الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال المصنف رحمه الله: [كتاب الزكاة].
الزكاة: مشتقة من زكا يزكو، وكلمة (زكا) في اللغة العربية تدل على معنيين كلاهما وارد في القرآن الكريم، وكلاهما مقصود بهذه الشعيرة.
المعنى الأول: النماء والزيادة. تقول: زكا الزرع إذا نما وزاد، زكا المال إذا نما وزاد، العلم يزكو بكثرة نشره، المال يزكو بكثرة الإنفاق.
فمن معاني زكا يزكو: أي زاد ونما وكثر.
وهذا جاء في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، منها لفظ الزكاة نفسه كما ذكرنا فإنه يدل على الزكاة وعلى الزيادة .. وغير ذلك.
المعنى الثاني في اللغة العربية: هو التطهر، يأتي بمعنى التطهر والنقاء، فتقول مثلاً: فلان تزكى؛ أي: تطهر.
وهذا أيضاً جاء في القرآن الكريم في مواضع كثيرة: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى:14].
وكذلك في قوله تعالى: فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:80-81]، فقوله: خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً [الكهف:81] يعني: أكثر منه تطهراً وصلاحاً واستقامة.
أولاً: معنى زيادة المال، فإنه من المعلوم المشاهد أن الإنسان كلما أخرج شيئاً من زكاة ماله بارك الله تبارك وتعالى له فيما بقي وزاد، وتفتحت له أبواب النفقة، وأبواب الخير، وأبواب العطاء، ففي الزكاة زيادة لمال المزكي.
وفي الزكاة أيضاً تطهر للمزكي من أدران البخل والشح، والرغبة في المال، ونوع من التخلص من هذه المعاني، والارتفاع عن حظوظ النفس والإيثار، بحيث يعطي بعض ما تعب في جمعه يعطيه للفقراء والمساكين والمحاويج، ففي ذلك أيضاً زكاة لنفسه.
كما أن في الزكاة مثل ذلك للمعطى (للآخذ)، فإن فيها زيادة له، فيزيد ماله بما أخذ، ويزيد خيره، ويزيد أهله، ويزيد ولده، وقد يتزوج بهذا المال، وينجب بسبب هذا الزواج، فيكون في الزكاة زيادة للآخذ، زيادة في ماله، وزيادة في أهله، وزيادة في ولده.
كما يكون في الزكاة أيضاً طهارة له، فإن الفقير قد يشعر بالحقد على ذلك المجتمع من حوله الذي يتمتع بألوان النعيم، ويبخل على الفقراء والمحتاجين، فإن الإنسان إذا رأى غيره يستمتع بألوان المال، فهو يركب السيارات الفارهة، ويسكن البيوت الفخمة، ويلبس الملابس الجميلة، ويستمتع بألوان المطعومات والمأكولات والمشروبات والملبوسات، بينما جاره إلى جنبه في كسرة بيت أو في مكان ضيق أو.. فإن ذلك يورث في قلبه كراهية وحقداً ومقتاً، وربما ينعكس كراهية للمجتمع كله، ونقمة عليه ورغبة في تدميره، بينما إذا شعر بمواساة من حوله له، فإن هذا يستخرج ما في قلبه، ويشعر بالتعاطف مع هذا المجتمع، ويشعر بحقيقة الانتماء إلى هذه البيئة التي يعطف كبيرها على صغيرها، وغنيها على فقيرها، فتجد في الزكاة زيادة للمعطي وزيادة للآخذ، وطهرة للمعطي وطهرة للآخذ، وهذا من أعظم وأهم معاني الزكاة.
فالمجتمع الإسلامي، والشريعة الإسلامية لم تمنع الإنسان من أن يضارب بالمال، أو يتاجر كما تفعل الأنظمة الشيوعية مثلاً، أو الاشتراكية التي تمنع الإنسان من التملك أصلاً، أو تحد لتملكه حدوداً قوية وقهرية، كما كان الحال بالنسبة للنظام الشيوعي مثلاً في روسيا، وكما هو الحال الآن بالنسبة للنظام الشيوعي في الصين .
وهذه الأنظمة ظنت أنها بذلك تستطيع أنها تقرب الشقة بين أفراد المجتمع، لكنها عاندت الفطرة البشرية، ولذلك كانت النتيجة انهياراً في النظام الشيوعي كما تلاحظون، وبمجرد سقوطه وانهياره تكشف أنهم لم يستطيعوا أن يساووا الفقير بالغني، وإنما استطاعوا أن يساووا الغني بالفقير، فتجد مجتمعاتهم الآن مجتمعات يغلب عليها طابع الفقر وشظف العيش، والجوع، وربما يجلس الواحد منهم شهوراً طويلة بل سنوات لا يحصل على مرتبه، وربما واحد كان مثلاً مسئولاً كبيراً أو حتى رئيس دولة تحول إلى فقير لا يجد قوت يومه.
فلم ينجحوا في مسعاهم من هذا الجانب، كما لم ينجحوا في مسعاهم في موضوع إزالة الأحقاد والضغائن في المجتمع، فإن الله سبحانه تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62-63].
ففي هذه الآية إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يؤلف بين قلوب المؤمنين، يزيل الشح، الضغينة، الحقد، الكراهية، البغضاء، يزرع المحبة والتواد والتراحم والتعاطف بين المؤمنين، وإن كان بينهم نوع من التفاوت في الوظيفة، التفاوت في المال، التفاوت في المرتبة؛ لأن هذا التفاوت أمر فطري في حقيقته، والشرع لا يجحده أو يعانده؛ لأنه جزء من الفطرة، فالناس يتفاوتون في عقولهم، يتفاوتون في ملكاتهم، يتفاوتون في قدرتهم الجسمية، يتفاوتون في أشياء كثيرة جداً، ولذلك التفاوت ليس أمراً مذموماً ولا منكراً، وإنما المنكر هو أن يكون في المجتمع من الأنظمة والقوانين والتشريعات ما يزيد الفقير فقراً إلى فقره، ويزيد الغني غنى، وهذا هو الذي تجده في الوجه الآخر، فإنكم تجدون في النظام العالمي الثاني المقابل للشيوعية وهو النظام الرأسمالي، تجدون فيه نقيض ما يوجد في العالم الشرقي، حيث يكون هناك أصحاب لا أقول (المليونيرات) بل (المليارديرات)، أصحاب الثمانين والتسعين مليار وقد يكون الواحد منهم في مقتبل عمره، بينما تجد عدداً كبيراً منهم يأخذون الطعام من صناديق القمامة، حتى في الدول الراقية، لو سمعت مثلاً عن أخبار الفقراء مثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية لهالك الأمر، وقد رأيت بعيني هناك في الشوارع أقواماً يتسولون عند المارة وعلى الأرصفة، وعند الإشارات الضوئية، ورأيت بعيني من يأخذ الطعام من الزبالة.
نعم، هذه ليست في كل مكان وليست في كل أحد، وإنما هي موجودة في ذات المجتمعات الراقية والنامية، والتي توجد فيها المباني الفخمة وناطحات السحاب .. وغيرها.
وهناك أحياء خاصة بالفقراء وبالسود وبالملونين وبغيرهم، ويسيطر عليها شظف العيش وشدة الفقر والشعور باللامسئولية، وهي ظاهرة موجودة وإن لم تكن في كل مكان أو أن تكون أغلبية، لكنها موجودة، ووجوداً لا يمكن إخفاؤه أو ستره.
زد على ذلك: أن الصورة المطورة من الرأسمالية، وهي ما يسمى اليوم بالعولمة، هي في حقيقتها خطوة أخرى كما يقول عدد من الخبراء والمختصين، هي: خطوة أخرى سوف تزيد من فقر الفقراء وغنى الأغنياء.
فتقول تقارير ودراسات: إن هذه الأنظمة الجديدة المسماة بالعولمة سوف تجعل (20%) من الأشخاص في العالم تتركز بأيديهم كل الأشياء: القوى، والقرارات، والأموال، والثروات، والقدرات، والشركات.. وغيرها، بينما (80%) يعيشون تحت خط الفقر لا يجدون إلا لقمة العيش والكساء، ومتعة تلهيهم وتنسيهم أحزانهم وهمومهم.
بينما تجد النظام الإسلامي توسط في ذلك واعتدل، فهو أعطى الغني مجالاً للمنافسة وكسب المال بالطرق الحلال، وفي المقابل فرض على الغني كلما زاد ماله فروضاً، وشرط لها شروطاً، وأوجب عليه واجبات لا توجد في أي نظام آخر.
وطبعاً من أعظمها الزكاة، وهي حل لمشكلات العالم، فإذا كنا نتحدث مثلاً عن العالم الإسلامي، مع أن العالم الإسلامي بطبيعة الحال ولله الحمد تطبق فيه شعيرة الزكاة في حالات كثيرة، وكثير من الأغنياء يشعرون بالمسئولية الشرعية تجاه هذا الأمر، فيؤدون الزكاة طيبة بها نفوسهم، حتى لو لم يوجد من يتابعهم أو يلاحقهم أو يطلب منهم السداد، لكن مع ذلك تجد أن متوسط دخول الأفراد في عدد من البلاد الإسلامية مثير للتساؤل.
فمثلاً في بنجلادش متوسط دخل الفرد في السنة كلها (ألف وثلاثمائة دولار)، وأنت تلاحظ أن هذا الدخل ربما لا يعادل دخل الفرد في الشهر في البلاد العادية ولا أقول في البلاد الغنية، فألف وثلاثمائة دولار ربما تزيد عن أربعة آلاف ريال تقريباً.
يعني: تزيد على أربعة آلاف ريال سعودي.
كذلك في أفغانستان معدل دخل الفرد (سبعمائة دولار في السنة)، بينما في اليمن (ألف وتسعمائة وخمسين دولار) تقريباً.
فالمهم تأتي لدول غنية في العالم الإسلامي، في الإمارات مثلاً متوسط دخل الفرد أكثر من (عشرين ألف دولار).
فالمقصود أن العالم الإسلامي يوجد فيه أغنياء ويوجد فيه فقراء، ولو طبقت شعيرة الزكاة تطبيقاً إسلامياً كاملاً ووزعت على الفقراء، لوجد المسلمون فيها غنى أي غنى، ولا مانع أبداً من نقل الزكاة إلى مستحقيها حتى ولو كانوا بعيدين، فإن هذا هو القول الراجح، وسوف نعرض له في حينه على كل حال.
هذا استطراد فيما يتعلق بالزكاة وأثر الزكاة في تقارب المستويات المعيشية والمالية بين أفراد المجتمع المسلم.
هذا التقارب الذي يجعل هناك حداً أعلى للغنى وحداً أدنى للفقر، وبينهما مجال واسع لأصحاب الطاقات والمواهب والقدرات، وتحريك طاقة الإنسان ورغبته في التملك، وإشباع جوانبه الفطرية الغريزية، وفي نفس الوقت تحقيق مطالبه وطموحاته وأشواقه الشرعية والأخلاقية.
طيب بالنسبة للزكاة كما ذكرنا في معناها وأثرها هذا جانب منها.
من أسمائها أيضاً في القرآن وفي السنة: الصدقة، وكثير من العوام يظنون أن الصدقة هي فقط صدقة النفل، فلو أعطيت إنساناً مالاً قال لك: هذا صدقة أو زكاة؟ والواقع أن القرآن الكريم حفل بآيات كثيرة ذكرت فيها كلمة الصدقة، وقصد بها الزكاة المفروضة، ومن أظهر ذلك ما في سورة التوبة، وهي من السور التي ذكرت فيها الزكاة والصدقة كثيراً وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة:58] مثلاً.
كذلك قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60]، وهذه قطعاً هي في الزكاة الواجبة؛ لأنها هي التي حددت مصارفها.
فالصدقة تطلق على صدقة الفرض، وتطلق على صدقة النفل.
كما أن الإنفاق أيضاً، وهو لفظ ورد كثيراً في القرآن الكريم، فالإنفاق يطلق على الفرض ويطلق على النفل.
ومثله أيضاً الحق، كما قوله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24].
وفي الآية الأخرى: حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] فهذا الحق، والحق المعلوم، هل المقصود به الزكاة المفروضة، أو المقصود ما هو أشمل من ذلك؟ الأقرب أنه أشمل من ذلك، بدليل أن هذه الآيات نزلت في مكة، فسورة المعارج مثلاً نزلت في مكة وفيها حق معلوم، فدل على أن المقصود مجمل الزكاة ومجمل الصدقة، ولا يلزم منها الزكاة بمقاديرها المعروفة وأنصبتها المعروفة، بل يدخل فيه الزكاة المفروضة .. وغيرها.
إذاً: الحق عام.
وفي الحديث المشهور أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ( ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها )، والحديث في صحيح مسلم، وفي بعض ألفاظه قال: ( ومن حقها حلبها يوم وردها )، وهذا بلا شك أنه ليس من الزكاة، وإنما هو من الإحسان إلى الناس فيما وراء الزكاة المفروضة.
والله سبحانه وتعالى يقول في الآيات المكية: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7]، فمن منع الماعون منع العارية مثلاً عارية الطعام، عارية الإناء، عارية الثوب، عارية الكتاب، عارية ما يحتاجه إليه الآخرون، وهو متوفر عندك، فإن الحق عام يدخل فيه هذا ويدخل فيه ذاك.
كل هذه المعاني واردة وداخلة في معنى الزكاة والصدقة والإنفاق .. وغيرها..
والملحوظ أن جزءاً مما ذكرناه نزل في مكة المكرمة قبل أن يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهذا يدل على أهمية هذا الجانب العظيم في تحقيق الترابط الاجتماعي، وعناية الإسلام به، بل نقول أكثر من هذا: حتى الأنبياء السابقون قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ورد في القرآن الكريم ما يدل على أنه كان في شريعتهم الزكاة، وكانوا يخرجونها، وعلى سبيل المثال في قوله تعالى في سورة المائدة في شأن الأسباط: وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ [المائدة:12].
وقال الله سبحانه وتعالى أيضاً عن الأنبياء: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ [الأنبياء:73].
إذاً: هذا هدي جاء مع الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام.
فالمقصود أن الإنسان بطبيعته يحب المال كما ذكر الله سبحانه وتعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، وهذا الحب ما لم يضبط ويؤطر بإطار شرعي، فإنه يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه في شأن الغني وفي شأن الفقير؛ فلذلك نزلت الديانات السماوية من أولها إلى آخرها تحث على إعطاء الفقير وإطعام المسكين والعناية باليتيم والضعيف، وهكذا كان هدي الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام، حتى إذا جاء الإسلام وبعث النبي عليه الصلاة والسلام في مكة، وجدنا كثيراً من الآيات المكية تعتني بهذا الجانب وتتحدث عنه مثلاً: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ [الماعون:1]، إلى قوله تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:7].
سورة المطففين واضحة في هذا الجانب.
سورة الفجر: كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:17-20]، في آيات كثيرة جداً في مكة، بل في سورة فصلت: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [فصلت:6-7]، ففيها توبيخ وعتب وتقريع وتشديد على أولئك الذين لا يطعمون المحتاجين والجياع، ولا يحسنون إليهم، بل الله سبحانه وتعالى عبر في نحو ثلاثة مواضع أو أكثر بلفظ الحض والتحاض: وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الفجر:18].
ما معنى الحض في قوله تعالى: وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الفجر:18]؟
الحض: أن يأمر غيره به، وبطبيعة الحال فالذي أمر غيره لابد أن يكون أمر نفسه، فهو حض نفسه أيضاً على طعام المسكين ثم حض غيره.
فالله سبحانه وتعالى لما طلب منا الأعلى والأكمل، وهو أن نقوم نحن بدور التوعية، وحث الناس على إطعام المسكين، معناه: أنه يأمرنا من باب أولى أن نقوم نحن بإطعام المساكين ورعاية أحوالهم والشفقة عليهم، وألا ننهمك بالملذات والنعم التي نتملكها، ونغفل عن الجياع والفقراء الذين إلى جوارنا، بل إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وصل إلى حد أن يقول: ( ليس منا من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم )، وكلمة (ليس منا) من ألفاظ الوعيد الشديدة، التي لا يكاد يرقى وراءها شيء في الوعيد والتشديد على شيء من الذنوب والمعاصي؛ إشارة إلى أن هذا الإنسان قد انسلخ بقلبه وروحه من بنية المجتمع المسلم المتكافل المتعاون، الذي لا يغفل الغني فيه المرفه عن حاجة الفقير والمسكين وابن السبيل، خصوصاً إن كان قريباً منه، سواء قربة نسب، أو قربة جوار.
ولا شك أنه إذا تم استغناء الأقربين، أو حتى حصولهم على الكفاف، فهنا يأتي دور رعاية الأبعدين، خصوصاً حينما تكون المشكلة تتعلق بشعب بأكمله، وهذه معاناة نجدها في العالم الإسلامي اليوم، كما أشرت لكم قبل قليل، فإن بنجلادش مثلاً أو الصومال هما ربما أفقر بلدين في العالم كله، ومستوى دخل الفرد فيهما هو أقل مستوى دخل للفرد في العالم كله، وهما بلاد إسلامية، وقد تكون بعض هذه البلاد مثل بنجلادش فيها كثافة سكانية تعد بأكثر من مائة مليون.
وفي إفريقيا مئات الملايين على هذه الشاكلة، وغالبيتهم من المسلمين.
في إندونيسيا مثل ذلك مائتا مليون أكثر من (90%) منهم من المسلمين، وعندهم حالة من الفقر وشظف العيش لا توصف .
إذاً: هذا الجانب اعتنى الله سبحانه وتعال به، وأرسل جميع الأنبياء بالتأكيد عليه، وحينما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في أول عهد الرسالة في مكة، كان هناك عناية خاصة بهذا الموضوع وتأكيد عليه، وتشنيع على أولئك الذين يغفلون عنه ولا يهتمون به، هذا جانب يدل على الاهتمام المبكر بهذه الشعيرة كما ذكرت.
فذهب الجمهور إلى أنها إنما شرعت بعد الهجرة في السنة الثانية على قول الأكثرين، وقيل بعد ذلك.
بينما ذهب قوم كـابن خزيمة إلى أنها فرضت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .
والذي يظهر ورجحه جماعة من العلماء المحققين أن الزكاة كانت مشروعة في مكة إجمالاً، بل ربما نقول: كانت واجبة في مكة ؛ لأن قول الله تعالى في سورة فصلت: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [فصلت:6-7]، دليل على أنهم أهملوا أو تركوا واجباً شرعياً، وليس أمراً فاضلاً أو محموداً فحسب، فهي كانت واجبة في مكة، لكن لم تكن محددة المقادير والنسب والأنصبة وتفاصيل الأحكام، وإنما الذي شرع وفرض في المدينة هو تحديد ما يتعلق بالزكاة من جهة نوعية الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومن جهة مقدار ما يجب في المال من الزكاة، ومن جهة تحديد أصحاب الزكاة الذين تصرف لهم كما في سورة التوبة، ومن جهة تفاصيل الأحكام الأخرى.. فهذا هو الذي شرع في المدينة المنورة .
وأما ما قبل ذلك فكان مطلوباً من المسلمين أن يساعدوا المحتاج، ويطعموا الفقير، ويفكوا العاني، ويساعدوا ويغيثوا الملهوف .. وما أشبه ذلك مما كان من خصال الفطرة، ومما جاء به الأنبياء السابقون، وقد قالت خديجة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح البخاري لما نزل عليه الوحي: ( والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتحمل الكل، وتغيث الملهوف، وتطعم الجائع، وتعين على نوائب الحق ).
فهذا كان موجوداً في مكة قبل الهجرة.
والسؤال هنا: لماذا قرنت الصلاة مع الزكاة؟
الجواب: أولاً: قرنت الصلاة مع الزكاة والله سبحانه وتعالى أعلم؛ لأن الصلاة هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين ويليها الزكاة، ولذلك الله سبحانه وتعالى قال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [التوبة:5] كما في سورة التوبة، فجعل علامة الإيمان أن يتوب الإنسان من الكفر ويقيم الصلاة ويؤدي الزكاة.
إذاً: الزكاة هي قرينة الصلاة، وهي تاليتها في الأهمية، فهي الركن الثالث من أركان الإسلام، بينما الصلاة هي الركن الثاني، هذا هو السبب الأول في أن تقرن بها.
السبب الثاني في قرنها بها -والله أعلم-: أن الصلاة إشارة إلى الشعيرة التي يرتبط فيها العبد بربه خضوعاً له، وعبودية له، وزهداً، ونسكاً، وتقرباً، وتزلفاً إليه، فالصلاة عبادة وقربة محضة خالصة يتوجه فيها العبد إلى ربه، تكبيراً وتعظيماً وتأليهاً وتمجيداً وتحميداً وتسبيحاً وتهليلاً، وقياماً وركوعاً وخضوعاً وسجوداً. هذه هي الصلاة.
بينما الزكاة ركن آخر له طبيعة مختلفة، فهو وإن كان عبادة، والمؤمن يؤديه بروح العبادة لله سبحانه تعالى، إلا أن له طابعاً اجتماعياً في علاقة الفرد بأخيه في ذلك المجتمع، ففيها إحسان إلى الناس.
ففي الأول: إحسان في عبادة الله، وفي الثاني: إحسان إلى عباد الله، وبذلك يجتمع الخير، فالخير ينقسم إلى قسمين، والإحسان الذي هو أعلى رتب العبودية، يعني: الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان كما في حديث جبريل.
الإحسان الذي هو أعلى المقامات، قال العلماء: الإحسان نوعان: إحسان في عبادة الله، وإحسان إلى عباد الله، فالصلاة إحسان في عبادة الله سبحانه وتعالى، والزكاة إحسان إلى عباد الله عز وجل، وبذلك جمع الإسلام بين هذين المعنيين، فلم يتحول الدين إلى طقوس تعبدية بعيدة عن الواقع، كما لم يتحول إلى أنظمة وقوانين وتشريعات بعيدة عن الربانية؛ لأن الكثير من الطقوس التعبدية عند البوذيين مثلاً .. أو غيرهم، أو حتى عند أهل الكتاب المحرفين من النصارى وسواهم، طقوسهم لم تغير من واقع مجتمعهم شيئاً، بل انحرفت مواقع الطقوس وأصبحت تجد الانحراف الخلقي والشذوذ الجنسي وغيره من ألوان المخالفات تقع في أماكن ممارسة العبادة عندهم، وانحصرت في دائرة ضيقة جداً، فهذا لا ينفع بمفرده .
كما أن الأنظمة البشرية والقوانين والتشريعات مهما كانت صارمة ودقيقة وعليها رقابة، إلا أنه إذا غاب عنها رقابة الضمير الداخلي عند الإنسان فإن المرء لن يعدم أسلوباً يتخلص فيه أحياناً، ويتحايل على بعض المسئوليات وبعض الأعمال، بينما في الإسلام -وهذه محمدة من أعظم محامد هذا الدين- جمع الله سبحانه وتعالى فيه بين الأمرين، فالإنسان وهو يؤدي الزكاة يشعر أنه يتعبد لله سبحانه وتعالى بهذا العمل، ولذلك هو بينه وبين نفسه يحرص على ألا يدخل في ماله درهماً واحداً من مال الزكاة؛ لأنه يفسد هذا المال، ولأنه يعذب به يوم القيامة، فيحرص على أن يتخلص من مال الزكاة تخلصاً تاماً، ويدري أن هذا ليس تبرعاً يجود به على الفقير والمسكين، وإنما هو حق للفقير والمسكين في ماله يخرجه رغم أنفه، يخرجه شاء أم أبى؛ لأنه حق الله سبحانه وتعالى صاحب المال الأصلي: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33]، والآية الأخرى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، فهذا الشعور الداخلي يجعل الإنسان يخرج المال بيقظة ضمير واهتمام وإدراك، حتى لو أن الأنظمة والتشريعات ولو أن السلطات لم تستطع أن تستخرج منه هذا المال .
إذاً: هذه من أسباب أوجه جمع القرآن الكريم بين الصلاة وبين الزكاة في مواضع كثيرة.
أما حكم الزكاة فهو من الأشياء البدهية المسلمة المقررة.
فقد أجمع المسلمون على أن الزكاة واجبة وهي ركن من أركان الإسلام، وهذا محل اتفاق بين جميع العلماء وإطباق الكافة، ولا يكاد يخفى حتى على عامة وبسطاء المسلمين أن الزكاة واجبة، وأنها ركن من أركان الإسلام.
القرآن الكريم ذكرها كما أشرت في مواضع كثيرة، يكفي أن المواضع التي قرنت فيها الصلاة مع الزكاة تربو على ثلاثين موضعاً، وكلها أمر بإيتاء الزكاة، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [التوبة:5]، أو وعيد على من لم يقمها بالويل والنار والعقوبة .. إلى غير ذلك، بل إن الله سبحانه وتعالى توعد في القرآن الكريم من لا يؤدي الزكاة بأشد الوعيد، وهو أن يكوى بهذا المال الذي تعب في جمعه، كما في قوله عز وجل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35].
فتلاحظون في الآية كي الجبهة، وكي الجنب، وكي الظهر.
بعض المفسرين وبعض العلماء، التمسوا سراً في ذلك، فقالوا: كي الجنب؛ لأنه محل الأكل، والإنسان يدخر المال ليأكل منه، وكي الظهر؛ لأنه محل اللبس يعني: تعبيراً عما يلبسه الإنسان.
أما كي الجبهة فقد يكون إشارة إلى ما يتجمل به هذا المال من الجاه والمكانة والمحمدة عند الناس، أو غير ذلك من المقاصد والاحتمالات .
وهذا الحديث هو إشارة -كما في حديث أبي هريرة وفي صحيح مسلم - إلى صاحب الإبل والبقر وصاحب الذهب والفضة التي لا يؤدي منها زكاته: ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها زكاتها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، ثم يكوى بها جبينه وجنبه وظهره حتى يقضى بين الخلائق، فيرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار ).
وهناك وعيد دنيوي على الفرد الذي لا يؤدي الزكاة، وهو أن تؤخذ منه برغمه، يعني: أن واجباً على الدولة أن تأخذ المال من صاحب الزكاة الذي لا يخرجها رغم أنفه، بل جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل: ( من أعطاها طيبة بها نفسه أخذت منه، ومن لم يعطها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، ليس لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لآل محمد منها شيء ). وهذا الحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي .. وغيرهم، وفي سنده ضعف وإن كان ظاهر إسناده الصحة، إلا أن الإمام أحمد سئل عنه؟ فقال: ما أدري ما وجهه، والشافعي : ضعفه ولم يأخذ به، وإبراهيم الحربي وهو من أئمة الحديث أعل متنه وقال: إن المقصود آخذوها من شطر ماله وليس آخذوها وشطر ماله .
ولذلك ذهب جمهور العلماء إلى أن من لم يدفع الزكاة أخذت منه قهراً ولا يزاد عليه.
وذهب الإمام الشافعي في مذهبه القديم، وأبو بكر بن عبد العزيز من الحنابلة، وإسحاق بن راهويه إلى أنه يؤخذ منه الزكاة ويزاد عليها تعزيراً بالمال.
وما ذهب إليه الجمهور هو الصحيح: أن عقوبة تارك الزكاة أن تؤخذ منه قهراً، ولذلك الصحابة رضي الله عنهم لما امتنع بعض الناس عن أداء الزكاة أخذوها منهم قهراً، ولم ينقل أنهم أخذوا ما زاد على ذلك، فهذا يرجح ويقوي أن في متن الحديث غرابة أو نكارة، ولذلك لم يأخذ به جمهور العلماء، فهذه عقوبة دنيوية خاصة.
هناك عقوبة دنيوية عامة على المجتمع الذي لا يؤدي الزكاة، وهو ما صح عند ابن ماجه وأحمد وغيرهما في الحديث المشهور وفيه: ( وما لم يؤدوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا )، فهنا إشارة إلى عقوبة إلهية على المجتمع الذي يخل بأداء شعيرة الزكاة ويمنعها، أن الله سبحانه وتعالى يسلط عليهم من شظف العيش والفقر، وتعسر أسباب الغنى، ومن ذلك منع القطر من السماء، ما يكون عقوبة لهم وجزاء من جنس العمل على منعهم الزكاة.
هناك أيضاً عقوبة رابعة دنيوية، إذا كانت العقوبة الثالثة التي ذكرتها عقوبة قدرية ربانية، فهناك عقوبة متعبد بها، وهي أن الفئة أو الطائفة التي تمتنع من أداء الزكاة، وتتحصن وتخرج عن السلطة الشرعية وتمتنع عن أداء الزكاة، أن هذه الطائفة تقاتل كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه المرتدين، وأصر على ذلك كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه: ( لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي
وهذا مستوى عال لا يوجد في غير الإسلام، فالصحابة رضي الله عنهم والذين قاتلوا المرتدين من بني حنيفة وغيرهم إما على الكفر، أو على الامتناع من الزكاة، هل قاتلوهم ليأخذوا أموالهم ويستمتعوا بها في أنفسهم؟ لا، حاشاهم، وإنما قاتلوهم على حق الفقير، فقد كانت التربية النبوية العظيمة في تعميق أواصر الأخوة والقربى بين أفراد المجتمع المسلم، كانت مدرسة للصحابة رضي الله عنهم في أن يصل بهم الحال إلى حد المقاتلة؛ لاستخلاص حقوق الفقراء والضعفاء والمساكين وأبناء السبيل، فهذه كلها عقوبات على ترك الزكاة.
إذاً: الزكاة ثابتة بنص القرآن الكريم، وفي مواضع كثيرة منها: مواضع العقوبة على ترك الزكاة، ومواضع أيضاً بيان الثواب لفاعلها.
وكذلك جاء أمرها في السنة النبوية، ومن ذلك مثلاً ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر : ( بني الإسلام على خمس ).
وفي حديث جبريل المشهور: ( ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ ).
وفي قصة الوافدين إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذين يسألونه عن أركان الإسلام ما هي؟ هل أمرتنا بالصلاة؟ هل أمرتنا بالزكاة؟ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على وجوب الزكاة أحاديث متواترة.
وأطبق العلماء وأجمعوا في الجملة على وجوب الزكاة وأنها من أركان الإسلام، وإن اختلفوا في جزئيات: هل تجب الزكاة في هذا المال أو لا تجب؟ هل تجب الزكاة على هذا الشخص أو لا تجب؟ هل يشترط للزكاة هذا الشرط أو لا يشترط؟ هذا ما سوف نعرض له إن شاء الله تعالى.
إذاً: هذا ما يتعلق بحكم الزكاة وما يتعلق بمشروعيتها.
لو أن شخصاً جحد وجوب الزكاة، فإن كان هذا الشخص حديث عهد بالإسلام أو ناشئاً في بادية بعيدة أو صحراء أو جبال ولا علاقة له بالمسلمين، وجحد وجوب الزكاة جهلاً، فإنه لا يكفر حينئذ؛ لأنه لم تقم عليه الحجة الرسالية، والله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، فلا يكفر حتى يبين له ويشرح له ويقرر له أن القرآن جاء بالزكاة، والسنة جاءت بالزكاة، والعلماء أجمعوا عليها، وهي من أركان الإسلام، وإذا أصر على ذلك فإنه يكفر.
وأما من جحد الزكاة وهو يعيش بين المسلمين أو أنكرها أو زعم أنها لا تصلح مثلاً لهذا العصر، وأنه يمكن أن يستعاض عنها بالضرائب مثلاً، أو بنمط آخر بعيد عن تشريعات الزكاة، وهو يعيش بين المسلمين ويقرأ كتبهم، فإن مثل هذا يعتبر كافراً؛ لأنه مكذب بالله تعالى، ومكذب بالقرآن الكريم، ومكذب بالرسل.
ولذلك الجمهور -وهو المشهور عن الأئمة الأربعة- على أن تارك الزكاة لا يكفر بتركها، وإنما -كما ذكرت- تؤخذ منه قهراً، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة، وهو القول الجديد عند الشافعي، وأما القول القديم عنده فهو أن تؤخذ منه قهراً مع الزيادة، ولو كانوا يرون كفره لما كانت معاملته بهذه الطريقة.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر