[ويصلي العاري قاعداً بالإيماء استحباباً فيهما، ويكون إمامهم وسطهم، ويصلي كل نوع وحده، فإن شق صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم عكسوا، فإن وجد سترة قريبة في أثناء الصلاة ستر وبنى وإلا ابتدأ.
ويكره في الصلاة السدل، واشتمال الصماء، وتغطية وجهه، واللثام على فمه وأنفه، وكف كمه ولفه، وشد وسطه كزنار، وتحرم الخيلاء في ثوب وغيره، والتصوير واستعماله، ويحرم استعمال منسوج، أو مموه بذهب قبل استحالته، وثياب حرير وما هو أكثر ظهوراً على الذكور، لا إذا استويا ولضرورة أو حكة أو مرض أو جرب، أو حشواً، أو كان علماً أربع أصابع فما دون، أو رقاعاً أو لبنة جيب وسجف فراء، ويكره المعصفر والمزعفر للرجال ].
تقدم لنا ما يتعلق بقضاء الفوائت، وأن المؤلف رحمه الله تعالى ذكر أن قضاء الفوائت يكون على الترتيب، وذكرنا بم يسقط الترتيب، وأن الترتيب يسقط بأمور، هي: النسيان، والجهل، وإذا خشي خروج وقت الحاضرة، وإذا خشي فوت الجماعة، وإذا خشي فوت الجمعة.
ثم بعد ذلك شرع المؤلف رحمه الله تعالى فيما يتعلق بستر العورة، وذكرنا أن ستر العورة يشترط له شروط، وذكر المؤلف رحمه الله تعالى ما يتعلق بعورة الذكر والأنثى، والبالغ والمميز، والحر والرقيق، وسبق أن ذكرنا ما يتعلق بهذه الأقسام.
وكذلك أيضاً تكلم المؤلف رحمه الله تعالى عن السترة المستحبة في الصلاة، والسترة الواجبة، وأنه يستحب أن يصلي في ثوبين، وأن المرأة يستحب أن تصلي في درع وملحفة وخمار.
العاري: هو الذي ليس عليه ثوب، فإذا انكشفت عورته كيف يصلي؟
للعاري في صلاته حالتان:
الحالة الأولى: الصلاة المجزئة، وهو أن يصلي صلاةً عادية، يقوم ويركع ويسجد.. إلخ.
الحالة الثانية: صلاةٌ مستحبة، وهي أن يصلي قاعدًا بالإيماء استحباباً فيهما، فيصلي قاعداً ويومئ بالركوع والسجود؛ لأنه إذا قام وركع فإنه يتفاحش ظهور العورة، بخلاف ما إذا كان جالساً، وعلى هذا فالعاري له هاتان الحالتان.
يقول المؤلف رحمه الله: يكون إمام العراة وسط العراة ولا يتقدم عليهم، وهذا على سبيل الوجوب؛ لأنه إذا تقدم عليهم يكون ذلك طريقاً لرؤيتهم لعورته، إلا إذا كان ذلك في ظلمة، أو كانوا عمياً.
والسنة أن يتقدم الإمام على المأمومين إلا في حالتين:
الحالة الأولى: إمام العراة، فإمام العراة يكون في وسطهم على سبيل الوجوب.
والحالة الثانية: إمامة النساء، فإنها تكون في وسطهن على سبيل الاستحباب، وما عدا هاتين الحالتين فإن السنة أن يتقدم الإمام عن المأمومين كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي المسلمين من بعده إلى يومنا هذا.
قال: (ويصلي كل نوع وحده).
يعني: إذا كان العراة رجالاً ونساءً فيصلي كل نوع وحده، وذلك إذا كان المكان متسعاً، فإن النساء ينفردن عن الرجال، ولا يختلطن بهم ويصلين وحدهن، وكذلك أيضاً الرجال يصلون وحدهم.
قال: (فإن شق صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم عكسوا).
يعني: إذا كان المكان ضيقاً لا يسعهم فإنه يصلي الرجال ويستدبرهم النساء، يعني: تكون ظهور النساء إلى ظهور الرجال، ثم بعد ذلك إذا انتهى الرجال من صلاتهم تصلي النساء ويستدبرهن الرجال، بحيث تكون ظهور الرجال إلى ظهور النساء؛ لأنه لو لم يكن ذلك لأدى إلى أن ينظر أحدهم إلى عورة الآخر.
يعني: إذا وجد العاري سترة في أثناء الصلاة فإنه لا يخلو ذلك من حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون السترة قريبة منه وفي متناوله، يعني: يمكن أن يتقدم أو يتأخر ويأخذ السترة ويستتر بها، كمن تذكر أن أمامه سترة يستطيع أن يتقدم إليها وأن يأخذها، فله أن يأخذ هذه السترة ويبني على صلاته، ولا يستأنف الصلاة، ويكون ما سبق من صلاته صحيحاً؛ لأنه معذور، بل يجب عليه أن يتقدم، وأن يأخذ هذه السترة؛ لأن ستر العورة واجب.
الحالة الثانية: أن تكون هذه السترة بعيدة، فهذا يذهب ويستتر، ثم بعد ذلك يبدأ الصلاة من جديد.
السدل فسر بتفاسير:
التفسير الأول: أن يجعل الثوب على كتفيه ولا يرد أحد طرفيه على الآخر، وهذا كان في الزمن السالف، فقد كانوا يلبسون إزاراً ورداءً مثل الإحرام، فيلبس الإزار، ويأخذ الرداء ويضعه على كتفيه، يعني: كما لو كان الإنسان محرماً يضع الرداء على كتفيه، ولا يرد أحد الطرفين على الآخر، فهذه صورة من صور السدل، وهذا مكروه.
وعلى هذا فإذا كان الإنسان محرماً فإنه لا يسدل، ويجعل الطرفين مرتخيين بحيث لا يرد أحدهما على الآخر.
التفسير الثاني: أن يسبل الثوب تحت الكعبين، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله غلط هذا التفسير.
التفسير الثالث: أن يلتحف بالثوب، يعني: يأخذ الرداء ويلتحف به ويتجلل به كاشتمال الصماء.
والدليل على كراهة السدل في الصلاة حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة, وأن يغطي الرجل فاه ) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي ، وصححه الحاكم .
اشتمال الصماء له تفسيران:
التفسير الأول: تفسير أهل الشرع.
والتفسير الثاني: تفسير أهل اللغة.
أما التفسير الأول وهو الذي يذكره المحدثون والفقهاء، فقالوا: أن يضطبع بثوب ليس عليه غيره، والاضطباع معروف، وهو أن يجعل الرداء تحت عاتقه الأيمن، ويجعل طرفيه على عاتقه الأيسر، بحيث يكون كتفه الأيمن بادياً، مع أن الأصل أن يلبس ثوبين إزاراً ورداء، والاضطباع هذا من سنن طواف القدوم.
وقد جاء هذا التفسير في السنة في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبستين، واللبستان اشتمال الصماء )، والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب.
التفسير الثاني من تفسيري اشتمال الصماء: تفسير أهل اللغة، وهو أن يتجلل بالثوب ويلتحف به كالصخرة الصماء التي ليس لها منافذ، وكلا التفسيرين صحيح.
أما التفسير الأول فهذا ورد في السنة، وهو الذي يذهب إليه أهل الحديث وأهل الفقه، والعلة من النهي عنه أنه يكون سبباً لانكشاف العورة؛ لأنه إذا رفع طرف الإزار واضطبع به يكون سبباً لانكشاف العورة.
وأما تفسير أهل اللغة فهو صحيح أيضاً؛ لأن كونه يلتحف بالرداء بحيث لا تكون لليدين منافذ إلى آخره، هذا يعيقه عن الحركة في الصلاة، ويمنعه عن كثير من أفعال الصلاة.
هذا كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل, وأن يغطي الرجل فاه في الصلاة )، فمن باب أولى إذا غطى وجهه.
قال: (واللثام على فمه وأنفه).
أي: ويكره له أن يتلثم على أنفه وفمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، قال العلماء رحمهم الله: إلا إذا كان هناك سبب فإن هذا جائز ولا بأس به، كما لو كان هناك رائحة قد تشوش على هذا المصلي فإن هذا جائز ولا بأس به.
وكما أسلفنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: بأن الله سبحانه وتعالى أمر بشيء زائد على ستر العورة، وهو أخذ الزينة، وهذه الأشياء التي ذكرها المؤلف رحمه الله من حيث الجملة تنافي أخذ الزينة في الصلاة: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، فلهذا لا يليق بالإنسان أن يكون بين يدي الله عز وجل وقد وضع اللثام على وجهه أو غطى فمه وأنفه.. إلى آخره.
يعني: يكره أن يكف كمه أو يلفه.
أي: بجذبه إذا أراد أن يصلي، أو رفع ثوبه، أو لفه بأن يطويه؛ لأن المسلم إذا سجد سجد معه ثوبه وسجد معه شعره، فنهي المصلي أن يكف شيئاً من هذه الأشياء حتى الشعر نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تكفه في الصلاة، وهذا من تعظيم الله سبحانه وتعالى.
ويدل لذلك حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا أكف شعراً ولا ثوباً )، أما بالنسبة لكف الشماغ أو الغترة في الصلاة فالعلماء رحمهم الله يقولون: ليس مكروهاً؛ لأن مثل هذه الألبسة اعتيد أن تلبس مكفوفة، وأن تلبس مرخية.
والذي يظهر -والله أعلم- أن الإنسان إذا تركها مسدولة ومرخية أولى وأحسن؛ لأنها تسجد مع الإنسان، فالشارع نهاك أن تكف ثيابك وأن تكف شعرك، هذا كله من باب تعظيم الله عز وجل، وأعظم ما يكون العبد معظماً لله سبحانه وتعالى وقريباً من الله سبحانه وتعالى إذا كان ساجداً قد عفر أشرف أعضائه بالأرض تعبداً لله سبحانه وتعالى، فالأولى أن تكون مثل هذه الأشياء ساجدة لله سبحانه وتعالى.
كذلك أيضاً إذا لبس المشلح وما في حكمه ولم يدخل يديه في كميه هل هذا داخل في السدل الذي ينهى عنه، أو ليس داخلاً؟
هذا فيه خلاف، والذي يظهر -والله أعلم- أنه ليس داخلاً في السدل؛ لأن هذه الأشياء تلبس مع إدخال اليدين بالكمين، وكذلك أيضاً مع إخراج اليدين من الكمين.
قوله: (كزنار) يعني: بما يشبه شد الزنار، والزنار: حبل غليظ تشده النصارى على أوساطها، والشد على الوسط هذا لا بأس به، والمسلمون يعملونه، وأسماء رضي الله تعالى عنها تسمى بذات النطاقين، وعليه فالشد على الوسط جائز، لكن الذي ينهى عنه هو الشد الذي يشابه شد النصارى، أو نقول: الشد الذي يختص به النصارى، فإذا كان الشد من خصائصهم وهذه الكيفية من أفعالهم فإنه يكره.
الخيلاء الكبر والعجب في ثوب وغيره؛ لأنه من كبائر الذنوب، يعني: كون الإنسان يختال في ثوبه، أو في عمامته، أو في سيارته، أو في منزله أو نحو ذلك، فإن هذا محرم ولا يجوز، بل هو من كبائر الذنوب، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه ).
أي: ويحرم التصوير، والتصوير هو عمل الصورة، وتحته كلام كثير لكن نختصر الكلام فيه بأن التصوير ينقسم إلى قسمين: تصوير باليد، وتصوير بالآلة.
التصوير باليد هذا ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن يصور ما له روح كالآدمي والحيوان ونحو ذلك فجماهير العلماء على أنه محرم ولا يجوز, بل هو من كبائر الذنوب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل مصور في النار )، وقوله: ( لعن الله المصورين ) كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الصحيح.
النوع الثاني: أن يصور ما فيه حياة وليس فيه روح، مثل: الأشجار، والزروع، فجمهور العلماء على أن هذا جائز ولا بأس به؛ لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما للمصور: فإن كنت لا بد فاعلاً فاجعل الشجر وما لا نفس له، وقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: ( مر برأس التمثال يقطع يكون كهيئة الشجرة )، فدل على أن هذا جائز ولا بأس به، وهذا ما عليه جماهير العلماء خلافاً لـمجاهد فإنه كره ذلك.
النوع الثالث: أن يصور ما لا روح فيه ولا حياة مثل السيارة، ومثل البيت، ومثل الكتاب ونحو ذلك مما يصنعه الآدمي فإن هذا جائز ولا بأس به، وتقدم قول ابن عباس : فإن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له.
القسم الثاني: التصوير بالآلة، وهو ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التصوير الثابت الذي يكون على الأوراق ونحو ذلك، فهذا النوع من التصوير موضع خلاف بين المتأخرين، هل هو داخل في التصوير الذي حرمه الله عز وجل أو ليس داخلاً؟
للعلماء رحمهم الله تعالى في ذلك رأيان, فذهب بعض المتأخرين إلى أنه داخل وأنه محرم ولا يجوز، لكن يستثنى ما إذا كان هناك حاجة كالبطاقة ونحو ذلك فإن هذا جائز، لكن الأصل أنه محرم ولا يجوز؛ لأنه داخل في التصوير، ولا يشك أحد أنه إذا حرك الآلة ثم خرجت الصورة أن هذه صورة، فما دام أنها صورة قالوا: هذا داخل في عمومات أدلة النهي عن التصوير.
والرأي الثاني: أن هذا جائز ولا بأس به؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ( ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي )، فالعلة هنا هي مضاهاة خلق الله عز وجل، وهنا أنت أخذت الصورة التي صورها الله عز وجل، فليس فيه مضاهاة، ولا تشبه بالله سبحانه وتعالى، وإنما أنت أخرجت عكساً لهذه الصورة كالمرآة، يعني: أن هناك فرقاً بين إنسان يخطط بيده يضاهي خلق الله عز وجل، وبين إنسان عمد إلى خلق الله عز وجل وأخرج له حدساً وصورة.
وعلى كل حال، سواء قلنا بالقول الأول أو بالقول الثاني فالذي يظهر -والله أعلم- أن الخلاف قريب من اللفظ، إذا قلنا بأنها صورة محرمة فإنه يجب إتلافها إلا لحاجة، ولو قلنا بأن هذه الحركة جائزة ولا بأس بها فإنها إذا كانت لغير حاجة كالذكرى أو نحو ذلك، أو لتعظيم فهذا محرم؛ لأننا لا نشك بأن هذه صورة، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم هو طمس الصور، فالصورة التي تقتنى لذاتها ولا تكون تابعة لغيرها فهذه لا بد من طمسها إلا إذا كان هناك حاجة لمثل هذه الصورة.
القسم الثاني: التصوير غير الثابت، أو التصوير المتحرك، إذا عرفنا أن التصوير الثابت فيه خلاف، فالتصوير المتحرك أهون منه، ولهذا كثير من العلماء الذين يحرمون التصوير الثابت يقولون: التصوير المتحرك جائز ولا بأس به؛ لأنه حبس للحركات التي تحركها هذا الحيوان أو هذا الآدمي ونحو ذلك، فأمره أخف جداً، اللهم إلا إذا ترتب على ذلك محذور شرعي، كتصوير النساء أو تصوير العورات ونحو ذلك فإن هذا محرم ولا يجوز.
بقينا في أجزاء الحيوان الذي فيه روح كاليد والرجل والرأس ونحو ذلك، فهل يجوز تصوير هذه الأجزاء، أو لا يجوز؟ نقول: هذه الأجزاء تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الوجه، فالذي يظهر -والله أعلم- أن تصوير الوجه لا يجوز، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الصورة الرأس، اللهم إلا إذا كان مطموس المعالم.
القسم الثاني: ما عدا الوجه كاليد والرجل والإصبع، فإن مثل هذه الأشياء جائز ولا بأس به؛ ويدل لذلك ما تقدم من قول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: ( مر برأس التمثال يقطع حتى يكون كهيئة الشجر )، فيفهم منه أن بقية الجسم سيبقى كاليد والرجل، فلذلك أقرها النبي صلى الله عليه وسلم.
يعني: استعمال المصور، واستعمال المصور ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: استعماله على سبيل التعظيم، فهذا محرم ولا يجوز؛ ولهذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى أفرد في كتاب التوحيد باباً عن التصوير؛ لأن التصوير إخلال بالتوحيد ونقص فيه، والعلماء رحمهم الله يقولون بأن التصوير نوع من الشرك الأصغر، ولا شك أن هذا أمر عظيم، وإن قصد بذلك المضاهاة لله سبحانه وتعالى والمساواة له في خلقه انتقل إلى كونه شركاً أكبر.
ويدخل في ذلك -والله أعلم- المغالاة في الصور والاحتفاظ بها، ولهذا قلنا بأن التصوير للذكرى لا يجوز.
القسم الثاني: استعماله على سبيل الإهانة كما لو كانت الصور على الفرش وعلى المخدة ونحو ذلك من الأشياء التي توطأ وتهان ويجلس عليها فهل هذا جائز أو ليس جائزاً؟
للعلماء رحمهم الله رأيان:
الرأي الأول: أن هذا جائز؛ ويستدلون على هذا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة الستر الذي نصبته وفيه تصاوير، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فجعلته وسائد، قالت: ( فرأيته مرتفقاً على إحداهما وفيه صورة )، يعني: اتكأ النبي صلى الله عليه وسلم على إحدى هاتين الوسادتين وعليها صورة.
والرأي الثاني: أنه لا يستعمل حتى على سبيل الإهانة، ويستدلون على هذا بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة النمرقة وهي وسادة وعليها صورة، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أنكر هذه الوسادة التي عليها الصورة لما اتخذتها عائشة لكي يتوسدها، وقال: ( إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم )، فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل البيت، ولم يرض أن يتكئ على هذه الوسادة التي عليها صورة، فنقول: الأحوط أنه يترك مثل هذه الفرش التي عليها صور وإن كانت تنتهك.
وأما ما تقدم في قصة الستر، فقد قال بعض العلماء في قول عائشة : رأيته متكئاً على إحدى الوسائد وعليها صورة أنه يحتمل أن الرأس قد قطع، فأصبح البدن كهيئة الشجر.
القسم الثالث: استعمال المصور لا على سبيل التعظيم ولا على سبيل الإهانة، وهذا محرم ولا يجوز؛ لما تقدم من الأدلة، كاستخدامه مثلاً في الملابس، حتى قال العلماء: لا تستعمل في الملابس التي تنتهك كالسراويل والخفاف والجوارب ونحو ذلك.
يعني: يحرم أن تستعمل ثوباً نسج بشيء من خيوط الذهب، أو مموه بالذهب، والتمويه أن يذاب الذهب ثم بعد ذلك يغمس فيه الشيء الذي يراد أن يموه فيكتسب من لونه، فهذا للذكر يحرم عليه ذلك؛ ويدل له حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم )، وأيضاً: حديث علي رضي الله تعالى عنه.
وعند أبي حنيفة أن النسج بخيوط الذهب إذا كان على شكل العلم فإنه يجوز منه أربعة أصابع فأقل، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وهذا القول هو الصواب، فيجوز الذهب اليسير التابع في اللباس.
وهناك فرق بين اللباس وبين الآنية، فالآنية لا يجوز أن تأكل منها ولو كان فيها شيء يسير من الذهب أو الفضة كما تقدم لنا، أما اللباس فإن كان الذهب يسيراً تابعاً فإن هذا لا بأس به؛ ويدل لهذا حديث معاوية : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً )، وفي حديث المسور بن مخرمة لما ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قباء من ديباج مزرر بالذهب ).
وعلى هذا نقول: لبس الذكر للذهب ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون مفرداً وهذا محرم ولا يجوز، كما لو لبس خاتماً من ذهب.
القسم الثاني: أن يكون تابعاً، فإن كان يسيراً فإن هذا جائز ولا بأس به، فمثلاً لو لبس مشلحاً فيه شيء من خيوط الذهب كالزر، أو ثوباً يكون فيه شيء من خيوط الذهب ونحو ذلك، أو لبس ساعة وفيها شيء من الذهب في محركاتها نقول: هذا جائز.
قال رحمه الله: (قبل استحالته).
يعني: استحالة هذا الذهب، فإذا صبغ هذا الثوب بالذهب، فإن استحال وتغير لونه بحيث أنك لو قربته للنار ما تحصل شيء من الذهب فإن هذا جائز ولا بأس به؛ لأن الذهب قد استهلك.
بقينا في لبس الذكر للفضة، فجمهور العلماء يقولون: يحرم أن يلبس الذكر الفضة كما يحرم أن يلبس الذهب، والحنفية يجيزون العلم يعني: أربعة أصابع فأقل.
والرأي الثاني: أن الأصل في الفضة الحل، وأنه لم يقم دليل على تحريمها بالنسبة للرجال، بل جاء الدليل بإباحتها، ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- لبس خاتماً من فضة )، وفي حديث أبي هريرة : ( أما الفضة فالعبوا بها لعباً ).
أي: يحرم على الذكر أن يلبس ثوب الحرير سواء كان صغيراً أو كبيراً؛ ودليل ذلك ما تقدم من حديث أبي موسى ، وحديث علي ، وحديث حذيفة رضي الله تعالى عنه في البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير والديباج, وأن نجلس عليهما ).
والحرير المنهي بالنسبة للذكور الثوب الخالص، وهذا لا إشكال أنه محرم.
قال: (وما هو أكثره ظهوراً على الذكور).
هذا القسم الثاني مما يحرم: إذا نسج الحرير مع غير الحرير من القطن أو الصوف أو الكتان، وكان الحرير أكثر ظهوراً فإن هذا محرم ولا يجوز.
قال: (لا إذا استويا).
إذا استوى خيوط الحرير وخيوط غير الحرير من الصوف ونحو ذلك في الظهور فهذا جائز ولا بأس به.
ورجح بعض العلماء الرأي الثاني وهو أنه محرم، كما ذهب إليه ابن عقيل رحمه الله من الحنابلة بحجة أنه اجتمع حاظر ومبيح فيغلب جانب الحظر.
قال: (أو لضرورة).
هذا الأمر الثاني مما يستثنى: إذا لبس ثوب الحرير لضرورة فإن هذا جائز ولا بأس به؛ ويدل لذلك حديث أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لـ
قال: (أو حكة).
الثالث: حكة كما تقدم في حديث أنس رضي الله تعالى عنه؛ لأن الحرير بارد والحكة فيها حرارة، فهو يبرد هذه الحرارة.
قال: (أو مرض).
يعني: إذا كان سبيلاً للدواء، فإن هذا جائز ولا بأس به، كمن هو مريض في بدنه ويحتاج إلى ثوب حرير ليتداوى به.
قال: (أو قمل).
هذا الخامس، لأن الحرير يطرد القمل.
قال: (أو جرب).
هذا السادس أيضاً: إذا كان لجرب نقول بأن هذا جائز ولا بأس به؛ لأن الجرب نوع من الحكة.
قال: (أو حشواً).
هذا السابع مما يستثنى: إذا كان داخل الجلباب حشي بالحرير فهذا جائز لعدم الفخر والخيلاء.
والصحيح أن الظهارة والبطانة لا يجوز أن تكونا من حرير.
قال: (أو علماً أربع أصابع فما دون).
هذا الأمر الثامن مما يستثنى: العلم لحديث عمر رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثة أو أربعة ) كما في صحيح مسلم .
وقول المؤلف رحمه الله: (أربع أصابع)، هذا في الموضع الواحد، والمراد هنا أربع أصابع عرض، أما الطول فلا حد له، لو كان من أول الثوب إلى آخره علم جائز.
فإذا كان هنا علم حرير وجانبه علم من صوف لا بد أن يكون علم الصوف خمسة أصابع، ثم لا بأس بعد ذلك أن يكون علم حرير أربع أصابع، ثم علم صوف خمس أو ست أصابع، ثم علم حرير وهكذا، فهذا جائز.
فنفهم أن علم الحرير طولاً هذا لا حد له، وبالنسبة للعرض فهو أربع أصابع فما دون إذا كان في موضع واحد، ولا بأس أن يتعدد العلم، لكن ما يكون بجانبه من غير الحرير من صوف أو كتان أو نحو ذلك يكون أكثر منه لئلا يتساويا.
قال: (أو رقاعاً).
أي: الثوب انخرق وانشق فجعلت فيه رقعة فهذا يشترط أن يكون أربع أصابع فأقل بالعرض، أما الطول كما ذكرنا فهذا لا حد له.
قال: (أو لبنة جيب).
الجيب: المقصود به الفتحة التي يدخل منها الرأس, فلو وضعت على أطرافها حرير فلا بأس، بشرط أن يكون على الأطراف أربعة أصابع فأقل.
قال: (وسجف فراء).
أي: أطراف الفروة أو المشلح، فلو جعلت على المشلح أو الفروة أربعة أصابع فأقل من الحرير فإن هذا جائز ولا بأس به.
المعصفر: هو الثوب الذي صبغ بالعصفر، واختلف العلماء رحمهم الله في هذا الثوب الذي صبغ بالعصفر هل هو مكروه أو مباح؟
فالمؤلف رحمه الله يرى أنه مكروه، وهو مذهب أبي حنيفة .
والرأي الثاني: رأي مالك والشافعي أنه مباح.
ولكل منهم دليل:
أما الذين قالوا بأنه مباح فاستدلوا بحديث ابن عمر في الصحيحين أنه قال: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة ).
والذين قالوا بأنه يكره استدلوا بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: ( لما رأى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من لباس الكفار فلا تلبسها ).
والخلاصة في ذلك أن المعصفر بالنسبة للنساء جائز ولا يكره، وفي حديث عبد الله بن عمرو قال: ( فإنه لا بأس بذلك للنساء ).
القسم الثاني: أن يكون للرجال، فالخلاف كما تقدم، والذي يظهر -والله أعلم- أنه مكروه كما هو مذهب الإمام أحمد ؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، ويكون صبغ النبي صلى الله عليه وسلم بالصفرة دليل على الجواز وأنه ليس محرماً.
قال: (والمزعفر).
المزعفر: هو ما صبغ بالزعفران؛ ويدل لذلك (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجال عن التزعفر) كما في الصحيحين، وقد تقدم أن ابن عمر قال: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة )، والزعفران قريب من الصفرة، لكن المعصفر أبلغ منه، فهو قريب من الحمرة، وعليه نقول: الحكم في المزعفر كما تقدم في المعصفر.
فتقول: أما النساء فجائز ولا بأس به، وأما الرجال فكما ذهب المؤلف رحمه الله وأقرب شيء أنه يكون مكروهاً.
وعلى هذا؛ يكون صبغ النبي صلى الله عليه وسلم بالصفرة من باب الجواز.
أما المرأة فالأصل أنه يباح لها ما لا يباح للرجل فيما يتعلق بالتزين والتجمل، ولهذا أبيح لها الحرير والذهب وغيرهما، فأمرها أسهل.
بقينا في الأحمر الخالص أيضاً هل يكره أو لا يكره؟
المذهب أن الأحمر الخالص مكروه؛ ويدل لهذا ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المياسر الحمر ).
والرأي الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد وذهب إليه ابن قدامة أن الأحمر الخالص غير مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب لبس حلة حمراء كما في الصحيحين، لكن ابن القيم رحمه الله أجاب عن هذا، وقال: بأن المراد بالحلة الحمراء التي لبسها النبي صلى الله عليه وسلم يعني: أنها مشوبة بالحمرة، مثل ما تقول الآن شماغ أحمر، وإن كان ليس خالصاً، وتقول: هذا شماغ أبيض، وهذا شماغ أسود، وإن كان ليس خالصاً.
والذي يظهر أن كلام ابن القيم رحمه الله جيد، وقد جاء في الحديث -وإن كان في الحديث ضعفاً- ( أن الحمرة من زينة الشيطان )، فنقول أيضاً الكلام في الحمرة كالكلام في المعصفر وفي المزعفر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر