أحبتي في الله، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة، وإمام النبيين في جنته، ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أيها الأحبة! موضوعنا لهذا اليوم بإذن الله تعالى بعنوان: (من أحكام الصيام)، وسوف ينتظم حديثي في العناصر التالية: أولاً: معنى الصيام وحكمة مشروعيته. ثانياً: أركان الصيام. ثالثاً: مبطلات الصيام. رابعاً: رخص الصيام وآدابه. وأخيراً: أخطاءٌ في الصيام. فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا اللقاء يحتاجه كل مسلم ومسلمة.

    تعريف الصيام لغة وشرعاً

    أولاً: معنى الصيام وحكمة مشروعيته. الصيام لغةً: هو الإمساك والكفُ عن الشيء، كما قال الله تعالى حكاية عن مريم عليها السلام: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:26] أي: إمساكاً عن الكلام. والصيام شرعاً: الإمساك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية.

    حِكَمُ مشروعية الصيام

    حكم مشروعية الصيام كثيرة ولله الحمد والمنة، فما من عبادة شرعها الله لعباده إلا لحكمة بالغة، عَلِمَها من علمها، وجَهِلَها من جهلها، وليس جهلُنا للحكمة في عبادة من العبادات دليلاً على أنه لا وجود لها، بل هو دليلٌ على عجزنا نحن عن إدراك حكمة الله سبحانه وتعالى القائل: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]. ومِنْ ثَمَّ فإن من أعظم حكم الصيام على الإطلاق كما أخبر مُشرِّع الصيام جل وعلا: أنه سبب لتقوى الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] فالصيام سبب لحصول التقوى، وهذه حكمة بالغة من حكمه العظيمة؛ ليتقي الصائم ربه جل وعلا. والتقوى: هي وصية الله للأولين والآخرين من الخلق، وهي كما عرفها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن يطاع الله فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. وهي كما عرفها طلق بن حبيب بقوله: هي أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله. ورحم الله من ترجم هذه المعاني الجليلة فقال: خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى فالتقوى من أعظم ما يترتب على الصيام: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). والصيام يهيئ النفوس ويربيها على تقوى الله سبحانه وتعالى؛ لأن أمر الصيام موكول ابتداءً وانتهاءً إلى نفس الصائم وضميره، إذ لا رقيب على الصائم إلا الله، ومن هنا يربي الصوم ملكة المراقبة في قلب الصائم لله جل وعلا، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. ومن حكم الصيام البالغة أن الصوم يربي النفس، ويكسر شهواتها ، ويحد من كبريائها، فتخضع للحق وتلين للخلق. ومن حكم الصيام أيضاً: تذكير الأغنياء الذين يرفلون في نعم الله جل وعلا أن لهم إخواناً لا يتضورون جوعاً في نهار رمضان فحسب، بل إنهم يتضورون جوعاً في كل يوم على مدار العام، بل ومنهم من يموت من شدة الجوع والعطش! ومن ثم يتحرك أصحاب القلوب الحية، والنفوس الأبية، للبذل والإنفاق والعطاء. أما فوائد الصيام الصحية فحدث عنها ولا حرج، ولعله لا يجهلها مسلم ولا مسلمة ولله الحمد والمنة، فما أعظم حكمة الله وأبلغها! وصدق الله جل وعلا إذ يقول: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

    1.   

    أركان الصيام

    ثانياً: أركان الصيام.

    النية

    أول ركن من أركان الصيام هو: النية، والنية عمل من أعمال القلوب لا تصح عبادة على الإطلاق إلا بها، قال الله سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]. وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عمر : (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). ويرى جمهور الفقهاء وجوب تبييت النية من الليل لصيام الفريضة، بمعنى: أنه يجب على الصائم أن يبيت النية ويعقدها من الليل لصيام الفريضة. واستدل جمهور الفقهاء على ذلك بالحديث الذي رواه أصحاب السنن بسند صحيح من حديث حفصة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)، وهذا الحكم خاص بصيام الفريضة -أي: بصيام شهر رمضان، والنذر والقضاء ونحو ذلك- أما صيام النافلة فتجزئ فيه النية بليل أو بنهار ما دام الصائم لم يأكل شيئاً، والدليل على ذلك ما رواه الإمام مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: (هل عندكم شيء -أي: من الطعام؟- فقلنا: لا. فقال عليه الصلاة والسلام: فإني صائم) فصيام النافلة يجوز أن تعقد النية له من الليل ومن النهار، بشرط ألا تكون قد طعمت شيئاً. أما صيام الفريضة فيجب عليك أن تعقد النية من الليل قبل الفجر. وهنا سؤال ألا وهو: هل تكفي نية واحدة لصيام الشهر كله؟ الجواب: اختلف العلماء في ذلك على قولين: الأول للمالكية: حيث قالوا: إن نية واحدة في أول الشهر تكفي لصيام الشهر كله. القول الثاني: وهو قول جمهور الفقهاء -وهو الراجح والله تعالى أعلم- أنه يجب على الصائم أن يبيت النية لكل يوم على حدة. ولا يشترط في النية أن يتلفظ الصائم بها، ولو نسي التلفظ فلا يقال: إن صيامه غير صحيح؛ لأن النية محلها القلب كما قال الحبيب: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فضلاً عن أن سحور الصائم نية، والحمد لله على تيسيره وامتنانه.

    الإمساك عن جميع المفطرات

    الركن الثانى: الإمساك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، قال الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِن الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] والمراد بالخيط الأبيض والأسود: سواد الليل وبياض النهار، لما ورد في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187] الآية قال عدي : (عمدت إلى عقال أسود، وإلى عقال أبيض، وجعلتهما تحت وسادتي، وجعلت أنظر إليهما في الليل فلا يستبين لي شيء، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام وقال: إن وسادك إذاً لعريض، إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار). فالركن الثاني: أن تمسك عن الطعام والشراب، وعن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. الركن الثالث: هو الصائم نفسه، بشرط أن يكون مسلماً عاقلاً بالغاً قادراً على الصيام.

    1.   

    مبطلات الصيام

    ثالثاً: مبطلات الصيام. وهذه لمحات موجزة سريعة، وأبدأ بأشدها وأكبرها إثماً.

    الجماع في نهار رمضان

    أول مبطلات الصيام: الجماع، فإن جامع الصائم زوجته في نهار رمضان بطل صومه، ووجب عليه القضاء والكفارة المغلظة، وهي: عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، وإن أفطر يوماً بين الشهرين وجب عليه أن يواصل وأن يستأنف الصيام من جديد مرة أخرى لتحصل له المتابعة، أما إن مر عليه في وسط الشهرين عذر شرعي، أو عذر حسي فلا حرج عليه أن يفطر، ثم يواصل الصيام، ولا يستأنف الصيام من جديد. فإن مر عليه عذر شرعي كأيام العيدين -مثلاً- فحينئذ يجوز له أن يفطر وأن يواصل الصيام مرة أخرى، ولا يستأنف الصيام من جديد، وإن مر عليه عذر حسي كالمرض جاز له أن يفطر ثم يواصل الصيام مرة أخرى، ولا يستأنف الصيام من جديد. واختلف العلماء في حكم الكفارة هل هي على الترتيب أم على التخيير؟ والراجح أن الكفارة على الترتيب، وهذا قول جمهور أهل العلم، واستدلوا على ذلك بما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت! -وفي لفظ عن عائشة في الصحيح: قال: يارسول الله احترقت!- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فهل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا. يقول أبو هريرة : فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، وبينما نحن كذلك إذ أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق -أي: بمكتل فيه تمر- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أين السائل؟ -وفي لفظ عائشة : أين المحترق آنفاً؟ فقال: أنا يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: خذ هذا التمر وتصدق به. فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟! فوالله ما بين لابتيها -أي: المدينة- أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه، وفي لفظ البخاري : حتى بدت أنيابه، ثم قال عليه الصلاة والسلام: خذ هذا فأطعمه أهلك). والدليل من هذا الحديث: الترتيب في الكفارة، فجمهور الفقهاء يقولون: إن الكفارة على الترتيب لا على التخيير. واختلف العلماء في حكم المرأة التي أكرهها زوجها على الجماع في نهار رمضان، والراجح -بدون تفريعات أقوال أهل العلم- أن المرأة التي يكرهها زوجها على الجماع في نهار رمضان يجب عليها القضاء فقط دون الكفارة؛ إذ لم يثبت دليل صحيح يلزمها بالكفارة في حالة الإكراه.

    إنزال المني بشهوة

    المبطل الثاني من مبطلات الصيام: إنزال المني بشهوة، أي: بغير جماع، فمن أنزل منيه بشهوة بدون جماع، عن طريق التقبيل أو المباشرة أو الملامسة أو الاستمناء باليد فهو آثم، وعليه القضاء دون الكفارة. وبالمناسبة أود أن أقول: إن بعض الناس ربما يتحرجون من ذكر هذه الأحكام، وأنا أقول: عجباً! هل هناك على ظهر الأرض من هو أشد حياءً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ كلا، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، وهو المبين لنا هذه الأحكام، والموضح لنا هذه الأحكام، فواجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم أحكام دينه ليعبد الله جل وعلا عبادة صحيحة راشدة، قالت عائشة رضي الله عنها: (رحم الله نساء الأنصار، لم يمنعهن حياؤهن من أن يتفقهن في الدين). أقول: إذا أنزل الرجل منيه بشهوة من غير جماع بطل صومه، ووجب عليه القضاء دون الكفارة، إذ لم تثبت الكفارة إلا في الجماع، ومن قال بغير ذلك فلا دليل معه، والله تعالى أعلم. ودعوني أشير إلى بعض النقاط السريعة المتعلقة بهذا المبطل الثاني، وهو إنزال المني بشهوة، فكثيراً ما أسأل من الشباب، إذا نام الشاب في نهار رمضان واحتلم فما حكم صومه؟ أقول: إن صيامه صحيح، فليغتسل وليتم صومه ولا شيء عليه؛ لأن الاحتلام بغير إرادة منه ولا اختيار. أيضاً: ما حكم من جامع زوجته في الليل ولم يغتسل حتى أذن الفجر؟ أقول: إن صيامه صحيح، فليغتسل وليقم ليصلي صلاة الفجر، ولو أذن عليه الفجر وهو جنب من أهله فلا إثم عليه ولا حرج، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يدركه الفجر وهو جنب من جماع أهله، ثم يغتسل ويصوم). ونقطة ثالثة: ما حكم من قبل زوجته أو باشرها ولم ينزل؟ نقول: إن صيامه صحيح، ولكن يخشى عليه أن يقع فيما وراء ذلك، فإن قبل الرجل أهله أو باشر زوجته بدون إنزال فصيامه صحيح؛ لما ورد في الصحيحين من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (كان يقبل ويباشر وهو صائم، إلا أنه كان أملككم لإربه).

    الأكل والشرب عمداً

    المبطل الثالث من مبطلات الصيام: الأكل والشرب عمداً، فمن أكل أو شرب متعمداً في نهار رمضان بطل صومه، وعليه الإثم، ووجب عليه القضاء دون الكفارة، أما من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه، وصيامه صحيح، لما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه).

    القيء عمداً

    المبطل الرابع من مبطلات الصوم: القيء عمداً، وهو أن يضع الإنسان أصبعه في فمه ليخرج ما في بطنه، فإن تقيء الصائم عمداً بطل صومه، ووجب عليه القضاء، أما إن ذرعه القيء -أي: غلبه القيء- بغير رغبة منه ولا اختيار فليتم صومه، وصيامه صحيح، لما رواه أبو داود والترمذي وصحح الحديث الحاكم في المستدرك، وصححه أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية في حقيقة الصيام، وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من استقاء عامداً فليقض، ومن ذرعه القيء -أي: ومن غلبه القيء- فلا قضاء عليه).

    الحيض والنفاس

    خامساً: من مبطلات الصيام الحيضُ والنفاس للنساء، فإذا رأت المرأة دم الحيض أو دم النفاس في نهار رمضان في أول اليوم أو في آخره حتى ولو قبل أذان المغرب بلحظات بطل صومها وفسد، ووجب عليها أن تفطر، ويجب عليها بعد ذلك القضاء بعد الطهر، والدليل على ذلك ما رواه الإمام مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟! فقالت عائشة : (كان يصيبنا ذلك، فكنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة). فالحائض والنفساء إذا رأت دم الحيض أو دم النفاس -حتى ولو قبل الغروب بلحظات- وجب عليها أن تترك الصيام، وأن تفطر، وتقضي الأيام بعد الطهر، ولا حرج عليها ولا إثم؛ لأن حيضتها ليست بيدها كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام. هذه هي أشهر مبطلات الصوم، والله تعالى أعلم.

    1.   

    رخص الصيام وآدابه

    رابعاً: رخص الصيام وآدابه. هناك رخص عديدة امتن الله جل وعلا بها على العباد؛ رفعاً للحرج ودفعاً للمشقة، منها: 1- أنه يجوز للصائم المريض أن يفطر في نهار رمضان، وكذا للمسافر الذي يشق عليه الصوم لقوله تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]. 2- ومن الرخص أيضاً: أنه يجوز للصائم استخدام السواك في كل وقت: قبل الزوال وبعد الزوال، هذا هو القول الراجح والصحيح من أقوال أهل العلم، أما قول بعض أهل العلم بعدم جواز استخدام السواك للصائم بعد الزوال فلا دليل عليه، أما حديث علي المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي) رواه البيهقي والدار قطني، فهو حديث ضعيف جداً لا يحتج به. فالسواك مشروع للصائم في كل وقت من نهار رمضان. أما احتجاج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) فمن المعلوم لكل أحد أن رائحة الخلوف إنما تنبع من الجوف والبطن لا من الفم، فالسواك جائز للصائم في كل وقت من نهار رمضان، لاسيما في الأوقات الستة التي ورد النص بذكرها وتحديدها، وهي: عند الصلاة، والوضوء، وعند الاستيقاظ من النوم، ودخول المنزل، وعند قراءة القرآن، وعند تغير رائحة الفم. هذه هي المواضع الستة التي ورد النص الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يستاك فيها. 3-ومن رخص الصيام: أنه يجوز للصائم أن يغتسل بالماء البارد؛ ليذهب عن نفسه حدة الحر أو حدة العطش؛ لما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مالك وأبو داود أنه صلى الله عليه وسلم (كان يصب الماء على رأسه وهو صائم من الحر أو من العطش). 4-ومن رخص الصيام أيضاً: أنه يجوز للصائم -إن احتاج- أن يضع دواء كالقطرة -مثلاً- في أذنه أو في عينه في نهار رمضان، فلا حرج عليه على الإطلاق، حتى ولو وجد طعم القطرة في حلقه؛ لأن هذا الدواء ليس بأكل ولا بشرب، ولا في معنى الأكل والشرب. 5-ومن رخص الصيام أيضاً: أنه يجوز للصائم الذي أصيب بمرض الربو أن يستخدم البخاخ في حالة أزمة تنفسه، وليتم صومه ولا حرج عليه ولا إثم؛ لأن هذا البخاخ ليس بطعام ولا شراب، ولا في معنى الطعام والشراب. الحمد لله على تيسيره وفضله وامتنانه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].

    1.   

    آداب الصيام

    أما عن آداب الصيام فنذكرها بإيجاز شديد: 1- السحور؛ لما ورد في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: (تسحروا فإن في السحور بركة)، ومن المستحب تأخير السحور لما ورد في الصحيحين من حديث أنس عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة -أي: إلى صلاة الفجر- فقال أنس بن مالك لـزيد بن ثابت : كم كان بين الأذان والسحور؟ فقال زيد : قدر خمسين آية) أي: بين السحور وبين الأذان، فالمستحب أن يؤخر الصائم السحور. والسحور يحصل بكثير الطعام وقليله، بل ولو بجرعة ماء. 2- تعجيل الفطر لقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد : (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر). ومن السنة أن يكون إفطار الصائم على رطب، فإن لم يجد فعلى التمر، فإن لم يجد فعلى الماء. 3- الدعاء، فإن كثيراً من الناس قد ينسى هذه السنة الطيبة، فإن للصائم دعوة لا ترد، فمن السنة أن يدعو الصائم عند إفطاره، ومن أصح ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه ما رواه أبو داود بسند حسن من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم (كان إذا أفطر يدعو الله ويقول: ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى). 4- ومن آداب الصيام الواجبة لا المستحبة: ترك الغيبة والنميمة وقول الزور، فإذا صامت بطنك عن الطعام والشراب، وصام فرجك عن الشهوة؛ فلتصم جوارحك عن معصية الله تبارك وتعالى، وهذه هي الحكمة -أصلاً- من مشروعية الصيام، لا أن يدع الإنسان طعامه وشرابه فقط، بل ليتربى الإنسان على كل فضيلة، وعلى كل خلق، فالغيبة والنميمة وقول الزور أعمال محرمة في كل وقت، وتزداد حرمتها في رمضان. أما قول بعض أهل العلم: إن الغيبة والنميمة تفطران الصائم، واستدلالهم على ذلك بحديث رواه الإمام أحمد في ذكر المرأتين اللتين أفطرتا لأنهما أكلتا لحوم الناس، فإن الحديث ضعيف، ولا دليل على أن الغيبة والنميمة تفطر الصوم، ولكن تزداد حرمتها في رمضان. هذه بعض آداب الصيام المستحبة والواجبة. أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

    1.   

    أخطاء في الصيام

    الجد في أول الشهر والتكاسل في آخره

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم. أخيراً: أخطاء في الصيام. لا ريب أن الصائمين من أفضل عباد الله، ولكنْ هناك بعضُ الأخطاء يقع فيها بعضُ الصائمين نذكر بها: منها: أن بعض الصائمين يقبل على العبادة في أول الشهر إقبالاً طيباً، فيحرص على الصلوات في جماعة، ويحرص على صلاة الفجر، ويحرص على قراءة القرآن، ويحرص على الاستغفار، ويحرص على أن يكون وديعاً رقيقاً لطيفاً، فإذا ما انقضت الأيام الأول من الشهر تكاسل -والعياذ بالله- عن هذه العبادات، وعن هذه الأعمال والطاعات، وعن هذا الخير كله. تذكر أيها الصائم الحبيب قول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث عائشة : (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، فإن كنت ممن مَنَّ الله عليك بعبادة من العبادات في أول الشهر، فإياك أن تضيع هذه العبادة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في صحيح البخاري : (إنما الأعمال بالخواتيم)، إن مَنَّ الله عليك في أول الشهر بالحرص على صلاة الفجر في جماعة، وأداء الصلوات كلها مع الجماعة، وقراءة القرآن والذكر والاستغفار، والصدقة والبذل والجود والعطاء، فلا تبخل ولا تتوانى ولا تتكاسل، واعلم أن الأعمال بالخواتيم، أسأل الله جل وعلا أن يرزقني وإياكم حسن الخاتمة.

    سوء الخلق في التعامل مع الناس

    أيضاً من الأخطاء التي يقع فيها بعض أحبابنا الصائمين: أننا نرى من الصائمين من يخرج عن حدود اللياقة، فتراه في نهار رمضان فظاً غليظاً سيء الخلق، سيء التعامل مع الآخرين من الموظفين أو من الجمهور، فإذا كان مسئولاً وقيل له: لماذا تتصرف هكذا؟! يقول: إني صائم! سبحان الله العظيم! وهل الصوم يحضك على الفظاظة؟! وهل الصوم يأمرك بالقسوة والغلظة؟! وهل الصوم يعلمك سوء التعامل مع الآخرين؟! كلا. إن الصيام مدرسة عظيمة للتربية على كل فضيلة، وعلى كل خلق، ويجب أن تكون دائماً وأبداً ذاكراً لأمر وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (والصيام جنة) أي: وقاية تقي الإنسان من كل شيء، من عذاب الله جل وعلا، بل ومن كل رذيلة في الدنيا: (الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم) متفق عليه، تذكر أنك صائم، ولا تحتج بالصيام على هذه الأفعال والأقوال النابية، وعلى هذه الأصوات العالية، وعلى هذه القسوة والفظاظة والغلظة، بل يجب أن يكون العكس، فإن الصيام يربي على الخلق والأدب، وعلى التواضع واللين والرحمة، وعلى كل فضيلة من فضائل الأخلاق.

    الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب

    ثالثا: من الأخطاء التي يقع فيها بعض الصائمين، وهذا أمر ملفت للأنظار ومحزن في الوقت ذاته: الإسراف والتبذير في المآكل والمشارب، فما عليك إلا أن تنظر إلى سفرة لتجد عليها أصنافاً عديدة من ألوان الطعام والشراب، سبحان الله! هذا الأمر يخالف حكمة مشروعية الصيام أصلاً، ويزداد الإثم والذنب حين الانتهاء من الطعام بأكل القليل جداً، ثم تملأ سلة المهملات بما تبقى من الطعام والشراب، في الوقت الذي يموت فيه الآلاف من شدة الجوع والعطش ولا حول ولا قوة إلا بالله! ورحم الله من قال: إنكم تأكلون الأرطال، وتشربون الأفضال، وتنامون الليل ولو طال، وتدعون أنكم أبطال!! هيهات هيهات! نأكل ملء بطوننا، ونشرب ملء بطوننا، ونضحك ملء أفواهنا، وننام ملء جفوننا، وندعي أنه إن لم ندخل الجنة نحن فمن يدخلها؟! ما أقل حياء من طمع في جنة الله ولم يعمل بطاعة الله!! إن سلف الأمة رضوان الله عليهم كانوا يصومون النهار، ويقومون الليل، وتورمت أقدامهم من القيام بين يدي الله جل وعلا، وبالرغم من ذلك كانوا يبكون ويرتعدون كعصفور مبلل بماء المطر خوفاً من لقاء الله جل وعلا. ها هو فاروق الأمة عمر رضوان الله عليه يدخل عليه ابن عباس -كما في صحيح البخاري - وهو على فراش الموت، فيجد فاروق الأمة يبكي خوفاً ووجلاً، ويقول: (والله إني لأرجو أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا علي) فاروق الأمة يقول هذا! فينبغي ألا نسرف في المأكل والمشرب، وأقصد من هذا الاعتدال، فأنا لا أحرم طيبات ما أحل الله لعباده، بل أقصد بهذه الفقرة الاعتدال، فإننا أمة وسط، يجب علينا أن نكون وسطاً في كل شيء، والرسول صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فيجب علينا أن نكون معتدلين، وأن نكون وسطاً في المآكل والمشارب، استلذ بطيبات الله تبارك وتعالى، وبما أحل الله لك، لكن من غير سرف ولا تبذير، فإن الإسراف حرام.

    جعل رمضان فرصة للنوم والخمول والكسل

    وأخيراً: من أخطاء بعض الصائمين أنهم يحولون شهر رمضان إلى فرصة للنوم والخمول والكسل، فترى كثيراً منهم يقضي النهار كله أو معظمه نائماً، ويضيع صلاة الجماعة والعياذ بالله، ليس هذا هو المقصود من الصيام، بل إذا ذكرت أحدهم ربما يحتج عليك بدليل شرعي، فيقول لك: (نوم الصائم عبادة)، وهو حديث ضعيف لا يحتج به، ثم إنك لم تؤمر بالصيام لتنام، مع أنه لا حرج عليك أن تنام قسطاً وافياً يريح بدنك، ويعينك على أن تصوم وتقوم، أما أن تقضي النهار كله نائماً فلا. هذه بعض أخطاء الصائمين، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا وإياكم صيامنا وقيامنا إنه ولي ذلك والقادر عليه. اللهم لا تجعلنا ممن صام وقام ولم يرضك، يا أرحم الراحمين! اللهم لا تجعلنا ممن صام وقام ولم يرضك، يا أرحم الراحمين! اللهم إنا وقفنا ببابك سائلين، ولمعروفك طالبين، فلا تردنا خائبين، برحمتك، يا أرحم الراحمين! اللهم إنا قد وفدنا إليك، ووقفنا بين يديك، فلا تجعلنا أخيب وفد وفد إليك، يا رب العالمين! اللهم اقبل منا الصيام والقيام والقرآن، برحمتك يا رب العالمين! اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، واقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم وفق حكام المسلمين لكل ما تحبه وترضاه، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تؤزهم إلى الخير أزاً يارب العالمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه. اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765793114