وما أجملها أن نجلس في بيت من بيوت الله ونتدبر بعض كلامه، ونقبل عليه بقلوبنا وعقولنا وأفئدتنا، رجاء أن يمنحنا الله العلم والمعرفة، ويكشف لنا من أسرار هذا الكتاب العظيم ما يصح به إيماننا، ويثبت به يقيننا، ويطيب به عيشنا، فمن معاني الزكاء والزكاة: الزيادة والكثرة والنماء، والأصل الثاني في كلمة الزكاة: معناها الطهارة والطيب والنقاء والصفاء، وكلا المعنيين وارد في القرآن الكريم، وفي نصوص كثيرة جداً.
فمثلاً قوله سبحانه: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً [الكهف:81]، هذا معناه: أطهر منه وأطيب، وَأَقْرَبَ رُحْماً [الكهف:81] كما قال سبحانه.
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] يعني: تُطيب قلوبهم.
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف:58]، فالأرض الطيبة يقال: زكت ونمت إذا كثر نبتها وطاب.
ومن معاني الزكاة أيضاً: الثناء والمديح، يقال: زكى فلان فلاناً، أو زكى الشاهد؛ إذا مدحه وأثنى عليه، ومنه قوله سبحانه: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32] يعني: لا تمدحوا أنفسكم، وكذلك قوله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النساء:49].
والزكاة أيضاً من معانيها: الصدقة، والصدقة هي الزكاة المفروضة، فمثلاً في قوله سبحانه: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، المقصود بالصدقة هنا: الزكاة الواجبة، وكذلك قوله سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58]، فالمقصود هنا بالصدقات يعني: بالزكاة المفروضة، وهكذا في قول النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس أواق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة ) المقصود: الزكاة المفروضة.
إذاً: الصدقة هي الزكاة، كما قال الماوردي : الصدقة هي الزكاة والزكاة هي الصدقة .
وبناءً عليه: فإن ما يظنه كثير من الناس أن الزكاة هي الواجبة، والصدقة هي التطوع، فإن هذا ليس له أصل في لسان الشرع، وإنما تطلق الزكاة والصدقة على معنى واحد: وهو ما يُخرج من المال واجباً لحق اليتيم والفقير والضعيف والمسكين.. وغيرهم على حسب ما سوف يأتي وكما هو مبين في سورة التوبة، فلما يقول الله سبحانه وتعالى مثلاً: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60]، فالصدقات هنا المقصود بها الزكاة الواجبة.
وكذلك من أسمائها ومعانيها في القرآن الكريم: الإنفاق، فإن الله تعالى أمر بالإنفاق وحث عليه وأثنى على أهله، وذكر الذين يُنفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، وقال: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:261].. إلى غير ذلك، فكل ذلك يُقصد بالإنفاق منه الزكاة الواجبة، وكذلك الإنفاق المستحب غير الواجب.
ومما يؤكد هذا المعنى قوله سبحانه: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذريات:19]، وقال في الآية الأخرى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24] يعني: محدد معروف، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:25]، وهذه آيات مكية.
ومن هنا ذهب ابن خزيمة رحمه الله إلى أن الزكاة فُرضت بـمكة .
أما جمهور أهل العلم فإنهم يخالفونه ويرون أن الزكاة فرضت بـالمدينة .
واختلفوا متى فُرضت؟
فقيل: فُرضت في السنة الثانية للهجرة، وهذا مذهب الأكثرين.
وقيل: فُرضت في السنة الخامسة، كما يدل عليه حديث ضمام بن ثعلبة وهو في صحيح مسلم : لما جاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وسأله، فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة وذكر له الزكاة أيضاً.
وقيل: فُرضت في السنة الثامنة أو التاسعة من الهجرة، كما ذكر ذلك ابن الأثير وغيره.
والأقرب أنها فُرضت بعد السنة الثانية من الهجرة وقبل السنة الخامسة من الهجرة، قد يكون ذلك في السنة الثالثة من الهجرة.
أما الآيات التي وردت بـمكة فتدل على أن أصل الإطعام والإحسان وأداء شيء من المال للمستحقين والفقراء كان مطلوباً لكن من غير تحديد، فكان الإنسان يعطي الفقير والمسكين واليتيم وابن السبيل ما تيسر له مما قل أو كثر، ولا يلزم أن يكون المقصود بالحق خصوص الزكاة، فإن الحق أوسع من الزكاة، وقد ورد في صحيح مسلم حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ) وكذلك فيما يتعلق بالإبل تطؤه بخفافها، وكذلك البقر والغنم تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، فدل ذلك على وجوب شيء في هذه الأمور كلها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث ذاته: ( لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها )، فحلبها يوم وردها ليس من الزكاة، وإنما هو من الحق العام، فدل على أن قوله سبحانه: فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24] يُقصد به عموم الإحسان، وهذا أمر متقدم، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر في مواضع كثيرة جداً من القرآن الكريم الأمر بالمواساة، والأمر بالإحسان إلى الفقير والمسكين والمحتاج وأوجب ذلك، فمثلاً في سورة الفجر وهي مكية، قال سبحانه: كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الفجر:17-18]، فأمرهم بأن يتحاضوا، أي: يحض بعضهم بعضاً على طعام المسكين، ولا شك أن الله تعالى لما أمرهم بالأعلى وهو أن يوصي بعضهم بعضاً بذلك، فقد أمرهم بما هو أقل منه وهو أن يُطعموا هم المسكين، فقبل أن تحض على طعام المسكين عليك أن تطعم أنت وتُشارك قبل أن تأمر الآخرين بذلك.
وهكذا أيضاً في سورة الدين: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:1-3]، فعابهم الله سبحانه وتعالى بجفاف عواطفهم ومشاعرهم، فهم يدعُّون اليتيم، يعني: يدفعونه دفعاً قوياً ولا يُراعون مشاعره، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:34] يعني: لا يحضون أنفسهم ولا يحضون غيرهم على ذلك.
إذاً: كان بـمكة واجباً على الناس أن يحسنوا، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يتحاضوا على طعام المسكين, وأن يهتموا بشأن اليتيم، ولكن لم تكن الزكاة بأنصبائها وفروضها وأنواعها وشروطها، والأموال التي تجب فيها الزكاة لم تكن تقررت بعد، حتى صدقة الفطر التي تخرج في رمضان لم تكن تقررت، والأقرب أنها إنما فرضت بـالمدينة، إنما كان على الناس حقاً عاماً في الإحسان من غير تحديد، ويقرب من ذلك موضوع الصلاة، فإنها كانت واجبة على الناس من حيث الجملة، وكان مطلوباً منهم أن يصلوا وأن يركعوا، لكن لم تكن الصلاة محددة بمواقيتها وشروطها وطهارتها وعدد ركعاتها، والسرية منها والجهرية.. إلى غير ذلك، فهكذا الأمر في شأن الزكاة، فإنها لم تُفرض إلا في المدينة بعد السنة الثانية من الهجرة.
والأقرب أيضاً: أن الزكاة كانت موجودة عند الأنبياء السابقين، وهذا وردت فيه نصوص كثيرة جداً في القرآن الكريم، مثلاً قوله سبحانه وتعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90]، وقال سبحانه: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء:73].. إلى غير ذلك من النصوص التي فيها دليل على أن الرسل وأتباعهم عليهم الصلاة والسلام كان الله تعالى فرض عليهم: فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ [الأنبياء:73] لكن لم تكن كالزكاة المفروضة لهذه الأمة، فقد تكون زكاة عامة، وقد تكون غير محددة المقادير ولا غير ذلك.
فإن الزكاة هي أحد أركان الإسلام الخمسة، وأحد مبانيه العظام، وقد ذكر الله تعالى في كتابه في أكثر من ثلاثين موضعاً، غالب هذه المواضع ذكر الله تعالى الزكاة مقرونة بالصلاة، وهذا الاقتران له معنى: فإن الله تعالى ذكر الصلاة وهي عبادة لله سبحانه وتعالى، فيها خشوع وتنسك وتأله وإقبال على الله عز وجل بقلب العبد وروحه وذكره ووجهه، ثم قرنها بالزكاة التي ليست كذلك، هي عبادة ولكنها عبادة من نوع آخر، فهي عبادة مالية فيها الإحسان للناس، وفيها التخلص من الشح، وفيها إعطاء الآخرين، وذلك من أجل أن يعرف الإنسان أن العبادة ليست فقط خشوعاً في لحظة واحدة في المسجد، وإنما العبادة هي إحساس قلبي يترتب عليه أن يضحي الإنسان حتى بأعز ما يملك من المال لله سبحانه وتعالى، والله عز وجل يقول: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، والخير هو المال، وقال: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً [الفجر:20]، فهذا الحب للمال يتخلص الإنسان منه بالإنفاق.. بالزكاة.. بالبذل: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، ويتخلص الفقير منه أيضاً حينما يأتيه هذا الحظ أو هذا النصيب من الزكاة، فيقنع به ويرضى ولا يمد عينه إلى ما حرمه الله تعالى منه بحكمته وأعطاه أزواجاً غيره من الناس.
فالمقصود: أن الله تعالى قرن الصلاة بالزكاة في مواضع كثيرة جداً نحو ثلاثين موضعاً، منها ثمانية مواضع في آيات مكية، والبقية في آيات نزلت بـالمدينة المنورة .
وقد وجدت في بعض كتب الفقهاء من الحنابلة والأحناف أنهم يقولون: إن الله تعالى قرن الصلاة بالزكاة في اثنين وثمانين موضعاً.
وهذا غلط، فإن الصواب أنها اثنان وثلاثون موضعاً والله أعلم، وحتى لو تجاوزنا لفظ الزكاة لنأتي للمعاني العامة في الإنفاق أو الحق فإنها لا تقرب من هذا الرقم ولا تدانيه، والأقرب أن الرقم هو في اثنين وثلاثين موضعاً أو ما هو قريب من ذلك.
إذاً: الزكاة هي أحد أركان الإسلام، وقد نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة )، وكذلك في حديث جبريل المشهور وهو في الصحيحين وغيرهما: لما سأله عن الإسلام فذكر الصلاة والزكاة، في نصوص كثيرة متواردة متواترة من القرآن والسنة تدل على الأمر بالزكاة؛ ولهذا أجمع العلماء على وجوب الزكاة، وأنها أحد أركان الإسلام.
المسألة فيها خلاف، والقول الراجح الذي عليه أكثر أهل العلم وعليه الدليل أنه لا يكفر بهذا الامتناع، وإنما قد ارتكب إثماً عظيماً وأتى كبيرة من كبائر الذنوب، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث الذي أشرت إليه آنفاً في تارك الزكاة الذي لا يؤدي زكاتها أنه يعاقب العقاب الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها زكاتها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الخلائق فيرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار )، فقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يرى سبيله) دليل على ماذا؟
دليل على أنه ليس بكافر؛ لأن الكافر لا يقال في حقه: ( يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار )، وكون النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الوعيد، فهذا مثل ما ورد في القرآن الكريم في قوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34] يعني: لا يُخرجون منها زكاتها كما نص عليه عبد الله بن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة وأهل العلم، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34].
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35]، قال أهل العلم: يكوى بها جنبه إشارة إلى أنه يأكل المال الحرام، والمال يُدخر للأكل فيُكوى بها جنبه الذي طالما امتلأ من مال فضَّله صاحبه على مرضاة الله، فلم يُخرج زكاته فكنزه ولم يُخرجه في سبيل الله.
ويُكوى بها ظهره إشارة إلى أن المال يُدخر للبس أيضاً؛ فلهذا يُعاقب بالجزاء من جنس العمل، بأن يُكوى ظهره الذي طالما لبس الثياب من حرام.
وأما جبينه -والمقصود به جبهته- فقد يكون -والله أعلم- إشارة إلى أن الكثير من الناس يريد المال للجاه والسمعة والمكانة.. وغير ذلك، فيُكوى جبينه الذي طالما تعزز بهذا المال وامتنع من إخراجه أو أداء حقه للفقير والمسكين .
إذاً: هذا عقاب لتارك الزكاة، وهذا عقاب أخروي كما هو معروف.
وهناك عقاب دنيوي لتارك الزكاة أيضاً بينه ما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم )؛ ولذلك قاتل الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة الذين امتنعوا من أداء الزكاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم من قبائل العرب، وقالوا: لا نؤدي زكاتنا إلا لمن كانت صلاتنا سكناً لنا، فالله سبحانه وتعالى يقول: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103]، فلما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم امتنعت بعض قبائل العرب، وكان الحطيئة يقول:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكر
أيورثها بكراً إذا مات بعده وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فامتنعت قبائل منهم من إخراج الزكاة، فتردد بعض الصحابة في شأنهم، حتى جادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا بكر الصديق: (كيف تقاتلهم وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ فقال له أبو بكر رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة)، وفي اللفظ الآخر قال: (والله لو منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها، قال عمر رضي الله عنه: والله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال إلا علمت أنه الحق)، ومن هنا قال أهل العلم في قتال الفئة الممتنعة عن أداء فريضة من فرائض الإسلام، إذا تعززت فئة وامتنعت واستعدت للقتال رفضاً للطاعة ولأداء فريضة من فرائض الله فإن الإمام يقاتلها .
وهنا موضع فيه عجب أيها الأحبة: الصحابة رضي الله عنهم الذين استعدوا للقتال من أجل مانعي الزكاة ماذا يريدون بهذه الزكاة: هل يريدون أن يعمروا بها بيوتهم ويتزينوا بها ويستفيدوا منها؟ أو يريدون أن يملئوا بها بيت المال ؟ أو يريدون بها مصالح شخصية؟
قطعاً لا، كانوا يريدونها للفقير والمسكين، وهذا دليل على الفهم العميق عندهم لهذا الدين، أن يصبح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مستعدين للقتال في سبيل حق الفقير واستخراجه من الغني والقادر، مع أن الكل يعرف أن الصحابة رضي الله عنهم -أبا بكر وعمر وعلياً رضي الله عنه وغيرهم، طبعاً عثمان كذلك، لكن كان عثمان صاحب مال، كان غنياً ومنفقاً، وهو الذي جهز جيش العسرة- فالمقصود أنهم كانوا مثل غيرهم من الناس، ولا يدخل عليهم إلا ما يدخل على عامة الناس، ولا على أولادهم، فهذا دليل على عظمة هذا الركن، حيث قاتل الصحابة رضي الله عنهم مانعيه، ودليل أيضاً على فقه الصحابة وإدراكهم لعظمة هذا الدين، وأنه جاء بحق الضعيف واليتيم والمسكين وابن السبيل.. وغيرهم.
والمقصود هنا: أن هذا عقاب لمانعي الزكاة.
ومن عقاب مانعي الزكاة أيضاً ما ورد في حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الزكاة وأنها حق المال، ومن أداها طيبة بها نفسه كتب له أجرها، ومن امتنع من أدائها فإنا آخذوها منه وشطر ماله )، (فإنا آخذوها منه) يعني: الزكاة، (وشطر ماله معها).
وقد قال بعض السلف بناءً على هذا الحديث: إن من امتنع من أداء الزكاة فعلى الحاكم أو الإمام أن يأخذ منه الزكاة قهراً وقسراً ويأخذ منه زيادة عليها، شطر ماله أيضاً، زيادة من ماله، وهذا ما يُسميه الفقهاء بالتعزير بالمال، يعني: تعزير المخطئ أو العاصي بأن يؤخذ منه جزء من المال زيادة.
لكن هذا الحديث ضعيف، وإن كان ظاهر إسناد هذا الحديث السلامة والصحة، لكن الإمام أحمد لما سئل عن هذا الحديث قال: لا أدري ما وجهه، وكأنه استنكره.
وكذلك الإمام إبراهيم الحربي قال في هذا الحديث مقالاً ولم يره على ظاهره، وكذلك الشافعي ضعفه ولم يأخذ به ؛ ولهذا كان جمهور الأئمة بما في ذلك الأئمة الأربعة رضي الله عنهم يرون أن مانع الزكاة تؤخذ منه الزكاة فحسب ولا يؤخذ منه ما زاد عليها، تؤخذ منه الزكاة فقط، وأما ( آخذوها منه وشطر ماله )، فإن هذه الزيادة فيها نظر والله أعلم، فلا تثبت ولا تصح .
فهذه عقوبات لمن منع الزكاة.
وهناك عقوبة عامة أيضاً على مانعي الزكاة في الدنيا يدل عليها الحديث الذي رواه ابن ماجه وأحمد وغيرهم وسنده جيد وله طرق عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا )، فهذه عقوبة ربانية عامة على الأمم التي تمتنع من زكاة المال أن الله تبارك وتعالى يصعب عليهم الحصول على الرزق، ومن ذلك أن الله تعالى يمنع عنهم المطر من السماء، فلا تمطر السماء ولا تنبت الأرض، ولا شك أن مما يعرفه العقلاء والمجربون في الحياة أن البركة شيء مشاهد، فإذا جعل الله تعالى البركة في المال وإن كان قليلاً كثر وانتفع به صاحبه وأولاده وجيرانه وورَّث لمن وراءه شيئاً كثيراً، وإذا نزعت البركة منه فحتى لو كان كثيراً وهائلاً فإنه سرعان ما ينمحي وينتهي، وقد ورد في الأثر: ( أن الزكاة ما خالطت مالاً إلا أفسدته )، وهذا جاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمقصود بمخالطة الزكاة للمال: إما أن الإنسان لا يُخرج زكاة ماله فتبقى في المال وهي حق للفقراء والمساكين فتُفسد ماله، وإما أن يأخذ الإنسان زكاة من باذليها وهو لا يستحقها فتُخالط ماله، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، ثم قال: ما نقصت صدقة من مال ) يعني: أن الزكاة والصدقة لا تنقص المال بل تزيده، وفي الحديث القدسي وهو أيضاً في الصحيح: ( يقول الله سبحانه وتعالى: يا ابن آدم أنفق انفق عليك ).
ونحن نجد اليوم أن كثيراً من أباطرة المال والأثرياء والمليونيرات حتى من غير المسلمين يبذلون أموالاً طائلة، بيل جيتس -مثلاً- من أكبر أثرياء العالم، وضع جزءاً كبيراً من ثروته فيما يسميه بالأعمال الخيرية، وله صديق آخر في أمريكا أوقف أكثر من (80%) من ثروته وجعل بيل جيتس ناظراً وقيّماً عليها.
لقد أدرك هؤلاء في نهاية المطاف وبعدما جمعوا أموالاً طائلة هائلة أن الإنسان أكبر من المال، فماذا يستفيد الإنسان إذا زادت أرصدته وتعاظمت وكثرت أمواله وهو يمرض أو يضعف، أو يشعر بالهم والغم والحزن والكآبة، أو يتخلى عنه أولاده وأقاربه؟! ولهذا بعضهم يوصون بها للقطط والكلاب والحيوانات.. وغيرها؛ لأنهم لا يريدون أن يرثها من بعدهم من لا يرضونه من أقاربهم أو من أزواجهم.. أو غير ذلك.
فـ الإسلام ربّى الإنسان على التخلص من الشح؛ ولهذا قال سبحانه: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر:9]، فهذا درس للباذل والمعطي ذاته.
جاءت الرأسمالية وهي الوجه الآخر في النظام الاقتصادي الكوني، والنسخة المطورة من الرأسمالية وهو نظام ما يسمى بالعولمة، فجعلت المجتمع عبارة عن أغنياء غنى شديداً أو فقراء فقراً شديداً، وأضعفت الطبقة الوسطى في المجتمعات التي هي متوسط الناس في المال وفي الإمكانيات والقدرات.. وغيرها، وهذا لاشك أنه ضرر كبير.
الإسلام وإن كان يؤمن بما يسمى بنظام السوق، يعني: أن يتملك الناس ويبيعوا ويشتروا، وأن يكون بين الناس تفاوت أيضاً في المال كما كان حتى بين الصحابة رضي الله عنهم، بل حتى بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لكن يشرع الإسلام حلولاً من أجل تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ومن هنا تأتي الزكاة في مال الأغنياء حقاً للفقراء؛ حتى تُخفف وتُقلص من هذه الفجوة أو هذه المسافة بين الأغنياء وبين الفقراء، وبالتالي تحفظ المجتمع من التآكل أو من العداوات أو البغضاء، أو أن يتحول إلى طبقة غنية متخمة تملك المباني الضخمة والأموال الهائلة الطائلة وإلى جوارها بيوت من الصفيح والأحياء الشعبية تقتات من القمامة ومن الشارع.
وكم هو مؤلم أن تجد في العالم الإسلامي اليوم الذي يفخر بنظام الإسلام وبنظام الزكاة أن تجد بوناً شاسعاً، مثلاً في أفغانستان دخل الفرد السنوي -أكرر السنوي- سبعمائة دولار، يعني: أقل من ألفين ريال سعودي، دخل الفرد في بنجلادش حوالي ألف ومائتين دولار في السنة أيضاً، أقل من خمسة آلاف ريال سعودي، دخل الفرد في اليمن السنوي حوالي ألفين دولار، بينما قد تجد بلاداً إسلامية دخل الفرد فيها عشرين ألف دولار أو ربما أكثر من ذلك، وقد يكون الدخل السنوي لفرد في بنجلادش أو في أفغانستان يعادل الدخل الأسبوعي أو حتى اليومي للفرد في بلادٍ أخرى، طبيعة الحال الفرق موجود وهو سنة إلهية، ليس مطلوباً أن يكون الناس صورة طبق الأصل بعضهم عن بعض لا، لكن المقصود أن من حقنا أن نحزن وأن نذرف الدموع، ونحن نشاهد خلال هذا الأسبوع، وقد رأيتم ورأينا الصور التي نُشرت في الصحف واحتفظت بعدد من هذه الصور التي هي شاهد عار يجللنا جميعاً وحقيقة وأنا أشاهد هذه الصور أقول لنفسي: هل هذه أمة؟
يُتصور أحد أن بلداً كـالعراق يرقد على بركة من النفط يكتشفون فيه الملجأ أو الميتم الذي فيه حوالي عشرين يتيماً، صغار السن منذ شهور وهم عراة، وبلا ملابس، لقد أخذوا ملابسهم ليبيعوها في المزاد، ولا يجدون طعاماً، حتى إنك تستطيع أن تعد أضلاعهم من خلال الصورة المنشورة في الجريدة، بل ومربوطون عشرة منهم جميعاً إلى السرير في أوضاع بعيدة جداً عن الإنسانية وعن القيم وعن الأخلاق.
هذه الفضيحة تجللنا جميعاً نحن المسلمين، وعلينا أن ندرك أثر هذه الفضيحة علينا وعلى العالم، لماذا كلما نُشرت مثل هذه الصور أو جرت مثل هذه الأحداث وجدنا أن بلاد المسلمين هي التي تستوعبها وتحتويها، لعلها غضبة الرحمن:
إن لنا درباً تعالت بها الصيحات والنذر
سرنا بعيداً وحدنا عنه فاختلطت بنا الدروب وصُبت فوقنا الغير
هذه عبرة أمة يشرع لها دينها وفي كتابها المنزل المساواة بين الناس وإرعاء الغني على الفقير والعطف والرحمة، ويُعيِّر الله سبحانه وتعالى المكذبين بالدين بأنهم فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:2-3]، بينما لانحرافنا في الفهم أصبحنا في هذه الأمة نجد أيتاماً بالمثابة التي ذكرت لكم، بينما نجد في كثير من أمم الغرب احتفالاً كبيراً بهؤلاء الفقراء والأيتام وحفظاً لحقوقهم، وإيجاد منظمات وجمعيات خاصة بهم، في أمريكا أكثر من خمسة ملايين جمعية خيرية، وفي بريطانيا أكثر من تسعين ألف جمعية خيرية، وفي إسرائيل أكثر من ثلاثين ألف جمعية خيرية، وهم يسمونها خيرية وقد يكون فيها جانب من الخير لإعطاء الفقراء والمساكين، وفيها جانب آخر للتبشير أو التنصير وتغيير عقول الناس .
فأين هذا النظام العظيم نظام الزكاة الذي من حقه أن يُقرِّب الشقة بين الأغنياء والفقراء، وأن يكون مصدراً قوياً ومستمراً وثابتاً لكل المشاريع التي من شأنها أن تحفظ هذه الأمة وتحافظ على بقائها؟
إذاً: هذه بعض أحكام وحكم مشروعية الزكاة.
فإن شروط وجوب الزكاة هي خمسة، وسوف أذكرها باختصار على حسب ما ذكرها أهل الفقه والعلم حتى يسهل ضبطها:
أبداً ما يضيع، إن الله لا يظلم أحداً شيئاً، وإنما يُعجل له الله تعالى في الدنيا، يعطيه الصحة والرزق، والذكر الحسن، أو يُوسّع له، أو يعافيه، أو يجعل له من الأبواب والأسباب الدنيوية لقاء ما عمل في هذه الدنيا، فلا يظلم الله تعالى أحداً شيئاً، لكن لابد أن يكون المرء مؤمناً مسلماً حتى يُقبل عمله، والآية التي تدل على هذا المعنى نصاً هي قوله سبحانه في سورة البلد، قال: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد:14-17] إذاً: قوله سبحانه: (أَوْ إِطْعَامٌ) هذا بذل الزكاة، قوله: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد:17] (ثُمَّ) ليس معناها: أنه بعدما أطعم أصبح من الذين آمنوا. لا، وإنما هذا إشارة إلى أمر سابق، وعبّر عنه بـ(ثُمَّ) لعظمته، وعلى سبيل المثال: لو أن إنساناً جاء الكلام: فلان هل يستحق الزكاة أو ما يستحق الزكاة؟ فقال واحد: والله فلان ما يستحق الزكاة؛ لماذا؟ قال: والله أولاً فلان عنده بعض المال، عنده مال أعرف أن عنده ما يكفيه، عنده بيت ملك ما شاء الله وعنده سيارة، وعنده راتب شهري خمسة آلاف ريال، وأصلاً ما عنده إلا زوجته وطفلان، إذاً: هو لا يستحق الزكاة، ثم -لاحظ (ثم)- هو من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد.
فـ(ثم) هنا ليس معناها: أن هذا أمر متراخ جاء بعد، وإنما هو أمر سابق، فقوله سبحانه: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد:17] يعني: وقبل قبل أن يطعم وقبل أن ينفق هو كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [البلد:17].
إذاً: الشرط الأول هو الإسلام، مع التوكيد والتنبيه على أن الإنسان الكافر يُعاقب على منع الزكاة في الآخرة: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:42-44]، فعوقبوا على تركها؛ لأنه مطلوب منهم في الدنيا أن يؤمنوا وأن يعملوا الصالحات، هذا هو الشرط الأول.
والجمهور وهو الصحيح أن هذا العبد الرقيق المملوك لا تجب عليه الزكاة في ماله.
إذاً: لابد من الحرية، والكلام هذا الآن هو في الواقع من باب استكمال البحث، وإلا فإن العبودية قد اختفت من الوجود، العبودية بمعناها الفقهي: أن يوجد إنسان عبد قِن رقيق مملوك لشخص آخر فهذا ليس موجوداً، والشريعة ليست تتشوف إلى وجوده أيضاً كما يتوقع البعض، بل الشريعة تتشوف إلى تحرير الأرقاء؛ ولهذا جعل الله تعالى تحرير الرقيق كفارة، كفارة للظهار وكفارة لليمين، وفي أشياء كثيرة جداً، وحث عليها وبيَّن الأجر العظيم فيها، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر: ( أن من أعتق رقيقاً أعتق الله به هذا الإنسان من النار، كل عضو منه بعضو منه حتى فرجه بفرجه )، فالشريعة لا تتشوف إلى إيجاد الأرقاء أو استعبادهم، لكن هذا كان نظاماً عالمياً موجوداً وقائماً، وكان الخصوم والأعداء يسترقُّون المسلمين إذا ظفروا بهم كما حصل هذا غير مرة، فالمسلمون كانوا كذلك ولم يكونوا يروجون لهذا الأمر، وإنما كانوا يتعاملون به بمقتضى الحكم الشرعي القائم مع التشوف إلى تحرير الرقيق، وإنما بحث هذه المسألة وذكر بأن الحرية شرط فقط من باب استكمال البحث، وإلا فهي قضية أصبحت كما يقال في ذمة التاريخ.
والمقصود بالنصاب: القدر من المال الذي تجب الزكاة فيه، فإنه ليس كل من ملك مالاً وجبت عليه الزكاة لا، حتى يملك مالاً يبلغ النصاب، وسيأتي الحديث تفصيلاً عن النصاب، لكن مما يدل على بلوغ النصاب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة -والوسق ستون صاعاً- ولا فيما دون خمس ذود صدقة -وهي الإبل-، ولا فيما دون خمس أواق صدقة ).
فدل ذلك على اشتراط النصاب وهو إجماع عند أهل العلم، فقد أجمع العلماء على اشتراط النصاب، وبعضهم لا يعتبرون النصاب شرطاً وإنما يسمونه سبباً في وجوب الزكاة، والأمر هين هو سبب أو شرط.
ونقول: المِلك بكسر الميم، يعني: التملك، أما إذا ضممتها -المُلك- فهو يُقصد به الحكم، أو ملك الله سبحانه وتعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الحج:56]، أما إذا قلت: المِلك فمقصودها مثلاً البيت الذي تملكه، تقول: البيت ملكي والسيارة ملكي والقلم ملكي، بكسر الميم، فالمقصود استقرار الملك ماذا يعنى به؟
يعنى به: أن الإنسان يملك المال؛ لأنه ما تجب عليه الزكاة إلا إذا كان المال مملوكاً له، أما لو كان المال مثلاً عارية أو وديعة.. أو ما أشبه ذلك، فإن الزكاة لا تجب فيه، لابد أن يكون المال مملوكاً، ولابد من استقرار الملك، ونعني باستقرار الملك: التمكن من الملك كما يقول الحنفية، يعني: أن يكون له ملكية مطلقة في هذا المال، فإذا وُجد ما يخدش استقرار الملك لم تجب الزكاة، مثل ماذا الذي يمنع أو يجعل هناك عدم استقرار للملك؟
مثلاً: أموال بيت المال التي هي في الخزينة الآن، هذه الأموال هل فيها زكاة أو ليس فيها زكاة؟
ليس فيها زكاة بسبب أنها ليست ملكاً لأحد معين، هي ملك للأمة كلها، وبالتالي فإنه لا زكاة في هذه الأموال، أموال الخزينة، ومثلها أيضاً الأموال العامة، مثلاً اليوم هناك ما يُسمى بالمواد الخام، الخامات الموجودة، في هذا البلد نفط مثلاً، وفي البلد الثاني يورانيوم، في الصومال يقال: إن الصومال فيها يورانيوم، تخيّل بلداً إسلامياً فيه يورانيوم والناس لا يجدون لقمة العيش حتى في الزبالة ما يجدونه، والقتل مستشرٍ منذ سنين طويلة، وتخيل كم دخل الفرد في الصومال، أشياء محزنة، المقصود النفط هل فيه زكاة أم ليس فيه زكاة؟
بعض المتفقهين المعاصرين حاولوا أن يقولوا: إن النفط فيه زكاة، وبعضهم قالوا: إن النفط بمثابة الركاز فيه الخمس حوالي (20%) من قيمة الزكاة.
والأقرب أن مثل هذه الثروات العامة ليس فيها زكاة ولا شيء؛ لأنها كلها في مصالح الأمة، كلها للأمة: في مشاريع الأمة وأعمالها وطرقها ومدارسها ومساجدها وشبابها الراغب في الزواج وبناتها المحتاجات ورجالها وكبارها وصغارها.. إلى غير ذلك، فهي كلها في مصالح الأمة؛ ولهذا نقول: ليس فيها زكاة، والسبب هو عدم استقرار الملك فيها.
إذاً: هذا نموذج لما ليس فيه استقرار للمِلك، وهو أموال الخزينة أو أموال بيت المال.
وكذلك مثال ثان دين الكتابة، أيضاً أيام وجود العبودية كان العبد يقول لسيده: أريد أن أتحرر، أن أكون حراً، وأريد أن تكاتبني، الله سبحانه وتعالى قال: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور:33] يعني: تكتب عليه: أنه يعطيك مثلاً خراجاً كل شهر مبلغاً أو كل شهرين أو كل سنة لمدة مثلاً أربع سنوات أو أقل أو أكثر ثم أتحرر بعد ذلك، فهذا الدين الذي في ذمة المكاتَب ليس فيه زكاة؛ لماذا؟
لأنه غير ثابت، يمكن العبد بعدما انتصف الدين عجز أو شعر أن الظروف صعبة ورجع إلى سيده، وقال: المال الذي أعطيتك لك؛ لأنه أصلاً مال من العبد لسيده، وقد أوقفت هذا المشروع وأريد أن أعود إلى العبودية؛ فلذلك نقول: دين الكتابة أيضاً ليس فيه زكاة.
المال الموقوف على غير معين ليس فيه زكاة: واحد أوقف مالاً، أوقف مثلاً هذا البيت أو هذه المزرعة على الفقراء أو على المساكين أو على طلبة العلم، أو على أي لون من ألوان الخير والبر، فهذا الوقف ليس فيه زكاة؛ لأنه ليس ملكاً لشخص معين، لم يقل: هذا وقف على أولادي مثلاً، وإنما أوقفه على جنس أو نوع من الناس، فهذا وقف على غير معين.
ومثل ذلك أيضاً وهو القسم الرابع: الوصية، فالوصية مثل الوقف، ليس فيها زكاة، الوصية هي عن دبر، عن وفاة، يعني: بعد الوفاة، بعد الموت، إنسان أوصى بعد موته بثلث ماله، يجوز الوصية بالثلث فأقل، فأوصى بثلث المال للفقراء والمساكين وغيرهم، هذه الوصية ليس فيها زكاة؛ لأنها ليست لمالك خاص لم يتحقق فيها -كما ذكرنا- استقرار المال.
القسم الخامس مما ليس فيه استقرار للتملك: المال الحرام، فإن المال الحرام ليس فيه زكاة، لماذا نقول: ليس فيه زكاة؟ لأنه ليس مملوكاً، ليس فقط أنه ليس طيباً، هو ليس طيباً وليس مملوكاً، يعني: واحد سرق مالاً هل نقول: أخرج زكاته؟
لا، اغتصب مالاً: أخرج زكاته؟ لا، لا نقول له: أخرج زكاته ولا زكاة فيه، لماذا؟
يقول واحد: تعطونه مكافأة لأنه سرق المال أنه لا يخرج الزكاة، نقول: لا، هذه ليست مكافأة، هو يجب عليه أن يُخرج المال كله ويتخلص منه؛ لأنه ليس ملكاً له؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله لا يقبل صدقة من غلول، ولا صلاة بغير طهور )، كما في صحيح مسلم : ( إن الله لا يقبل صدقة من غلول ) يعني: إنسان يغل من الغنيمة ويسرق منها، أو يأخذ بدون علم القائد، فهذا الغلول حرام، قال سبحانه: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161] وليس ملكاً له؛ ولهذا نقول: ليس عليه فيه زكاة.
طيب هنا سؤال: افرض أن هذا الإنسان الذي أخذ المال أو غلَّه أو غير ذلك نماه وثمره وكثره ثم مات وورث المال أولاده من بعده، فهل يزكون أو لا يزكون؟
نعم! تغير سبب المِلك وهو الميراث، والميراث سبب صحيح، فنقول: الأصل أنهم يزكون والإثم عليه هو، إلا في حالة واحدة إذا عرف الورثة أن هذا المال بخصوصه مسروق أو مغلول، فيجب عليهم أن يتخلصوا منه ولا يأخذوه، وإلا فإن الورثة يُخرجون الزكاة خصوصاً أن كثيراً من الأموال يكون فيها اختلاط، يعني: يكون بداية المال من حرام ثم كثر ونما بأعمال وتجارات وأعمال مباحة وورثه الورثة على هذا الأساس.
القسم السادس من الأموال التي لم يتحقق فيها استقرار المِلك: هو مال الضمار، وقد قال علي رضي الله عنه: (ليس في الضمار زكاة)، والفقهاء يقصدون بمال الضمار هو: المال المختفي، المال الذي ليس بيد صاحبه، ليست يده عليه .
وعلى سبيل المثال: واحد دفن مالاً ثم لم يدر أين هو، أو مال تعرض لسرقة أو لنهب أو اختفى ويتوقع صاحبه أنه قد يأتي وقد لا يأتي، لكنه ليس بيده ولا يعرف أين هو، أو عند غاصب لا يملك عليه قدرة أو سلطاناً، ومثله أيضاً الأموال التي تذهب في شركات مفلسة ضاعت، مثل الآن ما يسمونها بشركات توظيف الأموال التي أخذت أموال كثير من الناس بدون بصيرة وبواسطة الوصايا الساذجة، كل واحد يأتي لأصدقائه يقول: هذه خاصة لكم، بريرة لكم؛ لأن هذا ما نريد أن كل الناس تعرفه، نحن نريدها للناس الطيبين حتى يغنيهم الله سبحانه وتعالى ويبذلوا في سبل الخير.. وشيء من هذا القبيل، وهذه فرصة ما نحب أنك تقول لأحد، هي فقط لك، وإذا كان هناك أحد من أهل بيتك.
هذه طريقة تجعل كثيراً من الناس يسيل لعابهم، ويأتي الواحد لأمه العجوز ويقتطع من قوت أولاده ومن مصروفهم اليومي، المصروف للمقصف المدرسي ويأخذ من هنا ومن هنا ويُجمّع، ثم يُعطيها لشركات توظيف الأموال التي يقولون لك: إنهم يعملون بأعمال كثيرة، لما تسألهم بالضبط: هذه الأموال عبارة عن مليارات أين هي؟ لا تجد أن هناك جواباً واضحاً.
الدراهم كما يقول عمر : [ أبت الدراهم إلا أن تُخرج أعناقها ]، هذه الأموال أين هي؟ في عقار، في عمل معين، في شركة واضحة؟ لماذا الناس أحياناً تقول: في بعضهم غباء بحيث يُخدعون ويفتنون مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون، ويتكرر الأمر هذا مع شدة محبتهم للمال، هذا شيء غريب.
المقصود: أن هذا كله يُسمى مال ضمار، وليس فيه زكاة لسبب وهو عدم وجود استقرار أو تمكن أو مِلك مطلق لصاحبه عليه.
إذاً: استقرار المال شرط لوجوب الزكاة.
هذه شروط وجوب الزكاة.
إذاً: إن شاء الله عندنا حديث ابن عباس وحديث أنس رضي الله عنه في فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين.
سبحانك اللهم وبحمدك.
الجواب: نعم، من أسمائه أنه صبور سبحانه، ( ليس أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل ).
الجواب: لا بأس بذلك إن شاء الله.
الجواب: بينت أن هذا يبدو أنه خطأ.
الجواب: لا يصح، إلا إذا وكلك الغني بأن تأخذها وتعطيها للفقير.
الجواب: نعم إن كانت محتاجة جاز ذلك؛ لأن نفقتها لا تجب عليك.
الجواب: نعم. كتاب الصلاة الآن يجهز ولله الحمد، وكتاب الزكاة بعد ذلك إن شاء الله.
الجواب: هو قاتلهم رضي الله عنه لامتناعهم من أداء الزكاة واجتماعهم على ذلك وقتالهم عليه، يعني: لو أن إنساناً منع الزكاة بنفسه لا يكفر كما ذكرنا، لكن إذا كان أهل بلد امتنعوا، هذا نوع من الحرب على الإمام.
الجواب: نعم. لا شك أن التلقي عن مثل هؤلاء الأئمة، يعني من أئمة المقارئ مما يجعل الإنسان عارفاً، ولكن يحتاج الإنسان إلى أن يتلقى مباشرة عن شيخ يصحح له أخطاءه.
الجواب: بينا أن الحق لا يلزم منه الزكاة، كما في حديث: ( لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها ).
الجواب: إذا كان التجميد طويلاً ومرتبطاً بقضية معقدة فهو يدخل في مال الضمار الذي لا تجب فيه الزكاة.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر