فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد:
كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات. الباب الأول وهو: (باب القسامة):
القصة باختصار: أن عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد ذهبا إلى أرض خيبر، فلما وصلا إلى خيبر تفرقا، وسار كل منهما في طريق، فإذا بـمحيصة قد وجد عبد الله بن سهل بن سعد بن زيد قتيلاً، فرجع أي: محيصة إلى المدينة وقبل أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أخاه حويصة ، وأخبر كذلك أخا القتيل واسمه عبد الرحمن بن سهل بن زيد. فهذه القصة فيها أربعة أشخاص: محيصة ، وحويصة ، وعبد الله ، وعبد الرحمن فذهبوا جميعاً -أي: الثلاثة- إلى النبي صلى الله عليه وسلم. [(فذهب
قال: [(أتحلفون خمسين يميناً فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم؟ قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد) أي: نحن لم نشهد القتل، وإنما بيننا وبين خيبر عهد وميثاق كما تعلم، وأهل خيبر يهود، واليهود أنقض الناس للعهود وأغدر الناس ولذلك نحن نتوقع أن يكونوا هم الذين قتلوا أخانا عبد الله بن سهل .
قال: [(قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد -أي: لم نر بأعيننا، ولم نشاهد القتل بأنفسنا- قال النبي عليه الصلاة والسلام: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً)] أي: يحلف اليهود خمسين يميناً فتبرأ ساحتهم من دم أخيكم. [(قالوا: وكيف نقبل أيمان قوم كفار)] هؤلاء يهود يا رسول الله وهم كفار فكيف نقبل أيمانهم وهم كفار [(فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عقله)] أي: دفع لهم الدية. ومعنى عقله. أي: ربط الإبل بعقلها في ساحة أولياء القتيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في القتل الخطأ: (وديته على العاقلة) والعاقلة هم أولياء القاتل؛ لأنهم يعقلون الإبل التي تدفع دية لأولياء القتيل، يعقلونها في ساحة أولياء القتيل، ولذلك سميت الدية على هذا النحو (عاقلة). لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام قوماً يأبون الحلف؛ لأنهم لم يشهدوا، ولم يقبلوا أيمان الآخرين؛ لأنهم كفار، فأراد أن يطيب خاطرهم بأن ساق الدية من عند نفسه عليه الصلاة والسلام.
فقوله: [(يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته)] البرمة هو: الحبل الذي يربط به الرجل، فيساق إلى ساحة القصاص.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته -أي: يأخذ هذا الذي أقسم أنه قاتل، من رقبته حتى يوضع في المكان الذي يقام عليه فيه الحد- قالوا: أمر لم نشهده ، كيف نحلف يا رسول الله؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم)] يعني: إما أن تحلفوا فتستحقوا، وإما ألا تحلفوا فيحلف اليهود فتسقط عنهم الدية والقصاص، وكذلك يبرءونكم من اليمين الذي لا يغلب على ظنكم أو لا تظنوا ظناً ينبني عليه العمل أنهم قد قتلوا أخاكم. [(قالوا: يا رسول الله! قوم كفار -أي: كيف نقبل أيمانهم- قال: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله)] أي: فدفع له الدية من عند نفسه.
[قال سهل: فدخلت مربداً لهم يوماً -والمربد: هو المكان الذي تربط فيه الإبل- فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها. قال حماد: هذا أو نحوه].
سهل بن أبي حثمة يقول: وأنا قد حفظت هذا الحديث حفظاً جديداً لا أخرم منه حرفاً. أي: أرويه كما لو أن الحادثة تمت الآن، فدلل على ذلك بأمارة وهي أن الإبل التي دفعها النبي عليه الصلاة والسلام دية لأولياء القتيل قد دخلت أنا مربدها فبعير أحمر منها رفسني رفسة أوجعتني، أو أصابتني، أو آلمتني.
حدثنا عمرو بن الناقد، حدثنا سفيان بن عيينة (ح) وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب -وهو ابن عبد المجيد الثقفي- جميعاً عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة بنحو حديثهم].
[حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي حدثنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار : (أن
وحدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار : (أن رجلاً من الأنصار من بني حارثة يقال له:
قال يحيى : فحدثني بشير بن يسار قال: أخبرني سهل بن أبي حثمة قال: لقد ركضتني فريضة من تلك الفرائض بالمربد]. والفرائض هنا: جمع فريضة، والفريضة هو الشيء المحدد بتحديد الشرع، فرض الله صلاة الظهر أربع ركعات. أي: حدد الله تعالى عدد ركعات الصلاة بأربع، وفرض الله عز وجل على كل مسلم رجل أو امرأة، عبد أو حر، كبير أو صغير، صدقة الفطر صاعاً من تمر، أو من بر، أو من شعير، أو من زبيب، أو من أكل، ففرض بمعنى حدد، وفرض الله عليكم الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، أي: حدد الله عز وجل لكم هذه الفرائض.
فقوله هنا: لقد ركضتني فريضة أي: بعير من الإبل المحددة لهذه الدية، وليس الفريضة بمعنى الهرمة كما في قوله تعالى: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68]، لا فارض بمعنى الهرمة، ولا بكر بمعنى الصغيرة، فهناك فارق بين الفارض والفريضة، فالفارض الهرم، والكبير، والعجوز، أما الفريضة فهي الشيء المحدد بتحديد الشرع، فهو يريد أن يقول: أن بعيراً من إبل الدية قد رفسني وركضني في موضع من بدني، وهذا الذي ركضني إنما هو من إبل الدية.
[وحدثنا حسن بن علي الحلواني حدثنا يعقوب -وهو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم المدني الزهري- حدثنا أبي عن صالح -وهو ابن كيسان المدني- عن ابن شهاب الزهري- أن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار أخبراه عن ناس من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن جريج]. انتهت أحاديث الباب عند الإمام مسلم .
وإجماع الأمة أن حديث (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) أصل من أصول الإسلام، وقاعدة عظيمة جداً من قواعد الأحكام وهو كذلك. وكان ينبغي أن يضم هذا الحديث عقب ذاك الحديث، لأن حديث القسامة على العكس تماماً من حديث البينة، فاليمين هناك على المدعي، والبينة على المدعي في حديث البينة، واليمين على المدعي في حديث القسامة، بل في القسامة اليمين على الطرفين، فهذا الحديث أي: حديث القسامة كالمتمم، والمكمل لقواعد الخصومات بين يدي القاضي فيما يتعلق بالأيمان، والديات، والقصاص، فكان ينبغي أن يكون هذان الحديثان في مكان واحد، وهما من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
(قال القاضي عياض : حديث القسامة أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ العلماء كافة من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار الحجازيين، والشاميين، والكوفيين، وغيرهم رحمهم الله تعالى، وإن اختلفوا في كيفية الأخذ بهذا الحديث، فهم متفقون ومجمعون على وجوب الأخذ بحديث القسامة).
وعن عمر بن عبد العزيز روايتان كالمذهبين). يعني: قال باعتبارها. والرأي الثاني: بعدم اعتبارها والأخذ بها. قال: (واختلف القائلون بالقسامة واعتبارها إذا كان القتل عمداً هل يجب القصاص بها أو الدية؟ فقال معظم الحجازيين: يجب القصاص. وهو قول الزهري وربيعة الرأي وأبي الزناد ومالك وأصحابه والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود. كل هؤلاء قالوا بوجوب القصاص إذا كان القتل عمداً. وهو قول الشافعي في مذهبه القديم، وروي عن ابن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز. قال أبو الزناد : قلنا بها وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفرون. يعني: قلنا: إن القصاص يجب في القسامة إذا كان القتل عمداً. قال: وإني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان). هذا المذهب الأول.
المذهب الثاني: قال: (وقال الكوفيين والشافعي رضي الله عنه في أصح قوليه: لا يجب بها القصاص وإنما تجب الدية).
ودليل الجمهور هو هذا الحديث، ولا دليل لمن أبطل القسامة، بل أدلتهم كلها شبهات مردودة مدفوعة فيكون الرأي الصحيح عندي هو القول بالقسامة مثل الرأي الثاني.
واختلف القائلون بالقسامة في كيفية تطبيق هذا الحديث أو هذا الحكم، فمنهم من قال: إذا كان القتل عمداً وجب القصاص وهم الجمهور. ومنهم من قال وهم الكوفيون أي: أصحاب الرأي وهم الأحناف، والشافعية في أصح القولين عنهم أنهم قالوا: (لا يجب القصاص بل تجب الدية. وهو مروي عن الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وعثمان الليثي، والحسن بن صالح.
وروي أيضاً عن أبي بكر وعمر ، وابن عباس، ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين).
قالوا: تجب الدية ولا يجب القصاص حتى لو كان القتل عمداً.
أما من الذي يحلف: (قال مالك والشافعي والجمهور: يحلف الورثة -يعني: كل من وجب له الإرث- ويجب الحق بحلفهم خمسين يميناً). ولو أن أولياء القتيل خاصة وهم الورثة حلفوا خمسين يميناً فقد استوجبوا واستحقوا صاحبهم -أي: القاتل- فإن عفوا عن القصاص فلهم الدية. وهذا الحديث فيه التصريح بالابتداء بيمين المدعي، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: (احلفوا خمسين يميناً)، فلم يطالبهم بالبينة، وإنما طالبهم بالقسم، فإذا أقسموا استحقوا صاحبهم وإلا حلف صاحبهم فبرأت ساحته، وهذا عند النكول عن القسم والامتناع، أما إذا أقسم أولياء القتيل أو الورثة فقد استحقوا حق صاحبهم.
قال الجمهور: (يحلف الورثة، ويجب الحق بحلفهم خمسين يميناً، واحتجوا بهذا الحديث الصحيح، وفيه التصريح بالابتداء بيمين المدعي وهو ثابت من طرق كثيرة صحاح لا تندفع.
قال مالك : الذي أجمعت عليه الأئمة قديماً وحديثاً أن المدعين -أي: أولياء القتيل- يبدءون في القسامة؛ لأن جنبة المدعي صارت قوية باللوث) أي: بالأمارات وشبه الدلالات، ولأنهم أصحاب دعوى ليسوا محل تهمة، وأعظم دليل على ذلك ما سماه العلماء هنا باللوث، واللوث هو الطي، واللي، والشر، والجراحات، واللوث عند الشافعي رحمه الله تعالى هو: شبه الدلالة.
واللوث في حديث القسامة: أن يشهد شاهد واحد على إقرار المقتول قبل أن يموت أن فلاناً قتلني. فهذا اللوث هو الشاهد الوحيد الذي يشهد بيمينه على إقرار المقتول قبل أن يموت، أو يشهد الشاهدان على عداوة بينهما أيضاً، وهذا لوث إيضاً، وهو شبه دلالة، أو إشكال أو أمارة أن القاتل هو فلان، للعداوة التي كانت بينهما أو تهديد منه له قبل أن يموت أو نحو ذلك، كما في قصة قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قتله غلام المغيرة بن شعبة أبو لؤلؤة المجوسي عليه لعنة الله لما طعن عمر ، قال عمر : من قتلني؟ مع أنه لم يقتل بعد. قالوا: غلام المغيرة أبو لؤلؤة. قال: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد رجل لم يسجد لله. أي: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد شخص مشرك. ثم قال: لقد هددني العلج آنفاً، والعلج: الغلام القبيح.
وقصة التهديد: أن غلام المغيرة لما جاء إلى عمر وهو أمير المؤمنين يشكو إليه الخراج الذي فرضه عليه مولاه وسيده المغيرة ، قال له عمر : كم تدفع؟ قال: ثلاثة دنانير. قال: ماذا تعمل؟ قال: أصنع الرحى، وأصنع كذا وكذا، فقال عمر : ما خراجك بكثير. يعني: لم يظلمك المغيرة. اصنع لنا رحى يا أبا لؤلؤة. فقال أبو لؤلؤة : سأصنع لك رحى تتكلم عنها العرب والعجم. فهذا كلام حمال يحمل على أني سأصنع لك رحى هي من الأعاجيب في الدنيا، يتمناها كل الناس، أو سأجعلك تدور في بركة دمائك، فلما طعن عمر من الغد قال: لقد هددني العلج آنفاً. يعني: قد أنفذ ما هددني به البارحة، ففهم عمر رضي الله عنه بسرعة الدلالة من كلامه السابق فكان فيها لوث.
(قال القاضي : وضعف هؤلاء رواية من روى الابتداء بيمين المدعى عليهم، قال أهل الحديث هذه الرواية وهم من أحد الرواة؛ لأنه أسقط الابتداء بيمين المدعي ولم يذكر رد اليمين؛ لأن الروايات كلها متفقة على أن الذي يبدأ اليمين في القسامة هو المدعي، ثم إذا نكصوا ونكلوا عن القسامة رد اليمين إلى المدعى عليه). يعني: تحول اليمين إلى المدعى عليه.
(ولأن من روى الابتداء بالمدعي معه زيادة، ورواياتها صحاح من طرق كثيرة مشهورة فوجب العمل بها ولا تعارضها رواية من نسي وقال: كل من لم يوجب القصاص واقتصر على الدية يبدأ بيمين المدعي، أو المدعى عليه إلا الشافعي وأحمد فقالا بقول الجمهور أن يبدأ بيمين المدعي فإن نكل ردت على المدعى عليه.
قال: (حتى تقترن بها شبهة يغلب الظن بها. واختلفوا في هذه الشبهة المعتبرة الموجبة للقسامة لها سبع صور).
قال القاضي : ولم يقل بهذا من فقهاء الأمصار غيرهما، ولا روي عن غيرهما، وخالف في ذلك العلماء كافة فلم ير أحد غيرهما في هذا قسامة.
واشترط بعض المالكية وجود الأثر والجرح في كونه قسامة). قالوا: من أجل أن ننفذ القسامة في هذا الباب لا بد من وجود الأثر أو الجرح.
(واحتج مالك في ذلك بقضية بني إسرائيل في قول الله تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة:73]. قالوا: فأحيا الله الرجل فأخبر بقاتله). لكن هذا استشهاد بعيد، وهذا تم من باب الإعجاز الحسي في بني إسرائيل، أما عندنا فيكفي الدليل العقلي.
(واحتج أصحاب مالك أيضاً بأن تلك حالة يطلبها غفلة الناس، فلو اشترطنا الشهادة وأبطلنا قول المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالباً). فالقاتل إنما ينتهز فرصة تفرد أو غياب المقتول عن أعين الناس، فيطعنه، أو يضربه، فلو أبطلنا قوله لأبطلنا أحكام كثيرة.
قوله: بأن تلك الحالة حالة يطلب فيها غفلة الناس، يعني: القاتل ينتهز فرصة غفلة الناس عن الإيقاع بالمقتول، فلو اشترطنا الشهادة وأبطلنا قول المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالباً. يريد أن يقول: لا بد من اعتبار قول المجروح: أن فلاناً هو الذي قتلني. أو أعان على قتلي، ولو قلنا: لا بد أن يشهد شاهدان أو أكثر فمعناه: أننا سنجعل قول المجروح هدراً، وأدى ذلك إلى إبطال الدماء غالباً.
يعني: من جانب القاتل أن القاتل ينتهز خلوة، فينقض على غريمه، فلو أن غريمه قال: قتلني فلان فلا بد من اعتبار القول؛ وإلا فسيؤدي عدم اعتبار قوله إلى إبطال كثير من الدماء.
الحجة الثانية: أن المقتول يغلب عليه في هذه الحالة الصدق؛ لأنه يعلم أنه مفارق لدنياه ذاهب إلى الآخرة فلا ينفعه إلا الصدق، ولا مصلحة له في أن يتهم فلاناً أو فلاناً ممن لم يضربه ولم يجرحه؛ ولأنه في حالة قرب من الله عز وجل ، فهو يتحرى ويتقرب بالصدق إلى الله عز وجل، ويتجنب الكذب والمعاصي، ويتزود البر والتقوى فوجب قبول قوله.
(واختلف المالكية في أنه هل يكتفي في الشهادة على قوله بشاهد أو لا بد من اثنين؟) فمنهم من قال: يكتفي على قول المجروح بشاهد. ومنهم من قال: لا بد من شاهدين. والصواب: أنه يكتفي مع قول المجروح وإقراره بشاهد واحد. والمجروح لو قال: قتلني فلان ولم يسمعه أحد فإن قول المجروح لا يصل إلى القاضي؛ إلا عن الذي يبلغ إقرار المجروح، فلذا يكفي في ذلك شاهد واحد.
وصاحب السيارة إذا أخذ شخصاً كان في الطريق، وقدر الله عليه بحادث فمات الراكب، فالقانون الوضعي يحمل صاحب السيارة المسئولية، هذا بخلاف القوانين الشرعية التي أمرتنا بالاعتصام، والتقارب، والتلاحم، والود، وغير ذلك.
(فقال مالك والليث والشافعي وأحمد وداود وغيرهم: لا يثبت بمجرد هذا قسامة، بل القتل هدر؛ لأنه قد يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محلة الطائفة الأخرى لينسب إليهم.
قالالشافعي : إلا أن يكون في محلة أعدائه لا يخالطهم فيها غيرهم، فيكون كالقصة التي جرت بخيبر، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة لورثة القتيل، لما كان بين الأنصار وبين اليهود من العداوة، ولم يكن هناك سواهم، وعن أحمد نحو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة والثوري ومعظم الكوفيين: وجود القتيل في المحلة والقرية يوجب القسامة، يعني: بمجرد وجوده في قرية العدو يوجب القسامة، والدية على العدو. ولا تثبت القسامة عندهم في شيء من الصور السبع السابقة إلا في هذه الصورة السابعة فقط؛ لأنها عندهم هي الصورة التي حكم فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة، ولا قسامة عندهم إلا إذا وجد القتيل وبه أثر.
قالوا: فإن وجد القتيل في المسجد حلف أهل المحلة، ووجبت الدية في بيت المال، وذلك إذا ادعوا على أهل المحلة. وقال الأوزاعي : وجود القتيل في المحلة -يعني: في الحي- يوجب القسامة وإن لم يكن عليه أثر، وروي نحو ذلك عن داود الظاهري ، وهذا كلام القاضي عياض رحمه الله والله أعلم).
قال مالك بن مغول كنت أمشي مع طلحة بن مصرف فصرنا إلى مضيق -يعني: إلى طريق ضيق لا يأخذنا جميعاً وإنما يتقدم أحدنا دون الآخر- فتقدمني ثم قال لي: لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمتك. وهذا يدل على جواز التقدم لمن كان كبير السن وإن كان على جهة الشمال.
وعن الفضل بن موسى قال: انتهيت -أي: وصلت- أنا وابن المبارك إلى قنطرة -أي: معبر طريق- فقلت له: تقدم. وقال لي: بل تقدم أنت. فحاسبته فإذا أنا أكبر منه بسنتين. والسلف كان بينهم من اللطائف أمر عجيب جداً. وأيضاً: لو كان التقدم من جهة اليمين مستقر عند السلف ولا شيء غيره لم يكن هناك حاجة إلى حساب السن، حتى لو كان أفضل منه في العلم، ولما لم يكن هذا مستقراً لدى السلف وأن التقدم على أنحاء كثيرة فكان أحدهما حين يتقدم على الآخر إما لعلمه، أو فضله، أو لمكانته ومنزلته، وأحياناً بعضهم يتقدم لسنه.
وانتهى الحسن بن عمارة وأبو حنيفة إلى قنطرة فقال أبو حنيفة للحسن : تقدم. قال الحسن : بل تقدم أنت، أنت أفقهنا، وأعلمنا، وأفضلنا، فالتقدم يكون لأهل العلم، والفقه، والفضل.
وقال يعقوب بن سفيان الفسوي : بلغني أن الحسن بن صالح وعلي بن صالح كانا توأمين، فنزل الحسن قبل علي فما تقدم عليه علي قط ولا تكلم في مجلس فيه الحسن احتراماً للحسن ، مع أن علي من الثقات الأثبات الفقهاء، وكلامهما مشهور بالعبادة، والزهد، والصلاح.
يعني: يريد أن يقول لك: لم يكن بينهما نصف ساعة. الحسن نزل من بطن أمه أولاً ومن بعده علي فهما توأمان، لكن علي يحفظ هذا التقدم في السن ولو كان نصف ساعة، وغير ذلك مما كان هو محل مفاضلة بين أهل العلم من السلف فليس بلازم أن تكون أنت على اليمين فيثبت لك الحق المطلق فربما يكون من كان على الشمال هو أولى منك بهذا الحق كأن يكون عالماً أو جواداً سخياً يجود على الناس وينفعهم وأنت لست كذلك، أو يكون والدك، أو عمك، أو جدك، أو معلمك أو مدرسك، أو غير ذلك فكل هؤلاء لهم الحق عليك في التقدم، وفي الشراب، وفي الكلام والمحادثة وغير ذلك، إذا وجدت واحداً من هؤلاء فقدمه على نفسك، وهذا من باب الأدب.
ونحن نعرف أن عبد الرحمن بن سهل بن زيد أخو القتيل، أما محيصة وحويصة فكلاهما ابن عم له، وابن العم ليس وارثاً ولا ولياً، إنما وليه عبد الرحمن، فـعبد الرحمن هو الوحيد الذي له الحق في أن يرث عبد الله وله الحق في أن يتكلم، فلما استخدم هذا الحق في طرح القضية وعرضها على النبي عليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (كبر)، لأن محيصة أصغر من حويصة ، فـحويصة هو الذي يتكلم أولاً، وإذا أراد محيصة أن يتكلم فليفعل بعد أخيه، أما عبد الرحمن فآخر من يتكلم؛ لأنه الصغير، مع أنه صاحب الحق الأول وهؤلاء لا حق لهم، فلما قدم النبي عليه الصلاة والسلام حويصة على عبد الرحمن إنما أمر بذلك؛ ولم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى بل سماع القصة، والنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يعرف القضية ما هي؟ وما هو الذي حصل؟ ليس في معرض تحقيق وتفصيل القضية، وإثبات الحق لفلان ونفيه عن فلان، أو اتهام فلان وثبوت الحق لفلان، وإنما يريد أن يفهم ما الذي حصل؟
فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما حرم عبد الرحمن من الابتداء بالكلام رغم أنه صاحب الحق في الولاية لمعرفة صورة القضية، لا لتحقيق الحق وإثبات التهمة، لكن إذا قلنا تكلم عن الحق ونحكم فيه بالدية أو القصاص أو غير ذلك فإن صاحب الحق عبد الرحمن، ويحتمل أن عبد الرحمن وكل حويصة في الدعوى ولكنه استشرفت نفسه بمساعدته، أو أمر بتوكيله وفي هذا فضيلة السن عند التساوي في الفضائل، ولهذا مظاهر كثيرة فإنه يقدم بها في الإمامة السن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فليؤمكم أقرؤكم لكتاب الله، فإن تساووا فأعملكم بالسنة، فإن تساووا فأكبركم سنا)، وفي رواي: (سلماً)، وهذا يدل على أن السن محل اعتبار في الشرع، وكذلك في ولاية النكاح من باب الندب، والاستحباب، لا من باب الفرض والوجوب، يعني: أريد أن أزوج ابنتي فاستحباباً وندباً وتأدباً أجعل الولاية لوالدي.
الجواب: أنه كان معلوماً عندهم، أن صورة الخطاب للعموم لكن المعلوم عند المخاطبين أن الذي سيحلف واحد منهم، وأما الآخران فابنا عم لا ميراث لهما مع الأخ، فاليمين تختص بالوارث، فأطلق الخطاب لهما، والمراد: من تختص به اليمين، أي: الذي تلزمه اليمين، واحتمل ذلك لكونه معلوماً للمخاطبين، كما سمع كلام الجميع في صورة قتله، وكيفية ما جرى له.
يثبت الحق قصاصاً كان أو دية بعد الحلف عليه، واختلف العلماء في ذلك: فمنهم من قال: قصاص. ومنهم من قال: الدية. ومنهم من قال: هدر لا قصاص ولا دية.
واعلم أنهم إنما يجوز لهم أن يحلفوا خمسين يميناً إذا علموا يقيناً أن فلاناً قتل ولا إشكال هنا، ويجوز لهم أن يحلفوا خمسين يميناً مع غلبة الظن مع القرائن الدالة كاللوث.
ولا يجوز لأحد أن يقسم هذه الأيمان في القسامة بمجرد الظن، أو الظن المجرد، بل لا بد من ظن مقترن بقرائن، أما مجرد الظن أو مطلق الظن فلا يستوجب اليمين، ولا يجوزها من باب أولى، وإنما عرض عليهم النبي صلى الله عليه وسلم اليمين إن وجد فيهم هذا الشرط، وليس المراد بالإذن لهم بالحلف من غير ظن، ولهذا قالوا: (كيف نحلف ولم نشهد).
أما قوله لما قالوا: (كيف نحلف ولم نشهد يا رسول الله، قال: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً)أي: ترد اليمين إلى الطرف الآخر وإن كانوا يهوداً فيحلفون خمسين يميناً، فإن فعلوا ذلك برئت ساحتهم بمجرد هذه الأيمان.
وقيل معناه: يخلصنكم من اليمين بأن يحلفوا فإذا حلفوا انتهت الخصومة، ولم يثبت عليهم شيء، وخلصتم أنتم من اليمين.
وفي هذا الحديث دليل لصحة يمين الكافر والفاسق، وهذا بخلاف الشهادة، فإنه يشترط فيها العدالة إلا في مواطن، أما القسامة فيصح فيها يمين الكافر ويمين الفاسق من باب أولى، وإنما وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعاً للنزاع، وإصلاحاً لذات البين، فإن أهل القتيل لا يستحقون إلا أن يحلفوا، أو يستحلفوا المدعى عليهم وقد امتنعوا من الأمرين. يعني: أهل القتيل قالوا: لا نحلف، ولا نقبل اليهود أن يحلفوا؛ فأراد صلى الله عليه وسلم جبرهم وقطع المنازعة وإصلاح ذات البين بدفع الدية من عنده.
أما قوله: (فوداه من إبل الصدقة) جمهور المحدثين على أنه وهم من الراوي؛ لأن مجموع الروايات تقول: إنما وداه من عنده، ومن عند نفسه. أي: من ماله الخاص عليه الصلاة والسلام، وربما جمعنا بين اللفظين أن هذا كان من مال الصدقة عامة، فلما وزع مال الصدقة اشتراه النبي عليه الصلاة والسلام من مالكه بعد توزيعه عليه، لأن بعض الناس يتصور أن هذا إنما تم توزيعه من زكاة المال ولا يصح ذلك؛ لأن الديات ليست من مصارف الزكاة.
ومن أبواب الضلال والانحراف التي يعيشها المسلمون في بلاد أوروبا وأمريكا وغيرها أن الدعاوى والخصومات بشأن النكاح والأحوال الشخصية تتم في الكنائس، وفي مسألة الأحوال الشخصية يتم بلاء عظيم جداً، فالمسلم يسافر من بلاد المسلمين للحصول على الشرف السرمدي كما يزعمون، ولا يحصل عليه إلا بالزواج، ولما تسمع كلمة زواج تعرف أنها النطيحة، والمتردية، والموقوذة، وما أكل السبع، فيقال: الأخ الفلاني تزوج امرأة أمريكية، فهي من قلة الأزواج والعشاق تزوجت شخصاً مسلماً يريد أن يحصل على الشرف، أو امرأة مريضة عليلة لا تقوم من الفراش المهم أنها تكون أمريكية تحت أي علة لا تتزوج شخصاً أجنبياً وإن شئت فقل مسلماً للأسف الشديد، وهو يقبل هذا أحياناً، تجد الشخص يجلس معها ويقول لها: هذا الزواج هو صوري في مقابل أن لك كذا، والقضية لا تتم بهذا الشكل، بل لا بد أن الزواج يتم في المحكمة ويوثق هناك، والقاضي يعرف هذه الأشياء، يعرف أن المصريين بالذات يعملون هذه الأمور. فإنه سيقول للرجل المسلم: أنت متزوج هذا المرأة؟ يقول له: نعم. يقول له: قبلها. فيقبلها. ثم يقول له: احضنها، فيحضنها، ثم يأخذها القاضي على جنب ويقول لها: هو يستخدم معجون أسنان أو لا ؟ هو يريد أن يتأكد أنهم جالسين مع بعض في شقة واحدة أم لا. تقول له: نعم. فيقول لها: ما لونه؟ فتقول له: أبيض، ثم يأخذه على جنب ويسأله عن معجون الأسنان؟ وما لونه؟ فيقول له: أحمر. فيبطل القاضي الزواج وصاحبنا يكون قد قبلها وحضنها.
فهم يجعلون هناك عراقيل في إتمام النكاح؛ لأنهم لم يرون أنه ليس شرفاً لأمريكا أن أحداً من المسلمين ينسب إليها، والواحد منا يعتبر أن الشرف كل الشرف أنه يحصل ولو على تأشيرة من السفارة الأمريكية، وهذا ما وصل إليه الكفار من عز، وما وصل إليه المسلمون من انهزام نفسي، فهذا أمر مخجل جداً، وموجع للقلوب والرؤوس.
قال: (وفي هذا الحديث أن القسامة إنما تكون على واحد فقط، وبه قال مالك وأحمد ، وقال أشهب وغيره يحلف الأولياء على ما شاءوا ولا يقتلون إلا واحداً). أي: الواحد بواحد. يعني: يقتل المسلم بالمسلم والنفس بالنفس. (ولا يجوز قتل المسلم بالكافر، وهذه المسألة محل نزاع، ومذهب الجماهير فيها وهو الراجح إن لم يكن هو الصحيح أن المسلم لا يقتل بكافر قط لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل مسلم بكافر)).
وقال الشافعي رضي الله عنه: إن ادعوا -أي: أولياء القتيل- على جماعة حلفوا عليهم وثبتت عليهم الدية على الصحيح، وفي قول أنه يجب القصاص عليه وإن حلفوا على واحد استحقوا عليه وحده، والمقصود بذلك أن أولياء المقتول إذا حلفوا على جماعة أنهم قتلوا قتيلهم استحقوا قتل واحد دون الجماعة، وإذا حلفوا على قوم أنهم قتلوا قتيلهم أخذوا الدية ولم يقتل واحد منهم، وهذه مذاهب العلماء في ذلك).
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب)معناه: إن ثبت القتل عليهم بقسامتكم لو أنكم حلفتم وثبت عليهم القتل، فإما أن يدفعوا لكم ديته، وإما أن يعلمونا أنهم متنعون من التزام أحكامنا والانصياع لشرعنا فينتقض عهدهم ويصيرون حرباً لنا. وفي هذا دليل لمن يقول: الواجب في القسامة الدية دون القصاص.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر