باب الغصب: وهو الاستيلاء على حق غيره قهراً، بغير حق من عقارٍ، ومنقول، وإن غصب كلباً يقتنى، أو خمر ذمي ردهما، ولا يُرد جلد ميتة، وإتلاف الثلاثة هدر، وإن استولى على حر لم يضمنه، وإن استعمله كرهاً، أو حبسه، فعليه أجرته، ويلزم رد المغصوب بزيادته، وإن غرم أضعافه، وإن بنى في الأرض، أو غرس لزمه القلع، وأرش نقصها، وتسويتها، والأجرة، ولو غصب جارحاً، أو عبداً، أو فرساً، فحصل بذلك صيدٌ فلمالكه وإن ضرب المصوغ، ونسج الغزل وقصر الثوب أو صبغه ونجر الخشبة ونحوه، أو صار الحب زرعاً والبيضة فرخاً والنوى غرساً، رده وأرش نقصه ولا شيء للغاصب ويلزمه ضمان نقصه، وإن خصى الرقيق رده مع قيمته وما نقص بسعر لم يضمن ولا بمرض عاد ببرئه وإن عاد بتعليم صنعة ضمن النقص].
تقدم لنا جملةٌ من أحكام العارية، وذكرنا من ذلك تعريف العارية في اللغة والاصطلاح، وحكم العارية بالنسبة للمعير، وبالنسبة للمستعير، وما يتعلق بشروط العارية، وهل العارية مضمونة أو أنها ليست مضمونةً؟ وتكلمنا على هذه المسألة، وأن اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنها ليست مضمونة إلا بالشرط، وأن المشهور من المذهب أنها مضمونة إلا في أربع صور، وذكرنا هذه الصور، وأيضاً تعرضنا للفرق بين العارية والإجارة، وذكرنا عدة فروقٍ بين البابين.
ثم بعد ذلك في آخر باب العارية، ذكر المؤلف شيئاً من الاختلاف بين القابض، والمالك.
هذه مجموعة صور في الاختلاف بين المالك وقابض العين:
الصورة الأولى: إذا قال المالك: أجّرتك، وقال من بيده العين: بل أعرتني، وذلك عقب العقد مباشرةً، ولنفرض أن السيارة بيد زيد، وهي لعمرو، وعمرو يقول: أجرتك، وزيد الذي قبض السيارة يقول: لا، بل أعرتني، فمن القول قوله؟ يقول المؤلف رحمه الله بأن القول قول القابض الذي يدعي الإعارة، ولهذا قال: (قُبل قول مدعي الإعارة) ففي هذه الصورة القول قول مدعي الإعارة، والعلة في ذلك أن الأصل عدم عقد الإجارة.
الصورة الثانية: قال المالك: أعرتك، وقال من بيده العين: بل أجرتني، عقب العقد، فمن القول قوله؟ يقول المؤلف رحمه الله: القول قول مدعي الإعارة؛ والعلة في ذلك -كما سلف- أن الأصل عدم عقد الإجارة، وحينئذٍ ترد العين إلى مالكها، فهاتان صورتان.
هذه الصورة الثالثة: إذا اختلف المالك والقابض في الإجارة والإعارة، وذلك بعد أن مضت مدة لها أجرة، المالك يقول: أجرتك، والقابض يقول: أعرتني.
مثال ذلك: السيارة بيد عمرو، والمالك هو زيد، والسيارة بيد عمرو لها يوم، والمالك يقول: أجرتك، والقابض يقول: أعرتني، فالمالك ماذا يستفيد إذا قال: أجرتك؟ يستفيد الأجرة، فهو يدعي الأجرة، والقابض ينفي الأجرة، فيقول المؤلف رحمه الله: القول قول المالك؛ لأن الأصل في أموال الآدميين الضمان، فهو الآن يدعي الأجرة، وأن المنافع مضمونة عليه، والمستعير يدعي الإعارة، وأن المنافع مباحة، ليست مضمونةً عليه، فيقول المؤلف رحمه الله: القول قول المالك بأجرة المثل، فننظر مثلاً هذه السيارة كم أجرتها في اليوم؟ أجرتها في اليوم تساوي مائة ريال، ندفعها للمالك، فالقول قول المالك، مع يمينه، هذه الصورة الثالثة.
فأصبح عندنا ثلاث صور:
الصورة الأولى: إذا اختلفا في الإعارة والإجارة عقب العقد.
الصورة الثانية: إذا اختلفا في الإجارة والإعارة عقب العقد أيضاً، القول يكون قول مدعي الإعارة في الصورتين.
الصورة الثالثة: إذا اختلفا في الإجارة والإعارة بعد مضي مدة يكون لها أجرة، فالقول قول المالك.
الصورة الرابعة، قال القابض: أعرتني، وقال المالك: لا، أنت غصبتني، ما أعرتك، يختلفان في أي شيء؟ في الغصب والإعارة، فالمالك يقول: غصبتني، والقابض يقول: أعرتني.
أو القابض يقول: أجرتني، والمالك يقول: لا، بل غصبتني، هذه الصورة الخامسة.
الصورة السادسة: المالك يقول: غصبتني، والقابض يقول: أجرتني، فمن القول قوله والسلعة تالفة؟ ففي الصورة الرابعة والخامسة، المالك قال: غصبتني، والقابض قال: أعرتني، والصورة السادسة: المالك قال: غصبتني، والقابض قال: أجرتني، فمن القول قوله؟ المؤلف رحمه الله يقول: بأن القول قول المالك، ولهذا قال رحمه الله: (فقول المالك) القول قول المالك؛ لأن المالك يدعي الغصب، والعين المغصوبة مضمونة، حتى المنافع مضمونة، يعني: في صورة ما إذا اختلفا في الإعارة والغصب، القول قول المالك، والمنافع هنا على المستعير ليست مضمونة، لكن إذا قلنا بأنها غصب فإنها تكون مضمونة على القابض، والأصل في أموال الآدميين الضمان.
الصورة الخامسة: قال المالك: غصبتني، قال القابض -الذي بيده العين-: أنا ما غصبتك، بل أجرتني، القول قول من؟ يقول المؤلف رحمه الله: قول المالك، لماذا؟ لأن العين المؤجرة أمانة، ما تضمن إلا بالتعدي والتفريط، ولكن العين المغصوبة مضمونة مطلقًا، والأصل في أموال الآدميين الضمان.
هذه الصورة السادسة، قال المالك: أعرتك السيارة، والسيارة قد تلفت، قال: لا، بل أجرتني، القول قول المالك، فهل تكون مضمونة؟ على المذهب العارية مضمونة، فالمالك يقول: أعرتك لكي يُضمَّنه، والقابض يقول: أجرتني؛ لكي لا يضمن؛ لأن العين المستأجرة أمانة، ما تضمن إلا بالتعدي أو التفريط، فيقول المؤلف رحمه الله: القول قول المالك؛ لأن الأصل في أموال الآدميين الضمان.
قال القابض: أنا رددت السلعة عليك، قال المالك: لا، أنت ما رددتنيها، فمن القول قوله؟ يقول المؤلف رحمه الله: القول قول المالك، لماذا؟ لأن الأصل عدم الرد، والأصل -كما تقدم- في أموال الآدميين الضمان.
والصواب في هذه المسألة: أن نذكر ضابطاً يجمعها، فنقول: هذه الاختلافات إن كان هناك بينة، فإننا نرجع للبينة، وإن لم يكن هناك بينة نرجع للقرائن، فقد تكون هناك قرائن تؤيد قول أحدهما، كما لو كان هذا الشخص معروفاً بالكذب والتساهل، وهذا معروف بالعدالة والنزاهة، فإذا كان هناك بينة نرجع إلى البينات، وإن لم يكن هناك بينة نرجع للقرائن.
فإذا لم يكن هناك شيء من القرائن ننظر إلى العين، أقبضت بالإذن أم بدون إذن؟
فإذا كانت مقبوضة بالإذن. القابض قبضها بإذن المالك، والمالك يعترف أنها مقبوضة بالإذن، فحكمها حكم الأمانة، والأمين قوله مقبول، وإذا لم يكن شيء من ذلك نرجع إلى كلام العلماء رحمهم الله.
فالخلاصة في تلك المراتب:
المرتبة الأولى: إن كان هناك بينات نرجع إلى البينات، وإن لم يكن هناك بينات نرجع إلى القرائن وهذه المرتبة الثانية، وإن لم يكن هناك قرائن، ننظر إلى الإذن، إن كانت السلعة أو العين قبضها القابض بإذن المالك، والمالك يعترف بذلك، فهي في حكم الأمانة كما تقدم، والأمين قوله مقبول، وهذه المرتبة الثالثة، وإذا لم يكن شيءٌ من ذلك نرجع إلى كلام العلماء رحمهم الله، وهذه المرتبة الرابعة.
والغصب حكمه محرم ولا يجوز؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل، والله عزّ وجل يقول: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، وفي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين يوم القيامة )، والإجماع منعقد على تحريمه، والنظر الصحيح يقتضي ذلك، فإن القول بعدم تحريمه يؤدي إلى الفوضى، واختلال الأمن، وتسلط الناس بعضهم على بعض.
فضابط معرفة كون هذا الشخص غاصباً أو غير غاصب هو العرف.
وقولنا أيضاً: (على حق الغير) هذا يشمل الأموال والمختصات، وسبق أن ذكرنا تعريف المال، وأن المال: هو كل ما أُبيح الانتفاع به، والعقد عليه، والمختص: هو كل ما أُبيح الانتفاع به، ولم يبح العقد عليه، مثل: كلب الصيد، وكلب الماشية يباح لك أن تنتفع به، لكن لا يباح لك أن تعقد عليه.
والمال مثل: السيارات، والعقارات، إلى آخره، وهذه يباح أن تنتفع بها، ولك أن تعقد عليها، بخلاف المختص.
المغصوب أنواع:
النوع الثاني: العقار، وهل يدخله الغصب؟ جمهور العلماء على أن العقار يدخله الغصب، فإذا استولى عليه عرفاً بغير حق قهراً، فنقول: بأنه غصب، ويدل لذلك ما تقدم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين يوم القيامة )، وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة رحمه الله، وهو أن الغصب لا يكون في العقار؛ لأنه لا يتصور الغصب فيه؛ إذ لا يمكن نقله وتحويله، فلا يتصور فيه الغصب، والصواب في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، وأن النقل والتحويل ليسا شرطاً للغصب، بل إذا حصل الاستيلاء على حق الغير قهراً، عرفاً، فهذا هو الغصب، ولا يشترط النقل والتحويل.
هذا النوع الثالث من أنواع المغصوب، ذكرنا النوع الأول، وهو المنقولات، وأن الغصب يدخله.
النوع الثاني: العقارات.
النوع الثالث: المختصات، مثل: كلب الصيد، وكلب الحرس، وكلب الماشية.. إلخ، وقد ذكرنا تعريف المختص، فهذه أيضاً يدخلها الغصب، وعلى هذا إذا غصب كلب صيدٍ، أو كلب حرس، أو كلب ماشيةٍ، إذا استولى عليه بغير حق نقول بأن هذا غصب، ويجب عليه أن يرده.
وقال رحمه الله: (أو خمر ذمي ردهما).
هذا النوع الرابع، إذا غصب خمر ذمي، وأهل الذمة، كما تقدم -النصارى- يستحلون الخمر، وإن كانت محرمة، ويقرون على شربها بشرط أن تكون مستورة، فإذا كانت مستورة فإن أهل الذمة يقرون على شربها؛ لأنهم يستحلونها؛ وإن كانت محرمة في شرائعهم، وعلى هذا إذا غصب هذه الخمر التي للذمي، بشرط أن تكون محترمة، -والمحترمة المستورة، أما غير المستورة التي يجاهر بها فهذه لا يجب ردها، ولكن يجب رد خمر الذمي المستورة- فإذا غصبها نقول: يجب عليه أن يردها، وهي تعتبر مالاً عنده؛ لأن المسلمين يقرونه على شربها.
قال رحمه الله: (ولا يرد جلد ميتةٍ).
قلنا: هل المختصات تدخل تحت الغصب؟ تدخل تحت الغصب، ويجب عليه أن يردها، قال المؤلف: جلد الميتة لا يجب عليه أن يرده، فلماذا يرون أن جلد الميتة لا يجب أن يرد؟ لأنهم في المذهب لا يرون أن جلد الميتة يطهر بالدبغ، وإن كان يباح الانتفاع به، والصواب في ذلك، أنه يطهر بالدبغ، وإذا كان كذلك فالصحيح أنه يكون مالاً؛ لأنه طهر بالدبغ، وليس مختصاً، بل يعاوض عليه، وعلى هذا يجب أن يرد.
قال المؤلف رحمه الله: (وإتلاف الثلاثة هدر).
يعني: لا عِوض عليه، ما هي الثلاثة؟ قال: الكلب، كلب الحرس، والماشية.. إلخ، فلو أنه غصبه يجب أن يرده، لكن لو أنه أتلفه، يكون هدراً، لماذا؟ لأنه ليس له قيمة شرعاً، (والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب)، وأيضاً خمر الذمي ليس لها قيمة شرعاً، وإن كانت عنده لها قيمة، فإذا أتلفها فإنه لا شيء فيها، ولا يجب عليه الضمان، وإن كان يجب عليه أن يردها، وجلد الميتة أيضاً يرون أنه لا قيمة له؛ لأنهم لا يرون أنه يطهر بالدبغ، والصواب في هذه المسألة -كما سلف- أنه يطهر بالدبغ، وعلى هذا فإتلافه لا يكون هدراً، بل هو مال يعاوض عليه.
هذا النوع الخامس من أنواع المغصوب: الحر، فالحر هل يدخل تحت الغصب؟ أي: هل يدخل تحت اليد؟ بمعنى: هل يصح غصبه؟ المؤلف رحمه الله تعالى يرى أنه لا يدخل تحت اليد، بمعنى: أنه لا يصح غصبه، لماذا؟ لأن الحر ليس مالاً، والغصب إنما يكون للأموال، وعكس ذلك الرقيق، فالرقيق مال يدخل تحت اليد ويصح غصبه، فالحر يقول المؤلف رحمه الله: بأنه ليس مالاً، وحينئذٍ لا يدخل تحت اليد.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: لم يضمنه، وهذا هو المذهب، وعلى هذا لو أخذ هذا الحر وحبسه، ثم تلف هذا الحر فإنه لا يضمنه، لماذا؟ لأنه كما تقدم ليس مالاً، ولا يدخل تحت اليد، ولا يكون الاستيلاء عليه غصباً، وهذا هو المشهور من المذهب.
والرأي الثاني: أنه يضمن الصغير؛ لأن الصغير لا يمكنه أن يمتنع، بخلاف الكبير.
والرأي الثالث: أنه يضمن الكبير والصغير.
فالآراء في هذه المسألة ثلاثة:
الرأي الأول: وهو المشهور من المذهب، أنه لا ضمان؛ لعدم دخوله تحت اليد، ولا يكون الاستيلاء عليه غصباً.
والرأي الثاني: التفريق بين الكبير والصغير.
والرأي الثالث: أنه يدخل تحت اليد، ويكون الاستيلاء عليه غصباً.
هذا بالنسبة لنفس الحر، وأما بالنسبة لمنافعه قال رحمه الله: (وإن استعمله كرهاً، أو حبسه فعليه أجرته).
إذا استعمله كرهاً فعليه أجرته؛ لأنه استوفى منافعه، ومنافعه مال متقوم، أو مثلاً: حبسه مدة يوم، أو يومين، أو ثلاثة أيام.. إلخ، فهل يضمن المنافع؟ يضمن المنافع؛ لأنه فوت منافعه.
ذكر المؤلف خمسة أنواع من أنواع المغصوب، وبقي أنواع في الحقيقة لو سردها المؤلف لكان أحسن، وستأتينا إن شاء الله.
الغاصب يلزمه أمور:
الأمر الثاني: قال رحمه الله: (رد المغصوب) إذا كان باقياً وقدر على رده. فالأمر الثاني مما يلزمه: يجب عليك أن ترد المغصوب، ما دمت تقدر على رده.
هذا الأمر الثالث: يجب أن ترد المغصوب بزياداته، فمثلاً: لو غصب شاة وولدت، يجب أن يرد الشاة وولدها، أو مثلاً: غصب سيارة وعمل عليها، يجب أن يردها وأجرتها، وهكذا، فالزيادة يجب عليه أن يردها، سواء كانت متصلة أو كانت منفصلة.
قال رحمه الله: (وإن غرم أضعافه).
يعني: يجب عليه أن يرد المغصوب ولو غرم أضعافه، فمثلاً: غصب حديداً وجعله في أساسات البناء، وبنى عليه عمارة، هل نقول: اهدم العمارة، وأخرج الحديد، ورده إلى صاحبه، يجب عليك، ما دمت تقدر على ذلك؟ نعم يجب عليه أن يرده ولو غرم أضعافه، فمثلاً: عمارة بمليون، وهو يحتاج إلى مائتي ألف لكسر العمارة، يجب عليه أن يرده ولو كان ذلك؛ لحديث سعيد بن زيد : ( ليس لعرقٍ ظالمٍ حق )، والغاصب ظالم، فهو الذي تعدى، فيجب عليه أنه يهدم، وأن يحفر، وأن يرد المغصوب إلى أهله، وإن نقص أيضاً، فعليه ضمان النقص، فلا يكفي رده فقط، وهذا ما عليه جماهير العلماء؛ لأن هذا ظالم، والظالم يُعامل بأضيق الأمرين، وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: رأي الحنفية، يقولون: إذا غصب ساجةً، وبنى عليها؛ انقطع حق المالك، ووجبت القيمة ولزمه قيمتها، والذي يظهر -والله أعلم- أن مثل هذا يُرجع فيه للسياسة الشرعية، فقد يرى الحاكم أنه يأخذ برأي الجمهور، نقول: يلزم رده ولو كان بالهدم، إذا كان الناس لا يرتدعون إلا بمثل هذا الشيء، فقول الجمهور قوي، حتى ولو أدى ذلك إلى هدم العمارة، والضرر الذي يلحق الغاصب هو الذي تسبب فيه، وهو الذي جره لنفسه، فيظهر -والله أعلم- أن هذا يرجع إلى اجتهاد القاضي.
سبق أن ذكرنا أن العلماء رحمهم الله دائماً يقرنون بين الغراس والبناء، ولماذا يقرنون بين الغراس والبناء في الأحكام؟ لأن الغراس يشبه البناء، لكون المدة فيه طويلة، فمثلاً: غرس النخل، فالنخل يحتاج لسنوات، والأشجار كذلك، فغرس أشجار تفاح أو برتقال، تحتاج هذه لسنوات كالبناء، ولهذا يقرنون بين الغراس والبناء؛ لأن المدة فيه طويلة.
قوله رحمه الله: (وإن بنى في الأرض أو غرس لزمه القلع)، لو غصب الأرض وبنى عليها عمارة خمسة أدوار، أو غرس فيها نخيلاً أو أشجار زيتون أو نحو ذلك، قال رحمه الله: لزمه القلع، هذا الأمر الأول، ويجب عليه أن يهدم العمارة، فلو أن العمارة كلفت ثلاثة ملايين، يهدمها ولو كلفت ذلك؛ لحديث ( ليس لعرقٍ ظالمٍ حق ) وهذا رأي جماهير العلماء رحمهم الله.
والحنفية رحمهم الله تعالى لهم تفصيل في ذلك، يعني: ينظر إلى قيمة البناء، أهي أكثر من قيمة الأرض، أم لا؟ فإن كانت قيمة البناء أكثر فإنه يضمن قيمة الأرض، ولا نأمره أن يهدم البناء، بل نقول: أعط المالك قيمة الأرض، وهذا ما ذهب إليه الحنفية رحمهم الله.
والصواب في ذلك أن نقول كما تقدم: الأصل أنه يؤمر بالهدم؛ لأنه ليس (لعرق ظالم حق) اللهم إلا أننا نستثني من ذلك إذا فحُش الضرر، يعني: كونه يقلع الغراس هذا الضرر سهل، مثلاً: غرس نخيلاً، عليه أن يقلع النخيل، ويضعه في مكان آخر، أو مثلاً: غرس أشجار زيتون، يقلعه، ويضعه في مكان آخر، أو مثلاً: بنى بناءً سهلاً، يقلعه، فهذا ليس فيه مشكلة، ولكن إذا بنى أدواراً مثلاً: بنى خمسة أدوار، أو ستة أدوار.. إلخ، إذا فحُش الضرر أنقول: يجب أن تهدم أم لا؟ الأصل: إذا لم يرض المالك إلا بالأرض، نقول: يجب عليه أن يهدم، وإن رضي فالأمر في ذلك سهل، يعني: رضي المالك أن يأخذ قيمة الأرض، فالأمر في ذلك سهل، المهم مثل هذا يظهر -والله أعلم- أن نقول بالتفصيل: فإن كان الضرر يسيراً فيجب -كما ذكر المؤلف- أن يُقلَع الغرس، وأن يُهدَم البناء، وإن كان الضرر فاحشاً كثيراً، فهذا يرجع إلى اجتهاد القاضي، إن رأى القاضي أن يلزمه بالهدم والقلع ألزمه، وإن رأى أن يعوض أو يخير المالك بين: أن يأخذ البناء بقيمته، أو الغراس بقيمته، أو يأخذ قيمة الأرض، فله ذلك، يعني: الغاصب، على كل الأحوال نعامله بأضيق الأمرين، فإن كان الضرر يسيراً فالأصل وجوب القلع والغرس، اللهم إلا إذا رضي المالك فالأمر راجع إليه.
قوله رحمه الله: (وأرش نقصها)، هذا الأمر الثاني مما يلزم هذا الغاصب: أرش النقص، فالأرض إذا غُرس فيها سيحصل لها نقص، أو بُني فيها قد يحصل لها نقص، فإذا نقصت فنقول: يلزم بأرش النقص.
قوله رحمه الله: (وتسويتها)، هذا الأمر الثالث، أيضاً يجب عليه أن يسوي الأرض بعد قلع الغراس وهدم البناء.
قوله رحمه الله: (والأجرة)، هذا الأمر الرابع، تجب الأجرة، مثلاً: غصبها لمدة شهر، أو شهرين.. إلخ، وهذه الأرض لها منافع، وهو فوت هذه المنافع على المالك، فتجب الأجرة على الغاصب.
والأمر الخامس: ما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى، وهو التوبة، فيجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل كما أسلفنا.
هذا النوع السادس من أنواع المغصوب، إذا غصب شيئاً له كسب، مثلاً غصب سيارةً، واكتسب عليها، أو غصب جملاً وحمل عليه الأثقال، أو غصب شيئاً اكتسب عليه، سيارة، أو دابة، أو نحو ذلك، (فحصل بذلك صيد فلمالكه) أو مثلاً: غصب السيارة وأجرها، فالأجرة للمالك، أو مثلاً: غصب الفرس وصاد عليه، أو غصب الكلب وصاد به، فنقول: الصيد هذا يكون للمالك، وقد تقدم أن المغصوب يرد بزيادته، وهل الغاصب له أجرة على عمله هذا؟ نقول: ليس له أجرة؛ لأنه معتدٍ بالغصب.
إذا عمل الغاصب في المغصوب عملاً: نسج الغزل، والغزل جَعْلُه ثوباً، قصر الثوب، أي: بيّضه، أو صبغه، أو نجر الخشب، أي: جعل الخشب دولاباً ونحوه، أو صار الحب زرعاً، أو البيضة فرخاً، أو النوى غرساً، رده وأرش نقصه ولا شيء للغاصب إذا عمل فيه عملاً: خاط الثوب، أو جعل الحديد أبواباً أو شبابيك ونحو ذلك من الأعمال، نقول: يجب عليك أولاً أن ترده، وإن نقص في هذا العمل، فعليك أرش النقص، وهل له أجرة على عمله، أو ليس له أجرة؟ نقول: لا أجرة لك.
قال رحمه الله: (وإن خصى الرقيق رده مع قيمته).
الخصاء: هو قطع الجلدة مع البيضتين، فإذا فعل ذلك فإنه يجب عليه أن يرده مع قيمته؛ لأن القاعدة في باب الديات: ما كان من شيء واحد في الإنسان ففيه دية كاملة، وما كان من شيئين ففيه نصف الدية، مثلاً: العينان فيهما دية، وإحداهما فيها نصف الدية، وعلى هذا فَقِسْ، وهنا قال المؤلف رحمه الله تعالى: رده مع قيمته؛ إذ إن الخصيتين تجب فيهما الدية كاملة للحر، وفي الرقيق القيمة.
إذا نقصت العين لنزول السعر، هل يضمن نقص السعر أو لا يضمن؟ مثال ذلك: غصب سيارةً اليوم وقيمتها تساوي عشرة آلاف، وفي المساء نزلت الأسعار، وأصبحت تساوي ثمانية آلاف، ثم ردها من الغد، لما ردها كم تساوي ثمانية آلاف، فهل يجب عليه أن يضمن هذا النقص؟ المؤلف رحمه الله يقول: إذا نقص السعر لا يجب عليه، والعلة في ذلك أنه رد العين بحالها، لم ينقص منها شيء، واختلاف السعر هذا ليس من فعله.
والرأي الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه يجب عليه ضمان نقص السعر، وهذا القول هو الصواب؛ لأن السعر صفة في العين، وقد فات بسبب الغاصب، فيجب ضمانه، وهذا هو الصواب، لأن القاعدة أن الغاصب يعامل بأضيق الأمرين.
ولنفرض أنه غصب شاةً، والشاة تساوي خمسمائة، فمرضت الشاة، وأصبحت تساوي أربعمائة، ثم برئت، ورجعت قيمتها إلى خمسمائة، هل يضمن أو لا يضمن؟ يقول المؤلف رحمه الله: لا يضمن، فهي كانت لما غصبها تساوي خمسمائة، فمرضت، وأصبحت تساوي أربعمائة، ثم برئت، ورجعت قيمتها إلى خمسمائة، هل يضمن، أم نقول بأنه لا يضمن؟ يقول المؤلف: لا يضمن، لماذا؟ لأنه زال موجب الضمان.
والرأي الثاني: أنه يضمن، وهذا القول عند الشافعية والحنابلة، لماذا؟ لأنه يجب عليه أن يرد في كل لحظة، حتى في حال المرض يجب عليه أن يرد، يعني: حتى وإن كانت قيمتها أربعمائة يجب عليه أن يرد، وإذا ردها وهي قيمتها أربعمائة، يجب عليه أن يضمن مائة، وهذا القول هو الصواب، يعني: ليس له أن يحبسها حتى تبرأ، بل يجب عليه أن يرد وإن كانت قيمتها تساوي أربعمائة، وحينئذٍ إذا رد وقيمتها أربعمائة فإنه يضمن النقص.
صورة المسألة: غصب رقيقاً يساوي ألف ريال، وكان سميناً فأصابه الهزال وأصبح يساوي تسعمائة ريال، ثم تعلم صنعة، وأصبحت قيمته لما تعلم الصنعة تساوي ألف ريال، هل يضمن النقص بسبب الهزال؟ فهو الآن هزيل لكن بسبب أنه تعلم صنعة زادت قيمته إلى ألف ريال، فهل يضمن هذه الصفة التي فاتت وهي السمن؟ نقول: بأنه يضمن هذه الصفة التي فاتت، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر