في الأسبوع الماضي أخذنا باب الصلح وتعريف الصلح والأدلة عليه من الكتاب والسنة والإجماع، وأنواع الصلح.
واليوم نأتي إلى الباب الآخر وهو باب الوكالة، وبالنسبة للوكالة أولاً ما يتعلق بتعريفها، عندما نقول: فلان وكيل عن فلان، فإن معنى الوكالة: هي أن يقيم شخص شخصاً آخر غيره مقام نفسه في تصرف جائز، هذا هو التعريف.
أو كما يقولون أحياناً: هو استنابة جائز التصرف غيره في أمر جائز، وهنا نشترط أن يكون جائز التصرف، فما معنى جائز التصرف؟
مثل: أن يكون بالغاً أو عاقلاً، يعني: فالمجنون لا يمكن أن يوكِّل، وهل يمكن أن تجعل المجنون وكيلاً عنك؟ كذلك لا يمكن، فلابد أن يكون جائز التصرف، ومثل ذلك الصبي، لا يمكن أن توكله على أمر، فهذا هو معنى الوكالة.
و(أن يقيمه مقام نفسه)، يعني: في عمل من الأعمال، لكن نشترط أن يكون هذا العمل جائزاً، فهل يجوز أن توكل إنساناً في فعل محرم؟ هل يجوز أن توكل شخصاً أن يغتصب أرضاً بالنيابة عنك، أو ينهب شيئاً أو يعتدي على أحد أو يرتكب محظوراً أو محرماً؟ يقيناً لا.
إذاً: لابد أن تكون الوكالة في أمر جائز، أي: أمر مباح على الأقل، وقد يكون أكثر من مباح كما سوف يأتي، فقد يكون مستحباً أو واجباً.
عندنا أدلة من القرآن على جواز الوكالة وحصولها، مثل فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ [الكهف:19] فهؤلاء وكلوا واحداً منهم ليذهب إلى المدينة ويشتري لهم طعاماً، فهذه من الأدلة على جواز الوكالة.
أيضاً: من الأدلة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا [التوبة:60]، فالعاملون على الزكاة هم أناس وكلَّهم الإمام في القيام بالمهمة -بجمع الزكاة من أهلها- واستحقوا شيئاً من الزكاة.
هذه تقريباً أبرز الآيات الواردة في الوكالة، وبعضهم قد يستدلون بنصوص أخرى، مثلما في قصة يوسف وغيره، لكنها ليست قوية الدلالة على هذا الباب.
أما السنة فأيضاً جاء في السنة شيء كثير مثل توكيل علي بن أبي طالب في ذبح الهدي، وهذا الحديث في الصحيحين.
كذلك توكيل ابن أم مكتوم في الإمامة، وأيضاً وكَّل أبا هريرة على صدقة رمضان.
وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أنيساً إلى المرأة الزانية قال: ( واغد يا
وكذلك وكَّل أبا رافع في نكاح ميمونة، وكذلك ورد أنه وكَّل عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنهم جميعاً في نكاح أم حبيبة .
عندنا نصوص كثيرة جداً من السنة في موضوع الوكالة.
وأما الإجماع فقد حكى الفقهاء كـابن قدامة وابن هبيرة وغيرهم إجماع الأمة وإجماع الفقهاء على جواز الوكالة في الجملة، وهو صحيح يدل عليه الفعل، يعني: فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل الخلفاء الراشدين وفعل التابعين والأئمة يدل على أن أصل الوكالة في الجملة جائز ومتفق على جوازه.
إذاً: عندما نقول: الوكالة عقد جائز، نقصد أولاً أنه عقد مباح، ونقصد ثانياً أنه جائز، بمعنى: أنه غير لازم، يعني: ممكن أنا أذهب الآن إلى كاتب العدل وأقول: أنا وكلت مثلاً صلاح على كذا وكذا وكذا، فيكتب لي وكالة بدون ما يرجع إلى صلاح ؛ لماذا؟ لأن الأمر موقوف عليه، فبإمكان صلاح أن يرفض الوكالة وبإمكانه أن يقبلها، فهي عقد جائز من الطرفين، أنا باعتباري موكِّلاً ليست لازمة فيمكن في أي لحظة أن ألغي الوكالة، وأيضاً الوكيل بإمكانه في أي لحظة أن يعتزل الوكالة ويأباها، فهذا معنى كونه أيضاً عقد جائز.
أولاً: يقول المصنف رحمه الله: [ وهي جائزة ].
يعني: الوكالة.
[ في كل ما تجوز فيه النيابة ] وذلك أشياء كثيرة جداً، مثل: أن يوكل في البيع، في الشراء، في الرهن كما ذكرنا سابقاً، الوكالة في الضمان، الوكالة في الشركة، الوكالة في المضاربة؛ أن يوكله ليضارب عنه، والمضاربة هي المتاجرة، يعني: المضاربة بالمال، المساقاة، المزارعة.
الوكالة في الصلح، أن يبعث أحداً ليكون مفوَّضاً عنه في الصلح، الوكالة في الوصية.
الوكالة في الهبة تجوز؟ هل يجوز أن يوكله في الهبة أن يهب أو يتبرع بماله؟
نعم تجوز، إذا كان المالك لديه نية وإرادة في هبة المال أو بالتبرع فيه فيمكن أن يوكِّل أحداً في الهبة.
وكذلك الوكالة في الوقف، لو أراد أن يوقف شيئاً فوكَّل عليه.
الوكالة في فسخ العقود التي يريد فسخها، الوكالة في إبراء أحد إبراء ذمته من شيء.. كل هذه الأشياء وغيرها والعقود التي في معنى البيع بشكل عام كلها مما تجوز فيه الوكالة.
الوكالة في النكاح هل تجوز؟
نعم تجوز، ونقصد بالنكاح ماذا؟
العقد، يعني: أن أوكِّل فلاناً يأخذ أحد طرفي العقد عني، يعني: يقبل بأنه يكون له الإيجاب أو القبول بالنيابة عني، فالوكالة في النكاح تجوز.
الوكالة في الخلع، يعني: أن يخلع زوجته مقابل رد المهر أو بعضه هل تجوز؟
تجوز أيضاً؛ لأن الأصل أن كل ما جاز أن يفعله الموكِّل جاز للموكَّل إلا الأشياء التي لابد أن يباشرها بنفسه وتكون تتعلق بذاته، أما ما يتعلق بالعقود فالأصل أنه يجوز أن يتولاها الوكيل كما يتولاها الموكِّل.
الوكالة في الطلاق، يجوز أن يوكل ويطلق زوجاته؟
يجوز، حتى لو كان واحد عنده زوجتان، ممكن أن يوكِّل واحدة لتطلق الثانية؟
يجوز، وهل يجوز أن يوكِّل المرأة أن تطلق نفسها؟
عندنا نحن الحنابلة هذا جائز، والأقرب جوازه، فيجوز أن يوكِّل الضرة أن تطلق ضرتها، أو يوكِّل امرأة أن تطلق أخرى.
إذاً: الوكالة في الطلاق يجوز سواء كانت لرجل أو لامرأته فيوكله في طلاق زوجته مثلاً.
وهكذا الرجعة يجوز له أن يوكله في رجعتها؛ أن يقوم بالنيابة عنه بإرجاعها.
كذلك التوكيل في العتق، أن يوكله في عتق عبيده أو في عتق عبد من عبيده.
والحدود هل يجوز فيها التوكيل؟
كذلك يوكله على إرجاع المرأة ويمكن أن يوكل امرأة في إرجاع أخرى.
وإذا قلنا بجواز أن يوكلها على الطلاق فمن باب أولى أن يوكلها على الإرجاع.
والحدود هل يجوز أن يوكل أحد على الحد؟
نعم، يجوز أن يوكله كما قلنا في إثبات الحد أولاً وفي تنفيذه ثانياً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( واغد يا
إذاً: هذه الأشياء يجوز فيها التوكيل.
كذلك من الأشياء التي لا يجوز فيها التوكيل: الحقوق الشرعية البدنية المحضة، يعني: هل يجوز لواحد أن يوكل واحداً يصلي عنه؟ لا.
هل يجوز يوكل من يصوم عنه؟ لا.
لكن الحج مثلاً: هل يجوز أن يوكل أحداً أن يحج أو يعتمر عنه؟
نعم نقول: يجوز بشروط.
هنا قد يقول لنا قائل: أليس من الحج والعمرة ركعتا الطواف؟
نقول: هذه تبع، والفقهاء يقولون: يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، فركعتا الطواف جازت تبعاً؛ لأن النيابة في الحج والعمرة جائزة إذا كان غير قادر على أدائها سواء في الفرض فقط كما عند الفقهاء، وبعضهم يجيزه في الفرض والنفل معاً إذا لم يكن قادراً على ذلك.
إذاً: الحقوق الشرعية البدنية المحضة لا يجوز فيها التوكيل، وأما الحقوق المشتركة التي هي مالية وبدنية مثل الحج والعمرة فيجوز التوكيل فيها.
الأول: يسميه الفقهاء -وحتى المعاصرون في المحاكم وكتابات العدل- يسمونها الوكالة المطلقة، وهذه الوكالة مخيفة وخطيرة فانتبه لها؛ لأنك ممكن أن تقرأ وتوقع ولا تدري مضمونها، فتكون مثلاً صيغة الوكالة: أني وكلت فلاناً مثلاً في البيع والشراء والقبض والإبراء والتبرع والوقف والهبة والنكاح والطلاق.. وكل التصرفات التي يمكن أن تفعلها أنت ويجوز ولو عند بعض الفقهاء أحياناً إمضاؤها من الوكيل، فهذه تسمى وكالة مطلقة.
النوع الثاني: وكالة خاصة، الوكالة الخاصة لا خلاف في جوازها، يعني: أوكلك على بيتي هذا أن تبيعه، أوكلك على عبدي هذا أن تعتقه، أوكلك مثلاً على الشخص الفلاني أن تصالحه في المشكلة القائمة بيني وبينه، هذه تسمى وكالة خاصة، وهي كما قلنا في الأصل جائزة بالإجماع.
وأما الوكالة العامة أو الوكالة المطلقة فهذه فيها خلاف بين الفقهاء، الأكثرون من الفقهاء لا يجيزونها، أي: جمهور الفقهاء يمنعون هذه الوكالة المطلقة، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم، يعني: مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة والظاهرية.. وغيرهم أنه لا يجوز إمضاء الوكالة المطلقة أو الوكالة العامة، قالوا: لأن هذا فيه غرر، وفيه خطر، وفيه احتمال أن يمضي هذا الإنسان أشياء كثيرة؛ فيطلق زوجاتك ويعتق عبيدك ويبيع ويشتري ويوقف مالك كله.. فهذا يترتب عليه مفاسد عظيمة، ولهذا قالوا بمنعها.
أما القول الثاني: فهو أن الوكالة المطلقة جائزة، وهذا مذهب ابن أبي ليلى والإمام مالك، واحتجوا بأن هذا هو الأصل.
وفي نظري أن الأصل قوي، يعني: كوننا نبقى على الأصل في جواز الوكالة، لكن يفترض فيمن يمضي هذه الوكالة من القضاة أو غيرهم أن يتفطن لمحلها، فلا توقع الوكالة العامة المطلقة هذه إلا على بينة وعلى بصيرة، فإذا وجد ما قد يترتب عليه من مفاسد أو ضرر أو إطاحة بمال هذا الإنسان أو مصالحه فإنها تمنع الوكالة العامة حينئذ.
نقول: إذا شرطت عليك ألا توكل أحداً ففي هذه الحالة لا يجوز لك التوكيل؛ لأنني قد نصصت على أنه لا تفعل هذا، هذه انتهينا منها.
الحالة الثانية: لو قلت لك: أنت وكيل عندي ولك الحق أن توكِّل من شئت، ففي هذه الحالة أيضاً يجوز أو ما يجوز؟ يجوز؛ لأني قد أذنت لك.
نبقى في الحالة الثالثة: لو تركت الأمر لك مطلقاً، أي: لم أذكر لك توكيلاً ولا عدم توكيل، فهل يجوز لك أن توكل غيرك أم لا يجوز؟
اختلاف كثير وتقسيمات، والذي أراه باختصار أن مسألة توكيل الغير تخضع للسبب وتخضع للعادة والحل والمحل الذي جرى فيه التوكيل.
مثلاً: لو وكلتك على أمر وأنت إنسان كبير شريف عظيم فوكلتك مثلاً على موضوع صيانة الأجهزة، فهل يعقل أنك سوف تباشر هذه الوكالة بنفسك؟ لا، فأنت مشغول جداً وأنا أعرف أنك مشغول، ووكلتك على بعض الأمور التافهة الحقيرة التي يقوم بها أصغر موظف، في هذه الحالة معروف أنني قد وكلتك لتجد من يقوم بهذا العمل، ففي هذه الحالة يكون توكيل الوكيل لغيره جائزاً.
لكن لو أن إنساناً وكَّل شخصاً لعمل يناسبه هو ويتناسب مع مستواه الاجتماعي، ومع فراغه ومع قدرته ومع خبرته، ربما اخترتك بالذات؛ لأن عندك خبرة معينة فوكلتك عليها، في هذه الحالة يدل الوضع على أنني لم أكن أريدك أن توكِّل غيرك، فيكون توكيل الغير في هذه الحالة غير جائز أو يكون ممنوعاً.
ورتب على كونها عقداً جائزاً أنها تبطل بالموت والجنون والحجر وغيره، وهذا صحيح، يعني: إذا مات الوكيل تبطل الوكالة، وكذلك لو مات الموكِّل؛ لأن الورثة الآن يمكن أن يجددوا وكيلاً آخر، فهي تبطل بموت أحد الطرفين، وهكذا إذا جُنَّ أحدهما.
أما الحجر، فبالنسبة للحجْر على الموكَل تبطل فيه الوكالة، لكن الحجر على الوكيل، لو وكلنا محمداً من الناس أو صالحاً أن يبيع ويشتري، ثم حجَر عليه القاضي فهل تبطل الوكالة أو لا؟
نقول: الحجر نوعان وقد سبق، فمن حجر عليه لسفه، كمن اختل عقله، فبدأ يتصرف تصرفات غير معقولة، في هذه الحالة تلغى الوكالة؛ لأنه سيخاطر بأموال الناس، لكن لو أن القاضي حجر عليه لإفلاس، فهذا الإنسان من أعقل الناس لكن عليه ديون وحجر عليه القاضي فلا يبيع ولا يشتري، نقول: لا يبيع ولا يشتري في أمواله الخاصة، لكن فيما يتعلق بأموال الناس فله أن يتاجر بها.
وهنا تقع مشكلة واقعية، أحياناً بعض الناس عندما يُحجر عليه يكتب الأموال باسم غيره، باسم زوجته أو ولده ويكون هو وكيلاً، هذه حيلة ينظر فيها القاضي، وهذا نوع من التوكيل الذي يلجأ إليه للحيلة، وقد يمنع القاضي مثل هذا إذا كثر وشاع عند الناس.
كذلك كل عقد جائز فهو مثل الوكالة، يعني: تبطل بالموت والجنون والحجر وغيرها كالشركة والمساقاة والمزارعة والجعالة والمسابقة.. وسواها.
يعني: لو قلت لك مثلاً: بع هذه الطاولة بألف ريال فبعتها بألف ريال فإن هذا يجوز، لكن لو بعتها بألف ومائة؟
أيضاً جائز، فهذا وإن لم يتناوله النص لفظاً إلا أنه من باب أولى، فهو متناول بالعرف.
قال: [ وليس له توكيل غيره ولا الشراء من نفسه ].
أما توكيل الغير فهذه بحثناها الآن، وذكرنا أن فيها ثلاث حالات: إما أن يكون نص على التوكيل، أو نص على عدم التوكيل، أو سكت عنه، وفي حالة السكوت قلنا: ينظر فيه إلى الملابسات والظروف والأحوال والعرف.
يعني: لو قلت لك: بع هذه الأرض، فهل يجوز أن تشتريها أنت وأنت الوكيل؟
على كلام المصنف لا يجوز. لو قلت لك: اشتر لي أرضاً مساحتها مثلاً ألفا متر في المنطقة الفلانية، وأنت عندك أرض تنطبق عليها نفس الشروط، فهل يجوز أن تدخلها في ملكي وتبيعها عليَّ؟ هذا نفس الإشكال الآن، يعني قال: [ ليس له الشراء من نفسه ولا البيع لها إلا بإذن موكله ]، أما في حالة الإذن فأعتقد أنه لا إشكال إطلاقاً، لو قلت أنت مثلاً: بع الأرض هذه، وقلت لك: أنا الوكيل وأريد أن أشتريها، فوافقت، فإنه لا مانع هنا ولا إشكال؛ لماذا؟ لأن أصل القضية أنه ممكن أن تهبها لي هبة وهدية، فالإشكال ألا يقع نوع من التهمة عليَّ.
نعم، لو قلت أنت: أريد أرضاً بمواصفات معينة، وقلت لك: عندي أرض بهذه الشروط واشتريتها مني فهل هناك إشكال؟ هذا لا إشكال فيه.
لكن لو أنه لم يكن هناك نص، يعني: لا يدري الموكل أنك أنت المشتري أو أنك أنت البائع، فهذه المسألة فيها تقريباً ثلاثة أقوال، مسألة: هل يجوز للوكيل أن يبيع أو يشتري لنفسه من الموكل؟
القول الأول: أن ذلك لا يجوز، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وهو رواية عند الحنابلة، قالوا: لأن فيه تهمة، أنت حين تبيع لنفسك أو تشتري لنفسك قد تكون حابيت نفسك وشريت برخص أو بعت بغلاء على حساب الوكيل.
وأيضاً قالوا: لأنه يتوجَّب على ذلك أن يتولى الوكيل طرفي العقد، فهو البائع وهو المشتري، وهذا ليس معروفاً، وإنما العرف أن يكون باع على أحد أو اشترى من أحد غيره.
القول الثاني: أن ذلك يجوز مطلقاً، وهذا مذهب مالك والأوزاعي والظاهرية، قالوا: إنه مثل غيره من الناس، له أن يبيع ويشتري من نفسه أو من غيره سواء.
القول الثالث: وهو رواية عند الحنابلة، قالوا: إنه يجوز أن يبيع على الوكيل أرضه مثلاً أو ماله أو يشتري من الوكيل؛ ولكن بشرطين:
الشرط الأول: أن يزيد على ثمنه، مثلاً: أنت وكلتني في بيع هذه الأرض فوصلت الأرض بالمزاد العلني سعر المتر إلى أربعمائة ريال وانتهت، فأنا الوكيل قلت: أنا أشتريها بأربعمائة وخمسة ريالات مثلاً، أو قل: بأربعمائة وريال واحد، ففي هذه الحالة يكون هذا مصلحة لي أنا كوكيل، ومصلحة أيضاً لمالك الأرض، فيجوز حتى لو كنت وكيلاً إذا اشتريت بأكثر مما انتهت أو وقفت عليه السلعة، وهذا جيد كما ترون؛ لأنه ليس عندنا نص في المنع، وهذا فيه مصلحة.
الشرط الثاني: أن يتولى النداء غيره، يعني: أن مكبر الصوت (الميكرفون الذي يحرِّج على السيارة) مثلاً لا يكون الوكيل هو الذي يتولاه، وإنما يجعل مثلاً تركي يقوم بالحراج، فينادي: من يشتري هذه السيارة؟ ويكون الوكيل واحد من ضمن الناس الذين يزايدون، لكن هل يزايد من أجل النجش ورفع ثمن السلعة بالباطل؟ لا، وإنما هو يريد أن يشتري، فإذا وقف السوم عليه وهو الوكيل جاز له الشراء.
وبناء على هذا القول وهو القول الثالث ورواية عند أحمد كما قلت لكم نستطيع أن نقول في مسألة البيع أو الشراء لنفسه: إنه يجوز للوكيل أن يبيع أو يشتري لنفسه إذا انتفت التهمة؛ لأن هذه الشروط ما نزل فيها القرآن، وإنما هي من اقتباس عقول بعض الفقهاء، فنقول: يجوز أن يبيع أو يشتري من نفسه ولنفسه إذا انتفت التهمة بأي شكل كان، وربما تنتفي التهمة بأساليب وطرق غير ما ذكرنا.
يعني: لو أن الوكيل مغامر ودخل في صفقة لم يتفقوا عليها، في هذه الحالة هل تلزم الموكل؟ لا، فإذا قبلها الموكل الحمد لله انتهى الأمر، أما إذا قال الموكل: أنا ما وكلتك عليها، وهذه صفقة خاسرة لا أقبلها ولم نتفق عليها، فما حكمها؟ نقول: البيع صحيح وتلزم الصفقة للوكيل الذي قام بالشراء، فنقول: هذه ليست على حساب الموكل، وإنما هذه على حساب جيبك الخاص.
مثلما قلنا مرات في الرهن وفي غيره: إذا وجد عندك الشيء كالأمانة وتلفت لا تضمنها لمالكها إلا إذا كان منك تفريط أو تعد، أما لو تلفت بآفة سماوية، أو اجتهدت في حفظها ولكن وقع عليها تلف من غير تفريط ولا تقصير منك فلا ضمان عليك، فهي كما لو تلفت في يد من؟
في يد مالكها، وهنا قال: [ الوكيل أمين لا ضمان عليه فيما يتلف إذا لم يتعد ].
[ والقول قوله في الرد والتلف ونفي التعدي ].
فإذا قال عند القاضي: والله أنا ما تعديت ولا أهملت ولا فرطت ولكنها تلفت، فالقول قوله لكن مع اليمين.
طيب لو ادَّعى أنها تلفت بسبب ظاهر، افترض أنه من أهل الحفر مثلاً، وقال: والله الأغنام الموجودة والإبل جاءت قوات من جهة العراق واجتاحت المنطقة وأخذت المال، فهل يصدق في هذا الكلام؟
لا يصدق؛ لأن مثل هذا لو حصل عرف الناس به، فهو يدِّعي شيئاً لابد أن يثبته؛ لأنه أمر ظاهر وليس أمراً خفياً يمكن أن يصدق فيه، فإذا ادعى شيئاً من التلف بسبب أمر معروف ظاهر فإنه لابد أن يأتي بالبينة.
ولو أن الوكيل ذهب إلى شخص له دين على الموكل، فقال له: كم لك؟ قال: لي ثلاثون مليوناً، فأعطاه ثلاثين مليوناً ولم يأخذ عليه وثيقة إثبات، واليوم الناس عندهم الشيكات وعندهم وسائل إثبات، وهذه نعمة من نعم الله على العباد، لكن نفترض هذا في مكان لا يوجد فيه مثل هذه الأشياء، ثم قال صاحب الدين: أبداً ما حصلت منك شيئاً ولا سددت الدين، لا يزال الدين باقياً بحاله، فما الحكم في هذه الحال؟
نقول: هذا يعتبر تفريطاً فيضمن وعليه أن يسدد الدين، إلا إذا كان الموكل حاضراً.
والموكل لن تقبل شهادته لنفسه عند القاضي، فيقول: يا شيخ أنا حاضر، حضورك هذا جعل الدين في ذمتك أنت والوكيل برئ؛ لأنك موجود، وكان بإمكانك أن تقول: لابد من وثيقة على سداد الدين، فإذا حضر الموكل أو حتى لو لم يحضر لكنه علم بذلك وأقره من غير إثبات بينة، فإنه لا يضمن في هذه الحالة.
يعني: الوكالة ممكن أن تكون بمال، يجوز أن أوكلك بمال، ويجوز أن أوكلك بغير مال، ويجوز أن أوكلك بنسبة أيضاً، مثل أن أقول: عندي هذه الأرض فيها مشكلة، استخرج لي الصك ولك (10%) من قيمة الأرض مثلاً.
ولو أنه قال له: بع لي هذا البستان أو هذه الاستراحة مثلاً بأربعمائة ألف وما زاد فهو لك، فهل يجوز؟ نعم يجوز.
ولو قال له مثلاً: بع هذه الأرض أو هذه الاستراحة وما زاد -يعني ما جاء من الربح- فلك منه نسبة (10%) أو (20%) أو (30%) فهل يجوز؟ أيضاً يجوز، فيجوز أن يوكله بمال محدد، ويجوز أن يوكله بنسبة من الربح.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر