إسلام ويب

إنما المؤمنون إخوةللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من أعظم الأسباب التي أعانت على قيام دولة الإسلام هي الأخوة الصادقة في الله عز وجل، التي جعلت من المسلمين جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، والأخوة في الله لها حقوق ينبغي أن يعمل بها الأخوة لكي تبقى الأخوة صافية صادقة بين المتحابين في الله عز وجل، وبالإضافة إلى ما تحققه الأخوة من مكاسب دنيوية، فإن لمن حققها الأجر العظيم في الآخرة.

    1.   

    حقيقة الأخوة

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعني معكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    أحبتي في الله: لما رأيت إخواني جزاهم الله خيراً قد وضعوا لمحاضرة الليلة هذا العنوان: (ماذا بعد الموت) تذكرت أنني في هذا المسجد في الزيارة الماضية أفردت محاضرة للرقائق ولأهوال القيامة، فآثرت أن أغير الموضوع في هذه اللحظات، والله أسأل أن يرزقنا وإياكم التوفيق والسداد والرشاد، لذا فإن عنوان محاضرتنا في هذه الليلة: (إنما المؤمنون إخوة).

    وكما تعودت دائماً حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي معكم تحت هذا العنوان المهم في العناصر المحددة التالية:

    أولاً: حقيقة الأخوة.

    ثانياً: حقوق الأخوة.

    ثالثاً: الطريق إلى الأخوة.

    فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هدى الله وأولئك هم أولو الألباب.

    انهيار بناء الأخوة بين أبناء العقيدة

    أولاً: حقيقة الأخوة:

    أحبتي في الله: لقد أصبحت الأمة الآن غثاء من النفايات البشرية، تعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية كدويلاتٍ متناثرة بل متصارعة متحاربة، تفصل بينها حدودٌ جغرافية مصطنعة، ونعرات قومية جاهلية، وترفرف على سماء الأمة رايات القومية والوطنية، وتحكم الأمة قوانين الغرب العلمانية ، إلا ما رحم ربك جل وعلا.

    وتدور بالأمة الدوامات السياسية فلا تملك الأمة نفسها عن الدوارن، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تريد أن تدور فيه، ذلت بعد عزة، وجهلت بعد علم، وضعفت بعد قوة، وأصبحت في ذيل القافلة بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب جداً تقود القافلة كلها بجدارةٍ واقتدار.

    وأصبحت الأمة الآن تتسول على موائد الفكر العلمي والإنساني، بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب منارةً تهدي الحيارى والتائهين ممن أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلام، بل وأصبحت الأمة الآن تتأرجح في سيرها، بل ولست مبالغاً إن قلت: ولا تعرف طريقها الذي ينبغي أن تسلكه وتسير فيه، بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب جداً الدليل الحاذق الأرب في الدروب المتشابكة، والصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير فيها إلا المجربون، لقد أصبحت الأمة الآن قصعة مستباحة لأحقر وأخزى وأذل أمم الأرض، وصدق في الأمة قول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان : (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: كلا. ولكنكم يومئذٍ كثير ولكن غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).

    لقد طمع في الأمة الآن كما ترون جميعاً الذليل قبل العزيز، والقاصي قبل الداني، بل والضعيف قبل القوي، وتجرعت الأمة الآن كئوس الذل والهوان، آهٍ يا مسلمون!

    متنا قروناً والمحاق     الأعمى يليه محاقُ

    أي شيءٍ في عالم الغـاب نحن     آدميون أم نعاج نساقُ

    نحن لحمٌ للوحش والطير     منا الجثث الحمر والدم الدفاقُ

    وعلى المحصنات تبكي البواكي     يا لعرض الإسلام كيف يراقُ

    قد هوينا لما هوت وأعدوا     وأعدوا من الردى ترياقُ

    واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا     علينا واسودت الأعماقُ

    وإذا الجذر مات في باطن الأرض     تموت الأغصان والأوراقُ

    آه يا مسلمون، سراييفوا تُباد.. كوسوفا تباد..

    القدس تُباد والعالم كله      خسة وخيانة ونفاق

    كوسوفا من دولة المجد      عثمان أبوها والفاتح العملاق

    كوسوفا من قلب مكة     بالتوحيد يعلو لواؤها الخفاق

    تركوها وحولها من كلاب     الصرب طوقٌ من خلفه أطواق

    قدمتها الصلبان للصرب قرباناً     وللصرب كلهم عشاق

    ووالله لو فعلنا بالصرب ما فعلوه     لرأينا مثل الذي رآه العراق

    سبب الذل الضارب جذوره في الأمة

    ما هذا الذل؟ ما هذا الهوان؟ الذي تتجرع الأمة الآن كئوسه ألواناً وأشكالاً، ما السبب؟

    وأنا ألخص لكم سبب هذا الذل والهوان الذي تحياه الأمة الآن، يتلخص في كلماتٍ دقيقةٍ قليلة بينها ربنا جل وعلا في آياتٍ جامعة من قرآنه فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].

    وقال سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53] وأنا أقرر لكم، بل وأسجل للتاريخ أن الأمة قد غيَّرت وبدلت:

    في جانب العقيدة غيرت.

    في جانب العبادة غيرت.

    في جانب التشريع غيرت.

    في جانب الأخلاق غيرت.

    حتى في الجانب النفسي غيرت.

    فأنت ترى العقيدة في الأمة تُذبح شر ذبحة، وأنا لا أعلم أبداً ولا أفهم من قرآنٍ، ولا سنةٍ نبوية، ولا سنة كونية ربانية، لا أفهم ألبتة أن الله عز وجل ينصر أمة ذبحت عقيدته، وخذلت دينه، كانت العقيدة بالأمس القريب إذا مُسَّ جانبها سمعت الصديق يتوعد، والفاروق يهدد، وخالد بن الوليد يزمجر، ورأت العقيدة المؤمنين الصادقين يبذلون من أجلها الغالي والنفيس.

    لكنك ترى الآن العقيدة تذبح شر ذبحة، وفي هذه الأمة -ولست مبالغاً حين أقول ذلك- من يثق في بعض دول الأرض وأمم الأرض أكثر من ثقته في خالق السماء والأرض، اختلت العقيدة في قلوبنا، بل لقد سمعت بأذني على شاشات التلفاز من يقول في احتفالٍ صاخبٍ كبير يقول بالحرف: إننا الليلة نحتفل بمولد سيدي السيد البدوي المهاب، الذي إن دُعي في البر والبحر أجاب، والله جل وعلا يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:62] أإله مع الله يجيب المضطرين في البر والبحر؟!

    وقرأت قول القائل: إنه ممن يعتقدون أن للكون أقطاب وأوتاد وأبدال تدبر نظام الكون وتسيِّر شئونه، وسمعت قول القائل:

    هبو لي ديناً يجعل العرب أمـةً     وسيروا بجثماني على دين برهمِ

    سلام على كفرٍ يوحد بيننـا     وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ

    وسمعت قول القائل: إن مصر ستظل فرعونية، ولو وقف الإسلام حجر عثرة في طريق فرعونيتنا لنحينا الإسلام جانباً لتظل مصر فرعونية.

    وقرأت قول القائل: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، حتى الالتهابات التي في رئاتهم! والنجاسات التي في أمعائهم!

    أي عقيدة هذه؟!

    وفي العبادة: انحرف كثير من أبناء الأمة عن العبادة، فترى من يصرف العبادة لغير الله، ويحلف بغير الله، ويستغيث بغير الله، ويلجأ إلى غير الله، ويطوف بغير بيت الله في مكة شرفها الله، وترى من فهم العبادة فهماً جزئياً قاصراً، فهي لا تتعدى الشعائر التعبدية من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وعمرةٍ وحجٍ فحسب، ونحيت شريعة الله جل وعلا، والله تبارك وتعالى يقول: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].

    هذا هو العامل الأول من عوامل ذل الأمة، فأنا أقول: إن الإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قومٍ شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم، فالخطوة الأولى على طريق العز هي العقيدة.

    وأرجو ألا تستهينوا على الإطلاق بالعقيدة، وحينما أذكر لفظة العقيدة فأنا لا أريد أن نفهم العقيدة فهماً جزئياً قاصراً، وإنما أقصد العقيدة بمفهومها الكامل الشامل الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه أصحابه الكرام.

    ثم ضاع العامل الثاني من عوامل العز، ألا وهو عامل الأخوة في الله.

    فأنا أعتقد اعتقاداً جازماً أن الأخوة في الله هي العامل الثاني الذي أقام النبي بهما للإسلام دولةً في أرض الجزيرة من فتاتٍ متناثر، فإذا هي بناءٌ شامخ لا يطاوله بناء، بماذا؟ بالعقيدة التي ظل النبي صلى الله عليه وسلم يربي عليها الصحابة في مكة ثلاثة عشر عاماً.

    وأرجو ألا يظن أحد أن النبي قد ترك العقيدة في مكة يوم أن هاجر إلى المدينة كلا. فإن العقيدة لا يُنتقل منها إلى غيرها، بل ينتقل معها إلى غيرها.

    عبر من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

    آخا النبي صلى الله عليه وسلم بين أهل مكة من المهاجرين والأنصار في المدينة ، هذا هو العامل الثاني: عقيدة ومؤاخاة، أخوة في الله، آخا بين حمزة القرشي ، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي ، ومعاذ الأنصاري، وبلال الحبشي ، وأنشد الجميع الأنشودة العذبة الحلوة:

    أبي الإسلام لا أب لي سـواه     إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم

    ويجسد لنا عبد الرحمن بن عوف هذه المؤاخاة التي لم ولن تعرف البشرية لها مثيلاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يجسد لنا عبد الرحمن هذه المؤاخاة تجسيداً بليغاً، والحديث في الصحيحين ، يقول عبد الرحمن: [آخا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري ، فقال لي سعد -وكان من أكثر الأنصار مالاً: يا عبد الرحمن ! أنا أكثر الأنصار مالاً، وسأقسم مالي بيني وبينك شطرين، وعندي امرأتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها].

    أسألكم بالله أن تتدبروا في هذا الكلام، فأرجو ألا يمر على آذاننا هكذا، العربي عنده غيرة، وشهامة، ورجولة! فلو قال: سأقسم مالي بيني وبينك شطرين لكان الأمر هيناً، لكن انظر إلى الثانية وما أعجبها وأجملها: [وعندي امرأتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها].

    فقال عبد الرحمن بن عوف: [بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن أين السوق؟] فدله على سوق بني قينقاع فذهب عبد الرحمن فباع واشترى، ثم منَّ الله عليه بالربح، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وعليه أثر صفرة، أي عليه أثر الطيب فقال له النبي: (مهيم) أي: ما لي أشم عليك رائحة الطيب يا عبد الرحمن ؟ فقال: [تزوجت امرأةً من الأنصار يا رسول الله! قال: (وما سقت لها) قال: سقت إليها مقدار نواة من ذهب] محل الشاهد ما قاله سعد بن الربيع وما قاله عبد الرحمن ؟ فقد يئن الآن كثيرٌ من الإخوة ويقولون: رحم الله زمان سعد بن الربيع ، أين من يعطي الآن عطاء سعد؟

    وأنا أقول: وأين من يتعفف الآن عفة عبد الرحمن ؟ لقد انطلق رجلٌ إلى أحد السلف وقال له: أين من ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، فقال له: ذهبوا مع من لا يسألون الناس إلحافاً.

    إن سألت أين من يعطي عطاء سعد؟ سأجيبك: وأين من يتعفف عفة عبد الرحمن بن عوف ؟ انظروا إلى هذه الصورة من المؤاخاة، فصدقوني لست مبالغاً إن قلت: لقد حل المهاجرون في قلوب الأنصار وعيونهم قبل أن يحلوا في بيوتهم ودورهم، واستحقوا من الله هذا الثناء الخالد: وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

    معنى الأخوة في الله وحقها

    إن معنى الأخوة في الله لا نظير له في جميع الشرائع الوضعية على وجه الأرض؛ لأنه لا ينبني على أواصر العرق واللون والدم والوطن، وإنما ينبني على الأواصر الإيمانية، والروابط العقدية التي لا تنفصم عراها ولا تزول، فالمؤمنون جميعاً إخوة مهما اختلفت ألوان بشرتهم، ومهما اختلفت أرضهم وديارهم وأوطانهم، يربطهم جميعاً رباط الإيمان والإسلام، كأنهم روحٌ واحد حل في أجسامٍ متفرقة، أو كأنهم أغصانٌ متشابكة انبثقوا من دوحة واحدة، هكذا ينبغي أن يكون المؤمنون.

    فإن وجدت إيماناً بلا أخوة صادقة فاعلم بأنه إيمانٌ ناقص، وإن وجدت أخوة بلا إيمان فاعلم أنه التقاء مصالح، وتبادل منافع، وليست أخوة إيمانية، إذ أن الأخوة ثمرة حتمية للإيمان، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].

    يوم أن ضاع هذا المعنى العظيم، وأصبح المؤمن ينظر إلى أخيه الذي جاءه من بلدٍ مسلمٍ آخر نظرة الغرابة والغربة، لما ضاع المعنى الحقيقي للأخوة أصبح المسلم يرى أخاه المسلم ويرى أخته المسلمة تذبح هنا وهنالك فينظر ويهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه، وربَّما يرى على شاشات التلفاز المسلم يُذبح في الصومال، أو فلسطين ، أو العراق ، أو كشمير ، أو طاجكستان ، أو الفلبين ، أو أي مكان، وهو ينظر بعينه وسرعان ما يهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه لا من بعيدٍ ولا من قريب. لماذا؟

    لأن الأخوة في الله أصبحت باهته باردة لا تتعدى مجرد الكلمات، لا تتعدى مجرد لغة الشجب والاستنكار فحسب، حتى الشعور فقد مات، إلا من رحم ربك جل وعلا، صحيحٌ ربما تنسي المصائب المصائب، لكن لا ينبغي أن تفقد حتى مشاعر الأخوة تجاه إخوانك وأخواتك هنا وهنالك، لا بد أن يحمل كل واحد منا همَّ هذا الدين، وهمَّ هذه العقيد، وهمَّ هذه الأمة، إن الهموم بقدر الهمم.

    فمن الناس من يحمل هم الطين، ومنهم من يحمل هم الدين، ومن الناس من يحمل هموم أسرته، ومنهم من يحمل هموم أمته، ومنهم من لا هم له سوى أن يجمع المال ولو كان من الحرام، ومنهم من لا هم له سوى أن يستمتع بامرأة حسناء في الحلال أو في الحرام، ولو نظرنا إلى أحوال همومنا وهِممنا وعرضناها على هموم وهمم السلف، لبكينا دماً بدل الدمع!

    فها هو عبد الله بن عمر رضوان الله عليه يجتمع في بيت الله الحرام هو وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان فيقول لهم مصعب بن الزبير : [تمنوا فنحن في بيت الله، تمنوا على الله جل وعلا، فقالوا: ابدأ أنت يا مصعب ما دمت قد طلبت ذلك، فقال مصعب بن الزبير : أما أنا فأتمنى ولاية العراق ، وأن أتزوج سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله ، فنال ما تمنى وتلك همته وهذا همه.

    فقال عبد الملك بن مروان : أما أنا فأتمنى الخلافة، فنال ما تمنى.

    فقال عروة بن الزبير : أما أنا فأتمنى أن أكون فقيهاً، وأن يحمل الناس عني حديث رسول الله، وقال عبد الله بن عمر : أما أنا فأتمنى الجنة] إن الهموم بقدر الهمم.

    على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ     وتأتي على قدر الكرام المكارمُ

    وتعظمُ في عين الصغير صغارها     وتصغر في عين العظيم العظائمُ

    ولله در المتنبي إذ يقول:

    وإذا النفوس كانت كباراً     تعبت في مرادها الأجسامُ

    فلما ضاع المعنى الحقيقي للأخوة أصبحنا نرى المسلمين والمسلمات يُذبحون في الشرق والغرب ذبح الخراف ولا تتحرك حتى مشاعرنا، تبلدت المشاعر وبردت إلا من رحم ربك، أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن رحم.

    من أجل ذلك أقول: ينبغي أن نتعرف -أيها الأحبة- على حقوق الأخوة، وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجازٍ شديد من عناصر المحاضرة، وإلا فإن كل عنصرٍ من هذه العناصر يحتاج إلى محاضرة مستقلة.

    1.   

    حقوق الأخوة

    وبداية أسجل لكم أني لا أتكلم في حقوق الأخوة من منطلق الشعور بالأهلية، لا والله! بل يتردد في أذني قول القائل:

    وغير تقي يأمر الناس بالتقـى     طبيب يداوي الناس وهو عليلُ

    وقد ينطلق المرء للحديث في موضوعٍ من منطلق الشعور بالمسئولية لا من منطلق الشعور بالأهلية، وهذا ما تؤصله القاعدة الأصولية: من عدم الماء تيمم بالتراب، والله أسأل أن يستر عليَّ وعليكم في الدنيا والآخر.

    الحق الأول: الحب في الله والبغض في الله

    لن تتذوق طعم الأخوة إلا بهذا، أصبح الولاء الآن على غير هذا الأصل، وأصبح البراء على غير هذه الغاية؛ الحب في الله والبغض في الله، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان).

    والحب في الله شيءٌ غالٍ، وأمرٌ عظيم، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ينادي ربنا جل وعلا يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) لو عرفت هول الموقف؛ لاستشعرت حلاوة هذا الكلام النبوي، لو تصورت أن الشمس فوق رأسك، وأنك غارقٌ في عرقك، وأن جهنم قد جُرَّت إلى أرض المحشر، وقد أُتي بها لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملكٍ يجرونها -والحديث في صحيح مسلم- لو تصورت أن الله قد غضب في هذا اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، لاستشعرت قول النبـي صلى الله عليه وسلم: (ينادي الحق: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) حديثٌ عجيب جميل، وجزاءٌ عظيم للحب في الله، بل لن تتذوق طعم الإيمان إلا بالحب في الله والبغض في الله، كما في الصحيحين من حديث أنس : (ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف به في النار).

    بل وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً زار أخاً له في قرية فأرصد الله له على مدرجته -أي: على طريقه- ملكاً، فقال له الملك: أين تريد؟ قال: لأزور أخاً لي في هذه القرية، فقال له الملك: هل لك عليه من نعمة تربها عليه؟ -أي: تريد زيادتها- قال: لا. غير أني أحببته في الله، فقال له الملك: فإني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه) من أنت لتنال حب الله جل وعلا بالحب في الله والبغض في الله.

    بل في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي ومالك في الموطأ بسندٍ حسن صحيح، أن أبا إدريس الخولاني رحمه الله قال: دخلت مسجد دمشق وإذا بفتى براق الثنايا، والناس من حوله يسألونه ويصدرون عن رأيه، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه، يقول: فلما كان من الغد هجَّرت إلى المسجد -أي: بكرت- فرأيت معاذاً قد سبقني بالتهجير ووجدته قائماً يصلي، فانتظرت حتى قضى صلاته، ثم أتيته من قبل وجهه فسلمت عليه وقلت له: إني أحبك في الله، يقول: فأخذني بحبوة ردائي -جبذني بحبوة ردائي- وقال: آللهِ، فقال: أبو إدريس : آللهِ، قال معاذ : آلله تحبني في الله، قال أبو إدريس : آلله، قال: آلله -ثلاثاً- قال أبو إدريس : آلله، فقال له معاذ : أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ).

    ومن السنة -أخي الحبيب- إن أحببت أحد إخوانك أن تبين له حبك، فهذا مما يدعم أواصر الأخوة بينك وبين أخيك، كما في الحديث الذي رواه أبو داود بسندٍ صحيح، من حديث المقدام بن معد كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره).

    وفي سنن أبي داود بسندٍ صحيح من حديث أنس أن رجلاً مر على مجلس النبي، فقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني أحب هذا فقال له النبي: أأعلمته، قال: لا. قال صلى الله عليه وسلم: فأعلمه، فانطلق الرجل خلف أخيه، وقال: إني أحبك في الله، قال: أحبك الله الذي أحببتني له).

    وامتثالاً لهذا الحديث النبوي فأنا أشهد الله أني أحبكم جميعاً في الله، وأسأل الله أن يجمعنا مع المتحابين بجلاله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأبشر حبيبـي في الله فإن المرء يحشر يوم القيامة مع من أحب.

    - حدد من تحب؟

    ففي الصحيحين من حديث أنس أن رجلاً جاء للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كثير عمل ولا صلاة غير أني أحب الله ورسوله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب) يقول أنس : [فما فرحنا بشيء كفرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) ]. يقول عبد الله بن عمر رضوان الله عليه: [والله لو صمت النهار لا أفطر، وقمت الليل لا أرقد، وأنفقت مالي في سبيل الله، أموت يوم أموت وليس في قلبي حبٌ لأهل طاعة الله، وبغضٌ لأهل معصية الله، ما نفعني ذلك كله].

    ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [لو قام رجلٌ يعبد الله بين الركن والمقام سبعين سنة لحشر يوم القيامة مع من يحب] ولاء وبراء، لا يصح لك دينٌ إلا بالولاء والبراء، بالحب في الله والبغض في الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].

    قال حذيفة بن اليمان : [فليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يدري لقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ].

    أتحب أعداء الحبيب وتدعـي     حباً له ما ذاك في الإمكان

    وكذا تعادي جاهداً أحبابه     أين المحبة يا أخا الشيطان

    إن المحبة أن توافق من تحـب     على محبته بلا نقصان

    فإن ادعيت له المحبة مع خـلا     فك ما يحب فأنت ذو بهتان

    ***

    لو صدقت الله حين زعمته     لعاديت من بالله ويحك يكفر

    وواليت أهل الحق سراً وجهرةً     ولما تعاديهم وللكفر تنصر

    فما كل من قد قال ما قلتَ مسلمـاً     ولكن بأشراطٍ هنالك تذكر

    مباينة الكفار في كل موطـنٍ     بذا جاءنا النص الصحيح المقرر

    وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم     وتدعوهم سراً لذلك وتجهر

    فهذا هو الدين الحنيفي والهدى     وملة إبراهيم لو كنتَ تشعر

    الحق الثاني: التورع في القول وحسن الظن بالإخوة

    سبحان ربي العظيم! قد لا يتورع الأخ عن أكل لحم أخيه، في الوقت الذي ترى عنده تورعاً باهتاً ربما عن أكل الحلال، إن الكلمة خطيرة يا إخوة، والله عز وجل يقول: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] من: التبعيضية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين عن أبي هريرة : (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً فيرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في جهنم).

    فالكلمة خطيرة، فمن حق أخيك عليك أن تتورع عنه في القول، وأن تحسن الظن به يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث).

    من حقي عليك ومن حقك عليَّ أن أحسن في حقك القول، وألا آكل لحمك وأنهش عرضك بعد أن تفارقني، ربما يجلس الأخ مع أخيه في مجلسٍ واحد، وبمجرد أن يعطي الأخ لأخيه ظهره يطعنه بكلمات، والكلمة شديدة، ربما تكون الكلمة أخطر من السيف.

    فبالكلمة قد تهدم البيوت، وتتحطم الأسر، بل وتثار المشاكل بين الدول والأمم بكلمة، سواء كانت الكلمة مقروءة، أو مكتوبة، أو مسموعة، أو مرئية، أو مرسومة.

    إن ترك الألسنة تلقي التهم جزافاً دون بينةٍ أو دليل يترك المجال فسيحاً لكل من شاء أن يقول ما شاء في أي وقتٍ شاء، ثم يمضي آمناً مطمئناً، فتصبح الجماعة وتمسي وإذا أعراضها مجرحة وسمعتها ملوثة، وإذا كل فردٍ فيها متهم أو مهدد بالاتهام، وهذه حالةٌ من القلق والشك والريبة لا تطاق بحالٍ من الأحوال، ولذلك روى النسائي بسندٍ صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان -أي تذل له وتخضع- وتقول له: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا) وفي رواية الطبراني في الأوسط بسندٍ صححه الألباني بمجموع طرقه في صحيح الجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا اثنان وسبعون باباً، أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربا الربا استطالة الرجل في عرض أخيه).

    انظروا إلى خطر الكلمة، فالكلمة خطيرة أيها الأحبة، فمن حق الأخ على أخيه أن يتورع عنه في القول، فبكل أسف قد يتورع المسلم عن أكل الحلال فيسأل هذا الشيء مستورد أم محلي؟ ورعٌ جميلٌ محمود، لا أقلل من شأنه أبداً، لكن الذي أقلل من شأنه أن ترى هذا التورع في هذا الجانب، الذي ربما يكون فيه الطعام حلالاً، ولا ترى عشر معشار هذا التورع عن أكل لحم الإخوة من المسلمين والمسلمات، فمن حق الأخ على أخيه التورع في القول.

    وتزداد الكارثة والمأساة حينما يؤكل لحم العلماء .. أئمة الهدى مصابيح الدجى، والشموع التي تحترق لتضيء للأمة طريق نبيها، فقد ترى شبلاً صغيراً من أشبالنا لم يتربَّ إلا على التصنيف، لم يتربَّ على القرآن ابتداءً ولا على السنة، فخرج متأسداً متنمراً لبعض المسائل العلمية التي حفظها، فيتأسد على العلماء، وينتهك لحم وأعراض العلماء، فتسمع من يسيء إلى أئمة المسلمين في هذا الزمان، ولله در الحافظ ابن عساكر إذ يقول: "اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني الله وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، اعلم بأن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب".

    الحق الثالث: التناصح

    روى مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة -انظروا إلى هذه البلاغة النبوية- قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).

    يا أخي! أنا لست ملكاً ولا نبياً، أنا بشر وكل بني آدم خطَّاء، فمن حقي عليك إن أخطأتُ أنا أن تنصحني، وأن تقترب مني وأن تبذل لي النصيحة، لا أن تظل بعيداً عني لتصدر الأحكام عليَّ بالتكفير أو التفسيق أو التبديع، وإنما ادن مني واقترب، وابذل الحق الذي عليك لي، وانصحني بشروط النصيحة وآدابها، بتواضع، بحكمة، برحمة، بأدب، بخلق.

    وأرجو من شبابنا وطلابنا أن يفرقوا بين مقام الدعوة ومقام الجهاد، فمقام الدعوة -أيها الأحبة- من الألف إلى الياء، ولو كانت الدعوة لأكثر أهل الأرض.

    مقام الدعوة: الحكمة والرحمة واللين والتواضع، هذه آداب النصيحة، قال الله عز وجل لإمام الدعاة وسيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] ما هي الحكمة؟

    قال ابن القيم: الحكمة هي فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي، وأركانها: العلم والحلم والأناة، وآفاتها وأضدادها ومعاول هدمها: الجهل والطيش والعجلة.

    بحكمة ورحمة قال الله لسيد الدعاة: وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] يا أخي! انصحني برحمة، لا تكن غليظاً ولا شديداً عليَّ، أسمع أحد إخواننا ينصح مسلماً وهو بعد أن سمع الأذان، وإذا بالأخ يريد أن ينصح أخاه بالصلاة فيقول له: صلي يا حمار، فسمعت الكلمة واقتربت منه، قلت: يا أخي! إن الله لم يفرض الصلاة على الحمير، ففطن.

    إذاً: هذه ليست دعوة، وليست نصيحة، انصح أخاك برحمة، أشعر من تنصحه أنك رحيمٌ به حليمٌ تخشى عليه، وهذا من حقه عليك.

    يأتي شابٌ للنبي عليه الصلاة والسلام والحديث في مسند أحمد بسندٍ جيد، ويستأذن رسول الله -والله ما استأذنه للخروج إلى الجهاد ولا البذل ولا الخروج إلى الدعوة- وإنما جاء ليستأذن النبي في الزنا: (أتأذن لي يا رسول الله! في الزنا؟ فقال الصحابة: مه مه! فقال له: ادن -اقترب- وبلغة نبوية رحيمة، يقول له المصطفى المعلم والمربي والأسوة والقدوة: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لأختك...؟ أتحبه لعمتك..؟ أتحبه لخالتك...؟ لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، قال: وكذلك الناس) ومع ذلك رفع النبي يده ووضعها على صدر هذا الشاب ودعا له، الذي جاء يطلب الزنا دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم اشرح صدره، واغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه) فانطلق الشاب ولا يوجد شيءٌ على الأرض أبغض إليه من الزنا، والأدلة النبوية العملية على الرحمة كثيرة.

    ثم اللين: كن ليناً بمن تنصحه، هل رأيتم يا إخوة طبيباً فتح عيادته الخاصة للمرضى، حتى إذا دخل عليه مريض طرده؛ لأنه مريض؟ هو ما فتحها إلا للمرضى، فأنتم يا من منَّ الله عليكم بالسنة، والعقيدة الصافية، والفهم الراقي، أنتم أطباء لمرضى القلوب، والنفوس، ولمن انحرفوا عن الحق والمنهج، افتحوا قلوبكم وصدوركم إلى إخوانكم قبل أن تفتحوا مساجدكم وبيوتكم ومجالسكم، وابذلوا لهم النصيحة بهذه الضوابط والشروط، إن الله يأمر موسى وهارون أن يذهبا إلى فرعون: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طـه:43-44] قرأ سيدنا قتادة هذه الآية وقال: يا رب! تأمر موسى وهارون أن يقولا لفرعون الذي قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعـات:24] أن يقولا له قولاً ليناً؟ فإن كان هذا هو حلمك بفرعون الذي قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعـات:24] فكيف حلمك بعبدٍ قال: سبحان ربي الأعلى ؟

    وأنا أقول: إن الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، والحديث في صحيح مسلم، مرت بغيٌ من بغايا بني اسرائيل على كلبٍ يلهث الثرى من العطش، فعادت إلى بئر ماء فملأت خفها بالماء وقدمته للكلب فشرب، يقول النبي: (فغفر الله لها بذلك).

    أقول: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟ النصيحة والتناصح، بأدب وتواضع وحكمة ورحمة ولين، إن وجدت أخاك على خطأ ادن منه واقترب، وقل له: أخي! أحبك والله في الله، قال الله كذا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.

    الحق الرابع: التناصر

    وهذا من الحقوق الكبيرة التي ضاعت من حقوق الأخوة، روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله! عرفنا كيف ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: أن تكفه عن الظلم فذاك نصره) إن وجدت أخاً من إخوانك مظلوماً، وكنت قادراً على نصرته انصره، وإن وجدت أخاً من إخوانك ظالماً انصره بكفه عن الظلم، ولو ضاع هذا الحق غرقت سفينة المجتمع، واستشرت المنكرات.

    كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح البخاري من حديث النعمان : (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فلو تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).

    فيجب على الأخ أن يأخذ على يد أخيه، وأن ينصره إن كان ظالماً أو مظلوماً لتنجوا سفينة المجتمع، وإلا لهلكت السفينة، وهلك الصالحون مع الطالحين، فلا تظن أن الذين سينجون هم الصالحون فحسب! لا.

    أو أن الذي سيهلك هم الطالحون فحسب؟ لا. روى البخاري ومسلم من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً، وفي لفظ: قام من نومه يوماً من عندها فزعاً وهو يقول: (لا إله إلا الله! ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلق النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعيه بالسبابة والإبهام- فقالت زينب : يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: نعم. إذا كثر الخبث).

    الحق الخامس: الستر والتغافر

    روى أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث أبي برزة الأسلمي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر من آمن بلسانه ولمَّا يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف رحله). أسأل الله أن يسترنا في الدنيا والآخرة.

    والناس صنفان، صنفٌ مشهورٌ بالصلاح وبالتقى، لكنه زل، فليس ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، فمن حقه على إخوانه أن يستروا عليه.

    وصنفٌ مشهورٌ بالفسق مجاهرٌ به، فهذا لا غيبة له، إن ذكر لم يتذكر، وإن نصح لم ينتصح.

    الستر والتغافر وإن زل أخوك وأخطأ في حقك وأتاك فلا ينبغي أن تتعنت في حقه وأن تتفرعن عليه، وأن تقول: لا. لا أعفو عنك، ولا أقبل عذرك، إنما ينبغي أن يغفر الأخ لأخيه، فالستر والتغافر من أجل وأرقى الصفات التي تدعم أواصر الأخوة بين الإخوة في الله.

    الحق السادس: الإعانة على قضاء الحوائج

    روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فرج عن مؤمنٍ كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) فإن منَّ الله عليك بمنصب أو بوجاهة وأتاك أخوك لتشفع له فاشفع له، وإن طلب منك عوناً فأعنه، وإن أراد مصلحةً وكنت قادراً فيسرها له، ومن استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه، وأرجو في المقابل إن ذهب أخٌ إلى أخيه وطلب منه مصلحة ولم يقدر الله عز وجل لهذا الأخ أن يعين أخاه فيها فينبغي أن يعذره.

    أتمنى أن لو قدم الأخ لأخيه طلباً للتوظيف مثلاً، أو معونةٍ مادية أو لأي مصلحة، وقال له: أخي في الله! هذه حاجتي إليك، فإن قضيتها حمدت الله وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله وعذرتك، فإن الأمور كلها تجري بمقادير الله، ما أجمل هذا الفهم! وما أرقى هذا الظن!

    1.   

    الطريق إلى الأخوة

    ما الطريق إلى الأخوة؟

    الطريق الأول: العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين، فأنا أقول لكم -أيها الأحبة- إننا لن نعيد الأخوة والعقيدة بالمحاضرات الرنانة، ولا بالمجلدات ولا بالأشرطة فحسب، إن المنهج النظري الإسلامي المنير العظيم، سيظل محبوساً بين المجلدات وعبر الأشرطة، ما لم يتحول هذا المنهج في حياتنا إلى منهج حياة، وإلى واقعٍ عملي.

    وأنا أقول: لقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم للإسلام العظيم دولةً من فتاتٍ متناثر، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء، أقام دولةً أذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، أقام دولة حولت الصحابة من رعاة للغنم إلى قادة للأمم -وتدبر معي- وذلك يوم أن نجح المصطفى صلى الله عليه وسلم في طبع عشرات الآلاف من النسخ من المنهج التربوي الإسلامي العظيم، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يطبعها بالحبر على صحائف الأوراق، وإنما طبعها على صحائف قلوب أصحابه بمدادٍ من التقى والنور.

    فانطلق الصحابة ليحولوا هذا المنهج على أرض الواقع إلى منهج حياة، وواقعٍ يتألق سمواً وروعةً وعظمةً وجلالاً، وإن أعظم خدمة نقدمها اليوم لديننا -أيها الأحبة- أن نشهد للإسلام شهادة عملية على أرض الواقع، كلٌ في موطن إنتاجه وموطن عطائه، فنحن لا نريد أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة على المنابر، وإنما نريد أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة لدين الله كلٌ في موقع إنتاجه وعطائه، بحسب ما منَّ الله عز وجل به عليه من قدرات وطاقات.

    ثم السبيل الثاني أن نتحرك بين الناس، بعد أن نحول أخلاق هذا الدين في حياتنا إلى واقع أن نتحرك بين الناس لدعوتهم إلى هذا الدين العظيم، وإلى أخلاق هذا الدين العظيم.

    وأسأل الله العظيم الحليم الكريم جل وعلا أن يردنا إلى هذه المعاني رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إليه، وأن يرد إلى الأمة عزها ومجدها وكرامتها، وأن يؤلف بين قلوبنا، وأن يوحد بين صفوفنا، وأن يشف صدور قوم مؤمنين، وأن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال.

    وأسأله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، أن ينصر الإسلام والمجاهدين في كل مكان، وأن يقر أعيننا بنصرة الإسلام، وأن يجعل هذا البلد الكريم سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718743

    عدد مرات الحفظ

    766201054