أما بعد:
أيها الأحبة في الله! الحديث عن الحياة الطيبة هو الحديث الذي ينبغي أن يعيشه كل واحد منا؛ لأن الحياة إما للإنسان وإما عليه، تمر ساعاتها ولحظاتها وأيامها وأعوامها على الإنسان، وتقوده إلى المحبة والرضوان؛ حتى يكون من أهل الفوز والجنان، أو تمر عليه فتقوده إلى النيران، وإلى غضب الواحد الديان.
الحياة إما أن تضحكك ساعة لتبكيك دهراً، وإما أن تبكيك ساعة لتضحكك دهراً، الحياة إما نعمة للإنسان أو نقمة عليه، هذه الحياة التي عاشها الأولون وعاشها الآباء والأجداد، وعاشها السابقون، وصاروا إلى الله عز وجل بما كانوا يفعلون، الحياة معناها كل لحظة تعيشها، وكل ساعة تقضيها، ونحن في هذه اللحظة نعيش حياة إما لنا وإما علينا، فالرجل الموفق السعيد من نظر في هذه الحياة وعرف حقها وقدرها، فهي والله حياة طالما أبكت أناساً فما جفت دموعهم، وطالما أضحكت أناساً فما ردت عليهم ضحكاتهم ولا سرورهم.
أحبتي في الله! الحياة الدنيا جعلها الله ابتلاءً واختباراً وامتحاناً تظهر فيه حقائق العباد، ففائز برحمة الله سعيد، ومحروم من رضوان الله شقي طريد، كل ساعة تعيشها إما أن يكون الله راضياً عنك في هذه الساعة التي عشتها، وإما العكس والعياذ بالله، فإما أن تقربك من الله، وإما أن تبعدك من الله، وقد تعيش لحظة واحدة من لحظات حب الله وطاعته تغفر بها سيئات الحياة، وتغفر بها ذنوب العمر، وقد تعيش لحظة واحدة تتنكب فيها عن صراط الله، وتبتعد فيها عن طاعة الله؛ تكون سبباً في شقاء الإنسان في حياته كلها، نسأل الله السلامة والعافية.
فهذه الحياة فيها داعيان: داعٍ إلى رحمة الله ورضوان الله ومحبته، وأما الداعي الثاني: فهو داعٍ إلى ضد ذلك، من شهوة أمارة بالسوء، أو نزوة داعية إلى خاتمة السوء، والإنسان قد يعيش لحظة من حياته يبكي فيها بكاء الندم على التفريط في جنب ربه، يبدل الله بذلك البكاء سيئاته حسنات، وكم من أناس أذنبوا، وكم من أناس أساءوا، وكم من أناس ابتعدوا وطالما اغتربوا عن ربهم، فكانوا بعيدين عن رحمة الله، غريبين عن رضوان الله، وجاءتهم تلك الساعة واللحظة وهي التي نعنيها بالحياة الطيبة؛ لكي تراق منهم دمعة الندم، ولكي يلتهب في القلب داعي الألم؛ فيحس الإنسان أنه قد طالت عن الله غربته، وقد طالت عن الله غيبته؛ لكي يقول: إني تائب إلى الله، ومنيب إلى رحمته ورضوانه!
وهذه الساعة ساعة الندم هي مفتاح السعادة للإنسان، وكما يقول العلماء: إن الإنسان قد يذنب ذنوباً كثيرة، ولكن إذا صدق ندمه وصدقت توبته بدل الله سيئاته حسنات، فأصبحت حياته طيبة بطيب ذلك الندم، وبصدق ما يجده في نفسه من الشجا والألم، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحيي في قلوبنا هذا الداعي إلى رحمته، وهذا الألم الذي نحسه من التفريط في جنبه.
أحبتي في الله! نريد من كل واحد منا أن يسأل نفسه سؤالاً عن الليل والنهار، كم يسهر من الليالي؟! وكم يقضي من الساعات؟! كم ضحك في هذه الحياة؟! وهل هذه الضحكة ترضي الله عز وجل عنه؟ وكم تمتع في هذه الحياة؟! وهل هذه المتعة ترضي الله عز وجل عنه؟ وكم سهر؟! وهل هذا السهر يرضي الله عنه؟ وكم وكم..؟ يسأل نفسه أسئلة، وقد يبادر الإنسان ويقول: لماذا أسأل هذا السؤال؟
نعم! تسأل هذا السؤال؛ لأنه ما من طرفة عين ولا لحظة تعيشها إلا وأنت تتقلب في نعمة الله، ومن الحياء والخجل مع الله أن نستشعر عظيم نعمة الله علينا، وأن نحس أننا نطعم طعام الله، وأننا نستقي من شراب خلقه الله، وأننا نستظل بسقفه، وأننا نمشي على أرضه، وأننا نتقلب في رحمته، فما الذي نقدمه في جنبه؟ فليسأل الإنسان نفسه.
يقول الأطباء: إن في قلب الإنسان مادة لو زادت (1%) أو نقصت (1%) مات في لحظة، فأي لطف وأي رحمة وأي عطف وأي حنان من الله يتقلب فيها الإنسان.
يسأل الإنسان نفسه عن رحمة الله فقط: إذا أصبح الإنسان وسمعه معه، وبصره معه، وقوته معه، فمن الذي حفظ له سمعه؟ ومن الذي حفظ له بصره؟ ومن الذي حفظ له عقله؟ ومن الذي حفظ له روحه؟ فليسأل نفسه من الذي حفظ عليه هذه الأشياء؟
من الذي يمتعه بالصحة والعافية؟ هاهم المرضى على الأسرة البيضاء يتأوهون ويتألمون، والله يتحبب إلينا بهذه النعم، يتحبب إلينا بالصحة، بالعافية، بالأمن، بالسلامة، كل ذلك فقط لكي نعيش هذه الحياة الطيبة.
الأمر الأول: فعل فرائضه.
والأمر الثاني: ترك نواهيه وزواجره، ومن قال: إن القرب من الله عز وجل فيه الحياة الأليمة أو فيه الضيق، فقد أساء الظن بالله، والله! إذا ما طابت الحياة في القرب من الله فلن تطيب بشيء سواه، وإذا ما طابت بفعل فرائض الله وترك محارم الله فوالله لا تطيب بشيء سواه، ويجرب الإنسان متع الحياة كلها فإنه والله لن يجد أطيب من متعة العبودية لله؛ بفعل فرائض الله وترك محارم الله.
أنت مأمور بأمرين: إما أن يأتيك الأمر: افعل أو لا تفعل، إذا قمت بفعل أي شيء في هذه الحياة فاسأل نفسك: هل الله عز وجل أذن لك بفعل هذا الشيء أم لم يأذن لك؟ فالأجساد والقلوب والأرواح ملك لله، ينبغي للإنسان إذا أراد أن يتقدم أو يتأخر أن يسأل نفسه، هل الله راضٍ عنه إذا تقدم؟ فليتقدم، أو الله غير راضٍ عنه؟ فليتأخر، فوالله ما تأخر إنسان ولا تقدم وهو يرجو رحمة الله إلا أسعده الله.
والصلاة الواحدة يفعلها الإنسان من فرائض الله، بمجرد ما ينتهي من ركوعه وسجوده وعبوديته لربه فإنه ما يخرج من مسجده إلا ويحس براحة نفسية، والله لو بذل لها أموال الدنيا ما استطاع إليها سبيلاً، إذاً الحياة الطيبة في القرب من الله، والحياة الهنيئة في القرب من الله، إذا ما طابت الحياة بالقرب من الله فبمن تطيب؟
أولها: الشهوة التي تحول بينك وبين القرب من الله.
ثانيها: سوء الظن بالله.
ثالثها: الشيطان الذي أخذ على نفسه العهد أن يبعدك من الله عز وجل.
فأما الشهوة: فهي لذة ساعة وألم دهر.. شهوة اللهو واللعب الذي وصف الله عز وجل به هذه الحياة الدنيا أنها لهو ولعب، ولكن كم من أجساد لهت ولعبت وهي الآن تتقلب في عذاب القبور! وكم من أجساد لهت ولعبت ترى الآن الضنك في ضيق القبور! وكم من أناس الآن تضيق عليهم اللحود، هؤلاء يتمنون لحظة واحدة من ذكر الله وطاعته.
لن تعرف قيمة هذه الحياة ولا حقيقة هذه الشهوة التي دعت إلى معصية الله، إلا إذا جاء وقت فراق هذه الحياة، ولن تجد ندماً أصدق من ندم الإنسان إذا ودع هذه الحياة، وسيعرف الإنسان حقيقة الشهوة التي هي أول العوائق إذا فارق الحياة، وبمجرد أن تأتي لحظة الفراق تبكي بكاء الندم، ويقول الإنسان -ولو كان صالحاً-: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100]، يتمنى -ولو كان صالحاً- أن يرجع؛ لكي يزيد من صحيفة العمل، ولا يغتر الإنسان ويقول: إن هذه الساعة بعيدة؛ لأنه شباب، فكم من حوادث أخذت أناساً في عز الشباب وزهرته، وشدة النشوة واكتمال العمر، ولذلك ينبغي للإنسان أن يعرف حقيقة هذه الشهوة، والله عز وجل لم يحرمنا من الشهوة، ولا منعنا من اللذة، بل جعل للشهوة موضعاً ومكاناً معيناً، أميناً سليماً نقياً، ولا يأذن لك أن تضع الشهوة في غير هذا المكان.
أما الأمر الثاني من العوائق فهو: سوء الظن بالله، وبعض الناس إذا قلت له: أقبل على الله! يقول لك: يا أخي! لماذا تضيق عليّ؟! دعني أتمتع بالحياة! دعني أسهر وأتمتع بسهري، وأذهب وآتي وأتمتع بذهابي دون قيود أو حدود! يحس أن الحياة الضنكة والأليمة إذا اقترب من الله!! فوالله ثم والله! أنه لا أطيب من القرب من الله! ومن أراد أن يجدد لذة القرب من الله فليزدد من طاعة الله عز وجل، وليزدد من الصالحات، وليزدد من الأعمال التي تحبب إلى الله عز وجل، وتدعوه إلى مرضاته؛ حتى يحس ساعتها بلذة العبودية لله تبارك وتعالى.
أما الأمر الثالث الذي يعيق الإنسان عن طاعة الله ومحبته فهو: الشيطان الرجيم، وهذا الشيطان على نوعين: شيطان إنس، وشيطان جن، فمن أراد القرب من الله عز وجل فعليه أن يفر من شياطين الإنس وشياطين الجن، أما شياطين الإنس فهم الذين يزهدون في طاعة الله، وييئسون الإنسان ويقنطونه من رحمة الله، فينبغي للإنسان ألا يصغي إليهم، وليعلم أن الصديق الصادق في محبته ومودته وخلته، هو الذي يهدي إليه عيوبه، ويدعوه إلى محبة ربه وذل العبودية لخالقه.
وأما شيطان الجن فهي الوساوس التي يقذفها في قلب الإنسان، ويقول له: انتظر فلا زال في العمر بقية، ولا تعجل، وتمتع بهذه الحياة، تمتع بالشهوات فيها، واسهر ما شئت من الليالي، وافعل ما شئت من لذات هذه الحياة، فإن الحياة طويلة، ولا يزال يمنيه ويسليه حتى يسلمه إلى عاقبة الردى، نسأل الله جل وعلا أن يعصمنا وإياكم من ذلك.
أما إبدال داعي الشطان بداعي الرحمن؛ فاعرض نفسك على كتاب الله عز وجل، واجعل لك كل يوم جلسة مع القرآن، لا يحس الشاب أن هذا القرآن نزل لغيره، والله إنك مخاطب بالقرآن شئت أم أبيت، اقتربت أو بعدت، وكل إنسان يوم القيامة سيأتي هذا القرآن حجة له أو حجة عليه، لا يقول الإنسان: إن هذا القرآن لغيره، القرآن لك وأنت المخاطب به ولو كنت من أبعد الناس عن طاعة الله، فأنت مخاطب بهذا القرآن، وسيكون هذا القرآن حجة لك أو حجة عليك، واستبدال هذا الداعي وهو كتاب الله عز وجل ففيه طمأنينة القلوب، وانشراح الصدور، والله تعالى يقول في كتابه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] فاعرض نفسك على كتاب الله لتعيش في رحمة الله إذ يخاطبك عز وجل، واعرض نفسك على داعي الله عز وجل بتحقيق ما أمر الله به في القرآن، وترك ما نهى الله عز وجل عنه في كتابه.
وأما إبدال دعاة السوء بدعاة الخير فالجلوس مع الصالحين، وغشيان حلق الذكر التي لا يشقى بهم جليس، فزيارة الصالحين، والأنس بهم ومحبتهم خير للإنسان في الدنيا والآخرة، والله هم القوم ونعم القوم، ما جلس إنسان مع رجل صالح إلا وجد منه الخير: لا يدعوه إلا لصلاح دينه ودنياه وآخرته، وأما قرين السوء فعلى العكس من ذلك، فهو الذي يدعو إلى محارم الله، ولو سأل الإنسان نفسه عن أي معصية فعلها لوجد وراءها داعي سوء، ووجد وراءها شيطان الإنس الذي حبب وسهل في الوصول إليها.
فيستبدل الإنسان الأشرار بالأخيار، ويقول للأخيار: أريد الجلوس معكم، أريد الأنس بكم، فيزورهم ويجلس معهم، ولذلك قد يأتي الرجل إلى مجلس من مجالس الذكر فيجلس مع الصالحين جلسة واحدة، وقد تكون هذه الجلسة سبب في نجاته من النار، وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله إذا أنزل أهل الجنة في الجنة، وتمتعوا بما هم فيه من النعيم، قالوا: يا ربنا! كيف نتنعم في الجنة وإخواننا يعذبون؟) إخوانهم من؟ أناس كانوا معهم ولكن كانت عندهم سيئات، مثلاً: رجل كان مع الصالحين ولكن عنده سيئات كأن يشرب الخمر، أو يزني، أو يفعل أي شيء من المحرمات -نسأل الله السلامة والعافية- فشاء الله أنه لم يتب من هذه الأشياء، لما جاء في يوم القيامة وأدخل النار، فإذا دخل ذلك الرجل الصالح -الذي جلس معه- الجنة يقول: يا رب! كيف أتنعم بنعيم الجنة وأخي يعذب؟ فيأذن الله عز وجل بالشفاعة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا يزال الرجل يشفع حتى يشفع للرجل الذي جلس معه لحظة واحدة في ذكر الله عز وجل)، لحظة واحدة في ذكر الله عز وجل توجب للإنسان الشفاعة، فهذه من ثمار الجلوس مع الصالحين.
ومن ثمار الجلوس مع الصالحين: أن القلوب والصدور تنشرح وتطمئن بذكر الله عز وجل، ولذلك تجد الإنسان إذا جلس مع الصالحين يقوم ونفسه معلقة بالسماء، معلقة بطاعة الله، يريد أن يفعل أي خير يقربه إلى الله، والله ما جلس الإنسان مع صالح موفق إلا دله على الله، وهذا والله هو الصديق، الذي تقوم من عنده وحالك أصلح من حالك قبل الجلوس معه، بعض الناس مبارك إذا جلست معه تقوم من عنده وقلبك معلق بالله، وفؤادك وروحك تريد رضوان الله، لا تريد إلا شيئاً يدلك على الله، ولا تريد إلا خصلة من خصال الخير تقربك إلى الله، ومجلس واحد من ذكر الله عز وجل قد يجعل الإنسان يغير حياته كلها، إذا صدق في عبوديته لله، وتأثر بما يقال له من أوامر الله ونواهيه.
المقصود أن الجلوس مع الصالحين يعتبر من أهم الأسباب التي تدل الإنسان على ربه، والجليس الصالح هو الذي إذا نسيت الله ذكرك، وإذا ذكرت الله أعانك، والكلمة الطيبة من الرجل الطيب تستطيب بها القلوب، والنصيحة الصالحة من الرجل الصالح يصلح الله بها الأحوال، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم مجالس الصالحين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن مجالس الصالحين تغشاها الملائكة، وهي حلق الذكر التي تحفها الملائكة إلى السماء، ويطيب بها وقت الإنسان وتطيب بها حياته.
وأما استبدال سوء الظن بحسن الظن فهذا أمر مهم جداً لكل إنسان، فالله تعالى فوق ما تظن من الرحمة، إن تقربت منه شبراً تقرب منك ذراعاً، وإن تقربت منه ذراعاً تقرب منك باعاً، وإن أتيته تمشي أتاك هرولة، كل واحد ينبغي عليه أن يكون عنده شعور وعلم أنه لا أرحم به من الله عز وجل.
والله لو أن الإنسان حمل ذنوب هذه الحياة كلها وجاء في لحظة واحدة تائباً إلى الله، منكسراً بين يدي الله، يرجو رحمة الله، والله! لا يخيبه الله من رحمته، ولا يقنطه من روحه سبحانه وتعالى، فهو أكرم من سئل، وأعظم من رجي وأُمل، وفي قصص التائبين عبر، فإن الإنسان قد يتوب من ذنوب الحياة ويجعل الله عز وجل توبته في لحظة واحدة موجبة لغفران حياته كلها، ولذلك أصدق شاهد أن بعض الحجاج يقدم على الله عز وجل في هذه البلاد الطيبة، وعمره سبعون سنة وهو لا يعرف الله عز وجل، يعيش في معاصٍ وذنوب وسيئات، فيأتي إلى الله عز وجل في آخر عمره تائباً منيباً، لا تتمالك عينه الدمعة.
وهذه قصة أحد هؤلاء: كنت مع رجل من كبار أهل المدينة، وقال لي: في حج هذه السنة حصلت عبرة، يقول: كان هناك أحد أصدقائنا نخشى الجلوس معه من كثرة معاصيه، وكثرة ما يفعل والعياذ بالله من المعاصي، يقول: فشاء الله عز وجل في آخر حياته قبل الحج أن ابتلاه الله بمرض، فدخل المستشفى وأجريت له عملية، فخرج من المستشفى منهوك القوى، في حالة لا يعلمها إلا الله عز وجل، يقول: فجلس فترة النقاهة بعد العملية -وهذا قبل الحج بشهر تقريباً- فارتاحت واطمأنت نفسه، فشاء الله عز وجل مع المرض وما له في الإفاقة من المرض إلا أيام قليلة، واقتربت أيام الحج، وإذا به يصيح على أبنائه وهو رجل ثري في نعمة وجاه، يصيح على أبنائه ويقول: أريد الحج! قالوا: يا أبانا أنت ضعيف ومريض، وما تستطيع أن تحج وفيك عملية، قال: أريد الحج! فما كان من أبنائه إلا أن أعانوه على الحج، وكانت معه امرأته، فشاء الله عز وجل أن قدم إلى جدة، ومضى في اليوم السابع يريد الحج، وفي طريقه إلى مكة إذا به يتأوه ويتألم من قلبه، تقول زوجته حاكية عنه: جلس يقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم تقول له امرأته: ماذا بك يا فلان؟ قال لها: الموت، ثم قال: لا إله إلا الله وسقط ميتاً في ساعته.
هذا إن دل على شيء فإنما يدل على سعة رحمة الله، هذا الرجل حياته كلها بعيدة عن الله، وما انتقم الله عز وجل منه، والله قادر وهو جالس على المعصية أن يخسف به الأرض، فوالله لو أذن الله للأرض أن تنتقم من العاصي لخسفت به في لحظة واحدة، الله مالك الملك، له العزة والكمال والجلال، كل شيء في هذا الكون تحت أمره وقهره وملكه، سبحان الله! يعصيه الإنسان ومع ذلك يعطيه الصحة، ويمكنه من لذة المعصية، وهو قادر أن يسلب منه الروح في لحظة واحدة، ويستره وهو يفعل المعصية.
فسبحانه ما أحلمه! فهذا يفعل المعصية في عافية وصحة وستر! ثم مع ذلك يدعو الإنسان ويقول له: هلم إلى رحمتي، هلم إلى جنة عرضها السماوات والأرض، عبدي! ما أريد منك إلا لساناً طيباً وعملاً طيباً، ما أريد منك غير هذا.
كذاب من يقول: إن القرب من الله فيه ضيق! لا والله، فالله لا يريد منك إلا كلاماً طيباً وفعلاً طيباً، وعقيدة ترضيه، ثلاثة أشياء فقط: قلب صالح نقي من الشوائب، ولسان طيب تقول به الكلام الطيب، وجوارح تسخرها في الشيء الطيب، لا شيء غير هذا أبداً، بدل ما كان الواحد يسب الناس، ويحتقر الناس، ويتكلم على الناس أصبح يتكلم بكلام طيب، ويحترم الناس، بدل ما كان يفعل الأمور التي لا تليق بأتفه الناس إذا به يحترم نفسه، ويفعل الأفعال التي تليق به كمسلم يؤمن بلقاء الله عز وجل، لا شيء غير هذا.
ما عندنا في الطاعة والشيء الطيب إلا هذه الثلاثة الأشياء: صلاح العقيدة، وصلاح القول، وصلاح العمل، ومن فعل هذه الثلاثة الأشياء عصمه الله عز وجل إلى أن يلقاه، وأوجب له حبه ورضوانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].
إذا أتيت بهذه الثلاثة الأشياء أقسم الله عز وجل أن يحييك الحياة الطيبة، ولذلك لن تجد إنساناً يطيع الله ثم يخاف من غيره، وجرب فالخوف لا يأتي إلا من معصية الله.
فهذا الرجل حياته بعيدة عن الله، ويقسم لي رجل كبير السن وأعرفه في المدينة، وهو الآن في آخر حياته، ووالله لما قص لي القصة كانت دمعته على عينه، يقول لي: -سبحان الله! ما أحلم الله! وما ألطف الله! أن ختم له هذه الخاتمة الحسنة في آخر حياته!، على أي شيء يدل هذا؟ يدل على رحمة الله-: ليس هناك داعٍ لسوء الظن بالله، والشيطان يأتي الإنسان ويقول له: أنت فعلت وفعلت والله لا يغفر لك أبداً! وبمجرد ما يفعل الإنسان المعاصي -ولو عظمت- ويقول: اللهم إني تائب إليك! إذا بالله عز وجل يبدل تلك المعاصي حسنات، قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70].
هذا الكلام الذي نقوله لنا جميعاً، ليس لأناس وأناس، فالكلام لنا جميعاً؛ لأن المفروض أن يكون المؤمن في كل لحظة قريباً من الله، وليس أحد هناك إلا وهو يعصيه، وليس أحد هناك إلا وهو يذنب، فنحن مطالبون دائماً بهذه الثلاثة الأشياء التي توجب الحياة الطيبة.
إذا أصبحت في لحظة بعبوديتك الخالصة وطاعتك الصادقة لله، وقلت: يا رب! أجاب الله دعاءك، فأي مقام، وأي منزلة وأي شرف أصبحت فيه؟ هذا هو العز، وهذا هو الجاه، وهذه هي الحياة الطيبة التي ينبغي لكل إنسان أن يفكر فيها، وأن يجتهد في تحصيلها.
فأكرر وأقول: أن الضيق كل الضيق في معصية الله، والسعة كل السعة في رحمة الله والقرب من الله عز وجل، ونسأل الله بعزته وجلاله وأسمائه الحسنى أن يرزقنا هذه الحياة الطيبة!
فهذه من الثمرات التي يجنيها الإنسان، وينبغي للإنسان أن يجتهد قدر استطاعته في هذه الأمور التي ذكرناها: صلاح الباطن، وصلاح الظاهر، وصلاح القول والعمل، لا تتكلم إلا وأنت تعرف أن الله يرضى عن كلامك، ولا تعمل إلا وأنت تعلم أن الله يرضى عن عملك، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأترك المجال للأسئلة، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله.
جزى الله شيخنا الفاضل خير الجزاء على هذه الكلمة التي أحيا بها قلوبنا، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فأبشر أخي في الله! بكل خير ترجوه من الله عز وجل، ما دمت أنك تحس أن قلبك قاسٍ، وتجد من نفسك الندم من هذه القسوة فهذه بداية خير، والله تعالى لا يورث الإنسان الندم إلا وهو يريد منه أن يتحرك إليه سبحانه وتعالى، وأوصيك أخي في الله! أن تجتهد في الإقبال على الله عز وجل، وألا يمنعك سخرية الساخرين ولا استهزاء المستهزئين عن طاعة رب العالمين، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والله ما تطيع الله عز وجل إلا أورث الله هيبتك في القلوب، فاليوم الأول يستهزئون، واليوم الثاني يضحكون، واليوم الثالث إذا بالقلوب قد تغيرت، وجرب وستجد ذلك، وقد وجدنا هذا، أول شيء يستهزئون بك لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قال: (قولوا: لا إله إلا الله) استهزءوا به، ولما قال الصحابة: (أحد أحد) اُستهزئ بهم، ولما قال الصالحون: (إنا إلى الله تائبون منيبون) اُستهزئ بهم، ولكن ما هي العاقبة؟ ما هي النتيجة؟ ما هي الثمرة؟ إنها رضوان الله عز وجل، ولذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يستهزئون به، وسموه الساحر، والمجنون، والأفاك الأثيم، وتوفي وهو سيد الأولين والآخرين، صلوات الله وسلامه عليه، فالعبرة بالعواقب، وهذا الاستهزاء يكفر الله به ذنوبك، ويجعله الله عز وجل رفعة لدرجاتك، فما عليك من الاستهزاء والسخرية، ويوم القيامة تجتمع عند الله الخصوم، وكما استهزءوا بالمطيعين لله فيستهزئ بهم المطيعون: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:34-36].
فأبشر أخي بكل خير، وأقبل على الله عز وجل، إذا استهزأ بك الأشرار فسيبدلك الله محبة الأخيار، وإذا استخف بك البعيدون عن الله فسيعظمك ويحبك القريبون من الله، وشتان ما بين الفريقين، وشتان ما بين الطائفتين، والله تعالى جعل جنده هم الغالبون وهم الفائزون، وهذا وعد لن يخلفه الله عز وجل، فأبشر بكل خير، قال بعض السلف: (والله ما قام عبد لله مقام ذل إلا أقامه مقاماً أعز منه) يعني: إذا التزمت وأطعت الله وسخر منك الناس، فسيقيمك الله مقاماً يجلك فيه الناس، ولذلك تجد الشخص إذا رأى شاباً ملتزماً مستقيماً فإنه يحس في قرارة قلبه أن هذا الشاب الملتزم شيء كبير، ووالله حتى العصاة ينظرون إلى أهل الطاعة نظرة إجلال، وكم مرة سمعت بأذني من أناس عصاة يقولون: يا شيخ نتمنى أن نكون مثل الأخيار، نتمنى أن نكون مثل هؤلاء الصالحين الذين نجد فيهم الوقار والسكينة والقرب من الله، نتمنى أن نكون مثلهم، فالمرة الأولى استهزاء، والمرة الثانية سخرية، ولكن العاقبة للتقوى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم ألا يجعلنا ممن حجبه استهزاء الناس عن طاعة رب الناس، فانج بنفسك قبل أن يدهمك الأجل وتستنفد الأمل، وعندها لا ينفع الإنسان إلا ما قدم من صالح القول والعمل، والله تعالى أعلم.
الجواب: ثبت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر فضله: أنه احتسب على الله عز وجل أن يكفر عاماً كاملاً عن الإنسان، فصيام يوم عاشوراء له فضيلة عظيمة؛ فينبغي للإنسان أن يجتهد في صيامه، والأفضل والسنة أن يصوم التاسع والعاشر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر) فيصوم الإنسان غداً وما بعد غد، وهو يوم الخميس والجمعة، والله تعالى أعلم.
السؤال: هل صيام يوم عاشوراء يكفر كل الذنوب كما في حديث ابن عباس ؟
الجواب: هذا الحديث قيده بعض العلماء بصغائر الذنوب، وقالوا: إن كبائر الذنوب موقوفة على التوبة النصوح، والذي يظهر من ظاهر الحديث أنه يشمل صغائر الذنوب وكبائرها، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه، وليس هناك ما يقيده من النصوص، والذي يظهر إن شاء الله أنه يكفر صغائر الذنوب وكبائرها، وليس ذلك بعزيز على الله، والله تعالى أعلم.
الجواب: هذا الحديث يعتبر جزءاً من حديث يدل على مشهد من مشاهد الآخرة، وهو مشهد السؤال، فالناس على قسمين: مؤمن وكافر، أما الكافر فبمجرد موقفه في عرصات يوم القيامة يختطف والعياذ بالله إلى النار، وأما المؤمن: فهو يمر في بلاء وضيق في عرصات يوم القيامة على قدر صلاحه وطلاحه، فإن كانت عنده ذنوب كبيرة، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، حاسبه الله عز وجل بتلك الذنوب، ومن الحساب موقف السؤال، فالمؤمنون الذين هم القسم الثاني أيضاً على ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: طائفة لا تسأل عن شيء ومباشرة يأمر الله بدخولها إلى الجنة، وهم السبعون الألف الذين هم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يأذن الله بدخولهم إلى الجنة دون سبق حساب ولا سؤال ولا عذاب، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
وأما الطائفة الثانية: فطائفة عظمت حسناتها والله أحبها مع وجود الأخطاء، فيسترها الله عز وجل في عرصات يوم القيامة، كما في حديث ابن عمر : (أن الله يدني العبد فيقول: يا عبدي فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ يقول: بلى يا رب، ويقول: فعلت كذا وكذا؟ فيقول: بلى يا رب! فيقول: سترتها عليك في الدنيا وها أنا أسترها عليك اليوم).
وأما القسم الثالث فهو قسم يفضحه الله عز وجل، فهذا المشهد من مشاهد السؤال: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع) ومنها ما ورد في السؤال: (عن شبابه، وفي رواية: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه)، العمر الذي هو لحظات الحياة قلَّت أو كثرت، يسأل الإنسان فتعرض عليه أيام الدنيا يوماً يوماً، تعرض عليك في عرصات يوم القيامة يوماً يوماً، وكل يوم يعرض عليك ساعة ساعة، وكل ساعة تعرض عليك بالثواني، تسأل عنها ثانية ثانية، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من نوقش الحساب عذب)، يعني: إذا كان الحساب عن العمر دقيقاً فاعلم أنه الهلاك، ما يشك أحد أبداً أن الله لو دقق عليه الحساب هلك؛ لأن نعم الله عظيمة والإساءة موجودة ولو كان الإنسان فيه صلاحاً وخيراً.
فيعرض عليه هذا الشباب، وتعرض عليه الصحة، وتعرض عليه اللحظة، والثانية الفلانية من الساعة الفلانية، من يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا من عام كذا وكذا، فيقال: في اللحظة الفلانية فعلت كذا وكذا، وجلست مع أصحابك فقالوا: كذا، فقلت: كذا وكذا، وإذا بالكلام تذكره كاملاً ما تخرم منه حرفاً واحداً، فيعرض على الإنسان وما ينسى مثقال خردلة، فتوضع موازين القسط ليوم القيامة، يقول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، عرصات يوم القيامة مشهد عظيم شيبت رءوس الصالحين وأقضت مضاجعهم: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، ولذلك العبّاد الصالحون عندما يتذكرون مثل هذه المواقف ما يتحمل أحدهم، فيكثرون من الأعمال الصالحة لعل الله عز وجل أن ينجيهم من كربات ذلك اليوم، فيتعبون الآن ولكن لراحة الغد.
فالمقصود أن الله يعرض عليك هذه اللحظات، ويعرض عليك هذه الساعات، ومن الناس من يعرض الله عز وجل عليه حسناته، فيقول له: عبدي في يوم كذا وكذا فعلت كذا وكذا، فيقول: بفضلك يا رب! فيقول: عبدي في يوم كذا وكذا جلست مع الصالحين في ساعة كذا، فيقول: بفضلك يا رب! فيقول: في يوم كذا وكذا زرت أخاك في الله، في يوم كذا وكذا وصلت الرحم، في يوم كذا وكذا تصدقت على مسكين، أعنت أرملة، فعلت كذا.. فيقول: بفضلك يا رب! بفضلك يا رب! فيقول له: ادخل الجنة، يعرض الله عز وجل عن إساءتك، والله فعال لما يريد يحكم ولا معقب لحكمه، من يستطيع يوم القيامة على رءوس الأولين والآخرين أن يقول: يا رب لا تدخل فلاناً الجنة؟! ما أحد يستطيع أبداً، إن رحمك الله فلا معذب، وإن عذبك فلا راحم، من يستطيع أن يتكلم؟! تأمل ملائكة الله الملك الواحد منهم لو بسط جناحه لسد الأفق، مع ذلك يسكت ولا يستطيع أن يتكلم ذلاً لله عز وجل، مع ما أعطاهم الله عز وجل من البسطة في الجسم، فيخنس أمام عظمة الله عز وجل، ويذل أمام قهر الله عز وجل في ذلك اليوم العظيم، مع أن الملائكة لم تذنب لكن من عظمة الله عز وجل وهيبة السؤال سكتت، هذا من عرصات وأهوال يوم القيامة، تسأل عن كل الأفعال، وعن جميع الأقوال، تعرض على الإنسان كاملة لا ينسى منها مثقال خردلة، نسأل الله أن ينجينا وإياكم من ذلك الموقف، وأن يجعل حسابنا وحسابكم يسيراً وألا يجعله عسيراً، والله تعالى أعلم.
الجواب: أولاً أهنيك بنعمة الله عز وجل عليك بالتوبة، فإن الله لا يمن بالتوبة إلا لمن أحب، ولا يقذف الله التوبة والندم في قلب إنسان إلا وهو يحبه سبحانه وتعالى، وبداية الخير كما يقول العلماء: الندم، والتوبة باعث من بواعث الندم، أو ثمرة من ثمرات الندم، فمادام أنك قد تبت وأقبلت على الله عز وجل فازدد إقبالاً على الله عز وجل، وانظر إلى الراحة النفسية التي وجدتها في الإقبال على الله، أما أصحابك فأوصيك بأمرين: الأمر الأول: إذا جاءوك فما المانع أن تكون لهم مشعل هداية، ذكّرهم بالله، أوصيك أخي في الله! إذا جلست معهم أن تذكرهم بالجنة والنار، وذكرهم بنعم الله عز وجل عليهم بالليل والنهار الذي يتقلبون ويتنعمون فيهما، وادعهم إلى طاعة الله، وما يدريك لعل النصيحة تخرج من قلبك، فيشرح الله بها صدر إنسان لا يصلي ولا يطيع، فيكون في ميزان حسناتك، بعض الشباب موفق إذا دخلت الهداية في قلبه لا يرتاح حتى يدخل الناس في هداية الله عز وجل، بعض الناس مبارك عندما يذوق طعم الهداية لا يرتاح حتى يبلغها عن الله عز وجل إلى غيره، وهذا والله من خير الناس وأعلاهم منزلة، فإذا أحب الله عز وجل وذاق لذة الهداية أحب أن يعطيها لكل إنسان، فيذهب إلى إخوانه الذين كانوا معه قبل الهداية لكي يقول لهم: إني وجدت الراحة في القرب من الله، يذكرهم بالله عز وجل، يا أخي! عندك سلعة غالية، وكلمة ثمينة، وحياة طيبة، انظر إلى الأخ الذي لا خير فيه يأتي ويجلس معك فيقول: يا فلان ما رأيك أن تسهر معنا في هذه الليلة، فالسهر على البحر فيه وفيه وفيه! المهم أنه يحسِّن ويزين لك معصية، لماذا لا تقول له: يا أخي! ما رأيك لو ذهبنا إلى المسجد؟ ما دام أنه يعرض عليك سلعة الهلاك والفساد، فلماذا لا تعرض عليه سلعة النجاة والصلاح، قل له: يا أخي! ما رأيك أن تجرب مرة واحدة أن نذهب إلى المسجد، قد توفق وتأخذ شخصاً عاصياً إلى جلسة من مجالس الخير، فيشرح الله صدره ويكون في ميزان حسناتك، هذه تجارة رابحة، ولربما أن الله يغفر ذنوبك حينما تهدي الناس إليه.
جربوا يا إخوان! هذا دينكم ودين آبائكم وأجدادكم، إن تبليغ الدين شرف والله لك، ليس بعيب ولا ذلة ولا مهانة أن تبلغ الرسالة، بل شرف لك، هذا دينك ودين آبائك، ليس بعيب أن تطيع الله، وليس بعيب أن تذل لله، ولكن العيب كل العيب أن نأكل من طعامه وأن نشرب من شرابه وأن نكفر نعمته، هذا هو العيب والله، والعيب كل العيب أن يظل الإنسان يكفر بنعمة الله عليه، ويدعو إلى معصية الله، أما أن تدعو إلى طاعة الله فهو شرف، ذكِّر قرناء السوء بالله عز وجل، قل لهم: والله إن الحياة التي أنتم تعيشونها كنت أعيشها وأجد العذاب، ما وجدت الراحة إلا في القرب من الله، واعرض عليهم سلعة الله.
الأمر الثاني: إذا لم يطيعوك فادع الله لهم بالهداية واجتنبهم وسيعوضك الله خيراً منهم، اعلم أنك ما تركت شيئاً لله إلا عوضك الله خيراً منه، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعينك على البعد عنهم، وأن يهديهم إن كان الله أراد لهم الهداية، وإلا صرف قلوبهم عنك، وصرف قلبك عنهم إلى الأخيار، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.
الجواب: الطريقة المختصرة هي أن تدعو الله عز وجل، قل: اللهم إني أسألك قلباً خاشعاً، والله عز وجل بيده الخشوع، في لحظة واحدة يكون القلب أقسى ما يكون وإذا بالله عز وجل يقذف في قلبك نور الخشوع، وإذا بك ما تسمع آية إلا وتخشع، ولا تسمع أحداً يقول لك كلمة من كتاب الله إلا خشعت لها، ولذلك تجد بعض الناس إذا اهتدى بمجرد ما يسمع القرآن يتعلق بالله عز وجل، ما يتحمل، لو تلوت عليه آية من كتاب الله يبكي من كمال خشوعه، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، فمن حرم الخشوع فقد حرم خيراً كثيراً، ونسأل الله أن يجعل قلوبنا وقلوبكم خاشعة لله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر:22].
فالمقصود إذا أردت الخشوع فأول شيء تقوم به هو أن تدعو الله، ثاني شيء إذا أردت الخشوع أن تزور الصالحين، وثالث شيء أن تغشى المحاضرات والندوات الطيبة، ورابع شيء أن تقرأ القرآن وتتأثر بالقرآن، وبإذن الله ستجد الخشوع، نسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم خشوع القلب وخشوع الجوارح، والله تعالى أعلم.
الجواب: الله المستعان، الله أكبر، سبحان الله! لو تصور هذا الإنسان أنه واقف بين يدي الله عز وجل في عرصات يوم القيامة، وقال الله له: أما تستحيي يا عبدي؟! أما ترى الأعمى الذي لا يبصر وأنا نورتك بهذا البصر تنظر به إلى محارمي؟ وهذه المعصية قد يراها الإنسان معصية واحدة فقط أو مشهداً واحداً مقطعاً معيناً من (فيلم) يدعو إلى محارم الله، قد يغضب الله عز وجل على العبد غضباً لا رضا بعده -نسأل الله السلامة والعافية-، وقد ينطفئ نور الإيمان في القلب فيصبح القلب مظلماً إلى أن يلقى الله عز وجل، المعاصي خطيرة يا إخوان! المعاصي تميت القلوب، وتطفئ منها نور الإيمان، الله الله! إذا جئت يوم القيامة ووقفت بين يدي الله عز وجل، وعرضت عليك هذه المشاهد ما تخرم منها مشهداً واحداً، وقلعت هذه العين بمسامير النار، وكحلت بكحل النار، وقد يجد الإنسان لمشاهدتها لذة لكنها حسرة وندامة يوم القيامة، ثم يسأل الإنسان نفسه سؤالاً صادقاً، يا أخي! اسأل نفسك: ما الذي جنيته من هذه المشاهد؟ ما هي الثمرة؟ وما هي الفائدة؟ رأيت وتمتعت، لكن ما هي العاقبة؟ نظرت في الصحيفة حتى إذا جئت في عرصات يوم القيامة، عرض عليك الكتاب، وإذا فيه هذه النظرة التي لا ترضي الله عز وجل عنك.
يقولون عن رجل: إنه كان من طلاب العلم، وكان مع أحد العلماء، فذات يوم كان هناك غلام نصراني -والعياذ بالله- كافر، وكان الغلام له صورة جميلة، ففتن به طالب العلم ونظر إليه، فلما نظر إليه نظرة جاء الشيخ ورآه ينظر، فقال له: لماذا تنظر؟ فكف الطالب، فقال الشيخ للطالب: والله لتجدن أثر هذه السيئة ولو بعد حين، يعني: سيعاقبك الله عليها ولو في آخر حياتك، يقول هذا الطالب: فما زلت أنتظر هذه العقوبة، فمكثت عشرين سنة -وهذه القصة ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين- يقول: مكثت عشرين سنة وأنا أنتظر العقوبة، وإذا بي في ليلة من الليالي نمت -وهو حافظ للقرآن- فأصبحت فأنسيت كتاب الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية.
فالذنب قد يستهين به الإنسان في جنب الله لكنه عظيم، ولذلك قال بعض السلف: (لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت)، النظرة الواحدة قد تدمر حياة الإنسان كلها، نظرة واحدة إلى الحرام! فالله الله يا أخي في الله، أنا لا أقنطك من رحمة الله، ولا أيئسك من روح الله، ولكن أبشر بكل خير، أريد منك دمعة تدمعها على ما فات من هذه الأفلام، أريد منك أن تجلس يوماً لوحدك في الغرفة وتتذكر وتقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، أي خسارة بليت بها؟! الله أعطاني البصر وهذه النعمة فنظرت بها إلى الحرام! كم من (فيلم) نظرت؟ وكم من مشهد رأيت؟ كيف ألقى الله؟ فتحترق من داخل قلبك حتى تدمع، ولعل هذه الدمعة تغسل ذنوب العمر، أريد منك هذه الدمعة وأنت خالٍ، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشَّر من دمع هذه الدمعة أن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، عندما قال في السبعة -نسأل الله أن يجعلنا الله وإياكم منهم- الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: (ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) أي: من خشية الله عز وجل، فادمع هذه الدمعة.
الأمر الثاني: أوصيك أخي! أن تقلع عن هذه المعاصي، وأن تبتعد عنها، والله سيعينك، والله ما عقدت في نفسك أنك تتوب عن شيء إلا وفقك الله، والشيطان يأتيك ويقول: لا. أنت فعلت كذا، وأنت رأيت كثيراً، فلا توبة لك، يقنطه، والله لو غرق الإنسان في المعاصي من أخمص قدمه إلى شعر رأسه وأحسن الظن بالله، فإن الله يهديه ويوفقه.
فهذان الأمران اللذان أدعوك إليهما: ترك المعصية، والندم على ما كان منك فيها وحسن الظن بالله، وأسأل الله العظيم أن يبدل سيئاتك حسنات، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.
الجواب: التكاسل عن أداء بعض الصلوات علاجه أن تدعو الله عز وجل أن يجعلك من المصلين الذين هم على صلاتهم يحافظون، وعلى صلواتهم دائمون، وأن تتذكر لقاء الله عز وجل وحساب الله لك عن هذه الصلاة؛ لأن الله سيسألك عن هذه الصلاة، وسيحاسبك عن هذه الصلاة، فإذا علمت أن الله سيسألك عنها فإن هذا يدعوك إلى المحافظة عليها، وأسعد الناس في الصلاة من بكر إليها، والناس في الصلاة على مراتب: منهم من يبكر إليها، ومنهم من يأتيها عن دبر، وكل يفوز برحمة الله على قدر ما هو سابق إليه من رضوانه، فعليك أن تبادر إلى فعل الصلاة، والتكاسل عن الصلاة بتأخيرها يكون على صور، منها:
أولاً: عدم الصلاة مع الجماعة، وهذا فيه إثم وعقوبة، فإذا سمعت منادي الله يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فاجعل نصب عينيك فعل الصلاة، ولذلك كان الصحابة إذا أذّن المؤذن والسكين في اللحم ما يتم قطع اللحم حتى يصلي؛ وهذا من كمال الإجابة لله عز وجل.
الصورة الثانية من التقاعس عن الصلاة: تأخير الصلاة، يأتيك الشيطان ويقول لك: العشاء بقي له وقت، ليس هناك داع أن تذهب إلى المسجد، بل في بعض الأحيان يأتيك الشيطان يقول لك: لماذا تذهب إلى المسجد؟ أنت ترائي الناس؟ تريد الناس أن يقولوا عنك: إنك مصلٍ، يريد أن يخذِّلك عن طاعة الله، فاعقد العزم واذهب، وستحس في اليوم الأول أن الأمر ثقيل وقلبك ضيق، وفي اليوم الثاني يتسع، واليوم الثالث والرابع تصبح الصلاة مع الجماعة مثل الطعام والشراب اللذين لا صبر لك عنهما.
كان بعض السلف إذا فاتته الصلاة يبكي كالطفل، ذكروا عن بعض السلف قال الراوي: خرجت من صلاة العصر فوجدت الناس مجتمعين، فقلت: ما بهم؟ قالوا: فلان فاتته صلاة العصر يعزونه في صلاة العصر التي فاتته، يقولون له: مصيبة أصبت بها لما فاتتك صلاة العصر، فاتتك درجات وأجور، يعزونه لأنها مصيبة في الدين، فانظر رحمك الله! تفوته صلاة واحدة ومع ذلك يعزونه، بينما في وقتنا من تفوته صلوات كثيرة. نسأل الله السلامة والعافية!
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر