وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد:
فقد ذكر الإمام اللالكائي الإرجاء باعتبار أنه بدعة وفرقة من الفرق الضالة، ولكنه قدم ما حقه التأخير وأخر ما حقه التقديم، فذكر في الفصل الأول ذم الإرجاء وذكر من ذم الإرجاء، ثم عقب بباب لمدح من ترك الإرجاء، ثم ثلث بباب أول ظهور الإرجاء، وكان الحق أن يقدم الباب الثالث بدل الباب الأول.
والإرجاء هو تأخير العمل عن الإيمان، ونحن قلنا في الدروس الماضية: إن العمل من الإيمان.
والمرجئة يقولون: الإيمان هو التصديق، أي: تصديق القلب، وهو متعلق بالقلب فقط، ولو لم يتلفظ به صاحبه أو يعمل بمقتضاه، وهم متفقون على أن العمل لا علاقة له بالإيمان، ولذلك يقولون: العمل يتأخر عن الإيمان، أي: لا علاقة له به، وبالتالي يستوي عندهم أطوع الناس لله عز وجل ولرسوله الكريم مع أعصى وأفسق الناس لله عز وجل ولرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، حتى قال قائلهم: يستوي إيمان أفسق الناس مع إيمان جبريل وميكائيل؛ لأن تفاضل الأعمال عنده لا علاقة له بالإيمان، بل الإيمان عنده هو التصديق، وقد صدق جبريل وميكائيل كما صدق هذا الفاسق الزنديق العاصي بأن الله تبارك وتعالى واجد وموجود وموجد، وأنه أرسل الرسل، وغير ذلك.
فالإرجاء هو تأخير العمل عن مسمى الإيمان، وهذه قضية عظيمة جداً، وهي تقريباً بيت القصيد في خلاف أهل العلم قديماً وحديثاً حتى في وقتنا الحاضر، فالذي يؤخر العمل عن الإيمان لا يفسق ولا يبدع ولا يكفر، حتى وإن كان ترك العمل كفراً فإنه لا يكفر تاركه؛ لأنه لا علاقة لهذا العمل بالإيمان أصلاً.
قال الإمام البغدادي في كتابه العظيم الفرق بين الفرق: وإنما سموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان.
فالإرجاء الذي تقدم به الحسن بن الحنفية لم يكن له أدنى علاقة بالإيمان، وليس هو الإرجاء الاصطلاحي الذي ظهر بعد ذلك، وإنما كان عبارة عن تأخير الحكم على الحكمين حتى يحكم الله عز وجل فيهما.
والناظر إلى هذا الكلام لا يمكن أن يقول: إن هذا هو الإرجاء المذموم، بل هو الإرجاء اللغوي، أي: تأخير الحكم على هذين حتى يحكم الله عز وجل فيهما، وأما مصطلح الإرجاء فقد ظهر بعد ذلك واتخذ شكلاً آخر سياسياً، ثم شكلاً آخر شرعياً، وصار له أصوله وقواعده وأتباعه وجماعته وفرقته، ثم استقر مصطلح الإرجاء بعد ذلك على ما يسمى بتأخير العمل عن مسمى الإيمان، وأن العمل لا علاقة له بالإيمان وليس داخلاً فيه.
قال: فإن أول من تكلم في الإرجاء لم يكن كلامه إلا في إرجاء أمر المتقاتلين من الصحابة إلى الله عز وجل، وأول من تكلم في الإرجاء هو الحسن بن محمد بن الحنفية المتوفى عام (99هـ)، وقد ذكر ذلك كل من ترجم له، فقال ابن سعد في كتابه الطبقات في ترجمة ابن الحنفية: وهو أول من تكلم في الإرجاء، ويذكر كذلك أن زادان وميسرة دخلا عليه، فلاماه على الكتاب الذي وضعه في الإرجاء، يعني: أن الحسن بن محمد بن الحنفية كتب كتاباً في الإرجاء، وعاب عليه زادان وميسرة لما دخلا عليه أن يكتب كتاباً في الإرجاء، فقال ابن الحنفية لـزادان : يا أبا عمر ! لوددت أني كنت مت ولم أكتبه. ويبدو من كلامه هذا أنه تكلم في الإرجاء الاصطلاحي ولم يكن الأمر كذلك، وإنما تكلم فيه عن إرجاء أمر المشتركين في الفتنة التي حدثت بعد خلافة الشيخين أبي بكر وعمر إلى الله عز وجل.
وهذا المعنى أكده الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه تهذيب التهذيب، فقال: وقد اطلعت على هذا الكتاب، والمراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه هو غير الإرجاء المتعلق بالإيمان الذي يعيبه أهل السنة، فهذا إرجاء وذاك إرجاء آخر؛ وذلك أني وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور، وأخرجه ابن أبي عمر في كتاب الإيمان له، وقال في آخره: حدثنا إبراهيم بن عيينة عن عبد الواحد بن أيمن قال: كان الحسن بن محمد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على الناس -يعني: الحسن عندما صنف هذا الكتاب في الإرجاء كان يأمر عبد الواحد بن أيمن أن يقرأه على الناس- وقال فيه: أما بعد: فإنا نوصيكم بتقوى الله، وذكر كلاماً كثيراً في الموعظة والوصية بكتاب الله واتباع ما فيه وذكر اعتقاده، ثم قال في آخره: ونوالي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ونجاهد فيهما؛ لأنهما لم تقتتل عليهما الأمة ولم تشك في أمرهما، ونرجئ من بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله. إلى آخر الكلام. وهذا محل الشاهد، فقد قال: نوالي ونحب أبا بكر وعمر ؛ لأن الأمة أجمعت عليهما، ولم يخالف في ذلك إلا الشذاذ من الشيعة وغيرهم، وأما عثمان وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان والحكمان أبو موسى وعمرو بن العاص وما وقع من فتنة ومن هرج وقتل وإراقة للدماء وغير ذلك فلا نتكلم فيها، بل نكل أمرها إلى الله عز وجل يفصل فيها بما يشاء. وبلا شك فإن هذا هو الإرجاء اللغوي وليس الإرجاء الاصطلاحي المتعلق بالإيمان الذي يعيبه أهل السنة والجماعة، والذي مفاده تأخير العمل عن مسمى الإيمان.
قال: فهذا هو الإرجاء الذي تكلم فيه الحسن بن محمد ، وقد أكد ابن حجر رحمه الله -وهو المطلع على الكتاب- أن الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان لم يعرج عليه، فالحافظ ابن حجر يقول: لما اطلعت على كتاب الحسن بن الحنفية لم أجده تكلم عن الإرجاء المتعلق بالإيمان والذي يعيبه أهل السنة، وإنما تكلم عن الإرجاء اللغوي المتعلق بتأخير الحكم على أصحاب الفتنة التي دارت في زمن الصحابة.
وورد في بعض المصادر الإسلامية أن المرجئة كانت معروفة في أواخر القرن الأول، ففي صحيح البخاري : أن زبيد بن الحارث اليامي سأل أبا وائل عن المرجئة -و أبو وائل هو شقيق بن سلمة الكوفي ، الإمام الكبير، تلميذ عبد الله بن مسعود - وفي رواية أبي داود : أنه لما ظهرت المرجئة -وهذا كلام زبيد بن الحارث اليامي - أتيت أبا وائل فذكرت ذلك له. وقد علق ابن حجر على ذلك بقوله: فظهر من هذا أن سؤاله عن معتقدهم -أي: أن سؤال زبيد بن الحارث لـأبي وائل عن معتقد المرجئة- لا عن الإرجاء الذي كتب فيه الحسن بن الحنفية ، وأن ذلك كان حين ظهورهم، وكانت وفاة أبي وائل سنة (99هـ).
وتذكر كتب الفرق أن غيلان الدمشقي الذي ورث القدر عن معبد الجهني كان مرجئاً، فقد جمع إلى جهميته الإرجاء، قال أبو الحسن الأشعري : وذكر زرقان عن غيلان أن الإيمان: هو الإقرار باللسان، وهو التصديق، يعني: أنه لا علاقة للعمل به، وأن المعرفة بالله ليست من الإيمان، وهذا ضلال بلا شك.
بل ذكر الشهرستاني في كتابه الملل أن غيلان هو أول من قال بالقدر والإرجاء، يعني: أول من أنكر القدر وأنكر دخول العمل في مسمى الإيمان، وغيلان قتل بعد عام (105هـ)، فيكون قد عاش في أواخر القرن الأول، وهو أقدم من روي عنه هذا القول -أي: الإرجاء في الإيمان-.
ثم جاء من بعده الجهم بن صفوان المقتول سنة (128هـ)، فقال: بأن الإيمان هو المعرفة فقط. وهذا كله ضلال.
والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، يعني: لو قال الإنسان: أنا مؤمن وارتكب جميع الكبائر إلا الشرك فإن هذه الكبائر كلها لا تضر الإيمان؛ لأن العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الإيمان، فكيف تحكم لنا في ذلك يا إمام الدين؟! أي: فكيف تحكم على هؤلاء؟ أو ما هو الحكم الصحيح الصواب في مثل هذا المعتقد؟ ففكر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء : أنا لا أقول: إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، أي: لا مؤمن ولا كافر.
وأما المرجئة فهم يقولون: صاحب الكبائر مؤمن كامل الإيمان، وإيمانه كإيمان جبريل وميكائيل؛ لأن العمل لا علاقة له به، وسواء كان عملاً صالحاً أو عملاً سيئاً، ولذلك يستوي عندهم صاحب المعصية مع صحاب الطاعة، بل المطيع دوماً يستوي عندهم مع العاصي دوماً؛ لإخراجهم العمل عن مسمى الإيمان، وأنه لا علاقة له به.
وقد عرف الإرجاء بتعريفات عدة، الأول: إن الإرجاء هو التأخير، كما قال الله تعالى: قَالُوا أَرْجِه وَأَخَاهُ [الأعراف:111]، أي: أخره وأمهله.
والتعريف الثاني: أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، هذا باعتبار إعطاء الرجال، فقد كانوا يعطون المؤمن العاصي الرجاء في ثواب الله، يعني: لا يقنطونه من رحمة الله، ومهما ارتكب من المعاصي فإنهم يبشرونه بأن الله سيغفر له.
وقيل: الإرجاء هو تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة. وهذا تعريف ثالث للإرجاء فلا يحكمون على صاحب الكبيرة ولا يقضون عليه بحكم ما في الدنيا من كونه مثلاً من أهل الجنة أو من أهل النار. وعلى هذا فالمرجئة والوعيدية فرقتان متقابلتان، فالمرجئة يقولون: لا تضره كبيرته، والوعيدية -أي: الخوارج- يقولون: هو كافر يخلد بكبيرته في النار.
وقيل: الإرجاء هو تأخير علي بن أبي طالب عن الدرجة الأولى إلى الرابعة. وعلى هذا فالمرجئة والشيعة فرقتان متقابلتان، فالمرجئة يقولون: علي بن أبي طالب يؤخر إلى المرتبة الرابعة، والشيعة يقولون: هو مقدم على أبي بكر وعمر ، بل من الشيعة من جعل علي بن أبي طالب في مرتبة النبوة، ومنهم من جعله في مرتبة الإلهية، وهم السبئية عليهم لعنة الله.
قال ابن الجوزي : وفرق المرجئة خمس، ومنهم من جعلها سبعاً، ومنهم من جعلها عشراً، ومنهم من جعلها ثنتي عشرة، ومنهم من جعلها خمس عشرة فرقة، وهذا لا يضر؛ لأن الذي زاد إنما قسم الفرقة الواحدة إلى أقسام متعددة باعتبار الخلافات الداخلية التي حصلت في كل فرقة على حدة.
ويقولون: الإيمان هو المعرفة بالله تعالى والخضوع له والمحبة بالقلب، فمن اجتمعت فيه هذه الصفات فهو مؤمن، ولا يضر معها ترك الطاعات وارتكاب المعاصي، بل ولا يعاقب عليها صاحبها، يعني: لو أن العبد عرف الله تعالى وأحبه وخضع له وذل فإن أتى بعد ذلك بجميع المعاصي فإنه لا يعاقب عليها. وهذا كلام كله ضلال؛ لأن إبليس كان عارفاً بالله تعالى، والمرجئة لم يكفروا إبليس لكفره بالله عز وجل، وإنما كفروه لاستكباره وترك الخضوع لله تعالى، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34].
هذه الفرقة الأولى، وكلامها كله تخبيط وخلط.
فقوله: (إن الله خلق آدم على صورته) أخرجه الشيخان، ومناسبته: أن معاوية بن الحكم السلمي لطم جاريته، ثم ذهب يسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن كفارة ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تضرب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته)، فقال بعض أهل العلم: الضمير في قوله: (صورته) يعود على وجه المضروب، وربما يكون الأمر كذلك، ولكن الرواية الأخرى: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن) يعكر هذا التفسير، وقال المحققون من أهل السنة: إن الله تعالى له ذات وله صورة، وإن العبد له ذات وله صورة، فيكون التقدير: لا تضرب الوجه؛ فإن الله تعالى خلق هذا الوجه وصوره في صورة بمشيئته وقدرته، كما أن لله تعالى صورة تليق بجلاله وكماله.
إطلاق لفظ الصورة على الله عز وجل أمر اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وليس إثبات الصورة لله عز وجل يساوي إثبات الصورة للعبد، كما أن إثبات الصورة للعبد لا تعني بذلك أنه شبيه ومثيل لله عز وجل في صورته.
والحق تبارك وتعالى له ذات وله صفات، وآدم له ذات وله صفات، واللغة عند تجردها تكون عامة في الاستخدام بين الله وبين الخلق، مثلما لو قلت: عين مطلقة ومجردة ومفردة، فهي في اللغة تعني: العين الباصرة التي يبصر بها المرء، وتعني: الفهم أحياناً، وتعني: الجاسوس والمخبر، وتعني: العين التي ينبع منها الماء، فكل هذه يطلق عليها عين عند التجرد، وأما لو أضفت هذه الكلمة فقلت: عين محمد فيكون المقصود بالعين هنا عين محمد، ولو قلت: عين الله كما في قول الله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، فالضمير في (عيني) يعود على عين الله، ولا يستطيع أحد أن يصف عين الله؛ لأنه لا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل. فاللغة عند تجردها عامة الاستخدام بين الله وبين الخلق.
فلما قال صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم على صورته) أي: في القدر المشترك؛ لأن هذه الألفاظ متجردة عن الإضافة، وصورة آدم بينها وبين الحق تبارك وتعالى ما دل عليه قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]. وصفة اليد عند التجرد صالحة للاستخدام في حق الله وحق آدم، ولكنها لو أضيفت إلى الله فليست هي يد آدم، ولو أضيفت إلى آدم فليست هي يد الله.
فالقدر المشترك بين يد الله ويد آدم هو الاسم فقط، والقدر الفارق أن يد الله تختلف عن يد آدم. وهذا حتى في الفاكهة ففي الجنة تفاح ورمان وزيتون، والتفاح والزيتون والرمان الذي في الجنة لا يشترك مع التفاح والزيتون والرمان الموجود في الدنيا والذي نأكله نحن الآن إلا في الأسماء، فالذي في الجنة غير الذي في الدنيا، ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهذا يدل على أن الاشتراك بينهما في الاسم فقط، وأما الكنه والكيفية فتختلف تماماً، ففاكهة الدنيا وإن اشتركت مع فاكهة الآخرة ونعيم الجنة في الاسم إلا أنها تختلف عنها في الكيفية، ومن باب أولى أن تختلف الأوصاف المخلوقة في الدنيا مع أوصاف الخالق تبارك وتعالى، فما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، وهذا القدر المشترك يكون في الاسم، والقدر الفارق يكون في الأوصاف والكيفيات.
يقول ابن تيمية : فمن نفى القدر المشترك فقد عطل، فالمعطلة والجهمية قالوا: لو أثبتنا لله يداً وعيناً ورجلاً وغير ذلك فسيكون في النهاية إنساناً، ولذلك نفوا جميع الصفات، والنفي بمعنى التعطيل، أي: عطلوا الخالق تبارك وتعالى عن صفاته، فقالوا: هو ذات بغير صفات، مع أنه لا يمكن تصور ذات بغير صفات خاصة، والله تبارك وتعالى قد وصف نفسه ووصفه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام بصفات عديدة.
فمن نفى القدر المشترك فقد عطل، ومن نفى القدر الفارق فقد مثل، يعني: لا نقول: إن يدي كيد الله تبارك وتعالى، وعيني كعين الله تبارك وتعالى، فهذا تمثيل.
وكلام شيخ الإسلام ابن تيمية كلام ممتع ورائع جداً، وقل أن تجده في كتاب أو تسمعه من عالم إلا إذا كان قد أتى بعده واستفاد منه، فهو يقول: ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر فارق، فمن نفى القدر المشترك فقد عطل، ومن نفى القدر الفارق فقد مثل. فلو علمت هذه القاعدة وعرفت معناها فستكون إن شاء الله عصمة لك في كل أسماء وصفات الباري تبارك وتعالى.
الثاني: أن هذا التقدير لا يبين القدر المشترك والقدر الفارق للصورة، والذي تقدم بسطه آنفاً.
والذين استبشعوا لفظ صورة الرحمن قالوا: لأنه يلزم من هذا تشبيه الله بخلقه، وليس الأمر كذلك، ولا يضرهم أن يثبتوا لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام على ما يليق بجلاله وكماله سبحانه، وتنزيه الله تعالى لا يكون بسلب ونفي صفاته وما تدل عليه من العظمة والكمال كما أراد سبحانه، قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]. وإن التنزيه حق التنزيه إنما يكون في إثبات الصفة في أعلى درجات الكمال؛ لأن الكمال المطلق لا يوصف به إلا الله عز وجل وحده.
هذا وإنه ليترجح لدينا مع قلة البضاعة وفقدان الصناعة صحة الحديث بلفظيه، أي: على صورته، وصورة الرحمن، وأن الضمير في اللفظ الأول محمول على التصريح في اللفظ الثاني على أصول السلف في صفات الباري تبارك وتعالى.
والإجمال مثل أن يقول العبد: قد فرض الله الحج، ولكن لا أدري أين الكعبة، فأنا مؤمن بأن الله تعالى فرض علي الحج، ولكن كيف أحج؟ وأنا مؤمن أن الله تبارك وتعالى أمرنا أن نصلي إلى الكعبة، ولكني لا أدري أين الكعبة، فلعلها التي في مكة، ولعلها غير التي في مكة، وأعلم أن الله تعالى حرم الخنزير، ولكني لا أعرف الخنزير، فربما يكون هو هذه الدابة أو هذه الشاة أو غيرها، وأعلم أن الله تعالى حرم الخمر، ولكني لا أعرف الخمر التي حرمها الله عز وجل، يعني: أنه يقر بالأصول وينكرها في نفس التوقيت، وهذا تلاعب. والقائل بهذه المقالات عندهم مؤمن، ومقصوده بما ذكره أن هذه الأمور ليست داخلة في حقيقة الإيمان، وإلا فهذه الأمور لا يشك فيها عاقل.
والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، وإذا كان إنكار أصول الإسلام وثوابت الإيمان عندهم هو تمام الإيمان فكيف يتصور نقصانه وزيادته؟
وقال لي شخص من المرجئة سنة (1983م): أنا لا أتصور أن الله تعالى خلق السماوات في يومين والأرض في يومين، ولا أتصور أن الله خلق جميع الخلق وقدر السماوات والأرض والأقوات والمخلوقات في ستة أيام، ونازع وأصر أن الله على فرض أنه فعل ذلك فلابد أن يكون يوم الجمعة هو يوم راحته، مع أن القرآن نفى أن الله يكل أو يمل أو يتعب نفياً صريحاً أكيداً، ولكنه أصر على هذا الكفر والعناد.
قالت الثوبانية: إن الإيمان هو: أن نؤمن بكل ما لا يجوز في العقل أن يفعله -أي: أن يفعله الله ورسوله- وما جاز في العقل أن يفعله ليس اعتقاده من الإيمان.
ومن أصول المعتزلة الأصيلة تقديم العقل على النقل، ومعنى تقديم العقل على النقل: أن التحسين والتقبيح راجعان إلى العقل، فالذي يحسن ويقبح هو العقل عند المعتزلة، وهو كذلك عند هذه الفرقة الضالة الثوبانية.
أما التحسين والتقبيح عند أهل السنة فإنه يستند إلى الشرع، والشرع عبارة عن الكتاب والسنة، والتحسين والتقبيح في الشرع مداره على النقل، فما قضى النقل بأنه قبيح يكون قبيحاً، وما قضى النقل بأنه حسن يكون حسناً.
ومعنى المؤمنون في الحديث أي: المجتهدون من أهل العلم، فما أجمع عليه العلماء أنه حسن فهو حسن، فيكون حسناً بتحسين الشرع.
وقد أجمع العلماء على تحسين الصلاة، وأنها من الأعمال الحسنة الطيبة، وإجماعهم على تحسين الصلاة وأنها من العمل الحسن الطيب المبارك مرده إلى الشرع.
وأجمعوا على قبح شرب الخمر، وهذا الإجماع مرده إلى الشرع.
إذاً: فما رأى المسلمون باجتهادهم وإجماعهم أنه حسن بتحسين الشرع له فهو عند الله حسن، وما رأى المسلمون المؤمنون المجتهدون العالمون أنه قبيح بتقبيح الشرع له فهو عند الله قبيح.
فمدار الحسن والقبح عند أهل السنة والجماعة على النقل لا على العقل خلافاً للمعتزلة، وبذلك تزول شبهة المعتزلة حول حديث ابن مسعود ، وللشيخ الألباني بحث طيب جداً في هذا في السلسلة الصحيحة بإمكانك أن ترجع إليه.
وأصول المعتزلة خمسة، أولاً: التوحيد.
ثانياً: العدل.
ثالثاً: المنزلة بين المنزلتين.
رابعاً: الوعد والوعيد.
خامساً: تقديم العقل على النقل.
وهناك أصل سادس يدخل تحت الوعد والوعيد وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والناظر إلى هذه الأصول يجدها جيدة، يعني: إذا قلنا: من أصول المعتزلة التوحيد فليس هناك من يكره التوحيد، ولكن التوحيد عندهم يساوي تعطيل الصفات؛ لأنهم قالوا: بلزوم التشبيه حين إثبات الصفات، فقد قالوا: نحن نريد أن ننزه ربنا، فنفوا جميع الصفات الموجودة في الكتاب والسنة وأولوها، قالوا: لأن الإثبات يستلزم تشبيه الخالق بالمخلوق، فمثلاً إذا أثبتنا اليد فإن الذهن ينصرف إلى تشبيه يد الخالق بيد المخلوقين، وإذا قلنا بهذا فنحن لم نوحده، بل جعلنا الخلق شركاء له في الصفات، فكلمة التوحيد التي يزعمونها أصلها ضلال.
ومن أصول المعتزلة العدل، وهو يعني عندهم وجوب الأصلح على الله عز وجل، وقيل: وجوب الصالح، يعني: أنهم مختلفون فيما بينهم، فالعدل عندهم يساوي وجوب الأصلح في حق الله أو وجوب الصالح، وكلاهما باطل. والله تبارك وتعالى لا يشرع لعباده إلا الأصلح أو الصالح، ولا يقدر لهم إلا الأصلح أو الصالح.
وقالوا: بوجوب إثابة المطيع ومعاقبة العاصي، وأن هذا عدل، وأن الله تبارك وتعالى لا يساوي بين الطائع والعاصي، بل الطائع لزاماً على الله أن يثيبه، والعاصي لزاماً على الله أن يعاقبه، وهذه جرأة وقلة أدب مع الله عز وجل.
وأهل السنة والجماعة يقولون: لو مات مرتكب الكبيرة عليها فإنه في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، والله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فهو يفعل ما يشاء، فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء، وأن هذه كلها مشيئة الله عز وجل، ولا يستطيع أحد أن يحاسب الله تعالى لم أثاب هذا ولم عاقب هذا، بل المقطوع به يقيناً عند أهل السنة والجماعة: أن الله تعالى لو أدخل عبداً الجنة لأدخله برحمته وفضله، ولو أدخله النار لأدخله بعدله غير ظالم له، وأنه إذا عفا تبارك وتعالى عن عبده فإن ذلك يكون لحكمة؛ لأن أفعال الله تبارك وتعالى كلها موصوفة بالحكمة.
وهؤلاء قالوا: العدل يعني: أن الطائع لابد أن يأخذ ثواب الطاعة، ونحن نسألهم: إذا رأينا رجلاً يصلي لغير الله، ومعلوم أن الصلاة طاعة، أو يصلي رياء وسمعة، وآخر يجاهد رياء وسمعة، وآخر يعلم العلم رياء وسمعة وطلباً للشهرة والرئاسة وغير ذلك، هل يلزم الله تبارك وتعالى أن يثيب هذا العبد؛ لأنه طائع؟
الجواب: لا، والأعمال بالخواتيم، ونحن نعرف حديث ابن مسعود الطويل: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار -أي: طوال حياته- فإذا ما كان بينه وبينها إلا ذراع -يعني: وقت يسير جداً- سبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). والمعتزلة يقولون: لا، إذ كيف يعمل خمسين سنة بعمل أهل النار من المعاصي والفجور وغير ذلك ثم قبل أن يموت بيومين أو ثلاثة يعمل بالطاعة ويدخل الجنة؟ بل لابد أن يأخذ عقابه تماماً على معاصيه طوال الخمسين السنة، وبعد ذلك يثاب على طاعة اليومين أو الثلاثة، مع أنه جاء في الحديث: (الأعمال بالخواتيم). فهم قالوا بلزوم الأصلح في حق الله عز وجل أو بلزوم الصالح، ووجوب إثابة الطائع وعقاب العاصي على الله عز وجل، وأوجبوا ذلك على الله عز وجل.
وهذا المبدأ يسمى عند المعتزلة مبدأ العدل.
وكلمة العدل عند الإطلاق ممدوحة، ولكنها على تفسيرهم صارت مذمومة، وهذا من أجل أن تعلم أن كلام أهل البدع دائماً مجمل؛ لأنهم لو شرحوه وبينوه فسيكون قبيحاً وسيرد عليهم في ذلك.
واتفق الثوبانية على أنه تعالى لو عفا في القيامة عن عاص فإنه يلزمه أن يعفو عن جميع العصاة من أمثاله، وكذا لو أخرج أحداً من النار للزمه أن يخرج كل من هو مثله. وهذا الكلام شبيه بمبدأ العدل عند المعتزلة.
والثوبانية لم يجزموا بخروج عصاة المؤمنين من النار، بل قالوا: يمكن أن يخرجوا ويمكن ألا يخرجوا. وكلمة يمكن أنهم لا يخرجون تعني: أنهم قد يخلدون في النار، وأهل السنة والجماعة يجزمون بأنه لا يبقى في النار قط من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وإن دخل بعض المؤمنين النار بسبب أعمالهم التي استوجبت لهم العذاب في النار فإنهم لابد خارجون منها، وداخلون الجنة ومخلدون فيها، ولا يخلد في النار إلا الكفار والمنافقون، وأما المؤمنون فإنهم وإن دخلوا النار بسبب ذنوبهم وأعمالهم التي استوجبت لهم ذلك فإنهم يخرجون منها بشفاعة الشافعين، ثم برحمة أرحم الرحمين سبحانه وتعالى.
قالوا: ولو ترك كل ما جاء به الرسول يكون كافراً، وكل معصية لم يجمع على أنها كفر فصاحبها يقال له: فاسق، أو يقال: إنه فسق، أي: ارتكب عملاً من أعمال الفسق، ومن ترك الصلاة مستحلاً يكفر؛ لتكذيبه بما جاء به النبي.
وقولهم: ومن ترك الصلاة مستحلاً يكفر هذا معتقد أهل السنة والجماعة، ولكن علة الكفر عندهم هو تكذيب ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن تركها بنية القضاء لا يكفر، ومن قتل نبياً أو لطمه يكفر، لا لأجل القتل أو اللطم، بل لكونه دليلاً على تكذيبه وبغضه. وهذه هي المرجئة الخالصة.
ومنهم من جمع بين الإرجاء والقدر، بمعنى إسناد الأفعال إلى العباد، وقال: إن الله عز وجل لم يقدر أفعال العبد، وإن العبد هو المتصرف في أفعاله، وأنها ليست مخلوقة لله عز وجل، وهذا ضلال، ومن هؤلاء الصالحي وأبي شمر ومحمد بن شبيب ، بل منهم من جمع إلى ذلك الخروج أيضاً كـغيلان حيث قال: يجوز ألا يكون الإمام قرشياً، يعني: يجوز أن يكون من غير قريش، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الأئمة من قريش).
قال شعبة: وحدثني منصور بن المعتمر وسليمان الأعمش أنهما سمعا أبا وائل يحدث عن عبد الله عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر). قال شعبة : فذكرت ذلك لـحماد بن أبي سليمان -وهو شيخ أبي حنيفة ، وكان رأساً في الإرجاء في الكوفة- فقال حماد لـشعبة : يا شعبة ! أنت منا إلا قطرة؛ لأن حماد بن أبي سليمان كان من كبار المرجئة، وهو شيخ أبي حنيفة ، بل وأبو حنيفة رحمه الله أخذ بعض الإرجاء عن حماد بن أبي سليمان ، وهذا مما عيب عليه، فأراد حماد بن أبي سليمان أن يجر شعبة إلى الإرجاء]، فقال: يا شعبة! أنت منا لولا قطرة، يعني: نحن وأنت متفقون في كل شيء، لولا أنك تخالفنا في هذه القضية، أي: قضية العمل هل هو من الإيمان أو ليس من الإيمان، فيا ليتك تقول: إنه ليس من الإيمان، فتكون منا تماماً، وأما كونك تخالفنا في هذه القضية فأنت منا ونحن منك في كل شيء إلا في هذه القضية.
قال: [قال شعبة : أتتهم زبيداً ؟ قال: لا، قال: أتتهم منصوراً ؟ قال: لا، قال: أتتهم سليمان؟ قال: لا، ولكني أتهم أبا وائل] وهو شقيق بن سلمة الكوفي تلميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد كان متهماً بالإرجاء كذلك، يعني: أن الإرجاء كان من القدم، فـأبو وائل كان من كبار أصحاب عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن مسعود مات مبكراً بالكوفة، وأكبر تلاميذه على الإطلاق أبو وائل كان مرجئاً.
قال: [وعن قتادة قال: إنما حدث هذا الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث]، وابن الأشعث مات في سنة (82) في قتال دار بينه وبين الحجاج بن يوسف الثقفي .
قال: [وقال جرير: ذكر الإرجاء عند سليمان بن مهران الكوفي الأعمش فقال: ما ترجو من رأي أنا أكبر منه]، يعني: لا أتكلم في مثل هذا؛ لأنه أسخف من أن نتكلم فيه.
قال: [قال جرير: وكان المغيرة يقول: أخبرنا حماد بن أبي سليمان قبل أن يصير مرجئاً، وربما قال: حدثنا حماد من قبل أن يفسد]، فالمؤلف في هذا الباب يريد أن يقول: إن الإرجاء قديم جداً في القرن الأول الهجري؛ لأنه يذكر عن أبي وائل وحماد بن أبي سليمان ، وكل هؤلاء من أبناء القرن الأول الهجري.
قال: [عن المغيرة قال: لم يزل في الناس بقية -أي: بقية خير- حتى دخل عمرو بن مرة في الإرجاء، فتهافت الناس فيه].
و عمرو بن مرة هو المرادي ، وكان رجلاً عابداً صالحاً أثنى عليه العلماء، وإنما عيب عليه دخوله في الإرجاء، حيث كان دخوله في الإرجاء فتنة عظيمة جداً لغيره، فمثله في علمه وفضله وصلاحه إن أظهر قولاً أو عمل عملاً فإنه يؤثر في اتجاه العامة.
فـعمرو بن مرة المرادي على جلالة قدره وعلو منزلته في العلم والعمل والزهد والعبادة والصلاح والتقوى دخل في الإرجاء، وكان قد بلغ منزلة في العلم والعمل لم يبلغها أحد في زمانه، فلما دخل في الإرجاء ظن العامة أن الإرجاء حق، فلما زلت قدم عمرو بن مرة المرادي في الإرجاء زلت بزلته أقدام كثيرة، ولذلك دائماً أهل العلم يقولون: زلة العالم بزلة عالم، ودائماً كلام وعمل أهل العلم محسوب عليهم.
وأنا لست من أهل العلم، وأحد ضباط الجيش كان صديقاً لي منذ أن كنا أطفالاً رضع، فهو ينظر إلى عملي ولا يسألني، ففوجئت بوالده -وهو بلدي- يقابلني في المنصورة، ويقول: يا شيخ حسن ! أريد أن أسألك سؤالاً وأرجو ألا تتحرج مني وأن تجيبني بصراحة، فقلت له: تفضل، قال: المرآة حلال أم حرام؟ قلت: المرآة حلال، ومن الذي حرمها؟ فسكت، قلت له: لابد أن تخبرني؛ لأن في بلادنا جميع أنواع البدع، فأريد أن أعرف من القائل، قال: إن هذا الكلام منقول عنك، قلت: منقول عني؟ قال لي: قاله ابني علي ، فقابلت علياً وهو عقيد في الجيش، يعني: أنه ليس بسيطاً، فقلت له: يا علي ! أنا حرمت المرآة؟ فاصفر وجهه، وقال: يا شيخ! أنا دائماً أدخل عندك وأنت تدخل عندي وعندما أدخل عليك لا أرى عندك مرآة قط، قلت: وهل يلزمني أن أضع المرآة في غرفة الضيوف؟ وأدخلته غرفة النوم وغرفة الأولاد وهنا وهنا، وقلت له: انظر، عد المرايا، بل الدولاب في غرفة النوم في داخله مرايا، حتى إذا لبس الشخص الملابس لا يتكلف الذهاب إلى مرآة أخرى. فهذا حرم المرآة على أهل بيته؛ لأنه لم يسأل، وإنما رأى أن أحداً ممن يظنه من أهل العلم لا يوجد عنده مرآة، فظن أنها محرمة، ودائماً العلماء يقولون: العامة يتورعون في الحلال والحرام، وأما أهل العلم فيجب أن يتورعوا في باب المباح؛ لأن الناس ينظرون إليهم على أنهم القدوة والأسوة والمثل الأعلى.
فينبغي على أهل العلم أن يحتاطوا دائماً في أقوالهم وأفعالهم، ويتورعوا عن المباح؛ مخافة أن يقع الناس فيما هو أعظم من ذلك وشر.
قال: [قال أيوب: أنا أكبر من المرجئة، يعني: أنا أكبر من أن أصاحبهم وأجالسهم وأتكلم فيهم.
وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: الحسن بن محمد بن علي أمه جمال بنت قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف بن قصي أول من تكلم في الإرجاء.
وقال مسعر : رأيت مسلم البطين يهجو المرجئة، يعني: يقول فيها شعراً يذمها، فقلت له: سبحان الله!
وقال عبد الله بن نمير: سمعت سفيان وذكر المرجئة، فقال: رأي محدث أدركت الناس على غيره]، رأي محدث، أي: مذهب المرجئة مذهب محدث، رأيت الناس -أي: سلف الأمة- على غير هذا.
قال: [قال الحسن بن وهب الجمحي: قدم علينا عبد العزيز بن أبي رواد وهو شاب يومئذ ابن نيف وعشرين سنة -وكان من العلماء الصالحين جداً ومن العباد والثقات الأثبات في الرواية- فمكث فينا أربعين أو خمسين سنة لا يعرف بشيء من الإرجاء -يعني: لا أحد يعلم عنه أي خلل في اعتقاده- حتى نشأ ابنه عبد المجيد -يعني: حتى أنجب ولداً أسماه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد -فأدخله في الإرجاء]. فأخذ الولد بناصية أبيه إلى الضلال، وأحياناً يكون الولد نقمة على والديه وعلى المجتمع بأسره، وأحياناً يكون نعمة. قال: فكان أشأم مولود ولد في الإسلام على أبيه. انظر إلى كلام العلماء، أشأم مولود ولد في الإسلام عبد المجيد بن عبد العزيز بن رواد ؛ لأنه قاد والده إلى الضلال، فبعد سبعين سنة من العبادة والعلم والرواية للأحاديث والسنة يدخله ولده في الضلال، فصنف في فرق الضلال بعد أن كان إماماً من أئمة السنة.
وقيل لـمالك بعد أن ذكر عنده عبد المجيد : أتعرفه؟ قال: نعم، ذاك الذي أدخل أباه في الإرجاء؟ قالوا له: نعم، وبعض أهل العلم دخل الإرجاء ثم خرج منه.
أسأل الله تعالى أن يعصمنا وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وأصلي وأسلم على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
الجواب: المؤمن أو الحر تكفيه الإشارة، والعبد يقرع بالعصا، وربما لا تنفع معه العصا، فالحر المؤمن الواعي يكفيه أن تقرع سمعه بقال الله وقال رسوله، والله تعالى يقول: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقال الله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2]. فالإمساك دائماً -أي: الإبقاء على الزوجة دائماً- يكون بالمعروف، ولما سئل معاوية بن حيدة النبي عليه الصلاة والسلام عن حق الزوجة بقوله: (ما حق امرأة أحدنا علينا يا رسول الله؟! قال: أن تعاشرها بالمعروف، وأن تطعهما مما تطعم، وتلبسها مما تلبس، وتسكنها مما تسكن، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح). وفي حديث جابر في صحيح مسلم في حجة الوداع ذكر هذه الحقوق كذلك، فقال: (ولكم عليهن ألا يأذن في فرشكم لأحد تكرهونه)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (النساء شقائق الرجال). فكل هذه النصوص تبين أنه يلزم الرجل أن يعامل امرأته بالمعروف، كما يجب على المرأة كذلك أن تعامل زوجها بالمعروف وحسن الخلق، فمن تنكب هذا فإنما يتنكب طريق السنة والهداية، وآثر سوء الخلق على حسن الخلق، وربما يكون المشكو منه موجوداً معنا. فأسأل الله تعالى أن ينتفع بهذه الكلمات.
الجواب: الشريعة حضت على كثرة الولد، ولذلك أوصى النبي عليه الصلاة والسلام بنكاح الولود الودود، وقال: (إني مباه بكم الأمم يوم القيامة)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: يأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي ومعه الفئة، ويأتي ومعه العشرة، ويأتي ومعه الاثنان، ويأتي النبي وليس معه أحد، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة. فالإكثار من الأولاد سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
الجواب: ليس على هذا المال زكاة؛ لأن هذا المال لم يبلغ النصاب.
الجواب: لا أعرف كتباً خاصة في مثل هذا، ولا يخلو الأمر من إخراج كتب، وهذا يوجد في شروح النصوص المتعلقة بمعرفة القبلة، وجهة القبلة في بلاد المشرق أن يقف الإنسان ووجهه جهة الشمال ويده اليسرى جهة طلوع الشمس ويده اليمنى جهة الغروب ثم يميل بزاوية خمسة وأربعين درجة جهة الشمال.
الجواب: أنت غير ملزمة بالبحث والتنقيب عن مثل هذا، ويكفي أنه يصلي، وأما كونها تذهب معه أو تذهب وراءه إلى العمل وتسأل زملاءه هل يصلي أو لا يصلي وتسأل الجيران وغير ذلك فهي ليست مطالبة بهذا، وأما كونه يتصنع لها الصلاة أو يصلي لأجلها فهذا أمر لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولذلك نحن مأمورون بإجراء الأمور على الظاهر والله تعالى يتولى السرائر.
وهناك كثير من الإخوة يسألون أسئلة لا ينبني عليها عمل، وهذا باب من أبواب التنطع، فمثلاً أحدهم يسأل ما اسم أم موسى؟ وما له وأم موسى؟ فهو لن يسأل عنها يوم القيامة، ولو عرف أن اسمها زليخة أو زينب أو فاطمة فما الداعي لهذه المعرفة؟ وهناك من يسأل وهو مهتم وحزين ومغموم وسيموت كمداً إن لم يعرف اسم كلب أصحاب الكهف، مع أنه مطالب بالإيمان أن هؤلاء الناس الطيبين كان معهم كلب فقط، وليس مكلفاً بمعرفة اسمه، ومع ذلك فهو مغموم بشدة وحزين ومستاء غاية الاستياء، وقد وضع في رأسه هم الدنيا لمعرفة اسم الكلب!
الجواب: أنصح الإخوة ألا يقرءوا نهائياً في العقيدة في كتب الأزهر؛ لأنها عقيدة الأشاعرة، وهي بلا شك عقيدة فاسدة.
الجواب: الحجة كتاب الله عز وجل وسنة النبي عليه الصلاة والسلام وفعله، وفعل الصحابة والسلف إلى يومنا هذا، وليس هناك حجة أفضل من ذلك.
وأنا عندما تكلمت في مؤتمر مسجد العزيز وعلقت تعليقاً سريعاً عن تعدد الزوجات استاء الناس مني، ومن سوء الأدب الشديد جداً أن يتكلم رجل في مسألة فيتلقفها المستمع ويؤولها حسبما يراه، فأنا عندما تكلمت في مؤتمر العزيز عن الطلاق وأنه شريعة الله عز وجل قلت: الطلاق الأصل فيه المنع والحظر، وبينت بالدليل أن الأصل في النكاح الدوام والاستمرار والطلاق طارئ عليه، وهو استثناء له من البقاء، ولذلك لا يصار إليه إلا لعلة، وبعد استنفاد الوسائل المشروعة في قيام البيت، وكما يقال: آخر الدواء الكي، أي: أننا لم نتزوج لنطلق، وإنما تزوجنا لنستمر، ويقطع هذا الاستمرار علة قوية لا ينفع معها البقاء.
فلابد من اختيار الزوجة على أصل سليم، وتربيتها على كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وتعليمها وتثقيفها بأمر دينها وحق زوجها، ولو دفع ما دفع من المهر.
وليست هذه هي القضية، وإنما القضية الآن أن البيت الواحد الذي يعيش في مستوى الدون يصرف أهله في اليوم عشرة جنيهات، أي: ثلاثمائة جنيه في الشهر، وممنوع أن يطرق الضيف الباب؛ لئلا تختل الميزانية.
فلا يصح أن أقول لشخص دخله مائتي جنيه في الشهر وهو متزوج وعنده ثلاثة أو أربعة أولاد يفطرون فولاً ويتغدون فولاً ويتعشون فولاً: إن عليك الزواج مرة أخرى، ولو لم تتزوج فأنت آثم ومكذب للقرآن والسنة. وبعض الناس كتب كتباً يقول فيها بوجوب تعدد الزوجات، وعندما يقرأ شخص هذه الكتب يتزوج حتى ينجو من الإثم، ثم يتابع الزواج بعد ذلك، ثم يفاجأ بواقع مرير، فهو يتقاضى مائتي جنيه أو ثلاثمائة أو حتى خمسمائة جنيه، وهذا المبلغ لا يقيم بيتاً، ولو افترضنا أن هذا يقيم في بيت وعنده أربعة أولاد في المدرسة، وكل ولد مصروفه في كل يوم نصف جنيه في المدرسة، واثنين أو ثلاثة جنيه للإفطار فهذا المبلغ لن يكفي الأولاد عشرة أيام في الشهر، فإذا تزوج امرأة أخرى فكيف سيصنع معها ومع أولادها ومع استئجار بيت لها. ويعلم الله عز وجل أنني دائماً أنصح من يريد الزواج والظروف تسمح له بذلك بالزواج.
ولا يحل للشخص المدين والمغرق في الدين الزواج.
والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا معشر الشباب)، والمعلوم من الخطاب لأول وهلة أنه للزواج الأول، فلم يقل له: يتوكل على الله إذا كان ليس له دخل، ولم يقل له: اذهب وتزوج صاحبة المغزل كما في الحديث الموضوع الذي يحتجون به، فإذا كانت الباءة والقدرة عليها مشروطة في الزواج الأول فمن باب الأولى أن تكون مشروطة في الأنكحة المتعاقبة أو المتعددة.
وأقسم بالله العظيم أن هناك اثنين وعشرين بيتاً مسجلين عندي في دفتر الذي انهار منهم قد انهار والذي لم ينهر على وشك الانهيار؛ بسبب أنه صدق بوجوب التعدد، وهناك شخص يعيش أصلاً على أموال الصدقات والزكوات وينتظر الصدقة من الناس، ثم فوجئت بأنه تزوج الثانية، فلما نصحناه قال: أبو الأشبال يحارب التعدد، وهو الآن بصدد طلاق امرأتيه، وهذا مثل شخص من أصحابنا تزوج امرأة واختلف معها فقال: لابد أن أؤدبها وآتي بامرأة أخرى، فاتفقتا، فتزوج الثالثة فاتفقن على غير قياس، فتزوج الرابعة فاتفقن على غير قياس، فترك الأربع وذهب إلى أمه.
وهناك أمثلة كثيرة جداً من المحيط الذي نعيش فيه، وأصحابه يندمون ندماً كبيراً جداً. وقوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، هذا في النكاح الأول. والفقير هو الذي له دخل لا يكفيه، وهو درجات، فذكر في الآية أنهم فقراء، وليس معنى ذلك أنهم معدمون مساكين ليس لهم شيء، بل إن لهم دخلاً، فالله تبارك وتعالى يغنيهم إن شاء الله من فضله، هذا في الزواج الأول، وزواج الثانية والثالثة والرابعة لمن كان غنياً يقدر أن يفتح بيتاً واثنين وثلاثة وأربعة، والزوجة الواحدة لا تكفيه، وكانت حاجته إلى النساء شديدة، فله أن يتزوج، وأي إنسان مجنون وليس عاقلاً فقط يقول له: يتزوج.
والإمام أحمد بن حنبل لم يتزوج المرة الأولى إلا في سن الأربعين حرصاً على طلب العلم، ولا زلت أسمع أهل العلم وآخرهم الشيخ الألباني عليه رحمة الله يقول: لا أحب تعدد الزوجات لطالب العلم حرصاً على طلب العلم، وأنا أقول هذا الكلام، وأقول: إذا غلب على ظنك أنك لا تعدل بين الزوجتين لم يجز لك تعداد الزوجات، فهذه كلها قيود وشروط.
وهذا الذي يدعو إلى تعدد الزوجات يذكر الأمر بغير هذه القيود والشروط، وأنت إذا أردت التكلم عن هذه المسألة فعليك أن تأخذها من جميع جوانبها وشروطها وقيودها، فإذا سمعها شخص قال: أنا لست من أهل التعدد، فأنا أحب امرأتي جداً جداً جداً، ولا يمكن أن أستغني عنها، ويغلب على ظني أني لو تزوجت مرة أخرى فسأظلمها، ولو سمعها رجل فقير جداً لقال: يكفيني واحدة فقط، ويعرف أنه ليس من أهل التعدد. وأما الكلام عن التعدد وأنه جميل وحسن، والذي لا يتعدد يكون آثماً، فهذا يعني أنه أباح التعدد بغير قيد ولا شرط، فهذا الذي نستاء منه، ودائماً أقول: لابد إذا تكلمنا في مسألة تتعلق بدين الله عز وجل أن نذكر بأمانة الشروط والقيود المتعلقة بهذا الأمر.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر