الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.
اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
إخوتي الكرام! كنا نتدارس إرث المفقود وأحكامه، وقد انتهينا من أحواله وبقينا عند جزئية يسيرة هي ختام المبحث نذكرها إن شاء الله بعد أن أنبه على أمر ذكره بعض الإخوة حول مذهب الإمام مالك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا فيما يتعلق بزوجة المفقود.
تقدم معنا أن زوجة المفقود إذا انتهت مدة الانتظار تعتد وتتزوج، فإذا انتهت المدة وتزوجت أو لم تتزوج فما حكمها إن جاء زوجها الأول؟ تقدم معنا أنه عند الحنفية والشافعية: زوجها أولى بها في كل حال سواءٌ عقد عليها أو لم يعقد عليها، دخل الزوج الثاني أو لم يدخل، وقابلهم المالكية فقالوا: إذا انتهت مدة الانتظار ملكت نفسها، فإن عقد عليها من قبل الثاني وجاء الأول ولم يدخل الثاني فلا تحل للأول، ولا يملك إعادتها إليه ومن باب أولى لو دخل بها، والقول الثالث للحنابلة وتوسطوا فيه فقالوا: إن لم يدخل الزوج الثاني بها فهو أولى بها قولاً واحداً، وإن دخل بها فيخير الزوج بين المهر وبين زوجته، وكأن بعض الإخوة يقول في مذهب المالكية يوجد خلاف، وأنا نقلت لكم من الموطأ وما حددت مصدراً غير هذا فارجعوا إلى قول الإمام مالك قلت: إنه في الموطأ في الجزء الثاني صفحة خمس وسبعين وخمسمائة، وفي كتب الفقه وشروح الحديث أشاروا إلى هذا القول للإمام مالك فرجعت إليه من الموطأ، وهذا شرح الزرقاني في الجزء الثالث صفحة مائتين، أقرأ لكم الكلام الذي في الموطأ، وأذكر إن شاء الله الشرح الذي قاله.
يقول هنا: عدة التي تفقد زوجها:
حدثني يحيى عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال: (أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو فإنها تنتظر أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشراً ثم تحل).
قال مالك : وإن تزوجت بعد انقضاء عدتها فدخل بها زوجها أو لم يدخل بها فلا سبيل لزوجها الأول إليها، قال مالك : وذلك الأمر عندنا، وإن أدركها زوجها قبل أن تتزوج فهو أحق بها، قال مالك : وأدركت الناس ينكرون الذي قال بعض الناس على عمر بن الخطاب أنه قال: يخير زوجها الأول إذا جاء في طلاقها أو في امرأته، قال مالك : وبلغني أن عمر بن الخطاب قال في المرأة يطلقها زوجها وهو غائب عنها ثم يراجعها فلا يبلغها رجعته وقد بلغها طلاقه إياها فتزوجت: أنه إذا دخل بها زوجها الآخر الثاني أو لم يدخل بها فلا سبيل لزوجها الأول الذي طلقها إليها.
قال مالك : وهذا أحب ما سمعته في هذا وفي المفقود.
والزرقاني والباجي في المنتقى في شرح هذا الكلام أوردوا للمالكية تفصيلاً في هذه المسألة.
أما في الزرقاني وهو الكتاب الذي عندنا يقول: قال مالك : وذلك الأمر عندنا فالعقد بمجرده يفيتها. يعني: يفوتها، ثم رجع مالك عن هذا قبل موته بعام وقال: لا يفيتها على الأول إلا دخول الثاني غير عالم بحياته، وأخذ به ابن القاسم وأشهب. قال في الكافي: وهو الأصح من طريق الأثر؛ لأنها مسألة قلدنا فيها عمر وليست مسألة نظر.
و الباجي في الجزء الرابع صفحة ثلاث وتسعين يقول: اختلف قول مالك في زوجة المفقود تعتد ثم تتزوج فيقدم المفقود قبل أن يبني بها الثاني؛ فقال في الموطأ: لا سبيل للأول إليها، واختاره المغيرة وروي عنه: الأول أحق بها ما لم يدخل بها الثاني. رواه ابن القاسم عنه في الشرح.
وقال محمد : الأول أحق بها ما لم يخلو الثاني بها خلوة توجب العدة فلا شيء للأول.
هذه ثلاثة أقوال عن المالكية في هذه المسألة كنت قد ذكرت لكم قول الإمام مالك الذي ذكره في الموطأ، بقية الأقوال نسبوها إليه والعلم عند الله جل وعلا وهم أدرى بإمام مذهبهم.
وهنا الباجي بعد أن ذكر هذا يقول: فقال في الموطأ: لا سبيل للأول إليها، واختاره المغيرة .
وروي عنه: الأول أحق بها ما لم يدخل الثاني. رواه ابن القاسم عنه واختاره.. إلى آخره، فالمسألة بعد ذلك تبحث في موضوع الترجيح عند المالكية، في موضوع القبض في الصلاة، الرواية التي عند المالكية وعليها الإرسال كان شيخنا الشيخ محمد مختار عليه وعلى مشائخنا جميعاً وأئمة المسلمين رحمة رب العالمين يقول: عجب من المالكية، الإمام مالك يورد حديثين في القبض في موطئه وهو ما أورد إلا مذهبه في هذا الكتاب وما يأخذ به، فكيف جاءوا وأخذوا برواية ابن القاسم وغيره وتركوا مذهب الإمام مالك الذي قرره في موطئه؟ فالأصل ما كتبه الإنسان بيده وقرره بنفسه، أما ما أخذه التلاميذ أو فهموه منه فلا يتهمون لكن دون ما يكتبه هو بيده، ولذلك يقول: القبض في الصلاة هو مذهب مالك ، والقول بأنه يرسل يديه يقول: هذا ما نص عليه الإمام مالك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، فهل هذه المسألة تشبه تلك؟ العلم عند الله، الشاهد أن ما ذكرته مما قرره المالكية من أنه أيضاً إذا لم يدخل الثاني بها تعود للأول، موجود ضمن أقوالهم.
على كل حال! التفصيل بعد ذلك حاصل.
فلو أن امرأة ماتت عن زوج وأخ لأم وأخت لأم، وأخت شقيقة، وأخ شقيق مفقود:
الزوج له النصف والأخ لأم والأخت لأم شركاء في الثلث، والأخ الشقيق على تقدير حياته يعصب أخته، وبعد تصحيح الكسر ينتج ثمانية عشر، وعلى تقدير وفاة الأخ الشقيق لا إرث له، وتعول أصل مسألته الستة إلى الثمانية، وبين الثمانية والثمانية عشر توافق في النصف فيكون حاصل ضرب أحدهما في كامل الآخر يساوي اثنين وسبعين، نقسمها على ثمانية عشر فيكون الناتج أربعة، ونقسمها على ثمانية فيكون الناتج تسعة، فنضرب ما بيد كل وارث في جزء سهم مسألته ونعطيه الأضر من نصيبه في المسألتين، فنعطي الزوج سبعة وعشرين، ولكل من الأخ لأم والأخت لأم تسعة، ونعطي الأخت الشقيقة أربعة، والباقي ثلاثة وعشرون نوقفه.
بقي معنا ثلاث وعشرون موقوفة، هذه كلها للمفقود؟ قطعاً لا، منها للمفقود ومنها لغيره على حسب حاله، إن خرج المفقود حياً وعاد فسنأتي لمسألة الحياة، له اثنان في أربعة يساوي ثمانية، هذا إن كان حياً، وأخت بعد ذلك واحد أين هي؟ في أربعة، سهامها الصحيحة، بقية السهام ستأتي الآن إلى هؤلاء، ثلاثة في أربعة: اثني عشر، تسعة في أربعة: ست وثلاثون.
إذاً: سيأتي هؤلاء يأخذون -هذا إن كان حياً- والأخت لن تأخذ شيئاً، يعني: بقية السهام كم بقي معنا خمسة عشر؟ من ثمان خمسة عشر سهماً، هذا لو كان حياً فتوزع على هؤلاء والأخت ليس لها شيء، هذا لو كان حياً، فهذا قلنا كم سيأخذ؟ اثني عشر يعني سيزيد ثلاث، وهذا سيزيد ثلاثة، وهنا ست وثلاثون سيزيد تسعة، اجمع تخرج معك خمسة عشر، اثني عشر خمسة عشر، هذا لو كان حياً، لكن ممكن الآن أن يكون ميتاً، إذا كان ميتاً بقية السهام خمسة، أما فالثمانية هذه لابد من أن توقف حتى نعلم حال المفقود، وأما الخمسة عشر سهماً فلهم أن يقولوا: نصطلح عليها هذه لنا، والمفقود إن ظهر حياً لن يأخذ منها شيئاً، وافرض أننا سننتظر أربعين سنة حتى تمضي مدة التعمير، نترك خمسة عشر سهماً من التركة، خمس التركة نتركها معطلة؟ تعالوا نصطلح عليها، فإذا اصطلحوا فيما بينهم فهو جائز بشرط أن توقف السهام التي هي نصيب المفقود وهي ثمانية، فهذه لا يجوز الاصطلاح عليها أبداً بحق الله.
إذاً: هذه مسألة الموقوف لا يستحقه المفقود بكامله، فنوقف له من الموقوف ما يستحقه والباقي للورثة أن يصطلحوا عليه، وما تقدم معنا كل الموقوف لغير المفقود لكن بسببه لهم أن يصطلحوا عليه من أوله إلى آخره.
إذاً: إذا كان الوارث حياً عند موت المورث يرثه باتفاق، وإذا كان الوارث ميتاً عند موت المورث فلا يرثه، وإذا كان الأمر فيه لبس واشتباه هل هو حي عند موت مورثه أو ميت، فما الحكم في هذه المسألة؟ اختلف أئمتنا الأبرار في هذه المسألة وإليكم تفصيلها بالآثار.
الصورة الأولى يقول: أن نعلم سبق أحدهما بعينه، قال: فالحكم ظاهر: المتأخر يرث المتقدم بالإجماع وإن مات بعده ولو بدقيقة، لكن علمنا أن أحدهما أو أحد القرابات سبق بالموت، فالذي مات بعده يرث منه ونوزع بعد ذلك المال لتركة الثاني، لورثته.
والصورة الثانية أيضاً محل اتفاق، يقول: أن نعلم وقوع الموتتين معاً، فالحكم ظاهر أيضاً وهو عدم إرث بعضهما من بعض، لا هذا يرث ولا هذا يرث، وهو عدم التوارث بينهما لعدم تأخر أحدهما عن الآخر بالموت.
الصورة الأولى وهي الثالثة معنا في التمييز والتقسيم، نقول: أن لا نعلم شيئاً عنهم بحيث نجهل واقع موتهم، هل ماتوا معاً، أو سبق بعضهم بالموت؟ ومن الذي سبق؟ لا نعلم شيئاً على الإطلاق، هذه حالة.
الصورة الثانية من الحالات الثلاث وتصبح معنا رابعة، وهي: أن نعلم التلاحق بينهم في الموت، ماتوا على دفعات واحد بعد الآخر ولا نعلم السابق منهم، أي: نعلم تأخر بعضهم بالموت عن بعض لكن من غير تعيين من الذي مات قبل الآخر؟ لا نعرفه أيضاً، هذه الصورة الرابعة.
الصورة الثالثة من الحالات الثلاث وهي الصورة الخامسة في التقسيم الماضي: أن نعلم سبق موت بعضهم ثم يلتبس علينا الأمر وننسى ما علمناه، علمنا أن فلاناً مات قبل أهله ومن مات معه ثم نسينا من هو فلان من هؤلاء الأسرة؟
فالأولى والثانية لن نبحث فيهما، في الأولى يرث المتأخر من المتقدم، وفي الثانية لا توارث بينهما وبينهم لأنهم ماتوا في ساعة واحدة، بقيت معنا ثلاث صور: ما علمنا شيئاً، علمنا من غير تعيين، علمناه معيناً ثم نسيناه، فما الحكم لعلمائنا الكرام في هذه الصور الثلاث الأخيرة؟ لهم قولان:
وخلاصة هذا القول: أنه لا توارث بين هؤلاء الأموات في هذه الصور الثلاثة، وكل واحد يرثه ورثته الأحياء فقط، فمن مات معه لا يتوارثون فيما بينهم، في حادث سيارة، في حادث طائرة، في غرق، في حرق، في طاعون، ماتوا في قتال وخفي علينا المتقدم من المتأخر فلا توارث بينهم، نعتبرهم كأنهم ماتوا في وقت واحد فلا توارث بينهم وكل واحد يرثه ورثته الأحياء دون من مات معهم.
وحجتهم في ذلك أمران معتبران، إن شئتم أن تنظروا كتب المذاهب للتحقق من هذا القول فانظروا: الاختيار لتعليل المختار، وهو من كتب الحنفية كما تقدم معنا مراراً العزو إليه في الجزء الخامس صفحة اثنتي عشرة ومائة، وانظروا مواهب الجميل في فقه المالكية في الجزء الرابع صفحة ستين وأربعمائة، والمسألة في الموطأ أيضاً سأقرأها عما قريب في الجزء الثالث صفحة واحدة وعشرين ومائة من شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك عليهم جميعاً رحمة الله، وهي في روضة الطالبين في المكان الذي ذكرته في الجزء السادس صفحة ثلاث وثلاثين، وانظروا كلام الإمام ابن قدامة في المغني في الجزء السابع صفحة سبع وثمانين ومائة.
فعلى قول الجمهور كما قلت لا يرث الأموات من بعضهم، وكل ميت يأخذ ماله ورثته فقط، حجتهم أمران:
أولاً: سبب استحقاق هؤلاء للإرث من بعضهم مشكوك فيه وهو الحياة، هل هذا الميت مات بعد مورثه، بعد صاحبه، بعد قرينه، أو مات معه أو قبله؟ إن مات قبله لم يرث منه، وإن مات معه لم يرث منه، وإن مات بعده سيرث، ونحن لا نجزم بذلك، وعليه لا نورث بعضهم من بعض، سبب استحقاقهم للإرث مشكوك فيه، وسبب استحقاق الورثة الأحياء متيقن، فلا نترك المتيقن للمشكوك.
وبما أن الصورة الخامسة من هذه الصور التي ذكرناها يمكن فيها تذكر السابق وذلك غير ميئوس منه، فقال الحنفية والشافعية، فقط الحنفية والشافعية فيها قولين: القول المعتمد عند الشافعية منهما: أن الميراث يوقف حتى يتبين الحال أو يصطلح الورثة فيما بينهم، قال النووي : وهذا هو الصحيح الذي عليه الأصحاب.
والقول الثاني: أن الحالة الخامسة كالحالة الرابعة والثالثة. يقول الشافعية والحنفية والمالكية ليسوا على هذا، يقول: هذا تذكر السابق والعلم باللاحق غير ميئوس منه، يمكن أن نتذكره بعد سنة، بعد سنتين، بقرائن، بدلالات، نسيناها الآن ونقتسم التركة، المال يوقف حتى يصطلح الورثة فيما بينهم على كيفية القسمة ويتسامحوا.
والقول الثاني لهم: أنهم أيضاً لا يتوارث الأموات من بعضهم في هذه الحالة، فالحالة إذاً صارت كالحالة الثالثة والرابعة.
الحالة الخامسة عند الشافعية والحنفية قولان فيها:
القول الأول: التركة توقف فلا تقسم حتى يصطلح الورثة فيما بينهم على كيفية القسمة، لم؟ كما قلت: لأنه سيختلف الأمر، قد يرث بعض الأموات من بعض، فكيف ستعطي تركة هذا الميت لورثته الأحياء فقط؟ هذا لابد الآن من اتفاق، وبما أن العلم بالسابق غير ميئوس منه يقولون تركتك، وهذا هو الصحيح كما قلت الذي عليه الشافعية، وللحنفية قولان أيضاً في هذا، والمالكية هذه الصورة وما قبلها واحدة، لا يتوارث الأموات من بعضهم في هذه الحالة.
هذه الموقعة ستون ألفاً ماتوا فيها وقرابات لم يتوارثوا فيما بينهم، وهكذا أم كلثوم رضي الله عنها مع ابنها زيد رضي الله عنها لم يتوارثا، وهكذا موقعة الحرة التي وقعت سنة ثلاث وستين للهجرة في أوائل حكم يزيد وقد بويع سنة ستين وقصمه الله وأخذه سنة أربع وستين بعد موقعة الحرة فما أمهله الله، وما أحد أراد أهل المدينة بسوء إلا انماع كما ينماع الملح في الماء، فعجل الله عقوبته واستئصاله، وقد قتل في موقعة الحرة ما يزيد على عشرة آلاف وأبيحت مدينة نبينا عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام لأوباش أهل الشام.
وأما موقعة صفين فالإمام الزهري يقول: بلغني أنه كان يدفن في القبر الواحد خمسون رجلاً لكثرة الموتى، وهكذا موتى أهل الحرة، فقتل عشرة آلاف وأهل البيت من أولهم إلى آخرهم ويبقى بعد ذلك قرابات عصبات بعيدة عنهم، فهؤلاء لا يتوارثون من بعضهم، لا يرث من مات إلا الورثة الأحياء فقط، هذا كما قلت ثابت بإسناد صحيح في هذه الكتب عن الإمام الباقر رضي الله عنه وأرضاه، أم كلثوم مع ابنها لم يجر التوارث بينهما، أهل صفين أهل الحرة ما توارثوا فيما بينهم.
الإمام الذهبي حقيقة يورد في ترجمته قصة لو وعاها طلبة العلم في هذه الأيام؛ ليكون لهم عزة العلم في نفوسهم لكان حسناً، يوردها في الجزء الخامس صفحة ثمان وستين وأربعمائة، وهو وإن علق عليها في نهايتها فقال: فيها نظر، لكنه ما بين هذا النظر الذي فيها بعد أن أوردها. على كل حال خلاصتها: أن قوماً كانت بينهم وبين المسيب بن زهير خصومة، وهو من أسرة الوالي، فارتفعوا إلى يحيى بن سعيد الأنصاري وهو عالم المدينة وقاضيها فكتب إليه يحيى أن يحضر، فأتوه بكتاب يحيى : احضر إلى مجلس القضاء، فانتهرهم وأبى.
فجاءوا إلى يحيى فقام مغضباً يريد المسيب فوافقه قد ركب وبين يديه نحو المائتين من الخشابة: وهم من كانوا يحملون العصي الخشب ويضربون بها الناس إذا اعترضوا هذا الذي هو من هذه الحاشية وأسرة الوالي، فلما رأوا القاضي يحيى بن سعيد الأنصاري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا أفرجوا له، قال: فأتى المسيب فأخذ بحمالة سيفه ورمى به إلى الأرض، ثم برك عليه يخنقه، قال: فما خلص حمائل السيف من يده إلا أبو جعفر بنفسه وكان أميراً على المدينة، وليس هو أبا جعفر المنصور .
قلت - الذهبي -: هكذا فليكن الحاكم، ومتى خاف الحاكم من العدل لم يفلح. وتقدم معنا كلام الإمام الزهري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا يقول: إذا كان في القاضي ثلاث خصال فلا يفلح ولا خير فيه:
أولها: إذا كان يخشى العزل ويكره الملام ويحب المحامد. يُحب أن يحمد ويخشى العزل ويكره اللوم وأن يعترض عليه، هذا ليس بقاضي ولا خير فيه، والإسناد رجاله ثقات في هذين الكتابين يقول: إن أهل الحرة وأضاف إليه هنا وأصحاب الجمل لم يتوارثوا فيما بينهم، وفي رواية الإمام البيهقي : ورثهم ورثتهم الأحياء.
وموقعة الجمل وقعت سنة ست وثلاثين قبل موقعة صفين بسنة، وقتل فيها ما يزيد أيضاً على عشرة آلاف.
وفي سنن سعيد بن منصور عن يحيى بن سعيد الأنصاري أيضاً رحمه الله ورضي عنه: أن قتلى اليمامة وهي التي وقعت في عهد سيدنا أبي بكر رضي الله عنه عند قتال المرتدين.. أن قتلى اليمامة وقتلى صفين والحرة لم يورث بعضهم من بعض، ورثوا عصبتهم من الأحياء.
إذاً: الأول عن الإمام الباقر ، وهذا عن يحيى بن سعيد الأنصاري عالم المدينة.
ورواه سعيد بن منصور في الجزء الأول صفحة سبع وثمانين عن ولده خارجة ولم يرفعه إلى أبيه، قال خارجة : كان يقال: كل قوم متوارثين عُمِّي موت بعضهم قبل بعض في هدم أو غرق أو حرق أو في شيء من المتالف فإن بعضهم لا يرث من بعض شيئاً، لا يرثون ولا يحجبون.
يرث كل واحد منهم ورثته من الأحياء كأنه ليس بينه وبين أحد ممن مات معه قرابة، يعني: ذاك الذي مات معه لا يرثه ولا يحجب غيره وكأنه ليس بينهما قرابة.
وفي رواية المصنف لـعبد الرزاق عن خارجة رحمة الله ورضوانه عليه وعلى المسلمين أجمعين: أن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه قضى في أهل اليمامة مثل قول زيد، ورث الأحياء من الأموات ولم يورث الأموات بعضهم من بعض.
وفي رواية في السنن الكبرى للبيهقي في المكان المتقدم من طريق عباد عن أبي الزناد عن خارجة عن زيد قال: أمرني أبو بكر رضي الله عنهم أجمعين حيث قتل أهل اليمامة أن يورث الأحياء من الأموات ولا يورث بعضهم من بعض، قال الإمام البيهقي : وبهذا الإسناد من طريق عباد عن أبي الزناد عن خارجة عن زيد بن ثابت وبهذا الإسناد قال -يعني: زيد -: أمرني عمر رضي الله عنهم أجمعين ليالي طاعون عمْواس، عَمَواس كما تقدم معنا ضبطه، قال: كانت القبيلة تموت بأسرها فأمرني أن أورث الأحياء من الأموات وألا أورث الأموات بعضهم من بعض.
والأثر الذي رواه الإمام عبد الرزاق في مصنفه وإن كان من طريق عباد بن كثير وهو الثقفي البصري متروك كما قال الحافظ ابن حجر ، وقال الإمام أحمد عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: روى أحاديث كذب، وتوفي بعد الأربعين ومائة، وهو من رجال أبي داود وسنن ابن ماجه القزويني : د ق، متروك.
الإمام عبد الرزاق بعد أن أورد هذا الأثر أورد كرامة لـعباد بن كثير ونقل عن أبي مطيع قال: كان عباد عندنا ثقة، ونظرت جميع كتب الجرح والتعديل لينقلوا هذا الكلام عن أبي مطيع فما نقلوه فاستمع إليه، الأثر في المجلد العاشر صفحة تسع وتسعين ومائتين يقول: إن عباد بن كثير أخرج من قبره بعد ثلاث سنين قالوا: فما تغير منه شيء، يقول أبو مطيع : وذلك كرامة له، وهذا يدل على صلاحه وفضله، وكان عباد بن كثير عندنا ثقة. هذا في المصنف، وكان عباد بن كثير عندنا ثقة، من الذي يقول هذا؟ أبو مطيع وهو الحكم بن عبد الله البلخي توفي سنة تسع وتسعين بعد المائة، وهو فقيه من فقهاء الحنفية، قال عنه الإمام الذهبي في الميزان: كان بصيراً بالرأي علامة كبير الشأن لكنه واهم في ضبط الأثر، وكان ابن المبارك يعظمه ويبجله ويحترمه لدينه ولعلمه، انظر الميزان الجزء الأول صفحة أربع وسبعين وخمسمائة، وحكم عليه في المغني في الجزء الأول صفحة ثلاث وثمانين ومائة فقال: تركوه. أيضاً الموثق لـعباد بن كثير وهو أبو مطيع عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا يقول: تركوه، والترك معناه أنه واهم في ضبط الأسانيد فقط، وهو صاحب عبادة وديانة وعلم وفقه وابن المبارك يجله ويحترمه، والإمام ابن حجر في الميزان أقر هذا في الجزء الثاني صفحة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وأوردوا أيضاً له كرامة فقد كان في حياته يجهر بالحق ويصدع به، ومن أجل هذا شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك كان يجله ويبجله، فمثل هذه القصص ينبغي أن تنتشر أيضاً بين طلبة العلم فاسمعوها، وكما قلت هي في الميزان وفي لسان الميزان.
يقول: قال محمد بن الفضل البلخي : سمعت عبد الله بن محمد العابدي يقول: جاء كتاب -يعني من الخليفة- وفيه منشور لولاية العهد للثناء عليه ليقرأ على الناس بعد صلاة الجمعة: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12] فسمع أبو مطيع أن هذا الكتاب جاء من الخليفة من أجل أن يولي بعض أولاده الصبيان ويستشهد بهذه الآية: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12] قال: فسمع أبو مطيع فدخل على الوالي فقال: بلغ من خطر الدنيا أننا نكفر بسببها، فكرر مراراً حتى بكى الأمير وليس هو الخليفة، هذا الأمير الذي على تلك البقعة سيقرأ المنشور في بلدته بعد صلاة الجمعة، فقال له الأمير: إني معك، ولكن لا أجترئ بالكلام فتكلم وكن مني آمناً، قال: فذهب يوم الجمعة فارتقى المنبر، ثم قال: يا معشر المسلمين وأخذ بلحيته وبكى وقال: قد بلغ من خطر الدنيا أن نُجر إلى الكفر أو أن تجر إلى الكفر، من قال: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12] غير يحيى فهو كافر، قال: فضج أهل المسجد بالبكاء وهرب اللذان قدما بالكتاب فما قرئ على الناس، من قال وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12] لغير نبي الله يحيى على نبينا وعليه الصلاة والسلام فهو كافر، فأهل المسجد بدءوا يبكون ويضجون، فاللذان جاءا بالكتاب ليقرأ على مسمع المسلمين بعد صلاة الجمعة هربا لأنه لا يجرؤ واحد منهم أن يقرأ بعد أن حكم على هذا الكلام بالكفر، وإذا قرئ قد يقتل القارئ فشردا. هذا أبو مطيع ، ومن أجل هذا كان شيخ الإسلام يجله ويحترمه ويبجله ويكرمه رضي الله عنهم أجمعين، وتقدم معنا أنه توفي سنة تسع وتسعين ومائة، يعني بعد شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك الذي توفي سنة واحد وثمانين ومائة بعده.
أبو مطيع الذي حكم عليه الذهبي بأنه متروك وثق عباد بن كثير للكرامة التي جرت له، قال: كان عندنا ثقة. فهذا الكلام لا أحد أورده في ترجمة عباد بن كثير ، وهذه الكرامة لـعباد بن كثير أنه أخرج من قبره بعد ثلاث سنين لم يتغير منه شيء في المصنف.
إخوتي الكرام! قلت: أثر عبد الرزاق من طريق عباد بن كثير عن أبي الزناد عن خارجة عن زيد أن أبا بكر رضي الله عنه أمره وأن عمر أمره، هذا الأثر كما قلت من طريق عباد ، أوليس كذلك؟ وعباد وإن كان فيه ما فيه فهو ضعيف متروك إلا أنه توبع من قبل عبد الرحمن بن أبي الزناد في رواية عن أبيه عن خارجة عن زيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين، وإسناد الأثر ثقات كما في السنن الكبرى للبيهقي وسنن الدارمي وسنن سعيد بن منصور ، على أن معنى الأثر ثابت في الروايات الأخرى كما تقدم معنا: أن أهل اليمامة لم يتوارثوا فيما بينهم، وهكذا أهل الحرة، وهكذا أهل الجمل، وهنا أضاف في طاعون عمْواس، وعَمَواس وسيأتينا أيضاً الإشارة إلى ذلك إن شاء الله، هذا أثر ثالث؟
روى رواه البيهقي في السنن الكبرى في المكان المتقدم عن أبي الزناد عن الفقهاء من أهل المدينة رضي الله عنهم أجمعين، كانوا يقولون: كل قوم متوارثين ماتوا في هدم أو غرق أو حريق أو غيره.. هناك تقدم معنا خارجة يقول: كان يقال، وهنا الآن أبو الزناد عن الفقهاء من أهل المدينة كانوا يقولون: كل قوم متوارثين ماتوا في هدم أو غرق أو حريق أو غيره فعُمِّي موت بعضهم قبل بعض فإنهم لا يتوارثون ولا يحجبون.
قال: وعلى ذلك قول زيد وقضى بذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أجمعين.
وفي رواية الدارقطني قال: قسمت مواريث أصحاب الحرة -هذا من رواية أبي الزناد عن الثقة من شيوخه- قسمت مواريث أصحاب الحرة فورث الأحياء من الأموات ولم يرث الأموات من الأموات.
ورواه ابن أبي شيبة أيضاً عن قتادة رضي الله عنه قال: كان في كتاب عمر بن عبد العزيز : يرث كل إنسان وارثه من الناس أي: من الأحياء.
في السنن الكبرى للإمام البيهقي في المكان المتقدم عن يزيد بن هارون عن شيخ من أهل البصرة لم يسمّ عن عمارة بن حزم عن أبيه: أن علياً رضي الله عنه وأرضاه ورث قتلى الجمل فورث ورثتهم الأحياء فقط، أي: لم يورث الأموات بعضهم من بعض. قال البيهقي : نحن نأخذ بهذا، وهذا كما قلت مذهب الجمهور وما خالف إلا الإمام أحمد في أحد قوليه، ثم نقل الإمام البيهقي عن بشير الخثعمي : أن علياً رضي الله عنه ورث رجلاً وابنه أو أخوين أصيبا بصفين لا يدرى أيهما مات قبل الآخر فورث بعضهم من بعض، قال الإمام البيهقي : كذا قال، هذا بشير الخثعمي في ما نقله عن سيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين، كذا قال، ونحن إنما نأخذ بالرواية الأولى.
إخوتي الكرام! ورواية علي أنه ورث الأموات بعضهم من بعض سيأتينا إن شاء الله ذكره عند القول الثاني وبيان درجتها إن شاء الله.
هنا يقول: نحن إنما نأخذ بالرواية الأولى عن علي رضي الله عنه لأنه جعل الإرث للأحياء من ورثة الأموات ولم يورث الأموات بعضهم من بعض. وهذا القول منقول عن جم غفير من التابعين فيصبح معنا أثر تاسع عن عدة من التابعين، رويت أقوالهم في سنن سعيد بن منصور في الجزء الأول صفحة سبع وثمانين: عن إسماعيل بن عياش وهو أبو عتبة الحمصي صدوق في روايته عن أهل بلده مخلط في روايته عن غيرهم، تقدم معنا ذكره قريباً في سنن الترمذي وقلت: رمز له ياء ..... لأهل السنن الأربعة والياء تقدمت معنا ماذا يراد بها؟
توفي إسماعيل سنة واحدة أو اثنتين وثمانين ومائة، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم ، وهو الغساني الشامي ضعيف سُرق بيته فاختلط، وهو من رجال السنن الأربع إلا سنن النسائي وتوفي سنة ست وخمسين ومائة، ولعله تأثر من أجل كتبه رحمة الله ورضوانه عليه كما تأثر عدد من أئمتنا لاحتراق كتبهم، سرق بيته فاختلط لا لمتاع الدنيا إنما حقيقة الكتب لها شأن عند أهلها.
إذاً: إسماعيل بن عياش عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم يروي هذا الحكم عن ثلاثة من التابعين، عن راشد بن سعد الحمصي وهو ثقة كثير الإرسال، خرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأهل السنن الأربع، وتوفي سنة ثلاث عشرة ومائة للهجرة، تابعي جليل ثقة كثير الإرسال، وعن حكيم بن عمير أبو الأحوص الحمصي صدوق من التابعين، حديثه في سنن أبي داود وسنن ابن ماجه ، وعن عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي وليس هو عبد الرحمن بن عوف الصحابي، بل عبد الرحمن بن أبي عوف الحمصي ثقة يقال: إنه أدرك النبي عليه الصلاة والسلام، وهو من رجال أبي داود والنسائي . هؤلاء ثلاثة الآن: راشد بن سعد وحكيم بن عمير وعبد الرحمن بن أبي عوف قالوا: لا يورث ميت من ميت، إنما يرث الحي الميت، ترثهم عصبتهم الأحياء، أي: الأموات ترثهم عصبتهم الأحياء. هذا أثر تاسع، وأختم بالعاشر وهو آخر شيء، رواه عبد الرزاق في مصنفه في المكان المتقدم وابن أبي شيبة في مصنفه عن معمر عن الزهري عليهم جميعاً رحمة الله، ورواية عبد الرزاق في المصنف قال الزهري : مضت السنة بأن يرث كل ميت وارثه الحي ولا يرث الموتى بعضهم بعضاً، ورواية ابن أبي شيبة في مصنفه قال الإمام الزهري في الذين يموتون جميعاً لا يدرى أيهم مات قبل صاحبه: لا يورث بعضهم من بعض.
هذه كما ترون عشرة آثار بعضها منقول عن جم غفير من أئمتنا الأبرار فيها هذه الدلالة.
وخلاصة قول الجمهور: لا توارث بين الأموات بعضهم بعضاً لأمرين:
للشك في سبب استحقاق الإرث وهو حياة الوارث عند موت المورث، وهنا لا نقطع بتأخر بعضهم عن بعض لنورث بعضهم من بعض.
والأمر الثاني: آثار منقولة عن السلف الكرام رضي الله عنهم في ذلك بأن من ماتوا في موت جماعي لم يرث بعضهم من بعض، إنما ورثهم ورثتهم الأحياء.
قال: يرث الأموات بعضهم من بعض من تليد مال الميت، تليد أي: القديم لا من الطريف.
إذاً الإرث يكون من التلاد أي: من المال القديم، يعني من المال الذي تركه الميت، فإذا ورث الميت من صاحبه لا يرث ذاك من هذا الذي ورثه من صاحبه مرةً أخرى؛ لأن هذا يؤدي إلى الدوران الى ما لا نهاية له، إذا كان هو يرثني وأنا أرثه، ثم ما ورثه مني أرثه منه، ثم ما ورثته منه يرثه مني، فهذا لا نهاية له.
على كل حال يرث من التليد لا من الطريف، يرث من ماله الأصلي، لا مما ورثه من الأموال، والحنابلة على هذا القول في الحالة الخامسة وهي التي علمنا واحداً بعينه ثم نسيناه وجهلناه، والرابعة: علمنا سبق بعضهم بالموت من غير تعيين، يقول: في هاتين الحالتين إذا ادعى ورثة كل ميت تأخر ميتهم ليورثوا ميتهم ممن مات معه، فإذا ادعى كل واحد تأخر موت ميته ليرث هذا الميت ممن مات معه ولا بينة، أو يوجد بينة، وتعارضت البينتان، فلا يتوارث الأموات في هذه الحالة من بعضهم، وكل ميت يرثه ورثته الأحياء.
في الحالة الرابعة والخامسة، والأولى والثانية الحكم مجمع عليه، وأما الحالة الثالثة فيها التوارث بين الأموات عند الحنابلة قطعاً وجزماً في الحالة الرابعة والخامسة يوجد معنا سبق من غير تعيين، فلو جاء ناس وقالوا: نحن ميتنا هو الذي تأخر بلا بينة، أو يوجد بينة وتعارضت لبينتان تساقطت الدعوتان فلا يتوارث الأموات بعضهم من بعض، وفي الحالة الخامسة قالوا: علمناه ثم نسيناه ونحن الآن استحضرناه، وهؤلاء قالوا: نحن استحضرناه، فتعارضت البينتان والدعوتان، فكل منهما يلغى ولا يرث الأموات بعضهم من بعض في هذه الحالة.
أما الحالة الثالثة فهي مفروضة معنا أصالةً فيمن لا نعلم حالهم، هل ماتوا معاً أو تلاحقوا في الموت، أو تأخر بعضهم، فلا يمكن أن يحصل ادعاء ولا بينة ولا تعارض، تلك مسلمة، فتلك يقع التوارث فيها بين الأموات؛ لأنه لا يوجد خلاف بين الورثة، بقيت الحالة الرابعة والخامسة، إن حصل تعارض فلا يتوارث الأموات من بعضهم، وإن لم يحصل فيتوارثون من التليد لا من الطريف، وهنا يوجد أيضاً دليلان معتبران أيضاً في الدلالة لهذا القول أولهما:
يقول الحنابلة رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين: حياة الميت ثابتة بيقين، وموته قبل صاحبه مشكوك فيه، فالأصل الحياة، فنحن لم نخرجه عن الأصل! حياة كل من الأموات ثابتة بيقين، والأصل أنه ما مات، وأنه يرث ممن مات قبله، هذا في جميع الأموات، فهذا الأصل لا نتركه، وموته قبل صاحبه مشكوك فيه، ولا يثبت الحرمان بالشك، هناك لا توريث مع الشك، وهنا لا حرمان أيضاً بالشك، أنت الآن تشك في موته فكيف تحرمه من الإرث والأصل أن حياته ثابتة، ولا يثبت الحرمان بالشك إلا فيما ورث كل منهما من صاحبه، هذا لأجل الضرورة؛ لأن توريث أحدهما من صاحبه يتوقف على الحكم بموت صاحبه قبله، فلا يتصور أن يرث صاحبه منه، لكن ما ثبت بالضرورة لا يتعدى عن محلها، وفيما عدا ذلك يتمسك فيه بالأصل، ولو ورث كل منهما من صاحبه فيما يرثه منه؛ للزم وراثة الإنسان لنفسه وترتب على ذلك الدور.
إذاً الأصل أنه حي، فيرث صاحبه الذي مات معه من ماله الذي خلفه، وذاك يرث منه أيضاً، فإذا هذا ورث مني، أنا لا أعود وأرث بعد ذلك منه ما ورثه مني، لأن الأصل أنني ورثت عندما حكمت عليه بأنه مات قبلي، فكيف بعد ذلك آخذ هذا المال لأنني مت بعده، هذا لا يمكن، إذاً للضرورة فيوقف عند حده، وما عداه فالأصل أنه حي فأنا أرثه من ماله الأصلي، وهو يرثني من مالي الأصلي، وفيما ورثه مني لا أرثه منه، وفيما ورثته منه لا يرثه مني، لئلا يترتب على هذا الدور الذي هو توقف الشيء على ما توقف عليه كما تقدم معنا في تعريف الدور، توقف الشيء على ما توقف عليه، لولا هجره لم أشب، ولولا شيبي ما هجر، الدور كما تقدم معنا قضية الدور قامت بيني وبين من أحب، فلولا شيبي ما هجر، ولولا هجره لم أشب، طيب كيف هذا! هجره شيبني وشبت لأنه هجرني، هذا هو الدور، الهجر متوقف على الشيب، والشيب متوقف على الهجر، هذا لا يمكن، وهنا كذلك كيف سيرث الإنسان لنفسه، هو الأصل أنك لا ترثه إلا إذا قدرت موته قبلك وأنت بعده، ثم كيف ستورثه منك بعد ذلك من هذا المال وتحسب أنك مت قبله وهو بقي بعدك، فصار تناقض، ففي هذا المجال نتركه، وما عداه أنا أرث من ماله الأصلي، وهو يرث من مالي الأصلي، هذا الدليل الأول.
الدليل الثاني: آثار منقولة عن السلف الأبرار لكن ليست في قوة تلك الآثار كما سيأتينا إن شاء الله، نعم الدليل الأول معتبر حقيقةً هناك لا توريث مع الشك، وهنا نقول: لا حرمان مع الشك، هذان متقابلان، لكن الآثار شتان شتان بين الآثار الأولى والآثار الثانية، هذه الآثار نترك الكلام عليها إلى أول المحاضرة الآتية إن شاء الله.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر