إسلام ويب

وصية نبويةللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من جوامع الكلم التي أوتيها نبينا صلى الله عليه وسلم قوله: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع …) الحديث، فقد اشتمل هذا الحديث على ثلاث وصايا شاملة لخيري الدنيا والآخرة، أولها: التقوى، فحري بكل مسلم أن يتمسك بها ويطبقها خير تطبيق.

    1.   

    صفحات مشرقة من تاريخ أبي ذر الغفاري

    الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إنه كان بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    إخواني في الله! إن الله إذا أحب عبداً من عباده ألهمه فعل الخيرات وترك الفواحش والمنكرات، وحبب إلى قلبه الباقيات الصالحات، فالحمد لله الذي جمعنا في هذا المكان الطيب المبارك في بيت من بيوت الله، وبعد هذه الفريضة من فرائض الله، فـ (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) ولقد وجبت محبة ربك للمتحابين فيه، وللمتجالسين فيه، وللمتزاورين فيه، فـ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].

    إخواني في الله! إن الله بعث نبيه بالهدى والنور، فشرح به القلوب، وأنار به الصدور، بعثه شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، فما ترك باب خير إلا دلنا عليه، ولا سبيل هدى ولا بر ولا طاعة إلا هدانا إليه، أخذ بمجامع قلوب الناس إلى ربها، ودلهم على الله خالقها وفاطرها، فيا لها من كلمات وعظات بالغات خشعت لها قلوب الصحابة والصحابيات! يوم وقف النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وصدع بكلمة الله في رحابهم، ففتح الله له قلوبهم وأسماعهم؛ فخشعت تلك القلوب لربها، وأصغت إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يذكرها ويعظها، وهذه كلمة من تلك الكلمات ووصية من الوصايا البالغات حفظها أبو ذر الصحابي الأغر البر، صاحب العلم والزهد جندب بن جنادة رضي الله عنه وأرضاه، وجعل طيب الجنة مسكنه ومثواه، رضي الله عن أبي ذر -صفحات الإيمان والتضحية والصبر- يوم خرج ودان أهله وعشيرته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً، خرج بقربة من الماء صغيرة، ولكن بقلب كبير يريد أن يضع فيه الإيمان بالله اللطيف الخبير، وجلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فعرض عليه التوحيد والإيمان، عرض عليه الوحي والقرآن، وعرض عليه نبذ الجاهلية والأوثان، فما فارقت قدما أبي ذر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: أشهد أن لا إله إلا الله، رضي الله عنه وأرضاه يوم أسلم لربه ومولاه؛ فبرقت أسارير السرور في وجه النبي صلى الله عليه وسلم.

    رضي الله عنه وأرضاه يوم أن أرضى رسول الله وأدخل السرور على حبيب الله صلى الله عليه وسلم، فما إن دخل ذلك الإيمان إلى ذلك القلب حتى تغلغل في سويدائه فقال: (والله لأصدعن بكلمة الحق بين ظهرانيهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أخاف عليك أن يقتلوك) فخرج رضي الله عنه وأرضاه مؤمناً موقناً متوكلاً، خرج لكي يقول كلمة الله، فخرج في يوم كان فيه خامس من أسلم على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل مسجد الكعبة وقد جلست فيه قريش برجالها وأبنائها، فوقف أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه عليهم وصاح صيحته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فما بقي رجل إلا قام إليه وضربه؛ حتى سالت دماؤه رضي الله عنه وأرضاه، فلما سالت دماؤه كتب أجره وعظم ثوابه، وخرج من الدنيا وله صفحة يوم ابتلي فيها في جنب الله، خرج من الدنيا وله يومٌ أوذي فيه في جنب الله وفي ذاته، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صدقه ومحبته وإيمانه أمره أن يسير إلى قومه مسير البشير النذير فخرج هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ فأسلمت غفار عن بكرة أبيها، وجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تؤمن بالله وتشهد بالنبوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف في ذلك اليوم عليه الصلاة والسلام، فلما رأى إسلامها قال عليه الصلاة والسلام: (غفار غفر الله لها) وغفار هم قوم أبي ذر ، بل ثمرة أبي ذر اليانعة، فرضي الله عنه وأرضاه.

    وما زال أبو ذر يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد المشاهد، يجاهد ويجالد حتى ابتلى ربك أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بالغزوات والمشاهد المباركات، فجاءت غزوة العسرة في زمان شديد الحر والقر، في شدة الصيف إلى عدو شديد كلبه، عظيم خطره، فندب النبي صلى الله عليه وسلم رجال الإيمان إلى أهل الجاهلية والأوثان، ندبهم صلى الله عليه وسلم إلى أهل الصليب وعبدة الأوثان، فخرج أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه مع نبي الهدى يجاهد العدى حتى سار المفازات، وقطع المسافات الشاسعات، لا يصيبه ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله إلا أُجر، حتى تعطل به بعيره عن المسير فوضع متاعه على ظهره وخرج في شدة الهاجرة والظهيرة -والمتاع على ظهره- يتصبب عرقاً فرآه الصحابة من بعيد فقالوا: فلان، لا بل فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: (كن أبا ذر رحمك الله يا أبا ذر تعيش وحيداً، وتموت فريداً) فعاش رضي الله عنه وأرضاه عيشة الإيمان والإحسان.

    1.   

    وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر

    في هذا اللقاء نقف أمام وصية من الوصايا سمعتها أذنا أبا ذر ووعاها قلبه، ونجلس اليوم نعطر مجالسنا بذكرها، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعظم أجره وثوابه عليها، اللهم اجعل قبره في هذه الساعة أنواراً، اللهم عظم أجره، اللهم نور قبره يا ذا الجلال والإكرام!

    وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك يا من تؤمن بالله، ويا من تؤمنين بالله، إليك يا من ترجو لقاء الله وتخافه وتتقيه، وتعلم علم اليقين أنك موقوف بين يديه، هذه الوصية ثلاث كلمات، كلمتان عظيمتان كريمتان بينك وبين الله جل جلاله، اثنان بينك وبين الرحمن، وثالثة بينك وبين الناس، من حفظ هذه الوصايا الثلاث حفظه الله جل جلاله.

    الوصية الأولى: تقوى الله

    هذه الوصايا الثلاث تزيد جمال المؤمن وكماله وبهاءه وزينته عند الله، استفتحها نبي الله صلى الله عليه وسلم بالوصية الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر رضي الله عنه وأرضاه: (اتق الله).

    التقوى وصية الله للأولين والآخرين ووصيته للأنبياء والمرسلين.

    التقوى: أن تعبد الله على نور من الله، ترجو ثواب الله وتخشى عقابه.

    التقوى ألا يراك الله حيث يحب أن يفقدك، ولا يفقدك حيث يحب أن يراك.

    التقوى نور في القلوب، ظهرت آثاره على الجوارح والقوالب، نور أسكنه الله في قلوب المؤمنين، فلا يعلم قدره أحد سواه، فالله أعلم بالمتقين والخائفين، وبالصادقين المخلصين.

    التقوى صفات أهل الإيمان، وخلال أهل الطاعة والإحسان، وَقَرت في القلوب والجنان.

    التقوى سبب الصلاح ومنبع الفلاح والإصلاح، أهلها الرابحون لا أشقياء ولا محرومون.

    أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم منها أوفر حظ ونصيب.

    تقوى الله أن تتقي الله -أول ما تتقيه- في إيمانك، أن تتقي الله في التزامك وهدايتك.

    تقوى الله أن تلتزم بدين الله وطاعته حتى إذا جاءتك المنية جاءتك على الخيرات والباقيات الصالحات، أن تتقي الله في التزامك وهدايتك وإيمانك، فتنصب وجهك لله لا لشيءٍ سواه، حتى إذا جاءك الأجل جاءك على الخيرات والباقيات الصالحات، فما زالت التقوى بأهلها حتى أخرجتهم بالروح والريحان والرحمة والرضوان ورب راض عنهم غير غضبان.

    التقوى تمسكٌ بحبل الله المتين، وسير على صراطه المستبين، حتى إذا جاءك الموت نعمت عينك عن ربك، ورأيت أمامك صحائف الأعمال والأقوال فقلت: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، وقلت بلسان الحال والمقال: اللهم إني راضٍ عنك فارض عني.

    يخرج التقي من الدنيا نقياً، خالياً من المعاصي سرياً، تحجر قلبه عند حدود الله، وتحفظت جوارحه عن محارم الله، فالله أعلم كم رجفت قلوب المتقين من هيبته، والله أعلم كم خافت قلوب المتقين من جلاله وخشيته.

    التقوى نور في القلوب وأثره في الجوارح والقوالب كما قال صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره وقلبه صلى الله عليه وسلم) قال بعض العلماء: اختار الله للتقوى أجلَّ الأماكن وأشرفها وهو القلب؛ حتى يكون العبد مخلصاً لوجهه جل جلاله. وأول ما ينبغي على المتقي أن يتقي الله في دينه وإيمانه، فلا يضحي بشيء من هذا الدين والإيمان، إذا التزمت واستقمت وآمنت تمسكت بحبل الله، واتقيت الله في نوره الذي قذفه في قلبك.

    هذا الإيمان والالتزام والهداية نور وضعه الله في قلبك وحرمه سواك، فاحمد الله على نعمته، واشكره على فضله ومنه وكرمه، لم يجعلك ساجداً لحجر، ولا معظماً لوثن ولا بقر، ولكن جعلك ساجداً لوجهه، ذلت له رقابنا، وخشعت له قلوبنا، وسجدت له جباهنا، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي، فكل يوم يمر على المهتدين حق عليهم أن يتقوا الله رب العالمين في التزامهم، ومن دلائل تقوى الملتزم لله أنه تثبت قدمه على طاعة الله جل جلاله، هذه الهداية رحمة فازدد منها حتى تكون من المهتدين، تزداد بعلم نافع وعمل صالح، تزداد منها بغشيان حلق الذكر وبمجالسة العلماء والصلحاء، تزداد منها بعشرة الأخيار والأبرار، تزاد منها بكلمة ترضي الله عنك أو خصلة من خصال الخير في يدك أو رجلك أو في جوارحك كلها.

    تقوى الله رحمة من الله، ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يهبه هذه الرحمة، وهذه الرحمة لا تنال بالأماني ولا بالشهوات والدعوات، ولكن بالدعاء الصادق لله جل جلاله أن يجعلك من المتقين، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم إني أسألك الهدى والتُقى) اللهم يا رب الأرباب! ويا سامع الدعاء! ويا واهب الخير وكاشف البلاء! أسألك أن تهب لي الهدى والتُقى، فاسأل الله أن يهبك هذا النور، سله في السجود وأدبار المكتوبات والأسحار والأذان والإقامة، وتحين حالة يخشع فيها قلبك، وتسأل فيها حاجة إلا قرنتها بتقوى الله جل جلاله، إن اتقيت الله أحبك، والله يحب المتقين، إن اتقيت الله فرج كربك، والله يفرج كرب المكروبين: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4] ومن يتق الله يجعل له من كل هم فرجاً؛ ومن كل ضيق مخرجاً، ويجعل له نوراً وفرقاناً يسير به إلى لقائه سبحانه وتعالى: (اتق الله حيث ما كنت) التقوى لا تكون في بيوت الله وحدها حتى إذا خرج الإنسان إلى تجارته أو مسكنه أو عمارته أو مزرعته كشَّر عن أنيابه لدنياه، وغفل عن لقاء ربه وأخراه، ولكنها لزمت القلوب وتعلقت بها حيثما كان الإنسان، إن سافر كان من المتقين، وإن أقام كان من المتقين، ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في السفر: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى) تقوى الله في كل زمان ومكان، وتقوى الله في الأقوال والأحوال، فإذا رضيت فاتق الله واشكره، وإذا أنعم عليك فاتق الله وتشكره، وإذا قرت عينك اتقيت الله وحمدته، فإن الله يرضى عن العبد إذا أكل الأكلة أن يحمده عليها وإذا شرب الشربة أن يحمده عليها، تقوى الله تكون في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وبين الناس وفي أهلك وولدك.

    الوصية الثانية: الإتيان بالحسنة بعد السيئة

    أما الوصية الثانية: فقد أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي الجليل ولكنها وصية للمؤمنين والمؤمنات، وصية للصالحين والصالحات، ووصية للعاصين والعاصيات، هذه الوصية ما أحوج المؤمن أن يتأملها وأن يتدبرها وأن ينظر فيها، فما أحكمه وما أعلمه صلوات ربي وسلامه عليه يوم جعل هذه الوصية تلو الوصية بتقوى الله! هذه الوصية الثانية، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها) السيئة: سماها الله وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم؛ لأنها تسوء صاحبها في الدنيا والبرزخ والآخرة.

    السيئة تسيء إلى صاحبها في الحياة وفي الممات، فلا تزال السيئة مكتوبة في ديوان العبد حتى يمحصه الله منها، إما ببلية في الدنيا أو بتوبة صادقة إلى الله قبل الموت، أو ببلية يصيبه بها أو بعذاب يبتليه به في قبره، أو بعذاب يبتليه به في حشره ونشره، السيئة بلاء وشقاء وعناء، من سلم منها فقد سلم، ومن بلي بها فقد حرم، إلا أن يرحمه الله برحمته.

    أعظم السيئات كفر بالله جل جلاله، وردة عن الإسلام وإعراض عن الله بالكلية: بالاستهزاء بالدين، أو الاستخفاف بالصالحين، أو التهكم بشعائر رب العالمين.

    أعظم السيئات: إطلاق اللسان في الفواحش والمنكرات، وإطلاق الجوارح في الفواحش والمنكرات، واستباحة حدود الله، وانتهاك محارم الله بسفك الدماء، والزنا، وشرب الخمور، وغير ذلك -والعياذ بالله- من معاصٍ وفجور، كلها شقاء وبلاء وعناء ينطمس بها نور الإيمان على قدرها عند الله العظيم الرحمن.

    ما زالت السيئة بصاحبها حتى أظلم وجهه وقلبه وتنكد عيشه، ولربما حجبت الرزق عنه والعياذ بالله.

    قال الفضيل رحمه الله: إذا رأيت الناس سبوك أو شتموك أو أهانوك؛ فاعلم أن لك ذنباً بينك وبين الله، وإذا رأيت الناس احتقروك أو ذموك أو عابوك فاعلم أنها السيئات جنت عليك في الحياة قبل الممات. فتب إلى الله قبل أن ينتقم الله منك.

    السيئة تسوء صاحبها في دينه فتطمس نور الإيمان من قلبه، قالوا: إنه ما من عاص يعصي الله إلا حرم من العلم على قدر معصيته، وقد يكون من الحفاظ فيسلبه الله نعمة الحفظ، وقد يكون من الخاشعين فيسلب نعمة الخشوع، وقد يكون من القائمين والذاكرين والمخبتين والمنيبين والصائمين فترفع هذه الحسنات بسبب ذنب بينه وبين الله جل جلاله.

    السيئة تسوء صاحبها حتى إذا حرم هذا الخير بكى حين لا ينفع البكاء والندم إلا أن يشاء الله جل جلاله.

    فلما علم صلى الله عليه وسلم -بل علم ربه الذي أرسله وبعثه- أننا لا نستطيع أن نتقيه كمال التقوى إلا أن يرحمنا برحمته، وعلم أن منا هنات وزلات وعيوب ومنكرات دلنا على علاجها، وأرشدنا إلى دوائها، فقال: (أَتبع السيئة الحسنة تمحها) قال بعض العلماء: الحسنة قول العبد الصالح: أستغفر الله .. أستغفر الله .. حسنة من أعظم الحسنات التي تمحو السيئات، وما من إنسان إلا عنده عورات وخطيئات ولو كان من صالح المؤمنين والمؤمنات، ولكن الله جل جلاله برحمته يرحمك، فأولاً: لا يبادرك بعقوبته، وثانياً: يتولى بجميل لطفه وعظيم رحمته وحلمه سترك وأنت تعصيه، سبحانه ما أحلمه وما أرحمه! حين يغلق العبد بابه على حد من حدود الله وهو يعلم علم اليقين أن الله يسمعه ويراه، وهو يعلم أن هذه الأرض التي يعصي عليها الله لو أذن لها لخسفت به، وأن هذه السماء التي يستظل بها لو أذن الله لها لأرسلت عليه ما يهلكه، ومع هذا كله يتولاه الله بالرحمة والستر تفضلاً منه وكرماً وجوداً سبحانه وتعالى، حتى إذا انتهى الإنسان من معصيته انطفأ نور الإيمان من قلبه على قدر ما أصاب من السيئات، فعاد قلبه مظلماً بعد النور، وعاد منقبضاً بعد الانشراح والسرور، عاد قلبه ضيقاً عليه فأرشده الله جل وعلا على لسان رسوله أن يتبع السيئة الحسنة، وأن يقول بقلب يستشعر الندم مليءٍ بالحزن والألم: اللهم إني أسأت وأنت المحسن إلي، وأذنبت وأنت الغافر الجواد الذي تمن عليَّ، فيريق دمعة من دموع الندم فلعلها تمحو ذنبه فلا يراه أبداً.

    علم الله أنا مذنبون ومقصرون، لكنه فتح أبواب رحمته، قال له إبليس: وعزتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني، فالله رحيم بعباده وحليم بخلقه.

    (اتبع السيئة الحسنة تمحها) إن كنت من الصالحين، فهذا نداء من النبي صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن صالح، ضعفت نفسه الأمارة بالسوء، فدعته إلى المنكرات والفواحش والشهوات فأصابه الهم أن يرجع إلى الله جل جلاله، ثم هذه الدعوة الطيبة المباركة لأقوام كانوا بيننا فابتعدوا عنا، كانوا فينا فأصبحوا ليسوا منا، لأقوام انتكسوا ورجعوا على أعقابهم فارتكسوا، هذا النداء الرحيم الحليم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها).

    يا من أذنبت وأسرفت وبعدت عن الله! يا من تغربت عن الله! أتبع السيئة الحسنة تمحها، قل في ساعة المعصية بقلب صادق: أستغفر الله، فإن الله يغفر الذنوب، قل في هذه الساعة: أتوب إلى الله، فإن الله يرحم التوابين والمستغفرين، تب إلى الله قبل أن يداهمك الممات وتصير إلى اللحود والرفات، فالله جل جلاله جعل هذه الوصية سلواناً للمسيئين والمذنبين، فرحماك يا أرحم الراحمين! ما أرحمك وما أحلمك بهذا الخلق من بني آدم! وصدق الله جل وعلا إذ يقول: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70].

    ما زال ربنا يكرمنا ونهين أنفسنا، ويرحمنا ونعذب أرواحنا، فاللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك.

    الوصية الثالثة: حسن الخلق مع الناس

    أحبتي في الله: الوصية الثالثة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصية بينك وبين خلق الله، سيرة عطرة، ومواقف جميلة جليلة، نظرة تحقق بها الإسلام والعبودية والهداية والالتزام، هذه الوصية العظيمة قسمة من الله جل وعلا، لا يعطيها إلا من أحب، ألا وهي الخلق الحسن، الذي سئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، سأله الصحابة رضوان الله عليهم وكلهم شوق إلى رحمة الله وجنته، سمعوا القرآن يدعوهم إلى الجنة، فوجهوا السؤال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الجنة التي وصفها الله في كتابه، أي شيء يكون سبباً في دخولها؟ وما هو أكثر ما يدخل الناس إلى الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (تقوى الله، وحسن الخلق) أكثر ما يُدخل الناس إلى الجنة تقوى الله وحسن الخلق.

    وإذا نصبت الموازين ونشرت الدواوين، فإن الإنسان أحوج ما يكون إلى الحسنات، حتى إذا قدم على الله جل وعلا وفي صحائف أعماله الأخلاق الكريمة ثقل الله ميزانه بها، قال صلى الله عليه وسلم: (أثقل شيء في الميزان: تقوى الله وحسن الخلق).

    وإذا دخلت إلى الجنة كانت أمنيتك مرافقة النبيين وجوار الصالحين مع الذين أنعم عليهم رب العالمين، نسأل الله العظيم أن يبلغنا الجنة بمنه ورحمته وهو أرحم الراحمين.

    يدخل العبد الجنة وكله شوق أن تكون منزلته في أعالي المنازل، فإذا دخلها وكان طيب الخلق رفعت درجاته ومنازله، ورأى أمام عينيه عواقب الأخلاق الحميدة، ومعاملة الناس والعطف عليهم، والشفقة على المسلمين وتفريج النكبات والفجائع عن المنكوبين، رآها أمام عينيه جزاءً وفاقاً، فما جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ، رآها عند رب كريم منان لا يضيع عمل العاملين وسعي الساعين، قال صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا المعنى: (ألا أنبئكم) أي: ألا أحدثكم، ألا أخبركم، فنبأنا بأمر غيبـي لا تراه عيوننا ولا تسمعه آذاننا، عالم غير العالم الذي نحن فيه، ألا أنبئكم عن أمر من غيب أطلعه الله علي جل جلاله: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة) فما أعظمها من كلمة! وما أعظمه من وصف! (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون) أن تكون مسلماً منقاداً لله مستسلماً، قد سلم المسلمون من يدك ولسانك وزلات جوارحك وأركانك، تستقيم على طاعة الله، حتى إذا رآك العبد كأنه يرى شمائل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن من الأخيار من لو رأيته ذكرت الله عند رؤيته، من الأخيار من إذا سمعت قوله في حال الغضب أو سمعت قوله في حال الرضا علمت أن وراء هذا القول قلباً يخاف الله جل جلاله، الأخلاق الحميدة تعيش بها حميداً، وتموت بها قرير العين راضياً عن ربك سعيداً، مات أناس وهم في الناس أحياء بسيرتهم العطرة وأخلاقهم الجليلة الجميلة النظرة، عاشوا في الناس وهم أموات في القبور، يذكرون بالجميل، ويترحم عليهم الحقير والجليل، فرحمة الله على تلك القلوب المؤمنة، وتلك الجوارح التي أرادت وجه الله جل جلاله في سعيها.

    أحبتي في الله! الأخلاق عطية من الله لا بالتملق والنفاق والرياء، ولا بالكلمات المعسولة والقلوب التي مُلئت حمقاً وغيظاً على المسلمين، ولكن قول سديد وعمل صالح رشيد، تعلم أن وراءه عبداً يرجو الوعد ويخاف الوعيد.

    الأخلاق منحة من الله جل جلاله، ألا وإن أحق الناس بأخلاقك وأحق الناس بعطفك وحنانك وبرك وإحسانك ومن تظهر له الخلق الحسن والداك: أمك وأبوك: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24]، كان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه إذا وقف على الباب وأمه بالبيت قرع الباب وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، رحمك الله يا أماه كما ربيتني صغيراً، فقالت أمه: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، رحمك الله يا بني كما بررتني كبيراً.

    وكان عثمان رضي الله عنه وأرضاه لا يرفع بصره في وجه أمه كما تقول عائشة : [كان أبر الناس بأمه لا يرفع بصره إلى وجهها].

    وسئل بعض السلف: ما بلغ بك من برك لأبيك؟ قال: والله ما رقيت على سطح تحته أبي أو أمي.

    وقيل لثالث: ما بلغ بك من برك لوالديك؟ قال: والله ما طعمت معهما من قصعة واحدة، قيل: أو ذاك من البر؟ قال: أخشى أن تمتد يدي إلى طعام يحبانه.

    وكان بعض الأخيار إذا قدم بالمال إلى والديه يضع المال أمام والده، فقيل له: ما هذا؟ قال: إنني أخشى إذا مددت يدي أن تعلو يدي على يد أبي فيكون فضلي على أبي، وفضله عليَّ على فضلي عليه.

    وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم إذا طلبت أمه الحاجة ولم يفهم كلامها، لم يستطع أن يستبين منها حتى يخرج ويسأل من كان جالساً: ماذا تقول أمه؟.

    وكان محمد بن سيرين سيداً من سادات التابعين، وإماماً من العلماء المجتهدين، رحمة الله عليهم أجمعين، هذا الإمام العظيم كان ديواناً في العلم من تلامذة أنس بن مالك ، وكان في غاية من العلم والصلاح والورع وتقوى الله جل جلاله، قال بعض من صحبه وقد جاوره: كان إذا جن الليل سمعنا بكاءه بالقرآن في الظلمات، وكان إذا جلس مع أصحابه ضحك ومزح وأدخل السرور عليهم، فإذا دخلت أمه عليه خشع كأنه مصاب بمصيبة رحمة الله عليه.

    كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يبرون بالوالدين، أحق الناس بعطفك وإحسانك وبرك والداك، فمن مجلسك هذا تعاهد الله على أن تغير في أخلاقك ومعاملتك، قال بعض السلف: من عبس وجهه بحضور والديه فقد عق والديه.

    وقال بعضهم: من نادى أباه باسمه فقد عقه، ومن نادى أمه باسمها فقد عقها، إنما يقول: يا أماه، ويقول: يا أبتاه. هذه من البر والأخلاق الحميدة، فلا تزال تبر الوالدين فتقوم من عندهما وقد رفعت الدعوات إلى الله لك بالأمور التي تنشرح بها الصدور وتأمن بها من هول البعث والنشور، وما زال البار يبر والديه حتى استجاب الله دعوته وفرج الله نكبته وكربته، كما في حديث الثلاثة الذين في الغار، وما زال البار يبر والديه حتى عزت عند الله دعوته فما رد له دعوة سأله فيها، كما في قصة أويس القرني رحمة الله عليه.

    أحق الناس بأخلاقك الحميدة زوجتك وأهلك وأولادك، تكون على شمائل عطرة، سل عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، سل عن أخلاقه العطرة ومواقفه الجميلة الجليلة النضرة مع الصغير والكبير، وخذ ذلك المثال الذي يحتذى به، هذا هو الالتزام وهذه هي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لك: (وخالق الناس بخلق حسن) فتبدأ أول ما تبدأ بوالديك ثم بأهلك وأولادك، تدخل إليهم حليماً رفيقاً براً رقيقاً، حتى تكسب تلك القلوب بالحنان والمودة والإحسان، وكم من أب ما زال يحسن إلى أهله حتى خرج من الدنيا وقد أسر قلوبهم بالجميل، وكم من زوج صالح خرج من الدنيا وقد أسر قلب امرأته بالجميل والعمل الصالح الجليل.

    أحبتي في الله! الأهل أحوج ما يكونون إلى الأخلاق الحميدة، فالعفو عن زلتهم، والصبر على أذيتهم، واحتساب الأجر فيما يكون منهم.

    كذلك أحق الناس بأخلاقك الحميدة العلماء والدعاة إلى الله، فيذكرون بالجميل، ومن ذكرهم بغير ذلك تنقصاً فقد ضل عن سواء السبيل.

    العلماء مشاعل الحكمة والنور، أهل الهدى والخير والرحمة والبشر والسرور -فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعظم أجورهم، وأن يشرح صدورهم، وأن يخلد حبهم في العباد- فحبهم في الله قربى، والدعاء لهم بظهر الغيب حسنة، لا يحبهم إلا مؤمن يخاف الله، ولا يذكرهم بالجليل إلا من يتقي الله، فهم أحق الناس بالأخلاق الحميدة، فإذا رأيت العالم فتواضع له وأجله وأكرمه، كان ابن عباس رضي الله عنهما -حبر الأمة وترجمان القرآن وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أرفع الناس علماً ونسباً وفضلاً ونبلاً- كان ينام على عتبة زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، فالعلماء حقهم كبير، عيون سهرت وقد نامت عيون الناس، سهرت على مشاكل المسلمين وهمومهم وغمومهم ومسائلهم، فالله أعلم كم تكبدوا من مشاق، وصدعوا بحق دمغ أهل الزيغ والنفاق، العلماء حقهم كبير، فكن -رحمك الله- من أحسن الناس خلقاً مع العلماء، وإذا جلست بين يدي عالم فكن التلميذ المبرز في الخلق الحميد، وإذا جلست في مجلسه فكن التلميذ المبرز في الكلمات الطيبة التي تدل على إجلال من أمر الله بإجلاله، وتعظيم من أمر الله بتعظيمه، وتوقير من أمر الله بتوقيره، فتلك سنة الصالحين، ودأب عباد الله المتقين جعلنا الله وإياكم منهم أجمعين.

    ثم أحق الناس بالخلق الحسن الضعفاء والفقراء واليتامى والثكالى، فتواضع لهم فإن رحمة الله في التواضع لهم، وأدخل السرور عليهم فمن سرهم سره الله يوم المساءة، تفقد عورات المسلمين والضعفة والمحتاجين، وافتح قلبك لهمومهم وأحزانهم، واحتسب عند الله جل جلاله، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولعل مالاً تنفقه يحجبك الله به عن النار، ولعل كربة تفرجها يفرج الله عنك بها كربة يوم القرار، احتسب عند الله في ضعفة المسلمين فإنهم أحق الناس بعطفك وحنانك، واحتسب عند الله جل وعلا ألا يراك العبد إلا على فعل جليل، وألا يسمع الناس منك إلا القول الجميل.

    أحبتي في الله! عشنا مع وصية من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشنا مع هذه الوصية وقد نقلت اليوم إلينا فهي إما حجة لنا أو حجة علينا.

    اللهم إن نسألك بعزتك وجلالك وعظمتك وكمالك أن تجعل علمنا نافعاً وصالحاً، وأن تجعله حجة لنا لا حجة علينا.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.

    1.   

    الأسئلة

    كيفية اكتساب الاستقامة

    السؤال: فضيلة الشيخ كيف نكسب الاستقامة ونحافظ عليها؟ وجزاكم الله عنا خير الجزاء؟

    الجواب: الاستقامة نعمة من الله جل وعلا لا يمكن أن تنالها إلا بدعوة صالحة، سل الله أن يجعلك من عباده المستقيمين، وأن يثبتك على ذلك إلى لقائه سبحانه وهو رب العالمين، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول في دعائه: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) سل الله أن يرزقك الاستقامة.

    ثانياً: أن تأخذ بالأسباب التي تعين على الاستقامة، وأعظمها وأجلها العلم النافع، فإن العلم النافع نور يستنير به الإنسان في طريقه إلى الله جل جلاله، اطلب العلم: فاحرص على مجالس العلماء، واحرص على محاضرات العلماء والدعاة إلى الله، واحرص على مجالس الذكر فإنهم قوم لا يشقى بهم جليسهم، فلا تزال تجلس مع الصالحين حتى يبلغك الله فضلهم، ولعلك أن تكون خيراً منهم فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، الحرص على مجالس العلماء والأخيار من أعظم الأسباب التي تعين على الاستقامة، فكثير من الشباب -إلا من رحم الله- يستقيم، ثم يحس بظلمة قلبه وقسوته؛ لأنه كان في بداية أمره لا يسمع بمجلس ذكر إلا حضره، ولا يسمع بكلمة خير إلا أصغى إليها وفتح قلبه لها وطبقها بجوارحه وأركانه، فلما غير من حاله غير الله عنه، وصدق الله إذ يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].

    الأمر الثالث: جناحا سلامة تطير بهما إلى الله: خوف صادق من الله، ورجاء صادق في رحمة الله، فتربي قلبك على الخوف الصادق من الله جل جلاله، واستشعارك دائماً لعظمة الله وبطشه وهيبته، وأنك تحت رحمته جل جلاله.

    وأيضاً: حبك الذي هو الرجاء، وحبك لرحمة الله وشوقك إلى حلمه وعفوه وإحسانه ومنه وكرمه، فإذا حصل عندك الأمران: الخوف الصادق، والرجاء الصادق أمنت وسرت على نهج الله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90]، هؤلاء أهل الاستقامة يقول الله عنهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] يدعوننا رغباً فيما عندنا من الخير ورهباً من الوعيد، وما عندنا من العذاب والنكال: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان:47-48] خوف من الله جل جلاله، والاستشعار لظلمات القبر، وهول البعث والنشر، وزلات الصراط، وهيبة سؤال الله جل جلاله يوم القيامة، فإذا استشعرت هذا الخوف نقلك إلى الطاعات وجعل أخلاقك حميدة وسيرتك سوية مستقيمة، كلما دعتك نفسك الأمارة بالسوء حبسها ومنعها الخوف من الله جل جلاله، وشوقها -إذا حصلت منها السآمة والملل في طاعة الله- إلى نعيم الله ورحمته، فالدعاء وغشيان حلق الذكر والخوف الصادق والرجاء الصادق في الله جل جلاله: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16] فاحرص رحمك على هذه الثلاث الخلال، أسأل الله العظيم أن يجعلنا من عباده المستقيمين. والله تعالى أعلم.

    أكثر ما يكون الثبات والأجر عند الفتن والإيذاء

    السؤال: أنا شاب كنت ضالاً فهداني الله، ولكن عندي أبٌ يرتكب بعض المعاصي، وتضايق كثيراً من التزامي حتى أنه إذا رأى معي كتاباً مزقه، ففي مرة من المرات كاد أن يمزق المصحف وحاول أن يدوسه بقدمه، فلما رأيت منه ذلك تركت الصلاة وابتعدت عن أهل الخير، ومنَّ الله عليَّ بشاب طيب زارني وناصحني، وأبشركم أني رجعت -ولله الحمد- إلى المساجد، فما نصيحتكم كيف أتعامل مع والدي؟

    الجواب: أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدي والدك، أسأل الله العظيم أن يشرح صدره وأن ينور قلبه وأن يمنَّ عليه بالتوبة إليه، إن ما فعله أمر عظيم، ما فعله كفر وردة -والعياذ بالله- وإذا مات فإن الجنة عليه حرام -نسأل الله السلامة والعافية- أعوذ بالله من سخط الله، ونعوذ بالله من كل شيء لا يرضي الله.

    أخي في الله! الحمد الله الذي هدانا وهداك واجتبانا واجتباك فأهنئك بنعمة الله عليك، فقل من كل قلبك وفؤادك: الحمد لله، فإن الله يحب الحامدين، فاحمد الله على نعمته، ولولا أن الله يريد بك خيراً ما قيض من ينتشلك، وأسأل الله أن يجزي هذا الأخ كل خير، وأسأل الله أن يعظم أجره وأن يوفقه، ويوفق أمثالاً من هؤلاء الذين نشهد الله أن الأمة كلها خاسرة إلا أمثال هؤلاء: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] فهنيئاً له هذا الفضل الذي وفقه الله له حينما كتب هدايته عليك، ثم أوصيك أخي في الله: أن تجعل الجنة والنار نصب عينيك، ولا عليك من سخرية الساخرين ولا استهزاء المستهزئين، فإن في الله عوض عن الخلق أجمعين: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27] كان موحداً حنيفياً على وجه الأرض يوم لا أحد سواه في قومه وعشيرته يؤمن بالله، فلما رأى هذا الإعراض منهم عن الله قال: إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة:4] فأعرض عنهم فعذبوه وآذوه، ثم انظر كيف يعامل ربك عباده الأخيار؟ ما خاب أحد عامل الله وصدق مع الله، بل إنه إذا صدق الله صدق الله معه، خرج من قومه وعشيرته، فأبدله الله الأرض المقدسة أرضاً أبرك وأطهر من الأرض التي كان عليها ثم فارق أباه فجعل الله في ذريته النبوة والكتاب إلى يوم الدين خلف من الله عز وجل، فاستعصم بالله وإياك أن تعيد الكرة، فبمجرد أن ترى من أبيك أو من قريبك الاستهزاء تضعف، فإن المؤمن قوي، المؤمن لا تزيده الفتن والمحن إلا ثباتاً وقوة وصبراً على طاعة الله جل جلاله: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [الجمعة:4] فنسأل الله أن يثبت قلوبنا بالتثبيت، إياك أن ترجع لها، وإياك أن تعود، فاثبت بتثبيت الله جل جلاله، ولو رأيته مزق المصحف فمزق من قلبك حبه، وانزع من قلبك ولاءه، واجعل حبك لله ولو كان أقرب الناس منك، ولو كان أباك أو أمك ولو كان أقرب الناس إليك، فعدو الله عدوك، وولي الله وليك ولو كان من كان من الخلق والناس، فكن مع الله صادقاً بصدقك.

    أولاً: أوصيك فيما بينك وبين الله ببغضه في الله لأجل عمله، والقلوب لا سلطان لأحد عليها إلا الله جل جلاله، فالله يحاسبنا على محبة أعدائه أو موالاة من لا يرضاه سبحانه وتعالى، القلب ليس لأحد عليه سلطان، فهذا لا تعذر فيه أباك، ولا تواليه ولا تحبه في الله جل جلاله، بل تبغضه في الله سبحانه وتعالى، وهذا البغض عمل قلبي يرفع الله به درجتك ويعظم الله به أجرك ويصلح به أمرك.

    الأمر الثاني: نصيحة صادقة، واهتداء بهدي الأنبياء والمرسلين واتباع للخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ذكره بالله جل جلاله، واغتنم أفضل الأوقات لتذكيره بالله، حتى تعذر إلى الله وتنفض من ثوبك ومن عهدتك المسئولية بين يدي الله جل جلاله، استشعر آناء الليل وأطراف النهار أن الله سائلك عنه، فالله سيسألك عن هذا الأب، فابذل كل ما تستطيع لنصحه، وله عليك فضل كبير بعد فضل الله عز وجل، فليكن من رد المعروف أن تهديه، ثم دعوة صادقة في دياجير الظلمات والسجود، ودعوة صادقة تخرجها من قلب مؤمن بالله جل جلاله إلى مقلب القلوب ومصلح الأحوال علاَّم الغيوب سبحانه أن يهديه، وقل: رب أسألك أن تنعم عيني فأرى أبي من الساجدين، وأن تنعم عيني فأرى أبي من المطيعين والمؤمنين المخبتين، وما ذلك على الله بعزيز، هو على الله هين، أمره بين الكاف والنون سبحانه وتعالى، والقلوب بين إصبعين من أصابعه، فاسأل الله فإن العطية من الله جل جلاله.

    أما الوصية الأخيرة: فاصبر على الأذى واحتمل لوجه الله جل وعلا، قال عروة بن الزبير : [والله ما قام أحد مقاماً لله فأهين فيه إلا أقامه الله مقاماً أعز منه وأكمل] فإذا أهانك في البيت فاعلم أن الله سيجعل لك يوماً تكرم فيه في هذا البيت، أهانت قريش نبي الأمة على الصفا حين دعاها إلى التوحيد؛ فجاء اليوم الذي تحته عليه الصلاة والسلام مائة ألف من أمته وأصحابه يحجون كحجه -صلوات الله وسلامه عليه- ووقف على الصفا فقال: الله أكبر، فكان أول ما قال: الله أكبر، بالأمس يهان على هذا الجبل، واليوم الأمة كلها تقول: ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بالأمس يقولون له: الصابئ والأبتر والكذاب، وحاشاه! واليوم يقولون: ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ويقتتل الرجال والنساء حتى يرون شخصه ماذا يفعل من هديه صلوات الله وسلامه عليه، فاعلم أن الله عز وجل يخلفك بخير، فإذا استهزأ بك فإن الله لا يستهزئ بك، وإن استخف بك فإن الله يجلك ويكرمك، وهذا الاستهزاء والسخرية التي تسمعها من إخوانك وأخواتك وأولادك وزوجك ما هي إلا حسنات تخط لك في دواوين الحسنات، فقر عندها عيناً، وارض عن الله لعل الله أن يرضيك، والله تعالى أعلم.

    حكم تزين كبيرة السن بالكحل والطيب وغيره أمام الأجانب

    السؤال: أنا امرأة أبلغ من العمر خمساً وخمسين سنة، وألبس البرقع والحلي، وأضع الكحل في العينين، وأضع الطيب وأخرج إلى الأسواق أو إلى المسجد وأنا بهذه الحال، فهل هذا أمر يجوز أم أنا من القواعد؟

    الجواب: يا أمة الله، اتقي الله عز وجل في جمالك، واتقيه في وجهك ولو كنت بهذا السن، إن الله أباح لك عند الكبر أن تكشفي للنظر، أما أن تتبرجي بالزينة فيأبى الله ويأبى عباده الأخيار، فتنة للناظر وفتنة للمنظور، فاتقي الله -يا أمة الله- وأنت خارجة إلى بيوت الله ومساجد الله أن تفتني عباد الله، فلكل ساقطة لاقطة، فاتقي الله عز وجل، لا يجوز لك أن تضعي الكحل على العينين، ولو أُذن لك بكشف العينين للحاجة؛ لأن كبيرة السن يضعف بصرها وتقل الفتنة فيها، فلذلك جاز لها أن تضع عن عينها الحجاب من أجل الحاجة، وليس من أجل أن تفتن نفسها وتفتن عباد الله، فاتقي الله يا أمة الله وتوبي إلى الله مما تصنعين، أما الطيب فإنه حرام ويعتبر على النساء من الآثام؛ لأن المرأة إذا مرت على الرجال فشموا طيبها نظروا إلى مصدر الطيب ففتنوا بالنظر إلى المرأة، ولو كانت عجوزاً في آخر عمرها، إن وضع الطيب للنساء إنما هو ما خفي ريحه وبدا لونه، والطيب للرجال ما بدا ريحه وخفي لونه، فهذه هي السنة المأثورة والمعروفة المشهورة، فكوني على السنة، وابتعدي عن الفتن والمحن خير لك في الدين والدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.

    مخالفة أمر الله لأجل إرضاء الزوج لا تجوز

    السؤال: أنا أوقظ زوجي لصلاة الفجر، ومع ذلك يغضب عليَّ ويهجرني ولا يكلمني؛ لأنني أيقظته للصلاة، بحجة: أنه يأتي من العمل وهو متعب، فيريد أن يرتاح في هذا الوقت؟

    الجواب: جزاك الله كل خير، عظم الله أجرك وأحسن ثوابك، اشكري نعمة الله عز وجل عليكِ يوم نظر إليكِ في بيتك ومع زوجك وأنت تأمرينه بطاعة الله جل جلاله، هنيئاً لكِ هذا الفضل يوم أمرتِ بما أمر الله ونهيتِ عما نهى الله عنه، فذلك شأن الأخيار والصفوة الأبرار، وتلك نعمة الله جل وعلا يمن بها على من يشاء، فاحمدي فضل الله عليكِ إذ جعلك امرأة صالحة، توقظي زوجك إذا نام، وتنبهيه إذا غفل، وتحيي قلبه بذكر الله جل جلاله.

    أختي المؤمنة! استمري على ما أنتِ عليه، فإن غضب عليكِ فإن الله لا يغضب، وإن غضب عليك رضي الله، وإن أرضيتِ الله أرضى عنك الناس، قال صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس) فأرضي الله جل وعلا ولو سخط زوجكِ ولو هجرك ولو غضب عليك، فبلغي رسالة الله وذكريه بالله حتى تنعم عينك غداً بثواب الله، والله تعالى أعلم.

    من أصيب بالعجب فليتذكر نعم الله عليه

    السؤال: كيف نتخلص من العجب بالعمل؟

    الجواب: الله المستعان، هل عندنا عمل حتى نعجب؟! الله المستعان، أين قيام الليل؟! وأين صيام النهار؟! أين بكاء الأسحار؟! وأين القنوت؟! وأين الخشوع الذي رفع من القلوب إلا ما شاء الله جل جلاله؟! كان الرجل إذا نُظر إليه ذُكِر الله جل جلاله، لا شك أن نعمة الله علينا عظيمة ولكن نغتر بماذا؟ مع السيئات والخطيئات وفتن النظر وفضول الكلام؟! تأمل نفسك يوماً كاملاً -ولو كنت أعبد الناس- هل سلم المسلمون من لسانك؟! تأمل يوماً كاملاً ما الذي قلته منذ أن أنعم الله عليك فأحياك وأمات غيرك، فقمت من صباحك الباكر إلى أن أويت إلى فراشك ما الذي تكلمت به وما الذي قلته؟ وانظر إلى الذي قلته من الكلام الذي يرضي الله، كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يعدون الكلام الذي يقولونه بغير ذكر الله جل جلاله، هل بلغت هذا المبلغ؟! بأي شيء تعجب؟! بأي شيء تغتر؟! كان السلف الصالح رحمهم الله إذا قيل لأحدهم: اتق الله، خشع وجلس يبكي، ولربما غشي عليه، فهل بلغت هذا المبلغ؟ وهل عندك علم بلغت به أعالي المراتب فأجبت به عن المسائل وحللت به المشكلات والنوازل حتى بلغت الغاية والتفوق، حتى تغتر بما أنت فيه؟ أي شيء عندنا حتى نغتر؟ جهل وإسراف وبعد عن الله جل وعلا إلا أن يرحمنا الله برحمته، ومع ذلك يعد الإنسان نفسه وكأنه أصلح الخلق، إذا أطلق لحيته وقصر ثوبه وصلى في المسجد فكأنه إمام زمانه علماً وصلاحاً وورعاً، وإنا لله وإنا إليه راجعون! فإن العبد يحرم البركة في إخلاصه واستقامته والتزامه بعجبه بنفسه، فلا تغتر ولا تعجب، قال مطرف رحمه الله: [لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً] أبيت نائماً وأصبح نادماً؛ لأن الله بالندم يبلغه درجة العامل، أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً، وكم من عبد أعجب بنفسه حتى مكر الله به وبعلمه، ويعجب العالم فينزع الله من القلوب حبه، يعجب العالم فينـزع الله من القلوب الثقة في كلامه ويصرف وجوه الناس عنه، ويعجب طالب العلم فيمحق بركة العلم وخشوع العلم، فلا يجد لعلمه أثراً على عامله وصلاحه -نسأل الله السلامة والعافية- العجب لا خير فيه، وإذا أردت أن تتخلص من هذا العجب فدعوة صادقة من الله جل جلاله، كل الأمراض -أمراض القلوب وأمراض الأجساد- أول شفاء ودواء لها أن تقول: يا رب وأن تقول: اللهم، من قلب لا يعرف أحداً سواه، تسأل الله أن يعافيك وأن يشفيك، بمجرد أن تصلي فوجدت أنك أعجبت بصلاتك، أو ذكَّرت الناس فأعجبت بتذكيرك، أو وعظتهم فأعجبت بوعظك، فابكِ لله وقل: اللهم إني أسألك ألا يحبط الشيطان عملي فأكون من الخاسرين، اللهم انزع من قلبي العجب بعمل عملته فيما بينك وبينه. سل الله أن ينزع من قلبك العجب.

    الأمر الثاني: النظر إلى الصلحاء وقراءة سيرة السلف الصالح رحمة الله عليهم، كثير من الشباب يغتر لأنه ينظر إلى واقعه وقل أن يجد من هو على الكمال والجلال، فليقرأ في سيرة السلف الصالح رحمة الله عليهم حتى يعرف منزلته، وليقرأ في أخبار العلماء والصلحاء حتى يعلم أين هو، فهذه من الأمور التي تعين على احتقار الإنسان نفسه.

    أما الأمر الثالث: فإن الأعمال ولو صلحت ولو كانت من أحب الأعمال إلى الله فالعبرة كل العبرة على القبول، قد تجلس من طلوع الفجر إلى أن يغلق المسجد في العشاء وأنت تتلو كتاب الله ولا يتقبل الله منك حرفاً واحداً، هل تستطيع أن تقول: لا؟ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِه [الرعد:41] ولذلك هذا الذي أهم السلف الصالح رحمة الله عليهم، فكانت قلوبهم منكسرة لله عز وجل، يحملون هم القبول:

    قد آلم القلب أني جاهل ما لي عند الإله أراض هو أو قالي

    وأن ذلك مخبوء إلى يوم اللقاء ومقفول عليه بأقفال

    ما أحد يعلم من المقبول ومن المحروم، كان علي رضي الله عنه إذا كانت آخر ليلة من رمضان صاح وبكى وقال: [ألا ليت شعري من هو المقبول فنهنيه ومن هو المحروم فنعزيه] وكان ابن عمر رضي الله عنهما وأرضاه يقول: [لو أعلم أن لي صلاة واحدة مقبولة لاتكلت] ولا يستطيع ملك مقرب ولا نبي مرسل أن يعلم أن الله تقبل، إلا إذا أطلعه الله جل جلاله، ما أحد يعلم، المدار على القبول، ربما عقوق والديك يحجب عنك القبول، وهذا ذكره العلماء رحمهم الله واستنبطوه من الآية التي ذكرناها في البر وقال الله عقب البر: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ [الأحقاف:16] فما يدريك فلعل كلمة أسخطت والديك أو عققت بها والديك حجبت عنك قبول عملك أو صلاحك أو عبادتك، فإذاً الإنسان مداره على القبول، فالإنسان لا يغتر بالعمل وإنما يفوض أمره إلى الله.

    الأمر الخامس الذي يعين على احتقار العمل: أن تنظر إلى نعم الله التي تغدق عليك في الصباح والمساء، التي تغدق عليك آناء الليل وأطراف النهار وأنت ترفل فيها، ما الذي يقدم في جنب هذه النعمة، انظر إلى عينك هذه التي حفظها الله لك، ويدك وسمعك وبصرك، وهذه الرحمة الإلهية التي لطف الله عز وجل بها بجوارحك وأركانك حتى وقفت على قدمك وحتى مشيت بها إلى المسجد، وانظر إلى رحمة الله بك يوم صرف عنك الفتن والمحن، وقد كان بالإمكان ألا تقرب مسجداً لذكر الله وطاعته، والله لو شاء الله ما خطت ولا وقعت قدم أحدنا في بيت من بيوته إلا رحمته سبحانه لا إله إلا هو، ما نحن بشيء تحت رحمة الله جل جلاله، فلا تغتر رحمك الله، بأي شيء تغتر؟ فالإنسان تحت رحمة الله، وفي حديث العابد أنه لما قال الله له: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: لا، بعملي -والقصة معروفة- فأمر الله أن توزن نعمة البصر -نعمة البصر فقط- فرجحت بأعماله الصالحة في عمره كلها، ومع ذلك بقيت لها فضل على هذه الأعمال الصالحة، فقال: أَدخلوا عبدي الجنة برحمتي، نحن لسنا بشيء يا إخوان، نحن تحت رحمة الله جل جلاله، ومهما عملنا وقلنا، فالمنة والفضل كله لله، نقول: الحمد لله والفضل كل الفضل لله جل جلاله، يقول لنبيه أشرف الخلق وأفضلهم: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء:113] المنة لله والفضل كله له، وقف صلى الله عليه وسلم يوم حنين وقد قسم الغنائم فأعطى غير الأنصار وحرم الأنصار، فقالوا: أيعطيهم وسيفونا تقطر من دمائهم؟ فقال: اجتمعوا لي، فاجتمعوا وقال: ما مقالة بلغتني عنكم؟ قالوا: يا رسول الله، أما سفهاؤنا فقالوا: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ وأما ذوو الحلم فما قالوا إلا خيراً، وكانوا قوم صدق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: أو قد وجدتم لعاعة من الدنيا يا معشر الأنصار؟! -يخاطبهم وهم لوحدهم ليس معهم أحد من غيرهم إلا النعمان بن أختهم- قال: (يا معشر الأنصار ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟ ألم تكونوا متفرقين فجمعكم الله بي؟! ألم تكونوا فقراء فأغناكم الله بي؟! فبكوا وقالوا: المنة لله، ثم قال: ولو شئتم لقلتم، ولو قلتم لصدقتم وصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وخائفاً فأمناك، فبكى الصحابة رضوان الله عليهم، وقالوا: المنة لله) ما قالوا: لنا المنة ولا اغتروا، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: المنة لله، ردوا عليه صلوات الله وسلامه عليه وهو يقول: (ولو شئتم لقلتم ولو قلتم لصدقتم وصدقتم .. قالوا: المنة لله) العبد الصالح يجعل المنة كلها لله، فالغرور بلاء وشقاء يغتر به الإنسان حتى يكون من الهالكين، نسأل الله العظيم أن يكسر قلوبنا لوجهه الكريم، وأن يصرف عنا منكرات الأخلاق إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

    حكم لبس المرأة للثوب الضيق والكم القصير وكلمة في تربية الأبناء

    السؤال: ما حكم لبس الثوب والكم القصير أمام النساء، وكذلك الثوب الضيق، ثم نريد كلمة في تربية أبنائنا تربية إسلامية، وترسيخ الدين في أذهانهم، وفقكم الله؟

    الجواب: أما بالنسبة للمسألة الأولى: فقد شاع وذاع بين النساء لبس هذا القصير، ونسأل الله بعزته وجلاله في هذا المكان الطيب الطاهر المبارك أن يذهب هذه العادة الممقوتة التي لا خير فيها، اللهم بعزتك وبجلالك نسألك أن تهدي قلوب النساء وأن تصلحهن وأن تنزع من قلوبهن هذا المرض العظيم، كشف المرأة عن ساقها وفخذها، والغريب أن بعض اللاتي يدعين العلم -نسأل الله السلامة والعافية- يحتج بعضهن: بأن العلماء رحمهم الله يقولون: عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل. هذا صحيح، ولكن الآن لو أن رجلاً دخل علينا وهو لا يلبس إلا سروالاً قصيراً وفنيلة إلأى نصف كمه، تسقط عدالته بإجماع العلماء، وترد شهادته؛ لأن هذا الفعل ينبئ عن ضعف عقله -والعياذ بالله- وأنه قدوة سيئة، ليس في الإسلام فقط الواجبات، هناك الكمالات، وهناك العرف والحياء الذي ينبغي للإنسان أن يصونه عما لا يليق، صحيح هذا الأمر ذكره العلماء، لكن ذكروا ضابطاً له عورة المرأة مع المرأة، إذا كان الأمر هو وجود عرف وضوابط فالإجماع منعقد على أن العادة محكمة، والله ردنا إلى العرف، فقال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228] وأجمع العلماء على أن أمور اللباس والهيئات مردها إلى الأعراف بشرط ألا تعارض شرع الله، فكيف إذا وافقت شرع الله، المرأة التي تلبس إلى نصف ساقها، في هذا المجتمع المعروف بالمحافظة والالتزام والحياء والخجل ذاهبة المروءة -والعياذ بالله- ساقطة العدالة، وينطبق عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) فلو كانت تستحي وفيها مروءة ما فعلت هذا، ففعلها هذا يدل على ضعف العقل -نسأل الله السلامة والعافية- قال بعض العلماء: ضعف المروءة مقرون بضعف العقل. فالمرأة التي تفعل ذلك لا عقل عندها، لأن العقل يعقل -وسماه الله عقلاً، وسماه حجراً؛ لأنه الذي يعقل الإنسان ويحجره، أي: يمنعه عما لا يليق به- فإذا نزع هذا النور -نسأل الله ألا ينـزعه منا ومنكم- أظلم صاحبه فأصبح يتخبط خبط عشواء -أعوذ بالله- إذا جلست المرأة كاشفة لساقيها في مجمع النساء، هل يرضيك لو رأيت أمك بهذه الصفة؟ أمَّا أن تنعم عينك بأن ترى أمك بهذه الصفة كاشفة عن فخذيها بين النساء فهذا تهتك وانحلال، نسأل السلامة والعافية، ونعوذ بالله عز وجل من هذه الأخلاق الرديئة التي دخلت على بيئة المسلمين.

    فينبغي على النساء أن يتناصحن، وأن يأتمرن بأمر الله عز وجل، وأن يتقين الله جل وعلا، يتقين الله في البنات، ويتقين الله في النشء، فإن النشء يتأثر، إذا نشأت المرأة نشأت وأمها تحتجب حتى في البيت تستحي بعض الأحيان إلى عهد قريب، بل لا زال من النساء الصالحات من تستحي أن تكشف شعرها لولدها، إي والله من النساء صالحة تستحي أن تكشف شعرها لولدها، ولما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن المرأة تكشف ساقها لأخيها ومحرمها، وساعدها كذلك، قال: أخاف عليها الفتنة، مع أنه محرم، وبذلك لا ينبغي إحداث هذه القدوة السيئة، وهذه الصور التي تدل على ضعف العقل، ينبغي المحافظة على الأخلاق الكريمة وصيانتها والدعوة إليها، والتحبيب فيها، والحرص كل الحرص على هذه الأخلاق الطيبة التي جعلها الله في الناس على فطرهم، فهذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فنسأل الله العظيم أن يهديهن وأن يصلحهن، وأن يزيل عن هذا المجتمع الطاهر هذه المنكرات والأخلاق والأدواء إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    أما الثوب الضيق فلا يليق بالمرأة، ضيق الله عليها كما ضيقت ثوبها، المرأة التي تضيق ثوبها ماذا تريد أعوذ بالله -نسأل الله السلامة والعافية- فالمرأة تفكر، هذه امرأة مثلها، ماذا تريد بلبس الضيق؟ ما تريد إلا تشبهاً بكافرات -والعياذ بالله- أو عاهرات فاجرات -نسأل الله السلامة والعافية- هل هذا من صنيع الصالحات أن تلبس المرأة لبساً ضيقاً أمام أخواتها من النساء؟ ماذا تريد؟ المرأة تتزين لزوجها، تتزين لبعلها، أما لأخواتها فتتزين بالمعروف، ولذلك لبس الضيق يعتبر أقل ما فيه كما قال العلماء رحمهم الله أنه ككشف العورة؛ ولذلك الآن الذي نشأ بين بعض النساء لبس هذا اللباس الذي هو العباءة المفصلة، اليد على حدة، وغيرها على حدة هذا لا يجوز؛ لأنها إذا فصلت يدها على حدة عرف جرمها، وتحدد الجرم، لكن لو لبست عباءتها، ما عرف شيء من تفاصيل جسمها، بل كان بعض العلماء يقول: لا يجوز للمرأة أن تجعل عباءتها على عاتقيها؛ لأنها إذا جعلت غطاءها للرأس عرف حجم رأسها، والمرأة تفتن بكل صورها، ولكن انظر إليها وهي في عباءتها قد وضعت عباءة على رأسها لا ترى فيها شيئاً، وتحس أنك أمام امرأة، ولية لله جل جلاله، تخاف الله وتراقبه، وتتقي الله في عباد الله المؤمنين، والعكس بالعكس، نسأل الله العافية والسلامة.

    أما تربية الأبناء فجماع الخير في تقوى الله، الابن تربيه بأمرين: الأمر الأول: القول السديد والنصيحة الهادفة، أن يكون قولك سديداً، دائماً تعاهده بالنصيحة في المواطن والمواضع المؤثرة، وحببه في طاعة الله، واغرس في قلبه محبة الله ومرضاته، وذلك قربة وحسبة، هذا أول شيء في لسانه، الشيء الثاني: في جوارحك وأركانك قدوة حسنة توجدها لهذا الابن الصالح، تأمره بالبر فإذا بك أبر الناس بوالديك، تأمره بصلة الرحم وإذا بك أنت الذي تصل الرحم، وتأخذه إلى صلة الرحم وتعويده على الخير بالقدوة الصالحة، الأبناء يتأثرون بالآباء، والبنات يتأثرن بالأمهات، ولذلك حق على الآباء والأمهات التربية الصالحة بالقول والعمل، وذلك كله لا يكون إلا بعد توفيق الله، والأخذ بالأسباب الصالحة، إن وجدته مع الصالحين ثبته وشجعته وأعنته، وإن وجدته مع غير أولئك سحبته وحذرته وخوفته وقرعته، إن أساء ذكرته بالله، وإن أحسن شكرته وثبته على طاعة الله، وبذلك تنعم عينك بذرية صالحة، رفعت الأكف إلى الله من أنبياء الله أن يرزقهم الأبناء الصالحين: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38] كان هذا من دعاء الأخيار والأنبياء، وذكر الله عز وجل عن عباده الصالحين: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74] لأن العيون تقر عندما ترى ابناً صالحاً يحدثك، وقد يكون أصلح منك، فتقول: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعبد الله لا يشرك به شيئاً، الحمد الله الذي أخرج من صلبي من يسجد لله لا يسجد لأحد سواه، والله تعالى أعلم.

    لا يوجد في حياة المسلم وقت يضيعه

    السؤال: ما حكم لعب (البلوت) والسهر من أجله إذا كان ذلك لا يؤثر على تأدية الفروض، ولا يتخلله سب ولا حلف بالله؟

    الجواب: أعند الإنسان وقت حتى يلعب الورق؟ الله المستعان، نسأل الله العظيم ألا يبتلينا بالغفلة، وألا يجعلنا من أهل الحرمان، تصور يا أخي أهل القبور وهم الآن في ضيقها وفي لحودها يتمنون التسبيح والاستغفار! تصور أهل القبور الآن وهم في ظلمتها وكربتها وشدتها ومحنتها وهم يتمنون حسنة واحدة تزاد في الأعمال! وهذا العمر الذي أعطاك الله إياه تنفقه في اللعب، أعندك فراغ من الوقت وأنت بين طرفة عين وغمضتها قد تفارق هذه الحياة، وقد تصير إلى ما صار إليه القوم، وتصرع كما صرعوا، وتنزل منازلهم التي نزلوا، وإنا إلى ما صار إليه القوم صائرون، وإلى ما انقلبوا إليه منقلبون؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون!

    فيا أخي في الله! دع مسألة الورق على جنب، ولكن هذا مرض قلب، فابدأ بقلبك أولاً، هذه غفلة والله حتى لو كان جائزاً، أعندك وقت تضيعه في غير طاعة الله جل وعلا؟ أعندك وقت تضيعه في الفضول؟ فليست المشكلة أن تقول: حرام، ويقول غيرك: جائز، لا، اتركنا في الأصل، هب أنه جائز ومباح، ولو أنه لا يقل عن درجة المكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل لهو باطل) فهذا أقل درجاته أنه مكروه، وإلا فمن العلماء من يرى أنه في حكم النرد الذي حرمه الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، لكن الذي نسأل عنها الآن هي الغفلة ولو كان مباحاً: هل لإنسان عنده نفس ينعم الله عليه بالحياة، ويجعل هذه الروح تدب في الجسد، أن يجلس ويلعب ورق؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! فنسأل الله العظيم ألا يميت قلوبنا!

    يا أخي! انتبه من غفلتك واتق الله فيما أنت فيه، واعلم أن الله سائلك، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه …)، فتعرض أمام عينيك، ساعات السهر واللعب بالبلوت والورق وتجدها أمام عينيك لا تفقد منها ثانية واحدة، وتراها أمام عينيك: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].

    فيا أخي! اتق الله في هذا العمر، وفي ساعاته ولحظاته، واحمد الله جل وعلا، كم من أناس على الأسرة البيضاء يتمنون العافية التي أنت فيها، كم من إنسان مريض على فراشه في هذه اللحظة التي تلعب فيها الورق، وهو يتأوه ويقول: يا ليت لي مثل ما لك من العافية، أكان جزاء شكر نعمة الله بالعافية أن تضيعها هدراً؟ أيسرك وأنت واقف بين يدي الله والناس حاف عار في العرض الأكبر أن يأتي في صحيفة عملك ساعة في لهو من هذا اللهو؟ لا والله.

    فنسأل الله العظيم أن يمن علينا بالتوبة النصوح، وألا يكتب لنا الخزي والفضيحة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    أسال الله العظيم أن يشكر سعيكم، وأن يعظم أجرنا وأجركم، وأن يفرق هذا الجمع بذنب مغفور، وعمل صالح مبرور، وأن يجعلنا ممن قال فيهم: (قوموا قد بدلت سيئاتكم حسنات).

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767965177