وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
إن الإسلام قد احترم المال من حيث أنه عصب الحياة، واحترم ملكية الأفراد سواء كانت امرأة أم رجلاً، وجعل حقهم فيه حقاً مقدساً لا يحل لأحد أن يعتدي عليه بأي وجه من الوجوه؛ ولهذا حرم الإسلام السرقة والغصب والاختلاس والخيانة والربا والغش والخداع والرشوة، والتطفيف بالكيل والوزن، واعتبر كل مال أخذ بغير سبب مشروع بمثابة أكل للمال بالباطل.
وشدد الإسلام في السرقة، فقضى بقطع يد السارق التي من شأنها أن تباشر السرقة، وفي ذلك حكمة بينة، إذ إن اليد التي امتدت إلى أموال الناس بغير حق هي كالعضو المريض في البدن يجب استئصاله وإلا فسيضر بالبدن كله، وبهذا تحفظ الأموال وتصان، كما قال الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38].
أما الحكمة في تنزيل العقوبة في السرقة وتشديدها دون غيرها من جرائم المال كالغصب والاختلاس والربا والغش والتلاعب بالكيل والوزن وغير ذلك، فكما قال النووي نقلاً عن القاضي عياض وقد ذكرناه في الدرس الماضي: (أن الله تعالى جعل ذلك صيانة للمال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك غير السرقة كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة؛ ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور). يعني في بقية أنواع أخذ المال بغير الحق كالغصب والنهبة.. وغير ذلك، بإمكان ولي الأمر أن يسترد هذا المال من الغاصب أو المنتهب لصاحب المال.
ولـابن القيم كلام عظيم جداً إذ يقول: وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم، وترك قطع المختلس والمنتهب والغاصب فمن تمام حكمة الشارع أيضاً.
قال القاضي: (فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز). يعني: أنه يخرم الديار خرماً سواء كانت جُدُراً أم أسقفاً.. أم غير ذلك، كما أنه يهتك الحرز بهتكه أو كسر القفل أو غير ذلك، ولا يمكن لصاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فيضع صاحب البيت متاعه في حرز داخل بيت، فيأتي السارق يكسر باب البيت ثم يدخل فيكسر باب الحرز، فماذا يصنع صاحب المال أكثر من ذلك؟ فقد حرز ماله، ومع هذا دخل السارق خلسة وبعد أن انتهك هذه الحرمات كلها في الطريق إلى إيقاع السرقة أو إلى أخذ المال فإنه حينئذ لا يمكن الاحتراز منه، بخلاف بقية الأنواع فيمكن الاحتراز منها؛ ولذلك شدد الشارع جداً فيما يتعلق بسرقة المال على جهة الخصوص.
أما تعريف السرقة فقد قال العلماء هي: أخذ الشيء في خفية. وفي القاموس: السرقة والاستراق: المجيء متستراً لأخذ المال -أي: لأخذ مال الغير- من حرز. وهذا تعريف أشمل وأعم من الأول، والتعريف الثالث هو تعريف ابن عرفة قال: السارق عند العرب هو: من جاء مستتراً.
فالشرط الأول: من جاء في خفية. إذاً: الشرط الأول في تحقق أن هذه الحادثة سرقة يجب فيها إقامة الحد: أن يأتي السارق خفية.
الشرط الثاني والثالث: أن يأخذ مال الغير من حرز.
ومن تعريف المصطلح الشرعي بأنه كيت وكيت وكيت، لابد أن نستنتج من هذا التعريف شروط المعرف، فإذا قلت: السرقة هي أن يأتي السارق خلسة أو خفية أو مستتراً ليأخذ مال الغير من حرز، فأقول: هذا التعريف بيَّن لي شروط السرقة التي تستوجب إقامة الحد، ومنها: أن يأتي السارق خلسة، فلو دخلت بهيمة بيتك؛ وكسرت الباب ثم كسرت القفل وأكلت الأوراق ولم تعلم بها إلا وهي خارجة من البيت، فهل يقام عليها الحد؟
الجواب: لا يقام عليها الحد؛ لأنها ليست سارقة، فمن شروط السرقة: أن يدخل السارق خلسة، إذاً: الشرط الأول منعدم هنا.
مثال آخر: شخص لم يأت بيتاً متستراً، وإنما دخل وهو شاهر سيفه، وقال: أعطني مالك وإلا قتلتك، فهذا إما غاصب وإما صائل باغ ظالم معتد، فهذا تطبق عليه حدود أخرى لا حد السرقة.
إذاً: لابد أن يأتي السارق خلسة ليأخذ مال الغير، فلو فرضنا أنه أتى خلسة، ولكنه يعتقد أن المال الذي سيأخذه هو ماله الشخصي، وأن هذا الرجل الذي أخذ منه المال، إنما سرقه أو اختلسه أو غصبه، وذهب ليسترد هذا المال عنوة، ولكنه ذهب متستراً متخفياً لغلبة الظن أنه لا يحصل على ماله إلا بهذا الطريق، إذاً: هذا الرجل أخذ مال الغير، وفي نظره أنه يأخذ ماله، مع أنه هناك طرق أخرى مشروعة لأخذ ماله واسترداده، لكن ألا تعدون أن هذه شبهة؟ بلى. وأنتم تعلمون أن الحدود تدرأ بالشبهات، فهو يقول: أنا لست سارقاً، لكن الشرع يعده سارقاً؛ لأنه دخل خفية، وأخذ المال من حرز، وهو مقر بأنه أخذ المال من حرز، لكنه لا يقام عليه الحد، لم؟ لأن هذا المال الذي أخذه ليس مال فلان، وإنما هو ماله؛ ولذلك الإمام الشافعي كان يسمي هذا السارق السارق الظريف؛ لأنه إذ إنه إذا أقيمت عليه الحجة، وثبتت عليه السرقة وقدم للقطع قال: هذا المال مالي، فبعد أن كانت عليه الدفة كلها حولها إلى خصمه المسروق. قال: هذا المال أخذه مني عنوة، وأنا أردت استرداد مالي الذي أخذه مني عنوة، فالإمام الشافعي يسميه السارق الظريف، ويدرأ عنه الحد بهذه الشبهة.
إذاً: السرقة هي: أخذ مال الغير، وأن يكون هذا الأخذ على جهة التخفي والاستتار، وأن يكون المال محرزاً، فإذا فقد أي شرط من هذه الشروط فلا تعد القضية مطروحة على القضاء سرقة، ولكنها تدخل تحت باب آخر؛ ولهذا لا يعتبر الخائن ولا المنتهب ولا المختلس سارقاً ولا يجب على واحد منهم القطع، وإنما يجب التعزير.
وضربت لك في الدرس الماضي مثلاً بإنسان قد عملت عنده، وقد حرز ماله في المحل، وهذا من جهة العرف حرز؛ لأن العرف هو الذي يحكم ما إذا كان هذا حرزاً أم لا، فالحرز هو: ما يمكن حفظ الشيء فيه عرفاً. إذاً: العرف هو القاضي على كثير من المصطلحات الشرعية، كالسفر مثلاً، العرف هو القاضي بما إذا كان هذا سفراً أم لا، فإذا قال العرف: هذه المسافة مسافة سفر وإن قلت عن (80) كيلو فللمسافر فيه أن يستخدم الرخصة، وإن بعدت عن (100) كيلو ولكن العرف لا يعدها سفراً فلا يحل لواحد أن يستخدم فيها الرخص، فالعرف يقضي على كثير من المصطلحات الشرعية، وذلك إذا كانت مما يختلف باختلاف الزمان والمكان.
الجواب: اختلف الفقهاء في حكم ذلك، فجمهور العلماء قالوا: لا يقطع من جحد العارية؛ لأنه لم يأخذها في خفية ولم يذهب متستراً، إنما صاحب المال هو الذي أعاره واستأمنه على هذا الشيء، والقرآن والسنة أوجبا القطع على السارق، وليس جاحد العارية بسارق.
وذهب الإمام أحمد وإسحاق وزفر والخوارج وأهل الظاهر: إلى أنه يقطع؛ لما جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده)، انظر الكلام الجميل! المتاع يكون عندها فإذا طولبت به قالت: ما أخذت من أحد شيئاً، وهذا جحود.
قال: (فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها
فبعض العلماء يقولون: هذا الحديث الذي فيه الزيادة: (هذه الزيادة التي فيها: أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بقطعها) حديث شاذ وإن كان في مسلم . وهو الباب الثاني في كتاب الحدود.
والبعض يقول: هذا الحديث ليس شاذاً، وإنما أخبر الحديث أن هذه المرأة كان من صفاتها وأخلاقها أنها تجحد العارية، فذكروها بأحد صفاتها الذميمة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها لا لكونها كانت تجحد العارية، وإنما لسبب آخر وهو السرقة؛ ولذلك أورد مسلم هذا الحديث بهذه الزيادة: (أنها كانت تستعير المتاع وتجحده) ضمن الحديث من طريق واحد، فالحديث من عدة طرق ليس فيه هذه الزيادة؛ وذلك ليبين أن الحديث إن ثبت على هذا النحو وبهذه الزيادة فالمقصود به: ذكر إحدى صفات المرأة، لا أنها قطعت لأنها تجحد العارية، وإنما قطعت لسبب آخر قد ورد في بقية طرق الحديث عن المرأة المخزومية، وقد صرح الرواة بأنها امرأة مخزومية سرقت، فالقطع ليدها كان لأجل السرقة لا لأجل أنها كانت تجحد العارية.
والشاهد من هذا الباب كله: أن جاحد العارية قد اختلف فيه العلماء، والذي يترجح لدي أن جاحد العارية وإن كان ظالماً وآثماً يعزر ويحمل على رد العارية إلى صاحبها إلا أنه لا يقطع.
وفي الحقيقة الطب تجارة من التجارات عند جميع العاملين به إلا من رحم الله عز وجل، ومن بر واتقى وعلم أن هذه أمانة هو مسئول عنها بين يدي الله عز وجل، وقليل ما هم، فعامة الأطباء -خاصة الجراحون منهم والجراحات- قد اتخذوا تجارة الأعضاء بضاعة سائغة؛ رائعة لتحقيق عرض من أعراض الدنيا وهو زائل لا محالة، واستندوا في ذلك إلى فتوى لبعض من ينتسب إلى أهل العلم، وهذه الفتوى لا علاقة لها البتة بهذا الإجرام الذي يتم في المستشفيات، ونحن لا نميل إلى هذه الفتوى قط، فالمرء لا يجوز له التبرع ببعض أعضائه حتى وإن كان ذلك بعد موته.
والأطباء المتخصصون يقولون: إذا مات الميت وبرد جلده فإنه لا ينتفع منه بجزء من أجزاء بدنه، بل لابد أن يؤخذ الجزء المراد من بدن الميت قبل الموت ولو بلحظة، يعني: لا ينتزع إلا العين أو الكلى؛ لأن هذين هما العضوان اللذان يعملان بشكل جيد، فيؤخذ هذان العضوان من الرجل إذا غلب على ظن الطبيب أنه سيموت.
وقد حدثني طبيب في مستشفى القصر العيني بأن مشاجرة عظيمة جداً تمت بين طبيبين كبيرين في غرفة العناية المركزة، إذ دخل شخص العناية المركزة فاحتجزه الطبيب وهو يقول: هذا لي، يعني: لا يحل لأحد من الأطباء أن يأخذ منه شيئاً؛ لأنه هو الذي سيأخذ منه، فقام الطبيب الآخر في غياب الطبيب الأول بأخذ الكليتين، ومات الشخص ولابد أن يموت، وهذا يسمونه الموت الطبي وليس الموت الشرعي.
فهذا المريض حياته (90%) ميئوس منها، فيقولون: إذاً: ننتفع منه بما يمكن الانتفاع به.
ونحن نذكر بدر الدين العيني الإمام الكبير شارح البخاري ، وكان صاحب قصر، وكان من علماء الدنيا في زمانه، فسمي القصر باسمه؛ لأن القصر كان ملكاً له، وكان هذا الرجل فوق الأمير وفوق السلطان، إذ كانت الدنيا تدار بأمره، وكانت إليه الرحلة في زمانه، وقد اتخذ هذه الدار لسكن الطلاب الذين يأتونه من آسيا وأفريقيا وغيرها من بلاد العالم ليتعلموا العلم على يديه، وله كتاب عظيم جداً في شرح صحيح البخاري اسمه عمدة القاري، وهو أعظم من الفتح للحافظ ابن حجر في باب، والفتح للحافظ أعظم منه في باب آخر، أما القبول فهذا رزق من الأرزاق، فكتاب عمدة القاري لا يستغني عنه عالم قط، ولا يستغني عنه من له عناية بصحيح البخاري وبعلم الحديث كله، وللأسف الشديد هذا المكان المبارك الذي بدأ بإيواء أهل العلم في العالم كله على ضفاف النيل صار مكاناً لسرقة الأعضاء وبيعها في سوق النخاسة.
وعوداً على بدئ فقد جرى في شأن النباش الخلاف بين أهل العلم، وهو الذي يسرق أكفان الموتى، فذهب الجمهور إلى أن عقوبته قطع يده؛ لأنه سارق حقيقة، والحرز هو القبر؛ ولأنه في الغالب يأتي خلسة وخفية ويسرق مال الغير. والكفن مال مملوك للغير، وبعضهم نازع وقال -كالأحناف والأوزاعي والثوري : لا عقوبة عليه إلا التعزير؛ لأنه نباش وليس سارقاً، فلا يأخذ حكم السارق؛ ولأنه أخذ مالاً غير مملوك لأحد؛ لأن أولياء الميت لا يزعمون أن هذا الكفن ملكاً لهم، كما أن الميت لا يملك، فهذه الشبهة درأت الحد عن النباش، وينبغي تعزيره وزجره حتى ينزجر أمثاله.
أولاً: أن يكون مكلفاً. السارق يجب أن يكون إنساناً بالغاً عاقلاً مكلفاً، والعاقل احتراز من المجنون؛ لأن المجنون لو سرق فإنه ليس أهلاً للتكليف ولا محلاً له؛ ولا يشترط فيه الإسلام؛ لأن الذمي إذا سرق حُد، والمرتد كذلك.
الشرط الثاني: الاختيار. وهذا احتراز من الإكراه.
الشرط الثالث: ألا يكون للسارق فيما سرق شبهة، كشبهة الملك مثلاً، كما قلنا في الدرس الماضي: لو أن أباً سرق مال ولده فإنه يدفع الحد عنه بقوله عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك) فهذه شبهة، وكذلك لا يقطع الابن بسرقة مال أبيه، ولا يقطع السيد بسرقة مال العبد إذا كان للعبد مال؛ لأن الابن في الغالب يتبسط في مال أبيه وأمه، فكما لا يقطع الأب في مال الابن كذلك لا يقطع الابن في مال أبيه.
الجواب: منهم من قال: إذا بلغت قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم فأكثر يحد. ومنهم من قال: لا يحد للشبهة.
قالوا: لأن كتاب الله تعالى لكل شخص فيه الحق، وهذا قد أخذ المصحف الذي له فيه بعض الحق، فلو أتى إليك السارق وقال لك: لا، أتحدني على المصحف؟ صحيح أن المصحف يباع بـ(50) جنيهاً ففيها حد السرقة، لكن المصحف هو كلام الله عز وجل، وقد أخذته لأنتفع به، باعتباري أنني مسلم ولي فيه الحق؛ ولذلك لم يختلفوا على حد الذمي إذا سرق مصحفاً تبلغ قيمة أوراقه نصاب السرقة، بخلاف المسلم. قالوا: المسلم فيه شبهة.
قال: (ولا يقطع من سرق من المدين المماطل في السداد) يعني: أنت عليك دين لي، وأنا لا أستطيع أن آخذه مع أنك موسر ولست معسراً، لكنك مماطل، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم)، والعلماء يعرفون الغني: بأنه من ملك مبلغ الدين. يعني: ليس شرطاً أن يكون مليونيراً، لا فأنت عليك عشر جنيهات لي، وهي معك؛ فيجب عليك دفعها لي فوراً؛ لأن هذا مالي أنا، فإذا لم تدفعها إلي كنت مماطلاً في نظر الشرع، فلو أني أخذت هذا المال منك سرقة باعتبارك مديناً غنياً ومماطلاً فلا يجب في ذلك إقامة حد السرقة؛ لأن ذلك استرداد للدين وإن كان الأولى ترك ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)، فهذا وإن كان خائناً فلا تحملك خيانته على أن تخون أنت كذلك.
مثال ذلك: أنا أعلم أنك سرقت مال زيد ولا تملك إلا المال المسروق، فقمت أنا عليه فسرقته، وبعد ذلك تقول لي: تعال! أنت سارق وينبغي أن تحاسب. أقول لك: لا. أنا سرقت من سرقتك أنت، فهذا المال ليس مالك؛ لأنه ينبغي أن تكون أنت مالكاً له، وهذا المال الذي سرقته منك هو مال زيد وليس مالك، وأنا قد سرقته منك لأدفعه لزيد، فهذه شبهة بصرف النظر عن تحقيق ما إذا كانت الحادثة سرقة أم لا.
إذاً: الصفات التي يجب اعتبارها في السارق: أن يكون مكلفاً، أن يكون مختاراً، ألا يكون له فيه شبهة.
كما يجب أن يكون هذا المال مما يحل بيعه، فالخنزير لا يحل بيعه، حتى في دين النصارى لم يصح الإذن لهم بأكل الخنزير، وكذلك الكلب لا يجوز بيعه باتفاق، ولكن يجوز اقتناء كلب الصيد أو الحراسة أو الماشية، فالاقتناء شيء وشراء الكلب المأذون فيه شيء آخر، فلا يحل لأحد أن يبيع الكلب المأذون فيه شرعاً، فكلب الحرث والصيد والماشية يجوز اتخاذه واقتناؤه، ولكن لا يجوز شراؤه، فشراء الكلاب شيء، والإذن باتخاذ بعض أنواع الكلاب شيء آخر.
قال أشهب من المالكية: يقطع سارق الكلب المأذون باتخاذه، ولا يقطع في كلب آخر.
وقال أصبغ من المالكية في لحوم الضحايا: إن سرق الأضحية قبل الذبح قطع، وإن سرقها بعد الذبح لا يقطع. هذا كلام جميل جداً له مخارج، يريد أن يقول لك: أن سارق الأضحية قبل الذبح كالبهيمة أو الشاة أو البقرة أو الناقة تقطع يده؛ لأنه سرق الحيوان، وإذا سرقها بعد الذبح لحماً فإنه لا يقطع لوجود الشبهة، والشبهة هي أن ثلث الأضحية سيوزع على الفقراء، والثلث الثاني هدايا للأغنياء، فهذا السارق قد يعتبر نفسه من الأغنياء الذين لهم حق في الهدايا أو من الفقراء الذين لهم حق في الصدقة؛ فلا يقطع لوجود الشبهة.
وأما سرقة الماء والثلج والكلأ، فأنتم تعلمون أن الناس شركاء في الماء والثلج والكلأ؛ لأن هذه من الأموال العامة، ولكن للأسف الشديد تغير الزمان على البشر، حتى صاروا يبيعون الماء لبعضهم وبأغلى الأسعار، مع أن هذه أيها الإخوة من مسائل المروءات، وكذلك الهواء، فقد كان أصحاب إطارات السيارات وغيرهم عندما تعطيه مالاً مقابل نفخ الإطار يقول لك: أعوذ بالله! من الذي قال لك: أننا نبيع الهواء؟ إنه حق الله.
والآن الحكومة تبيع لك الماء والنور والهواء، فالماء بلترات معينة ولابد أن تدفع وإلا سيقطعون عليك الماء بواسطة العداد، بل حتى بعد قطع العداد لابد من الدفع.
أقول: فهل سرقة الماء والثلج والكلأ والملح والتراب فيها قطع؟
قال صاحب المغني ابن قدامة : وإن سرق ماء فلا قطع فيه؛ لأنه مما لا يتمول عادة. قال: ولا أعلم في هذا خلافاً. فالماء ليس له قيمة مالية معتبرة في الشرع؛ لأن الشرع جعل الخلق جميعاً المؤمن والكافر سواء في حقهم بالانتفاع بالماء، ومادام أن المسألة استقرت عرفاً صار هذا من المال العام الذي لا يحل أخذه إلا أن ينم ذلك عن سوء معتقد الآخذ.
إذاً: من الشروط التي يجب اعتبارها في المال المسروق: أن يكون مما يتمول ويملك ويحل بيعه وأخذه، بخلاف الخمر والخنزير، حتى لو كان المالك غير مسلم؛ لأن الله حرم ملكيتهما والانتفاع بهما، والمسلم والذمي على السواء.
وكذلك لا قطع على سرقة أدوات لا يجوز استعمالها عند عامة أهل العلم.
وهناك خلاف بين العلماء فيما يتعلق بتحديد النصاب، ومذهب جماهير العلماء -وهو المذهب الراجح الذي عليه الأدلة- أن يبلغ المسروق ربع دينار فصاعداً.
يُذكر أن أبا العلاء المعري عليه من الله ما يستحق قد اعترض على الشرع يوماً فقال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
دية اليد إذا قطعها إنسان أن يدفع (500) دينار، فـأبو العلاء المعري يقول: إذا كانت اليد ديتها (500) دينار فكيف تقطع في ربع دينار فقط؟
فهذا تناقض، ويقصد أن هذا التناقض مصدره الشرع، وهذا كفر بالله!
تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستجير بمولانا من العار
ولذلك رد عليه إمام السنة في زمانه الإمام الشافعي فقال:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
أي: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت فافهم حكمة الباري. فالحكمة في أنها تودى بـ(500) دينار؛ لأنها يد أمينة ينبغي المحافظة عليها، فإذا وقع عليها اعتداء فديناها بأعظم مبلغ (500) دينار، فلما تركت الأمانة وارتكبت الخيانة وهانت على نفسها وعلى صاحبها تقطع في أقل من ذلك وهو ربع دينار.
منهم من قال: وقت السرقة. ومنهم من قال: وقت القطع. والذي يترجح لدي: أن المال المسروق يقدر في وقت السرقة لا وقت القطع، خاصة في هذا الزمان، وهذا طبعاً على افتراض حسن النية وأن هناك حدوداً تقام بإذن الله؛ لأنك ربما تسرق الشيء اليوم وبعد (25) سنة يتذكر القاضي أن هناك قضية سرقة مطروحة عليه فيقضي فيها، فلا يكون في وقت القضاء والحكم والقطع لهذا المسروق قيمة ولا وزن.
أما مذهب الجمهور فإنه لا قطع إلا على من سرق مبلغاً يساوي النصاب في حقه هو. يعني: لو أن عشرة سرقوا دينارين ونصف، فإن نصيب كل سارق سيكون ربع دينار. إذاً: العشرة يحدون؛ لأن نصيب كل سارق في هذا المسروق قد بلغ النصاب على حدة، وهذا لا نزاع فيه، لكن النزاع قائم في الصورة الأولى التي ذكرناها.
فإذا سرق شخص من الدكان فقد سرق من حرز، أو سرق من الدار كذلك سرق من حرز، لكن يشترط أن يكون الدار بابها مغلق، وكذلك من سرق الماشية من الإسطبل، فالإسطبل يعد بالنسبة للدواب والحيوانات حرزاً.
والجرين هو الجُرن، وهو المكان الفسيح الذي يقوم المزارع أو الفلاح بحرثه أو بثمره، والعلماء يسمونه الجرين تصغير الجرن؛ لأن الجرن هو المكان الفسيح جداً، فحينئذ لو أن واحداً سرق من الزرع في سنبله وهو في الأرض فإنه لا يحد، لأن الأرض ليست حرزاً، ولو أنه سرق من الجرين أو من الجرن فإنه يعد حرزاً؛ فمن سرق من الجرين أو من الجرن مالاً أو ثمراً أو زرعاً يبلغ النصاب يقام عليه الحد.
والعلماء مجمعون على أن الإنسان حرز لنفسه، وقد كان العرب في القدم إذا أرادوا أن يخبئوا شيئاً خبئوه في أكمامهم، حتى أهل العلم أنفسهم كانوا يخبئون الدفاتر في الأكمام ويربطونها كما ورد في ترجمة الحافظ ابن حجر والإمام العراقي والزبيدي وغيرهم، كان الواحد منهم يضع الدفتر فيه مائة ألف حديث في كمه، ويربط عليها، ويأخذها من مصر القديمة إلى منطقة الإمام الشافعي، أو من منطقة الإمام الشافعي إلى منطقة المنيل حيث موطن الحافظ ابن حجر رحمه الله، فكان الواحد منهم يضع كتبه في كمه ويربطها ويجري إلى أن يصل إلى حلقة الشيخ، ففي هذه الحالة كان الواحد منهم يضع ماله في كمه، والآن أصبح عندنا جيوباً أمامية وخلفية وجانبية.
ويقال: فلان هذا شاطر. يعني: سارق، يشطر جيوب الناس بالمشطرة، وهي الموس أو السكينة أو الخنجر، ويخرج منها ما فيه ويذهب، والحد يثبت بالإقرار، أو بشهادة عدلين، ويتوقف على طلب المسروق، وهذا مذهب جماهير العلماء.
وقد جاءت السنة كذلك بمزيد من التنكيل والتقريع للسارق أنه إذا سرق علقت كفه المقطوعة المحدودة في عنقه، وإذا كان مجاهراً بسرقته ومعصيته فلا بأس أن يطاف به وقد علقت كفه في رقبته ويقال: هذا سارق لمال فلان.
يعني: هل السارق يضمن رد المسروق وقيام الحد عليه كذلك؟ الجواب: لا يضمن السارق المسروق إذا كان قد أنفقه، أما إذا كان بين يديه ضمن وحد. أي: إذا كان المال المسروق لا يزال في حوزة السارق رد إلى المسروق منه، وعوقب السارق بالحد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر