فصل: الصلح على إنكار.
ومن ادُعي عليه بعين أو دين فسكت، أو أنكر وهو يجهله، ثم صَالح بمال صح، وهو للمدعي بيع يرد معيبه ويفسخ الصلح].
تقدم لنا جملة من أحكام الحوالة، وذكرنا من هذه الأحكام ما يتعلق بتعريف الحوالة في اللغة والاصطلاح، وأن الحوالة: هي نقل الحق من ذمة إلى ذمة أخرى، وأيضاً سبق لنا أن الحوالة يشترط لها شروط:
الشرط الأول: أن تكون على الدين المستقر، فالدين المحال عليه يشترط أن يكون مستقراً على ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.
والشرط الثاني: اتفاق الدينين، وذكر المؤلف رحمه الله أنه يشترط اتفاق الدينين في أربعة أمور: في الجنس وفي الوصف وفي القدر وفي الوقت.
والشرط الثالث: رضا المحيل، وهل يشترط رضا المحال؟ ذكرنا أن المشهور من مذهب الإمام أحمد : أن المحال لا يشترط رضاه، ويجب عليه أن يتحول إذا كانت الحوالة على مليء، وعند جمهور أهل العلم أنه يشترط رضا المحال، وكذلك أيضاً المحال عليه لا يشترط رضاه.
وتقدم لنا أيضاً فائدة الحوالة، وأن فائدة الحوالة أنها إذا تمت بشروطها فإنها تنقل الحق من ذمة إلى ذمة أخرى، وأيضاً تقدم لنا ما يتعلق باصطلاح المليء في باب الحوالة، وأن المليء في باب الحوالة: هو القادر على الوفاء ببدنه وماله وقوله، وكنا في آخر مسألة في باب الحوالة وهي قول المؤلف رحمه الله: (ومن أُحيل بثمن مبيع، أو أُحيل به عليه، فبان البيع باطلاً فلا حوالة، وإذا فُسخ البيع لم تبطل ولهما أن يحيلا).
وذكرنا أن هذه الجملة تحتها صورتان:
الصورة الأولى: قول المؤلف رحمه الله: (ومن أُحيل بثمن مبيع)، وصورة المسألة: أن المشتري يحيل البائع على من يريد منه ديناً.
مثال ذلك: زيد باع السيارة على عمرو بعشرة آلاف، وعمرو له دين على صالح مقداره عشرة آلاف، فأحال المشتري عمرو البائع زيداً على صالح، الآن البائع تحول على صالح، فإذا تبين أن العقد فاسد فإن الحوالة فاسدة؛ لأن الحوالة فرع عن العقد، فلو كان العقد فاسداً لاختلال شرط من شروط صحة البيع -كأن يكون المثمن مجهولاً، أو يكون المثمن غير مقدور على تسليمه أو غير ذلك- فإن عقد الحوالة يبطل لكون الحوالة فرعاً عن هذا العقد.
وإذا فُسخ العقد فإن الحوالة تبقى على ما هي عليه ولا تبطل، ففي هذا المثال أحال عمرو المشتري البائع زيداً على صالح، فإذا حصل التفاسخ بين عمرو وبين زيد، فإن المشتري عمداً يطالب البائع زيداً بالثمن؛ لأنه سدد له عن طريق الحوالة، وإن كان ما أعطاه مباشرة لكن سدد له عن طريق الحوالة فله أن يطالبه.
فإذا فُسخ العقد فالحوالة باقية، أصبح زيد الآن يطالب صالحاً، وعمرو يطالب زيداً الذي باع عليه، فله أن يطالبه بالثمن والحوالة تبقى كما هي، لا نقول بأن الحوالة بطلت وزيد يرجع على عمرو بل نقول: الحوالة باقية وزيد إنما يرجع على صالح؛ لأن عقد البيع صحيح، وما تفرع عنه من حوالة فهو صحيح إنما فُسخ بتراضيهما، لكن قال المؤلف: (ولهما أن يحيلا).
يعني: الآن عمرو سيطالب البائع زيداً بالثمن، فله أن يحيله على صالح؛ لأنه هو يريد من صالح هذا الثمن، فعمرو أحال زيداً، فإذا جاء المشتري إلى البائع، وقال: أعطني الثمن فللبائع أن يحيله على صالح، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ولهما أن يحيلا) هذه هي الصورة الأولى.
الصورة الثانية: قال رحمه الله: (أو أُحيل به عليه).
من أُحيل بثمن أو أُحيل به عليه فبان البيع باطلاً فلا حوالة، فالذي أحال البائع في الصورة الأولى هو الذي أحال المشتري، أما هنا فالذي أحال هو البائع.
مثال ذلك: زيد باع سيارة على عمرو بعشرة آلاف، وصالح يريد من زيد ديناً، فالبائع زيد أحال صالحاً على المشتري (عمرو)؛ لأن زيداً يريد من عمرو عشرة آلاف، فإذا بان البيع باطلاً فإن الحوالة تبطل لما تقدم من التعليل، فإذا فُسخ العقد بين المتعاقدين بإقالة أو ظهور عيب أو نحو ذلك فإن الحوالة تبقى على ما هي عليه، فصالح يريد من زيد عشرة آلاف، وزيد أحاله على المشتري عمرو، فيُفسخ العقد والحوالة تبقى على ما هي عليه ولا تبطل، وصالح لا يطالب زيداً وإنما يطالب المشتري الذي هو عمرو، لكن لعمرو أن يحيل صالحاً على البائع، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ولهما أن يحيلا) للمشتري الذي هو عمرو، ولصالح الذي يطالب المشتري بالدين؛ لأن زيداً أحال صالحاً على المشتري فللمشتري أن يحيل صالحا على البائع.
هذا الباب يبحث فيه العلماء رحمهم الله تعالى ما يتعلق بأحكام الصلح، وكذلك أيضاً يبحثون فيه ما يتعلق بأحكام الجيران، ويبحثون فيه ما يتعلق بأحكام المرافق العامة كالطرقات ونحو ذلك.
كما أن جملةً من المرافق العامة كالطرقات، والأودية، والأنهار، وأماكن البيع والشراء، والصيد والاحتطاب، يبحث العلماء رحمهم الله جملة منها في باب الصلح، ويبحثون جملةً أخرى في باب إحياء الموات.
أما أحكام الجيران فيبحثها العلماء رحمهم الله تعالى في أحكام الصلح، والعلة في ذلك: أن الجيران وخصوصاً في الزمن السابق كثيراً ما يحدث بينهم شيء من النزاع والخلاف؛ لأنهم يشتركون في شيء من حقوق الملك، فيقع بينهم شيء من الخلاف والنزاع، فيُحتاج إلى الإصلاح بينهم فناسب أن تُذكر أحكام الجوار في باب الصلح.
والصلح من العقود التي يُقصد منها إزالة الخلاف والشقاق بين الناس، ولهذا اغتُفر فيها بعض الأشياء التي تكون محظورة في غير هذا الباب، كما سيأتي إن شاء الله، وسننبه ونشير إلى ذلك.
والصلح مشروع والأصل فيه القرآن والسنة والإجماع، أما القرآن فقول الله عز وجل: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، وقال سبحانه وتعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، وقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10].
وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : ( وأن تعدل بين اثنين صدقة )، وفي البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بني عمرو بن عوف يصلح بينهم، والصلح من محاسن هذا الدين، لكي يعيش المسلم بهموم إخوانه وأحاسيسهم ومشاعرهم، وألا يبقى منفرداً تغلب عليه الأنانية وحب الذات.
النوع الأول: الصلح بين المسلمين وأهل الحرب، وهذا يبحثه العلماء في كتاب الجهاد.
والنوع الثاني: الصلح بين أهل العدل وأهل البغي، وهذا يبحثه العلماء رحمهم الله تعالى في باب البغاة.
والنوع الثالث: الصلح بين الزوجين، وهذا يبحثه العلماء رحمهم الله في باب عشرة النساء، يتكلمون عن النشوز؛ نشوز الزوج والزوجة.
والنوع الرابع: الصلح بين المتخاصمين في الأموال، وهذا النوع هو ما يبحثه العلماء رحمهم الله في هذا الباب.
النوع الخامس: الصلح بين المتخاصمين في غير المال، وهذا يبحثه العلماء رحمهم الله في كتاب القضاء.
نقول: عرض الصلح بين المتخاصمين له أحوال:
الحالة الأولى: ألا يتبين للقاضي وجه الحق في المسألة، فيُشرع له في هذه الحالة أن يعرض الصلح بين المتخاصمين.
الحالة الثانية: أن يظهر للقاضي وجه الحق في المسألة، وأن الحق مع فلان، لكن لو قضى بهذا الحق لأدى ذلك إلى مفسدة، كأن يكون المتخاصمون ذوي رحِم، ويترتب على ذلك قطيعة رحِم ونحو ذلك، أو يترتب على ذلك فتنة، فإذا كان هناك مصلحة -وإن ظهر للقاضي وجه الحق في المسألة- فإنه يشُرع له أن يعرض الصلح.
الحالة الثالثة: إذا لم يكن شيء من ذلك، فإنه لا يجوز للقاضي أن يعرض الصلح إذا تبين أن الحق لزيد من الناس، ولا يترتب عليه مفسدة أو فتنة أو نحو ذلك، فيحكم له، أو يبين أن الحق ظهر له أنه لفلان، ولا بأس أن يقول بأن الحق لفلان، فإما أن تصطلحوا وإلا حكمت، لكن كونه يعرض الصلح مع تبين الحق أنه لزيد، وليس هناك مفسدة من هذا القضاء، ثم يعرض الصلح فهذا حكمه غير جائز.
وعرض الصلح إذا لم يكن من قبل القاضي، وإنما كان من شخص مصلح خارج عن القضاء، فنقول: لا بأس أن يعرض الصلح، ولو تبين له وجه الحق وليس هناك مفسدة من حكمه، فلا بأس أيضاً أن يعرض الصلح.
وبهذا يتبين لنا أنه لما كان مصلحاً، اغتُفر أن يبين وجه الحق، فمثلاً هو يعرف أن الحق لزيد أو لعمرو، وكونه يقضي بينهما هذا لا يترتب عليه شيء من المفاسد، لكن لما كان الغرض من ذلك هو الإصلاح، وهو مصلح اغتفر له في ذلك، فتبين لنا أن باب الصلح أوسع من غيره كأحكام المعاوضات، فأحكام المعاوضات يقصد منها الكسب والربح، أما هنا فيقصد منه الجمع وإزالة الخلاف والشقاق والشحناء.
الصلح ينقسم إلى قسمين في الجملة:
القسم الأول: صلح إقرار، وبدأ به المؤلف رحمه الله تعالى.
والقسم الثاني: صلح إنكار، وسيأتي بيان هذين القسمين.
مثاله على دين: ادعى عليه فقال: أنا أريد منك عشرة آلاف ريال ديناً، فقال: أنا أقر أنك تطلبني عشرة آلاف ريال دينا، وأنا لا أنكر.
ومثاله على عين كأن يقول: هذه الأرض التي يدك عليها هي لنا، قال: أنا أقر أنها لكم، أو قال: هذا الكتاب الذي بيدك هو كتابي، قال: أنا أقر أن هذا الكتاب الذي بيدي هو كتابك، ثم يصطلحان.
فالصلح إما أن يكون صلح إقرار، وإما أن يكون صلح إنكار، وصلح الإقرار إما أن يكون على دين، وإما أن يكون على عين، ومثلنا كما سبق.
قال المؤلف رحمه الله: (إذا أقر له بدين أو عين فأسقط أو وهب البعض وترك الباقي صح إن لم يكن شرطاه، ولا يصح ممن لا يصح تبرعه).
يقول المؤلف رحمه الله: صلح الإقرار هذا جائز، مثاله: ادعي عليه ديناً، فقال: أنا أريد منك عشرة آلاف ريال قرضاً أو ثمن مبيع أو غير ذلك، فهذا الدين إما أن يكون قرضاً، أو يكون ثمن مبيع، أو يكون قيمة متلف، وأسباب الحقوق كثيرة، فقال: أنا أقر أنك تطلبني عشرة آلاف ريال، ثم يصطلحان على خمسة آلاف ريال، قال المدعي: أعطني ثمانية آلاف ريال أو أعطني تسعة آلاف ريال وأسقط عنك بعض الدين، أو قال: وهبت لك ألفاً وأعطني تسعة، فالحكم هنا صحيح لكن بشروط كما سيأتي.
أو مثلاً ادعي عليه عيناً فقال: هذه الأرض التي بيدك هي لنا، قال: أنا أقر أنها لكم، ثم بعد ذلك أسقط عنه بعض الأرض فقال: أسقطت عنك نصف الأرض فأعطني النصف، أو وهبت لك نصف الأرض فأعطني النصف، يقول المؤلف رحمه الله: إن صلح الإقرار حكمه صحيح؛ لأن الأصل في الصلح الصحة والحِل لعموم قول الله عز وجل: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128].
وفي الحديث -وإن كان فيه ضعف-: ( الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً )، فالأصل في الصلح: الصحة، ولأنه كما ذكرنا أن الصلح يقصد منه إزالة البغضاء والشحناء، وهذا مقصود الشارع فيتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، ولهذا فإن التشديد من بعض الفقهاء في باب الصلح هذا فيه نظر، وهذه المسألة مهمة، فلابد أن يكون الفقيه ذا نظرة عامة في مقاصد الشريعة، فالشارع شرع الصلح لهدف عام ومقصد سامي، وهو إزالة البغضاء والشحناء وإيجاد الألفة والمحبة بين المسلمين، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يُشدد فيه، وذلك في حدود ما جاء في القرآن وفي السنة.
هذا الشرط الأول لصحة هذا الصلح: إذا لم يكن شرطاً.
يعني قال: أنا أقر لك بالدين بشرط أن تسقط عني بعضه، أو أقر لك بهذه العين أنها لك بشرط أن تسقط عني بعضها أو أن تهبني بعضها، هذا الشرط حرام لا يجوز؛ لأنه شرط أحل حراماً، فيجب عليه أن يقر بحق أخيه المسلم، أو يقر بحق المعصوم، وأما كونه يجعل الإسقاط أو الهبة شرطاً في الإقرار فهذا لا يجوز؛ لأنه يجب عليه أن يعطي الناس حقوقهم: ( ولا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ).
قال رحمه الله: (وممن لا يصح تبرعه).
هذا الشرط الثاني، ولأن هذا نوع من أنواع التبرع فلابد أن يكون المسقط أو الواهب ممن يصح تبرعه أي: بأن يكون بالغاً، عاقلاً، حراً، رشيداً، مالكاً، وعلى هذا إذا كان لا يصح تبرعه فلا يصح إسقاطه؛ لأن هذا نوع من الإسقاط ونوع من الهبة.
فمثلاً: لو ادعى مجنون على عاقل أنه يريد منه عشرة آلاف ريال، فقال العاقل: نعم، أنا أقر، فقال المجنون: أسقطت عنك ألفين، فهل يصح هذا الإسقاط؟
وكذلك بالنسبة للرقيق، أو الصبي، أو السفيه الذي لا يحسن التصرف في ماله، إذا قال: أسقطت فإن هذا لا يصح.
وهناك شرط ثالث لم يذكره المؤلف رحمه الله تعالى، وهو: ألا يكون ذلك بلفظ الصلح، نعم هم يشترطون ألا يكون ذلك بلفظ الصلح، فإن وقع بلفظ الصلح قالوا بأنه لا يصح؛ لأنه صالح عن بعض ماله ببعضه.
والرأي الثاني: أن هذا يصح حتى ولو كان بلفظ الصلح؛ لأن المقصود والعِبرة بالمعاني وليست العِبرة بالألفاظ والمباني، سواء وقع ذلك بلفظ الصلح، أو بلفظ الهبة، أو بلفظ الإسقاط، فهذا كله جائز.
إذاً: الصلح يشترط له ثلاثة شروط، وذكرنا أن الاشتراط المشهور عند الحنابلة: ألا يكون ذلك بلفظ الصلح، يعني: أن يكون بلفظ الإسقاط أو الهبة أو التبرع أو نحو ذلك، فنقول: العِبرة بالمعاني وليس بالألفاظ والمباني.
صورة المسألة: زيد يريد من عمرو ديناً قدره عشرة آلاف، حل الدين، ثم جاء إليه فقال: أعطني الدين، أنا أريد منك عشرة آلاف ريال، قال: أنا ما عندي إلا خمسة، أو ما عندي إلا سبعة آلاف، أعطيك هذه السبعة وتؤجل الباقي أو قال: أعطيك سبعة وتؤجل ألفين، وألفاً تسقطه، فاتفقا على ذلك ولم يكن شرطاً، بل أسقط بعض الدين، وأجل البعض الآخر، أخذ سبعة، وأسقط ألفين، وأجل ألفاً بعد شهر.
فقال المؤلف رحمه الله تعالى: صح الإسقاط، لكن التأجيل لا يصح؛ لأن فقهاء المذهب يرون أن الدين لا يتأجل بالتأجيل، فيقولون: يصح إسقاط ألفين، أما كونه أجل الألف الثالثة، فيقول: لا يصح كما تقدمت لنا هذه المسألة.
والرأي الثاني في هذه المسألة رأي الحنفية والمالكية: أنه يصح الإسقاط والتأجيل؛ لأن الأصل في الصلح الصحة والحل، وقولهم: الدين لا يتأجل بالتأجيل فهذا تقدم لنا، وذكرنا أن الصواب أن الدين يتأجل بالتأجيل، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
هذه عدة مسائل:
المسألة الأولى: صَالح عن المؤجل ببعضه حالاً، وهذه يسميها العلماء رحمهم الله بمسألة (ضع وتعجل)، فقوله: (صَالح عن المؤجل ببعضه حالاً) مثاله: رجل يريد عشرة آلاف ريال مؤجلة إلى سنة، وثمن المبيع يتأجل بالتأجيل، يعني ليست كل الديون تتأجل بالتأجيل، فقال البائع للمشتري: الثمن يحل بعد سنة وهو عشرة آلاف ريال، عجل الثمن الآن أعطني ثمانية آلاف حالة وأسقط عنك ألفين، فهل يصح ذلك أو لا يصح؟
المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه لا يصح، وهذا قول جمهور العلماء، وما هي العلة في ذلك؟ يقولون: لأنه لا يصح بيع الحلول والأجل، يعني كأنه اشترى الأجل هذا بألفين، فيقولون: بيع الحلول والأجل لا يصح.
وأيضاً يقولون: هناك علة أخرى، فكما أنه لا يجوز أن يؤخر ويزيد، فكذلك أيضاً لا يجوز أن يعجل وينقص.
والرأي الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، واختاره شيخ الإسلام أن هذا جائز ولا بأس به، وكما ذكر ابن القيم رحمه الله أن هذا عكس الربا؛ لأن الربا أن تؤخر وتزيد؛ لكن هنا تعجل وتسقط، ومما يدل لذلك أنه وارد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأيضاً فيه فائدة لكل من الدائن والمدين، فالمدين تبرأ ذمته ويسقط عنه بعض الدين، والدائن يتعجل حقه؛ لأنه قد يكون محتاجاً إلى هذا المال، فالدائن يتعجل حقه، والمدين له فائدتان: إبراء ذمته، وكذلك يسقط عنه بعض الحق، فالصحيح في ذلك أن هذه الصورة جائزة ولا بأس بها.
فيقول المؤلف رحمه الله: لا يصح، والمذهب: أنه يصح بشرط ألا يكون بلفظ الصلح؛ لكن فقهاء المذهب يقولون: إن كان بلفظ الإبراء ونحو ذلك فيصح الإسقاط، لكن التأجيل لا يصح، فظاهر كلام المؤلف يخالف المذهب، والصحيح أن هذا ليس شرطاً، ويقولون: يصح الإسقاط، أما التأجيل فيرون أنه لا يصح؛ لأنهم يرون أن الدين لا يتأجل بالتأجيل، وذكرنا أن الصحيح أن الدين يتأجل بالتأجيل.
وعلى هذا، فالصواب في هذه المسألة: أنه يصح الإسقاط ويصح التأجيل، فلو قال مثلاً: أنا أريد منك عشرة آلاف ريال ثم اتفقا على أنها تصير خمسة آلاف بعد أسبوع قد يكون فقيراً ما عنده شيء ويذهب يسعى ويبحث-، فقال: أعطني خمسة آلاف بعد أسبوع فعلى المذهب: يصح الإسقاط، وأما التأجيل فلا يصح، ويشترطون ألا يكون بلفظ الصلح، والصحيح في ذلك -كما سبق-: أنه يصح التأجيل ويصح الإسقاط، وسواء كان ذلك بلفظ الصلح أو الإبراء أو التبرع، أو غير ذلك من الإقرار.
يعني قال المدعى عليه: أنا أقر بالبيت، وتصالحا على أن يسكن المدعى عليه لمدة سنة في هذا البيت، فيقول المؤلف رحمه الله: (لا يصح)؛ لأنه صَالح عن ملكه، والصحيح في ذلك أن هذا جائز ولا بأس به، وكما تقدم لنا أن الأصل في الصلح الصحة والحِل.
قال المؤلف رحمه الله: (أو أن يبني له فوقه غرفة).
أو دوراً مثلاً قال: أنا أقر أن هذا البيت لك؛ لكن ابنِ لي فوق البيت غرفة، أو دوراً، أو نحو ذلك، يقول المؤلف رحمه الله: (لا يصح)؛ لما تقدم من التعليل، والصواب: أن هذا صحيح إلا إذا كان ذلك شرطاً، إذا قال: أنا لا أقر أن هذا البيت لك حتى أسكنه لمدة سنة، أو لا أقر أن هذا البيت لك حتى تبني لي فيه غرفة أو دوراً بعوض لم يصح أو تعطيني غرفة منه نقول: هذا لا يصح.
هذه المسائل وإن كنا نتصور أنها غير موجودة الآن، لكنها موجودة، مثال: رجل يريد أن يأخذ مالاً من بيت المال، من الحكومة ويأتي بامرأة أو بطاقة امرأة تدعي أنها زوجة له، أو نحو ذلك لكي يستفيد ويعطيها، كذا يتشارطان مثلاً، أو يأتي برجل على أنه عامل عنده لكي يستفيد ويتشارطان، كل هذا الصلح محرم ولا يجوز؛ لأنه مبني على الكذب، وهو من الصلح الذي يحل حراماً.
مثال آخر: تأتي امرأة إلى بعض الجهات لكي تأخذ سكناً، أو تأخذ -مثلاً- مرتباً زيادة فتشترط عليها أن تأتي بوثيقة تدل على أنها متزوجة، وتذهب تأتي بوثيقة كذب، هذا معنى كلام المؤلف رحمه الله، أو يأتي رجل بعقد نكاح كذب؛ لكي يأخذ هذا المرتب، أو مثلاً: لكي يتوظف في هذا البلد يشترط عليه أنه ساكن في هذا البلد، ثم يأتي بوثيقة، كل هذا من الصلح الذي ذكره المؤلف رحمه الله، فنقول: هذا غير جائز.
قال المؤلف رحمه الله: (وإن بذلاهما له صلحاً عن دعواه صح).
يعني رجل ادعى على امرأة أنها زوجته، وهي ليست زوجة له، فبذلت له عوضاً، قالت: هذا ألف ريال واترك هذه الدعوى، أو رجل ادعى على رجل أنه رقيقه، وهو ليس رقيقاً له، فقال هذا الرقيق: خذ هذا الألف واترك الدعوى، فيقول المؤلف رحمه الله: بأن هذا صحيح، ولا يجوز له إذا كان كاذباً في دعواه أن يأخذ هذا العوض؛ لأن هذا من قبيل الاستنقاذ فهو لا يتمكن أن يستنقذ نفسه من هذه الدعوى -أنها زوجة، وأنه رقيق- إلا بهذا العوض.
هذا ظاهر المسألة؛ فلو قال: أريد منك ديناً كذا وكذا، وهو يريد منه هذا الدين فأقر على أن يعطيه النصف أو الربع، يقول المؤلف رحمه الله: صح الإقرار؛ لأن الإقرار يطابق الواقع، والإسقاط لا يصح؛ لأنه يجب عليه أن يقر، وكونه يشترط أن يُسقط عنه مقابل الإقرار هذا شرط محرم؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل.
وإذا صَالحه على عين أخرى فإنه ينتقل إلى حكم البيع، فمثلاً ادعى عليه إنسان فقال: أنا أريد منك ديناً قدره عشرة آلاف، قال: أنا أقر أنك تريد مني ديناً قدره عشرة آلاف؛ لكن خذ هذه السيارة مقابل الدين، ما هو الحكم هنا؟ أصبح الآن حكمه حكم البيع؛ لأن البيع مبادلة مال بمال، فتثبت له أحكام البيع.
أو قال: أنا أريد منك هذه الأرض، قال: أنا أقر أن هذه الأرض لك، لكن أعطيك بدلا عنها المزرعة الفلانية والأرض الفلانية، واتفقا على ذلك، نقول: هذا حكمه حكم البيع؛ لأنه الآن أصبح مبادلة مال بمال، وهذا هو البيع.
هذا القسم الثاني من قسمي الصلح، وهو الصلح على إنكار.
مثاله على دين: يدعي عليه رجل فيقول: أنا أريد منك ديناً قدره كذا وكذا، فيسكت وهو يجهل، ثم يتصالحان، أو أنكر وقال: لا تسألني ديناً، وكان المبلغ عشرة آلاف ريال، فيصالحه على خمسة آلاف ريال، فهذا يصح لكن إذا كان أحدهما كاذباً فإن ما يأخذه محرم عليه، هذا مثال إذا كان على دين.
ومثاله على عين: يدعي عليه: قال المدعي: هذه الأرض لنا، فينكر المدعى عليه أو يسكت وهو جاهل ثم يصالحه؛ يقول: خذ النصف ولي النصف، أو خذ هذه السيارة أو نحو ذلك؛ فصلح الإنكار قد يكون على دين وقد يكون على عين.
وحكم صلح الإنكار صحيح، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وهو يجهله ثم صَالح بمال؛ صح).
للمدعي بيع؛ لأنه يعتقده مقابل حقه؛ لأنه يعتقد أن ما أخذه من المدعي عليه أن ذلك مقابل ماله أو حقه، فهو بالنسبة للمدعي بيع؛ لأنه مبادلة مال بمال، فمثلاً ادعى عليه رجل فقال: أنا أريد منك ديناً قدره عشرة آلاف ريال فأنكر المدعى عليه، قال: لا أنت ما تسألني شيئاً ثم تصالحا، قال: خذ هذه السيارة مقابل الدعوى، بالنسبة للمدعي نقول هنا: حكمه حكم البيع؛ لأنه أخذ هذه السيارة مقابل الحق الذي له عند المدعى عليه، فهو يعتقد أن له حقاً عند المدعى عليه.
وعلى هذا لو تبين أن في السيارة عيباً، فله أن يفسخ كالبيع، كما لو اشتراها منه، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وهو للمدعي بيع يرد معيبه)، إذا تبين أن الذي أخذه مقابل ما ادعاه معيباً، فله أن يرد هذا المعيب، ويُفسخ الصلح، ويؤخذ منه بشفعة.
وصورة ذلك: زيد ادعى على عمرو قال: أنا أريد منك عشرة آلاف ريال، قال: ما أقرضتني شيئاً، وأنكر المدعي عليه، أو سكت وهو جاهل، ثم بعد ذلك تصالحا قال: أنا شريك مع فلان في أرض، خذ نصيبي من هذه الأرض، فالآن المدعي أخذ نصيب المدعى عليه من هذه الأرض، فللشريك أن يشفع المدعي كأنه اشتراها، ويعطيه قيمة هذا النصيب ويأخذ جميع الأرض.
فمثلاً زيد الآن ادعى على عمرو عشرة آلاف ريال، وعمرو أنكر ثم بعد ذلك تصالحا، ولماذا المدعى عليه يلجأ إلى الصلح؟ لأنه بدلاً من أن يذهب إلى المحكمة، ويحلف أنه ما أعطاه شيئاً فافتداءً ليمينه صالحه، وقال: أنا شريك مع صالح في أرض، فخذ نصيبي -ونصيبه مشاع غير معين- فتصالحا على ذلك، فكأنه اشترى، فللشريك صالح أن يشفع على المدعي الذي هو زيد، ويعطيه قيمة النصيب ويُخرجه؛ لأنه في حكم البيع، فبالنسبة للمدعي حكمه حكم البيع.
قال رحمه الله: (وللآخر إبراء فلا رد ولا شُفعة).
بالنسبة للمدعي عليه فحكمه حكم الإبراء وعلى هذا لا يملك الفسخ بعيب، ولا يؤخذ منه بشفعة.
مثال ذلك: زيد ادعى على عمرو عشرة آلاف ريال، فأنكر عمرو ثم بعد ذلك صالحه وأعطاه سيارة، فلو أن عمراً المدعى عليه قال: فسخت، فإنه لا يملك الفسخ، والمدعي له أن يفسخ وله خيار المجلس؛ لأنه في حقه بيع، لكن المدعى عليه في حقه إبراء، ولو قال: أنا فسخت فإنه لا يملك.
أو مثلاً: ادعى عليه فقال: الكتاب هذا لي، فأنكر، ثم صالحه على أن يعطيه -مثلاً- عشرة ريالات، ثم وجد المدعى عليه في الكتاب عيباً فقال: فسخت، هل يملك ذلك أو لا يملك؟ نقول: لا يملك؛ لأن الصلح بالنسبة للمدعى عليه إبراء.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر