تقدم ما يتعلق بصفة الوضوء، وكيفيته، ثم ذكر المؤلف رحمه الله ما يشرع للمتوضئ بعد نهاية وضوئه من الذكر ومن الأدب.
ثم بعد ذلك شرع فيما يتعلق بمسح الخفين, وذكرنا المناسبة بين باب المسح على الخفين والباب الذي قبله، وذكرنا أيضاً مشروعية المسح على الخفين، وأن بعض أهل العلم استدل له بالقرآن والسنة المتواترة فيه، وذكرنا كلمات العلماء رحمهم الله تعالى في هذا الجانب.
ثم بعد ذلك ذكرنا مسألة, وهي: هل الأفضل أن يمسح أو الأفضل أن يغسل؟ وقلنا: إن الراجح في هذه المسألة هو: ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, وأن المسلم لا يتكلف ضد حاله، فإن كان لابساً فالأفضل أن يمسح، وإن كان خالعاً فالأفضل أن يغسل، ولا يقال: البس لكي تمسح، أو اخلع لكي تغسل إلى آخره.
ثم بعد ذلك شرعنا في بيان شروط صحة المسح، وذكرنا الشرط الأول, وهو: التأقيت في المدة، وأن مدة المسح للمقيم يوم وليلة، وأما المسافر فثلاثة أيام بلياليها، وذكرنا رأي الإمام مالك رحمه الله تعالى في هذه المسألة، وكذلك رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ومتى تبدأ هذه المدة؟ ذكرنا أن أقرب الأقوال في هذه المسألة أن المدة تبدأ من أول مسح بعد حدث.
هذا هو الشرط الثاني من شروط صحة المسح: أن يكون الخف أو الجورب أو العمامة طاهرة؛ وعلى هذا إذا مسح على نجس أو متنجس فإن المسح لا يصح، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى، ويستدل له بحديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين )، فإنه يحتمل أن يكون الوصف للخف، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل الرجلين الخف حال كونهما طاهرتين.
والطهارة ضدها النجاسة، فإذا كان الخف طاهراً أو الجورب طاهراً فهذا لا إشكال في صحة المسح عليه، لكن إن كان نجساً أو متنجساً فنقول: بأن الخف لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون نجساً، وكونه نجساً يعني: أن تكون ذاته نجسة نجاسة عينية، كجلد الميتة الذي لم يدبغ، وقد تقدم أن جلد الميتة إذا دبغ فإنه يطهر، لكن لو أن هناك جلداً لم يدبغ واتخذ كخف, فلا يصح المسح على هذا الخف النجس.
الحالة الثانية: أن يكون متنجساً، بمعنى: أن يكون الخف طاهراً, لكن طرأت عليه النجاسة، بأن تكون نجاسته نجاسة حكمية، فهذا على ظاهر كلام المؤلف رحمه الله تعالى أنه إذا كان متنجساً لا يمسح عليه، وهذا مذهب المالكية والشافعية.
والرأي الثاني وهو المذهب: أنه إذا كان متنجساً فإنه يمسح عليه، فمثلاً: إنسان لبس جوارباً ثم بعد ذلك أصابها شيء من البول، فعلى ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يصح المسح عليها، وبهذا يكون وافق مذهب مالك والشافعي .
أما المشهور من المذهب أنه يصح المسح عليها، وعلى هذا يمسح عليها ويرتفع حدثه، لكن لو أراد أن يصلي فإنه لا بد أن يطهر هذا الجورب أو الخف، لكن لو لم يرد الصلاة بأن أراد أن يمس القرآن مثلاً فلا يلزمه أن يطهر هذا الجورب أو أن يخلعه.
فتلخص لنا: أن الخف إذا كان نجساً فإنه لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن تكون نجاسته عينية، فهذا لا يصح المسح عليه.
والأمر الثاني: أن تكون نجاسته حكمية، فهذا يصح المسح عليه, وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
هذا هو الشرط الثالث: أن يكون الخف مباحاً؛ وعلى هذا إذا كان الخف محرماً فإنه لا يصح المسح عليه، فلو كان الخف أو الجورب مسروقاً أو مغصوباً أو منتهباً ونحو ذلك فإنه لا يصح المسح عليه، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى؛ وعلته في ذلك أن المسح رخصة، والرخص لا تستباح بها المعاصي، وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: أنه يصح المسح عليه، وهذا قول الحنفية والشافعية؛ لأن النهي لا يعود إلى ذات المنهي عنه، ولا إلى شرطه المختص بالعبادة؛ لأن النهي يقتضي الفساد إذا عاد إلى ذات المنهي عنه، أو إلى شرطه المختص بالعبادة والمعاملة، والغصب والسرقة ليستا مختصة بالمسح، فالشارع نهى عن الغصب نهياً عاماً، والسرقة نهى عنها نهياً عاماً، فالصواب في هذه المسألة: أن المسح على المحرم لكونه مسروقاً أو مغصوباً أو حريراً ونحو ذلك يصح، لكن هذا كحكم وضعي، أما الحكم التكليفي -يعني: ما يتعلق بالإثم- فنقول: يأثم لكونه لبس هذا الخف المحرم.
هذا الشرط الرابع: أن يكون الخف ساتراً للمفروض، وعلى هذا إذا كان الخف غير ساتر فإنه لا يصح المسح عليه، وهذا المشهور من مذهب الإمام أحمد والشافعي, يقولون: لو بدا مثل جب الإبرة لا يصح المسح عليه.
والرأي الثاني: رأي الإمام مالك رحمه الله تعالى، يقيد ما يتعلق بالخروق بالثلث، فيقول: إن كان مخرقاً أقل من الثلث صح المسح عليه، وإن كان مخرقاً قدر الثلث فأكثر فإنه لا يصح المسح عليه، والحنفية يقيدون ذلك بثلاثة أصابع، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: ما دام أن الخف ينتفع به عرفاً فإنه يصح المسح عليه حتى ولو كان مخرقاً؛ لأن التقييد بثلاثة أصابع كما ذكر الحنفية أو بالثلث كما قال المالكية يحتاج إلى دليل.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن غالب الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا فقراء، وخفاف الفقراء لا تخلو في الغالب من خروق وشقوق، وكذلك إطلاقات أدلة المسح على الخفين.
فالصواب في هذه المسألة: أن يقال: إذا كان اسم الخف أو الجورب لا يزال باقياً عليه وينتفع به عرفاً فإنه يصح المسح عليه؛ لإطلاق الأدلة.
هذا الشرط الخامس: أن يكون الخف مما يثبت بنفسه؛ وعلى هذا إذا كان لا يثبت بنفسه بل يحتاج إلى أن يشد بخيط ونحو ذلك فإنه لا يصح المسح عليه، وهذا ذهب إليه كثير من العلماء ورحمهم الله تعالى.
والرأي الثاني في هذه المسألة: رواية عن الإمام أحمد رحمه الله ورجحها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن الخف يصح المسح عليه سواء ثبت بنفسه أو ثبت بغيره، يعني: كأن يثبت بشده بخيط، أو أن يثبت بنعلين أو نحو ذلك فإنه يصح المسح عليه، ويدل لذلك إطلاقات الأدلة، فإن هذه التقييدات وهذه الشروط تحتاج إلى دليل، وسبق أن ذكرنا قاعدة، وهي: أن العبادة إذا كانت مخففة من أصلها فإنه لا يثبت بشدد فيها، فالمسح على الخفين هذا رخصة، والتخفيف قد دخل المسح على الخفين من أصله، في هذا: أنه يصح المسح على الخف سواء كان مما يثبت بنفسه، أو كان مما يثبت بغيره.
هذا الشرط السادس: أن يكون الممسوح عليه خفاً، والخف هو: ما يلبس على الرجل من الجلد، والجورب: ما يلبس على الرجل من الصوف أو القطن أو الكتان ونحو ذلك، والخف يصح المسح عليه باتفاق الأئمة.
لكن بقينا في الجوارب؛ هل يصح المسح عليها أو لا يصح المسح عليها؟ قال المؤلف: (وجورب صفيق) أي: يصح المسح على الجوارب، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو الرأي الأول.
والرأي، الثاني: ذهب إليه كثير من العلماء فقالوا: لا يصح المسح إلا على الخفاف، يعني: ما يلبس على الرجل من الجلد، أما ما يلبس على الرجل من الصوف أو القطن أو الكتان ونحو ذلك فإنه لا يصح المسح عليه.
والصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى, وهو الذي ذكره المؤلف, أنه يصح المسح على الجوارب، ويدل لذلك حديث المغيرة بن شعبة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين ). وهذا الحديث في السنن, وقد صححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان .
وكذلك هو الوارد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم, بأسانيد صحيحة.
هذا هو الشرط السابع: أن يكون صفيقاً، يعني: سميكاً، وقد تقدم أن يكون ساتراً, يعني: ليس فيه خروق؛ وعلى هذا إذا كان خفيفاً فإنه لا يصح المسح عليه، يعني: لو كان الجورب خفيفاً كما يوجد الآن حيث ترى البشرة من وراء هذا الجورب, فهل يصح المسح عليه أو لا يصح؟ المؤلف رحمه الله تعالى ذهب إلى أنه لا يصح المسح عليه، وقد سبق أن ذكرنا الضابط في هذه المسألة، وأن الخف أو الجورب إذا كان اسمه لا يزال باقياً وينتفع به عرفاً فإنه يصح المسح عليه، وسبق أن ذكرنا قاعدة, وهي: أن العبادة إذا كانت قد خففت في أصلها فإنه لا يشدد في شروطها وقيودها.
قال رحمه الله: (ونحوهما).
مثل الجرموق، والجرموق: خف قصير.
يعني: أنه يصح المسح على العمامة, وهذا المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وهو الرأي الأول.
والرأي الثاني: أن المسح على العمامة لا يصح، وهذا ما ذهب إليه أكثر العلماء، حيث يرون أن المسح خاص بالخف، وأما العمامة فإنه لا يمسح عليها، وما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى هو الصواب في هذه المسألة؛ لأن المسح على العمامة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث المغيرة بن شعبة الذي رواه مسلم في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والعمامة، فالصواب في ذلك: ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله من صحة المسح على العمامة.
لكن اشترط المؤلف رحمه الله تعالى للمسح على العمامة شروطاً وهي:
قال رحمه الله: (محنكة أو ذات ذؤابة).
يعني: يشترط في العمامة التي يمسح عليها أن تكون محنكة، والمحنكة هي: التي تدار من تحت الحنك.
قوله: (أو ذات ذؤابة) يعني: يكون لها طرف مرخى، قالوا: لأن هذه هي عمائم العرب، أما ما عدا ذلك كالعمامة الصماء فإنه لا يمسح عليها. وهو الرأي الأول.
والرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أنه يصح المسح على العمامة مطلقاً؛ لما تقدم من حديث المغيرة بن شعبة ، وأما التقييد بكونها ذات ذؤابة أو بكونها محنكة فإن هذا مما يحتاج إلى دليل، فالصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وهل المسح على العمامة مؤقت كالمسح على الخفين أو لا؟ يعني: هل نقول بأن المسح على العمامة مؤقت للمقيم بيوم وليلة وللمسافر بثلاثة أيام بلياليها؟ المشهور من المذهب أن العمامة كالخف، وأن المسح عليها مؤقت؛ لثبوت ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه.
وعند الظاهرية أن المسح على العمامة غير مؤقت.
والصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله تعالى, وهو أن المسح على العمامة مؤقت؛ لورود ذلك عن عمر ، وسنة عمر متبعة.
وكذلك هل يشترط في المسح على العمامة ما يشترط في المسح على الخفين، نحو أن يلبسها على طهارة أو أن هذا ليس شرطاً؟ المشهور من المذهب أنهم يلحقون العمامة بالخف؛ لما ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه في أن العمامة مؤقتة كالخف، فإذا كان ذلك قد ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه دل على أنها تأخذ أحكام الخف.
قال رحمه الله تعالى: (وعلى خمر نساء مدارة تحت حلوقهن).
يعني: يصح المسح على خمر النساء، وهذا هو المشهور من المذهب, خلافاً لما ذهب إليه أكثر العلماء إلى أنه لا يصح المسح على خمر النساء.
فالصواب في هذا: ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله, وهو مذهب الإمام أحمد ؛ لثبوت ذلك عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها.
المسح على الخف والجورب والعمامة وخمر النساء: يكون ذلك في الحدث الأصغر، أما الحدث الأكبر فإنه لا يصح المسح، ويدل لذلك حديث صفوان بن عسال رضي الله تعالى عنه قال: ( أمر الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفراً أن نمسح على خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، لكن من بول وغائط ونوم )، والشاهد في قوله: (إلا من جنابة) فهو يدل على أن المسح على الخفين إنما هو في الحدث الأصغر لا في الحدث الأكبر.
الجبيرة فعيلة، بمعنى: مفعولة، وهي: ما يشد على الكسر أو الجرح من الخرق واللصوق، واليوم في وقتنا: الجبس ونحو ذلك. وسميت جبيرة تفاؤلاً بجبر هذا الكسر والتئام هذا الجرح.
والمؤلف رحمه الله تعالى يقول: يمسح على الجبيرة، لكن اشترط ألا تتجاوز قدر الحاجة.
فعندنا مسألتان:
المسألة الأولى: هل يمسح على الجبائر أو لا يمسح على الجبائر؟
المشهور من المذهب أنه يمسح على الجبائر. وظاهر كلام المؤلف أنه يمسح ولا يتيمم، وعند الشافعي أنه يمسح ويتيمم، وعند الظاهرية أنه لا يمسح على الجبائر؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الجبائر شيء، وحديث علي الوارد في ذلك ضعيف، لكنه ثابت عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وما دام أنه ثابت عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ولم يخالفه أحد من الصحابة فإنه يصار إليه.
المسألة الثانية: اشترط المؤلف رحمه الله فقال: (لم تتجاوز قدر الحاجة). وقدر الحاجة هو: موضع الكسر أو الجرح وما يحتاج إليه في لف هذه الجبيرة، فيمسح على هذه الجبيرة إذا كانت لم تتجاوز قدر الحاجة.
فإن تجاوزت قدر الحاجة فنقول: أزل الزائد، يعني: من يحتاج إلى جبيرة بالعرض ثلاثة سم, فوضع الجبيرة بعرض أربعة سم, فنقول: قص الزائد هذا؛ لأن الأصل وجوب الغسل، فإن شق عليه القص أو لحقه ضرر في القص فالمشهور من المذهب أنه يمسح ويتيمم، يعني: إذا تجاوزت الجبيرة قدر الحاجة نقول: أزل الزائد، فإن لم يتمكن لوجود الضرر أو المشقة فنقول: امسح عليها وتيمم، يعني: لا بد أن تجمع بين المسح والتيمم، وهذا المشهور من المذهب، وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: أنه لا حاجة إلى التيمم؛ لأنه لا يجمع بين عبادتين في عضو واحد، وهذا هو الصواب، فنقول: أزل الزائد, فإن تمكن من إزالته فالحمد لله، وإن لم يتمكن من إزالته فإنه يكتفي بالمسح، وأما التيمم فإنه لا حاجة إليه.
يعني: يمسح على الجبيرة ولو في حدث أكبر. وهذا من الفروق بين المسح على الجبيرة والمسح على الخف ونحوه كالجورب والعمامة وخمر النساء، فالجوارب والخفاف والعمائم هذه تكون في الحدث الأصغر، وأما بالنسبة للجبيرة فإنها تكون في الحدث الأكبر والأصغر، وهذا الفرق الأول.
والفرق الثاني: أن المسح على الخف ونحوه مؤقت، وأما المسح على الجبيرة فإنه ليس مؤقتاً, ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى: (إلى حلها), يعني: إلى إزالتها، فقد تجلس الجبيرة خمسة أيام، وقد تجلس شهراً.
والفرق الثالث: أن الخف يشترط أن يكون لبسه بعد كمال الطهارة، أما الجبيرة فالصحيح أنه لا يشترط أن يكون ذلك بعد كمال الطهارة.
الفرق الرابع: أن المسح على الخف رخصة، وأما المسح على الجبيرة فإنه عزيمة.
الفرق الخامس: أن الخف يشترط أن يكون ساتراً, وأن يكون سميكاً -كما تقدم- وأما بالنسبة للجبائر فإنه لا تشترط مثل هذه الشروط.
الفرق السادس: أن الجبيرة لا بد أن تمسحها كلها، فإن أردت أن تمسح فلا تمسح الظاهر فقط، بل لا بد أن تمسح الجبيرة جميعاً؛ الأعلى والأسفل والجوانب, أما بالنسبة للخفاف فإنه سيأتينا إن شاء الله أن الخف لا يمسح إلا أعلاه.
وكذلك من الفروق: أن المسح على الجبيرة يصح حتى ولو كان في سفر المعصية؛ لأنها عزيمة, بخلاف الخف, فهذا موضع خلاف بين الحنفية وبين جمهور العلماء رحمهم الله.
المسح على الخفاف والجوارب والعمائم والخمر حتى الجبيرة على المذهب: أنه لا بد أن يلبس ذلك بعد كمال الطهارة. وعندنا مسألتان:
المسألة الأولى: المراد بقوله: (بعد كمال).
والمسألة الثانية: المراد بقوله: (الطهارة).
أما المراد بالطهارة هنا فالطهارة المائية، يعني: إذا توضأ بالماء فلبس خفيه؛ وعلى هذا إذا تيمم ثم لبس خفيه فنقول: لا يمسح عليهما, وهذا ما ذهب إليه جماهير العلماء رحمهم الله تعالى، ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا توضأ أحدكم فلبس الخفين )، و(إذا) هذه شرطية، وحديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجده فليتق الله وليمسه بشرته ) وهذا يدل على أن الذي يمسح على الخفاف، فلا بد أن يمس الماء رجليه.
وعلى هذا نقول: المراد بالطهارة هنا الطهارة المائية، وأما طهارة التراب فإنها لا تجوز المسح على الخفين, فلو تطهر بالتراب ثم لبس الخفين، فنقول: لا يمسح عليهما، بل إذا جاء الماء فلا بد أن يمس الماء بشرته بعد أن يخلع خفيه.
وأما قوله: (بعد كمال الطهارة), فيعني: أنه لا بد أن يتطهر طهارة كاملة، وعلى هذا لو أنه غسل رجله اليمنى ثم لبس الخف الآخر، ثم غسل رجله اليسرى ثم لبس الخف الآخر فإنه لا يصح؛ لأنه لبس الخف الأيمن قبل كمال الطهارة أي: قبل أن يغسل رجله اليسرى، وهذا المشهور من المذهب, وهو قول جمهور العلماء رحمهم الله.
والرأي الثاني رأي الحنفية: أن هذا جائز ولا بأس به. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه لا فائدة أن نقول: اخلع والبس، لكن مع ذلك نقول: الأحوط في ذلك ما ذهب إليه جمهور العلماء رحمهم الله تعالى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين).
هذه ثلاث صور:
الصورة الأولى: قال المؤلف رحمه الله: (ومن مسح في سفر ثم أقام).
هذا الرجل كان مسافراً فمسح في سفره ثم بعد ذلك أقام، يعني: رجع إلى محل إقامته إلى بلده، فيقول المؤلف رحمه الله: يتقيد بمسح مقيم؛ وعلى هذا إن كان مسح في السفر يوماً فإنه يمسح في الإقامة ليلة، وإن مسح يوماً ونصف ليلة فإنه يبقى له نصف ليلة وهكذا، وإن مسح في السفر يومين فإنه إذا وصل يخلع مباشرة؛ لأن السبب قد زال، يعني: سبب الترخص في المسح ثلاثة أيام وهو السفر قد زال، فيرجع إلى الأصل, ويمسح مسح مقيم.
الصورة الثانية: قال رحمه الله: (أو عكس).
يعني: مسح في حال الإقامة ثم بعد ذلك سافر، فإنه يمسح مسح مقيم، وهذا المشهور من المذهب؛ يقولون: لأنه اجتمع حاظر ومبيح، فيغلب جانب الحظر, فتمسح مسح مقيم.
والرأي الثاني: أنه يمسح مسح مسافر, وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وهذا هو الصواب؛ لأنه الآن يعتبر مسافراً, والنبي صلى الله عليه وسلم جعل للمسافر ثلاثة أيام بلياليها.
الصورة الثالثة:
قال رحمه الله: (أو شك في ابتدائه).
يعني: رجل شك في ابتداء المسح, بحيث لا يدري هل ابتدأ المسح في حال السفر؟ فيمسح ثلاثة أيام، أو ابتدأ المسح في حال الإقامة فيمسح يوماً وليلة؟ فإذا شك فيأخذ باليقين، وهذا كما سبق أن أشرنا إليه أنهم في حال الشك في العبادات يعملون اليقين، وإذا قلنا بأنه إذا مسح في حال الإقامة ثم سافر فإنه يمسح مسح مسافر إذا رجحنا رأي أبي حنيفة فلا ترد عندنا هذه القاعدة؛ لأنه سواء تيقن أنه مسح في حال الإقامة أو تيقن أنه مسح في حال السفر فسيمسح مسح مسافر.
فقوله: (أو شك) هذا مبني على المذهب، لكن إذا قلنا: لو مسح في الإقامة ثم سافر فإنه يمسح مسح مسافر، فإذا شك فلا أثر للشك؛ لأنه يمسح مسح مسافر، سواء ابتدأ المسح في حال السفر أو ابتدأ المسح في حال الإقامة.
الصورة الرابعة: قال رحمه الله: (وإن أحدث ثم سافر قبل مسحه فمسح مسافر).
هذا لبس في الإقامة وأحدث ثم بعد ذلك سافر، فابتدأ المسح في السفر، فيقول المؤلف رحمه الله: يمسح مسح مسافر؛ لما تقدم ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمسافر ثلاثة أيام بلياليها )، وهذا يؤيد ما سبق من ترجيح أن مدة المسح تبدأ من أول مسح بعد حدث.
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: (لا يمسح قلانس)، وكذلك لا يمسح على اللفافة، والقلانس: نوع من الألبسة التي تكون للرأس، والظاهر أن المعتبر في ذلك مشقة النزع، فإذا كان هذا اللباس له طرف يدار تحت الحنك بحيث يشق نزعه فإنه يصح المسح عليه، ولهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله صحة المسح على القلانس، والمؤلف رحمه الله يقول: لا يصح المسح عليها، وهو رأي أكثر أهل العلم رحمهم الله تعالى، وابن حزم رحمه الله يجوز المسح عليها، والأقرب في ضابط ذلك كما هي الرواية الأخرى عن الإمام أحمد أنه إذا كان يشق المسح عليها بحيث تكون مدارة تحت الحنك ونحو ذلك فإنه يصح المسح عليها.
واللفافة أيضاً يقول المؤلف رحمه الله: لا يصح المسح على اللفافة، يعني: لو كان في شدة البرد ما عنده خفاف، لكن أخذ لفائف ولفها على رجليه، فلا يصح المسح، وهذا قول أكثر أهل العلم رحمهم الله؛ لأن الأصل الغسل, والمسح إنما جاء على الخف، وهذه ليست خفاً.
والرأي الثاني: اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن المسح على اللفائف جائز ولا بأس به. وقد جاء في حديث وإن كان ضعيفاً: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية, وأمرهم أن يمسحوا على التساخين ). والتساخين هي: كل ما يسخن الرجل.
وعلى كل حال؛ الذي يظهر: أن هذه اللفائف تأخذ حكم الجوارب؛ لأن هذه اللفائف قد يكون نزعها أشق من نزع الجوارب الموجودة عندنا اليوم.
قال رحمه الله: (ولا ما يسقط من القدم أو يرى منه بعضه).
يقول المؤلف رحمه الله: لا يمسح على الخف الذي يسقط من القدم أو يرى منه بعضه، وتقدم الكلام على ذلك، وأنهم قالوا: يشترط أن يكون الخف مما يثبت بنفسه، وأن يكون الخف ساتراً للمفروض.
إذا لبس خفاً على خف فله حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون قبل الحدث، يعني: رجل تطهر ثم لبس الخف الأول، ثم لبس الخف الثاني قبل أن يحدث، قال: (فالحكم للفوقاني)، فتمسح على الفوقاني.
والحالة الثانية: أن يكون بعد الحدث، فنقول: الحكم للتحتاني، فإذا لبس الفوقاني على حدث فالحكم للتحتاني، لكن لو لبس الفوقاني على طهارة مسح فيمسح على الفوقاني، يعني: رجل لبس الجورب الأول ومسح عليه، وبعد أن مضى يوم أحس بالبرد فلبس الجورب الثاني على طهارة مسح، فنقول: يصح أن يمسح على الجورب الثاني, ويتقيد بمدة الجورب الأول، وإذا خلعه مسح على الأول، وإن أراد أن يلبسه فلا بد أن يكون على طهارة، ولو طهارة مسح.
في نهاية الباب أراد المؤلف رحمه الله أن يبين كيفية المسح، وهكذا العلماء رحمهم الله يذكرون الباب وما يتعلق بشروطه وأركانه وسننه وآدابه, ثم يذكرون ما يتعلق بالكيفية.
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: (يمسح أكثر العمامة). قال العلماء: ويختص ذلك بدوائرها، يعني: المسح لأكثر العمامة في الجملة وليس بالجملة، ويدل لذلك حديث علي بإسناد حسن في الترمذي وغيره أنه رضي الله تعالى عنه قال: ( لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح أعلى الخف )، فيدل ذلك على أنه يمسح على أعلى العمامة وما يتعلق بدوائرها؛ لأن العمامة تلحق بالخف.
قال رحمه الله: (وظاهر قدم الخف).
يعني: ظاهر القدم, كما تقدم في حديث علي رضي الله تعالى عنه.
قال رحمه الله: (من أصابعه إلى ساقه, دون أسفله وعقبه).
يعني: يمسح من الأصابع إلى الساق، وهذا ورد فيه آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنها غير ثابتة، لكن يكفينا حديث علي الثابت: ( لكان أسفل الخف أولى من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح أعلى الخف )، فنقول: امسح أعلى الخف, وكيفما مسح أجزأ، وإذا مسح -كما ذكر العلماء لوجود الأثر وإن كان غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم- من أطراف الأصابع إلى الساق فإن هذا كاف، وإلا كيفما مسح أجزأ.
أما أسفل الخف والعقب فهذا لا يشرع أن يمسح؛ لما تقدم من حديث علي رضي الله تعالى عنه.
قال رحمه الله: (وعلى جميع الجبيرة).
وهذا من الفروق -كما تقدم- بين المسح على الخف والمسح على الجبيرة: أن المسح على الخف يكون على الأعلى، أما الجبيرة فإنه يمسح جميع الجبيرة.
يقول المؤلف رحمه الله: (متى ظهر بعض محل الفرض بعد الحدث), يعني: خلع الخف، أو خلع بعض الخف حتى ظهر بعض محل الفرض، ومحل الفرض من الكعب إلى أطراف الأصابع، فإذا خلع الخف أو خلع بعض الخف حتى ظهر بعض محل الفرض، (أو تمت المدة), والمدة كما سلف تبدأ من أول مسح بعد الحدث، فإذا مسح في الساعة الثانية عشرة بعد الحدث تستمر المدة إلى الساعة الثانية عشرة من الغد، فإذا جاءت الساعة الثانية عشرة من الغد بطلت الطهارة، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو الرأي الأول.
والرأي الثاني: أن الطهارة لا تبطل، وهذا مذهب الحنفية والشافعية، وأنه يكتفي بغسل الرجلين.
والرأي الثالث: ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله واختاره شيخ الإسلام ، أن الطهارة لا تبطل، ولا يجب أن يغسل رجليه، والدليل على ذلك: أن الطهارة ارتفعت بمقتضى دليل شرعي، فلا بد من دليل شرعي على إبطال الطهارة.
فالصواب: أنه إذا تمت المدة لا تبطل الطهارة، لكن ليس له أن يمسح، فلو نسي ومسح فنقول: أعد الصلاة، لكن لو تمت المدة الساعة الثانية عشرة وهو متطهر فيصلي الظهر ولا بأس, لكن لو مسح بعد الساعة الثانية عشرة ولو بلحظة فنقول: مسحه باطل، وتمام المدة لا يبطل الطهارة، فله أن يصلي الظهر، وإذا استمر على طهارته فله أن يصلي العصر والمغرب.
فتمام المدة لا يبطل الطهارة، لكن المسح لا يجوز؛ لأن المدة قد انتهت، ووقت الترخيص الذي نص عليه الشارع قد انتهى، ومثله لو خلع الخف فالطهارة لا تبطل, وله أن يصلي، لكن هل له أن يمسح لو أعاد الخف مرة أخرى؟ نقول: ليس له أن يمسح إلا بعد طهارة مائية كما سلف.
بقينا في مسألة أخيرة في هذا الباب: إذا كان على الإنسان جرح فإنه لا يخلو من أحوال:
الحالة الأولى: أن يتمكن من غسله بحيث لا يكون عليه جبيرة، ولا يكون عليه لفافة، فنقول: يغسله.
الحالة الثانية: ألا يتمكن من الغسل، فنقول: يمسح, إذا كان لا يتمكن من الغسل ويتمكن من المسح نقول: امسح، بحيث يكون عليه جبيرة أو ليس عليه جبيرة ويتمكن من مسحه فنقول: امسح.
الحالة الثالثة: إذا كان لا يتمكن من الغسل ولا من المسح, بحيث أنه يضره المسح أو الغسل ويطول المرض أو يبقي شيناً في جسمه, فنقول هنا: يتيمم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر