ليس الغريب في الدنيا البعيد عن وطنه وأهله أو أنه في بلاد غير بلاده، إنما الغريب غريب اللحد والكفن، وليس المحروم الذي حرم المال والأولاد والجاه والسلطان، إنما المحروم من حرم البكاء من خشية الله لقسوة قلبه وبعده عن الله تعالى، وليست المصيبة في الدنيا بضياع الأموال أو فقدان الأولاد، إنما المصيبة الفشل في ساعة الاحتضار، ساعة الخروج من دار الدنيا إلى دار الآخرة، عندما توضع في قبرك وحيداً، ليس لك زاد.
والإنسان لا ينفعه ماله ولا أهله ولا وساطته التي كانت معه في الدنيا يوم أن يوضع في قبره، وإنما ينفعه ما قدم من عمل صالح في الدنيا.
-
خطاب أبي الدرداء لأهل الشام
-
البكاء من خشية الله وفضله
القصيدة تنسب إلى
زين العابدين، أو إلى
إبراهيم بن أدهم رحم الله الجميع، ورحمنا الله وإياهم بواسع رحمته، وهو يقول فيها:
في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت تحرس في سبيل الله) وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -منهم- ورجلٌ ذكر الله خالياً، ففاضت عيناه) فجازاه جلَّ وعلا أن يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ولن يبكِ إلا قلبٌ رقيقٌ قريبٌ من الله عز وجلَّ، أما القلب القاسي-والعياذ بالله- فهو بعيدٌ من الله، القلب القاسي الذي تراكمت عليه الشهوات، وطمت عليه الغفلة وبنت عليه جدرانها، فهو قاسٍ لا يتعظ ولا يلين، أما القلب اللين الخاشع القريب من الله، فهو الذي يلين، وتسيل منه الدمعة بعد الدمعة، فكم دمعةٍ ثم دمعة ترضي الله عز وجل، وتدفع عن صاحبها العذاب.
نعم يا عباد الله! سبعة يظلهم الله في ظله منهم الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، فالإكثار من ذكر الله واستغفاره عز وجل، وإحضار القلب دائماً بين يديه عز وجل يجلو صدى القلب، وكذا التذكر في الخلوات، إذا كنت خالياً لست في حضرة الناس تتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى، وتتقرب إلى الله عز وجل، فهذه عادة السلف الصالح رحمة الله عليهم، كانوا يحيون ليلهم بالتهجد والتقرب إلى الله عز وجل، فهذا الزاهد يقول في كلامه:
-
حال الإنسان في ساعة الاحتضار
تلك الساعة -يا عباد الله- ساعة نزول ملك الموت ليجتذب الروح من العروق والعصب، يا لها من ساعةٍ يا عباد الله! ينسى فيها الإنسان كل شيء، حتى المفاتيح التي كان مغلق عليها، كجده يريد شربة ماء ولا يفقهون ماذا يريد؟ يريد أن يقول: أتحلل من فلان، أو أؤدي حق فلان، أو أرد مال فلان الذي أخذت، أو أصلي الصلوات التي تركت، أو أؤدي زكاة مالي الذي منعت، ولكن لا يستطيع، بصره شاخص ينتظر خروج الروح؛ لأن الروح إذا خرجت يتبعها البصر، لذلك يُسنُّ تغميض عين الميت إذا خرجت روحه، اسمعوا إلى هذه اللحظة يصفها لنا كأنها رأي عين، كأننا جميعاً يفعل بنا هكذا.
الآن سكن في مسكن فرشه التراب، وصف عليه اللبنات، سبحان الله العظيم! انفرد بعمله إن كان صالحاً فهو له، وإن كان سيئاً فيا ويله من ذلك العمل السيء، ويا ويله من طول مكثه، نسأل الله العفو والعافية.
ولا تلفاز، ولا جرائد، ولا مجلات، ولا تلفون، ولا شيء، صف عليك اللبن ووضعك، عندك عملك فإن كان صالحاً فهو شابٌ حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح -نسأل الله من فضله- ثم يقول له: أبشر بالذي يسرك، ثم ينبسط وينسى أهله وماله وينسى الدنيا كلها، يستقبل شيئاً آخر عندما بشره هذا العمل الصالح، ماذا يستقبل؟ يستقبل الجنة، الآن هو في روضة من رياض الجنة، ولكن يستقبل الجنة عالية الدرجات بجوار الله عز وجلَّ.
وإن كان عمله سيئاً -والعياذ بالله- فهو شاب أسود الوجه منتن الريح، ثم ماذا يقول له: أبشر بالذي يسوؤك أنا عملك السيء، ثم يزداد غماً وحزناً، ويقول: يا رب! لا تقم الساعة؛ لأنه إذا كان هذا أول مبتدأ العمل، فما بعده إلا جهنم والعياذ بالله.
نسأل الله أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، ولا يجعلها حفرةً من حفر النار إنه أرحم الراحمين.
في ظلمة القبر لا أمٌ هناك ولا أبٌ شفيقٌ ولا أخٌ يؤنسني
الله أكبر! من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ إن كان مؤمناً وإن كان لم يقرأ ولا حرفاً، قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان غير ذلك، يقول: هاه، هاه، لا أدري، ثم يقال له: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمرزبة من حديد والعياذ بالله.
نعم -يا عباد الله- قال الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] لا معقب لحكمه يا عباد الله، ما أحد يعقب على حكم الله؛ لأنه أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، ولا يظلم ربك أحداً: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] فمن أراد النجاة عباد الله، فليطلبها ويلتمسها ويسعى إلى طرق الخير ما دام في الحياة، ما دام في زمن الإمكان، ما دام في زمن دار المزرعة، نحن الآن في دار المزرعة، لكن سوف ننتقل إلى درا الحصاد، فإن زرعنا خيراً حصدنا حسنات، وإن زرعنا شراً حصدنا سيئات والعياذ بالله.
-
تقاسم الأهل للمال بعد الموت
الله أكبر! يجنون الثمار وأنت عليك الحساب، هم يجنون المال الذي حصلت عليه سواء كان من حرام أو من حلال، فهم ليس عليهم حساب إنما الحساب عليك أنت لأنك الذي جمعت، إن كان حلالاً فسوف تحاسب عليه، وإن كان حراماً فهو زادك إلى النار والعياذ بالله.
ثم ينصحنا ويرشدنا جزاه الله خيراً ويقول:
انظر إلى آدم وذريته أين هم؟ إلى نوح وقومه، وعاد وقومه، وصالح وقومه، ولوط وقومه، وقريش، إلى آبائنا، وأجدادنا إلى آخر ذلك.. أين هم؟! فهذه الحياة ممر، كلنا نمر ونمشي حتى يأتينا هذا الحتم ثم نموت، ولكن المحظوظ -يا عباد الله- الذي يعمل صالحاً: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110] ولا تغرنكم الحياة الدنيا -يا عباد الله- فإنما هي أيامٌ قلائل وسوف تنتهي.
نعم. نخرج مع الملوك والأمراء، والتجار، والفقراء إذا ماتوا فما نرى أحد منهم أُدخل معه في قبره شيء، ولكن ماذا لو أخذ معه مال؟ مليار، أو عشرة ملايين، أو مليون هل يعطي منكر ونكير رشوة قد يخففوا بها عنه؟ لا. كلهم لم يذهبوا إلا بالكفن، ثم الكفن بعد أيام تأكله الأرض، والبطن تفقع ثم تلقى الدود -نسأل الله العافية- ثم يكون رفاتاً، ثم يكون تراباً، وفي يومٍ من الأيام يأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور، فتجتمع تلك الأجسام كما خلقها أول مرة جلَّ وعلا، ثم يبعثون إليه، ثم يحاسب كلٌ بعمله إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً.
اللهم ارحمنا جميعاً بواسع رحمتك، اللهم ارحمنا جميعاً بواسع رحمتك، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا، اللهم أيقظنا من غفلاتنا بفضلك وإحسانك يا رب العالمين، اللهم تجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك، اللهم ألحقنا بالذين أنعمت عليهم في دار رضوانك، وارزقنا ما رزقتهم من لذيذ مناجاتك، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولوالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات واجمعنا اللهم جميعاً في مستقر رحمتك، واجعلنا من الواردين على حوض نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واسقنا اللهم شربةً هنيئةً مريئةً، لا نظمأ بعدها أبداً، وأظلنا تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك إنك أنت أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.