أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: هذه رسالة موجهة إلى مدمن، ولعلكم تجدون في الحديث أسلوباً غير مباشر للحاضرين، لكن لعل السامع منكم أن يستفيد من كلماتي.
أيها الأخ الكريم: أوجه إليك هذه الكلمات يا من وقعت في حبائل المخدرات.. يا من بدأت تتعاطى؛ بل أصبحت مدمناً، أوجه إليك هذا الحديث، فارع لي سمعك، وتوقف معي دقائق، واستمع لي.. ولن تخسر شيئاً إن لم تستفد أمراً من كلامي.
لو سألت أكثر المدمنين في هذا الزمن، وأكثر المتعاطين للمخدرات: لِمَ تتعاطون المخدرات؟ ولِمَ أدمنتم عليها؟ ولِمَ وقعتم في حبالها؟ لأجابك أكثرهم: أبحث عن السعادة، أبحث عن الراحة، أريد الطمأنينة.
فلو سألته: هل وجدتها؟ أظن وأجزم بأن أكثر من تعمق في المخدرات وأدمن عليها سوف يجبك بهذه الإجابة ويقول: كلا، كلا والله لا زلت أبحث عنها.
عمَّ تبحث؟ أبحث عن هذه السعادة الموهومة.
جلست يوماً من الأيام أنصح شاباً سلم نفسه بجريمة قَتْل -قَتْل عمداً- قَتَل رجلاً ثم سلم نفسه، فلما جلستُ معه وأخذت أحدثه عن التوبة، وأخوفه بالله جل وعلا فيما فعل، قال لي: يا شيخ! ماذا تقول؟ أنا سبع سنوات مدمن للمخدرات، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! سبع سنوات وأنت مدمن للمخدرات؟ وانظر للنهاية قال: نعم يا شيخ! سبع سنوات وأنا مدمن لهذه المخدرات، قلت له: ماذا كنت تحس؟ قال: يا شيخ! وأنا أدمن وأتعاطى المخدرات أحس كأنني أطير في الهواء، قلت له: ثم ماذا؟ قال: ثم عذاب وألم وحسرة، يقول: وهكذا سبع سنوات لم تنته إلا بالقتل، وسلم نفسه ينتظر القصاص، أتعرف لماذا؟ لأن الله جل وعلا يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً [طه:124] نعم يعيش، يأكل ويشرب ويلبس، ينام ويستيقظ، يمشي ويتحرك، يعيش، لكن انظر إلى عيشته: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى [طه:125] السماء تفطرت، والأرض تزلزلت، والجبال نسفت، والبحار احترقت وسجرت، والقبور بعثرت، والوحوش حشرت، والولدان قد صارت رءوسهم شيباً، ويمشي هذا الرجل المسكين على صراط أدق من الشعر وأحد من السيف، وجهنم تلهب تحته، يقول: ربِّ إني أعمى، ويجوز الصراط وهو أعمى: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً [طه:125] يعني في الدنيا، انظر للسبب: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا [طه:126] أتذكر ذلك المجلس الذي سمعتَ فيه بعض الآيات؟ أتذكر ذلك الشريط الذي أهدي إليك فاستمعت إليه لكنك نسيت: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:126].
بل جاء في الحديث الصحيح: (أن شارب الخمر يُسقى من ردغة الخبال) عصارة أهل النار، يخرج بعضها من الجلود، ويخرج بعضها من الفروج، ويخرج بعضها من الأفواه، عصارة أهل النار يتسابق إليها شربة الخمر والمسكر والمخدر ليأكلوها وليشربوها، تذكر إن كنت من المتعاطين هذا المصير، قال تعالى: إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ [الدخان:43-44] كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ [الدخان:45] لما يأكلون منه تغلي البطون.
أرأيت القدر كيف يغلي بالماء؟ هكذا البطن يغلي ويفور من ذلك الطعام، قطرة من الزقوم لو سقطت على الدنيا لأفسدت الدنيا بما فيها، كيف بمن تكون طعامه؟! تذكر وأنت تقدم على هذه المعصية وذلك الإثم هذا المصير، قال تعالى: إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ [الدخان:43-47] يدفع دفعاً، الملائكة تدفعه إلى قعر جهنم: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الدخان:47] إلى قعر جهنم، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان:48] صبوا على رأسه عذاب الحميم، إذا صُبَّ على الرأس يدخل إلى المعدة ويقطع الأمعاء، إنا لله وإنا إليه راجعون! هل تعدل تلك الجلسات، وهذه الهلوسة، وتلك السهرات، وهذه الحبوب، ذلك العذاب؟!
إذا دخل هذا الشاب وأمثاله إلى جهنم أتعرف ماذا يطلب من ربه؟ يقول يا رب لي طلب. ما طلبه؟ رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ [فصلت:29] أي: يا رب أريد أن أرى ذلك الرجل الذي أعطاني الحبة أول مرة، وسقاني ذلك الكأس، وعلمني طريق المخدر، يا رب أريد أن أراه، في المحشر، إما في المحشر أو في جهنم يتمنى أن يراه.
أنظن أن يتمنى رؤيته ليصافحه؟ ليصادقه؟ ليعانقه بعد فراق طويل؟ لا. اسمع لما يطلب رؤيته يوم القيامة: رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا [فصلت:29] أطأ عليهما برجلي، لمه؟ لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت:29].
ولكن كل هذا لا ينفع، طالما جاءك الصالحون، وأعطوك الشريط، وأهدوك تلك الكلمات، ونصحوك تلك النصائح، ولكنك عصيتَ واستكبرتَ وأبيت إلا أن تستمر مع هؤلاء: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38] إلى أين؟ إلى جهنم كلما دخل رجل لعن صاحبه: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا [الأعراف:38] يقول في جهنم: يا رب هؤلاء الذين دلوني على تلك المجالس، وهذه الأماكن، وتلك المستنقعات يا رب هؤلاء الذين أعطوني هذه الحبوب، وعرفوني ذلك الطريق يا رب: فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الأعراف:38] يا رب ضاعف لهم العذاب في النار، فيقول الرب: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:38] أتظن أخي الكريم أن القضية تنتهي عند حبة وتقف، لا. القضية أكبر وأدهى وأمر، الحبة هي الخطوة الأولى، وهي بداية الطريق إلى الإدمان، وإلا فالطريق مظلم وموحش.
أحدثكم عن الصورة التي رأيتُ، أتعرفون كيف مات هذا الشاب؟
هذا الشاب أيها الأخ العزيز! وهو يتعاطى المخدرات، وزاد في جرعة الإدمان والتعاطي سقط على الأرض وأحس بألم، وتأثَّر حتى انفجر مُخُّهُ وبدأ يسيل مخه من أنفه، ورأيته بالصورة، انظر كيف تعذب في الدنيا قبل الآخرة، إن رأيتَ المنظر لا تتحمل، إن رأيت شكله لعلك لا تطيق طعاماً بعده، أتعرف لماذا؟ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124].
أرأيت إلى خاتمتهم! هل هذا عاش بسعادة كان يرجوها؟! أين السعادة؟! أين النعيم؟! يا مسكين.. يا من تبكي الليالي والأيام.. اجلس مع بعض الصالحين، حدث بعض الأخيار الذين يبكون في الصلاة، ويقرءون القرآن، ويذهبون للعمرة قل لهم: هل وجدتم تلك السعادة التي أبحث عنها؟! أتعرف ماذا يقولون لك؟ يقولون لك: لو كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه إنهم والله لفي عيش طيب، الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] تقول أنا ضامن نفسي إن شاء الله لن أموت وأنا أتعاطى المخدر، اسمع لإحصائية وزارة الداخلية: أكثر من ألف وتسعين شخصاً ماتوا بسبب المخدرات في الكويت، فما الذي يضمن أنك لا تكون أحد الأرقام القادمة؟
توفي أبوه فرعته أمه، وكانت تعطيه بعض المال ليبحث عن حرفة له ليشتغل بها، كانت تبحث له عن السعادة، هذا الشاب تعرف على رفقة سيئة، بدأ يدمن معهم التدخين ثم المخدرات؛ وقع في ذلك الوحل وأمه لا تدري، دخلت عليه يوماً من الأيام في الغرفة فإذا بها تجده في وضع غريب، يشرب دخاناً ليس كالدخان الذي تعرفه؛ عرفت الخبر ونصحته، وذكرته بالله وخوفته بيوم القيامة، وبالنار والقبر لكنه ما خاف من عذاب الله جل وعلا، جاءها يوماً من الأيام؛ طلب منها المال فأعطته المال، يوم ثانٍ قالت له: يا بني لا أعطيك المال وأنت على هذه الحال، تب إلى الله ثم أعطيك من المال، قال: تعطينني رغماً عنكِ، بدأ الآن، وأنتم تعرفون أن صاحب المخدرات المدمن إذا انقطع عن الإدمان لا يحس بنفسه، ويصبح كالوحش المفترس، جاءها يوماً من الأيام قال: أعطيني، قالت: لا أعطيك، ضربها وأخذ ذهبها وباعه واشترى به المخدر، بكت أمه عذاباً وحسرة وألماً.
أيها المدمن: تذكر هذه الأم المسكينة التي خلَّفتها في البيت وهي تبكي عليك، تذكر كم كانت ترعاك! وكم كانت تسهر على رعايتك! كم كانت تفرح وتتمنى أن تكون مثل فلان الطبيب! وفلان المهندس! وفلان الداعية! وفلان المصلي! وذلك الراكع الساجد! كانت تسمع أخبار جاراتها: هذا ولد لها حفظ القرآن! وآخر ذهب إلى العمرة! وثالث يدعو إلى الله! ورابع صار طبيباً! والآخر صار مهندساً! وهذا يدرس الناس في المدارس!
أما أنت تذكر واعلم أن أمك تبكي عليك دماً وأنت لا تدري.
جاءها يوماً من الأيام وقد فقد عقله، دخل على أمه في الغرفة، قال لها: تعطيني أموالاً أريد أن أشتري، قالت له: لا أعطيك، أخذ يضربها، قالت له: ماذا تريد؟ أتعرف ماذا كان يريد في تلك الحال؟ وأُجِلُّ المسجد من هذه الحكاية ولكن لا بد من إخبارك بها، فَقَدَ صوابه، أراد أن يهتك عرض أمه، واسمحوا لي في رواية القصة، فإن المجتمعات مليئة بهذه القصص، حاول أن يعتدي على أمه، مزق ثيابها، هربت أمه من البيت وهي تبكي ولا تدري أين تسير، توجهت إلى بيت ابنتها المتزوجة دخلت وثيابها ممزقة، ماذا أقول لابنتي؟ ماذا أقول لزوجها؟ دخلت وهي تقول لهم: دخل علينا لص البيت وأراد أن يسرق الأموال، فهربت ولجأت إليكما، كذبتْ عليهما.
وفي الصباح أخبرت ابنتها بالخبر الصحيح، ظلت أياماً في بيت ابنتها لم ترجع إلى البيت، بعد أيام قالت لابنتها: نرجع إلى البيت، رحمت ابنها، وعطفت على الولد، لأن الأم لا تنسى ولدها مهما كان، رجعت إلى البيت هي وابنتها، فإذا بالبيت قد بِيْع أثاثه وأجهزته كلها، باع الولد كل ما في البيت ليشتري بعض الحبوب، أرأيت نهاية التعاطي والإدمان؟
اسمع! لم تنتهِ القصة، هذه الأم دخلت وجلست تبكي على حال ابنها، وفي لحظة من اللحظات دخل الابن إلى الشقة فإذا به يجد أمه وأخته وابنة أخته الصغيرة، دخل على أمه يحاول أن يضربها على ما فعلت به، قال: أعطوني الآن من المال، قالت الأم: لا نعطيك شيئاً، قال: الآن أنا محتاج إلى المال أريد أن أشتري، قالت: والله لا نعطيك، فإذا به يحاول الاعتداء على أخته ويهدد أمه، إما أن تعطيني شيئاً من المال وإلا اعتديت عليها، بكت أمه، صاحت، استغاثت، استنجدت، وأخذ يضرب أخته حتى يواقعها، مزق ثيابها، والأم المسكينة لا تدري ماذا تفعل، ابنها أو ابنتها، أو العار أو الفضيحة، أخذت تتصارع الأم في قلبها، ماذا تفعل! والبنت الصغيرة تنظر إلى أمها وتبكي ماذا يفعل خالها؟ ماذا يفعل بأمها؟! فما كان من الأم إلا أن ذهبت إلى المطبخ وأخذت سكيناً وهي تصارع نفسها، والولد قد فقد وعيه لا يدري ماذا يفعل، فجاءت الأم إلى ابنها فلذة كبدها وطعنته عدة طعنات وأخته تنظر والبنت الصغيرة تنظر، ما الذي جرى بعد ثوان معدودة، والغرفة تسيل بالدماء، الرجل مات، أخته ممزقة الثياب، البنت الصغيرة تبكي، الأم منطرحة على الفراش، تبكي، مأساة وأي مأساة!
أيها المدمن: انتبه! انتبه! فإنك تضيع نفسك وأهلك، وكثير منهم باع عرضه وأرغم زوجته على وحل الدعارة؛ لتقبض بعض الأموال فيأتي بالمخدرات.
أيها الأخ العزيز: أقبل على الله جل وعلا، لا تقل لا أستطيع ولا أتحمل.
في يومٍ من الأيام بعد محاضرة كانت لي جاءني شاب بعد المحاضرة حسن الوجه، مضيء الوجه، مطلق اللحية، مقصر الإزار عليه سِيما الصلاح، فقال لي: يا شيخ أريد أن تذهب معي إلى مكان. قلت له: وأي مكان؟ قال: مكان فيه أهل مخدرات قلت: ولِمَ؟ ولِمَ؟ ولِمَ أنت الذي ترسلني إلى هذا المكان؟ قال لي: يا شيخ أنا الذي أمامك كنت يوماً من الأيام مدمناً للمخدرات، يقول: كنت يومياً أتعاطى المخدرات ولا أستطيع الخلاص منها، قلت له: الآن؟ قال: والآن الحمد لله أدعو إلى الله جل وعلا، أقرأ القرآن، أحضر حلق العلم، أحضر مع الصالحين، أجلس معهم، أبر والدي، قلت له: الآن أنت سعيد أم الماضي؟ قال: يا شيخ! ما أحسست بالسعادة إلا هذه الأيام التي توجهت فيها إلى الله جل وعلا، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] تريد الهداية؟ تريد التوبة؟ تريد صفحة جديدة بينك وبين الله؟ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] قاطع تلك المجالس وفارق تلك الصحبة، أقبل على الصالحين واجلس معهم، قل لهم: إني أقبلت على الله جل وعلا فدلوني وخذوا بيدي، قم آخر الليل، وصلِّ ركعتين في السحر؛ فإن الرب ينزل ويقول: (هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) صلِّ ركعتين في السحر وأقبل على الله واسجد بين يديه، ثم لتدمع تلك العينان؛ لعل الله أن يغسل ذنوبك.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا |
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتُلْحِق أخرانا بأولانا |
أما تذكر يوم رفعت سماعة الهاتف وقيل لك: أتعرف فلاناً؟ نعم فلان. الذي كان معنا في الدواوين والشوارع، وفي الدراسة، أتذكره جيداً؟ نعم أذكره جيداً، قبل أيام كنتُ معه.
فيقول لك: مات في حادث سيارة، انقلب بها وفارق الدنيا، إنا لله وإنا إليه راجعون.
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتُلْحِق أخرانا بأولانا |
وفي كل يوم لنا ميْت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا |
أقبل على الله جل وعلا، تعرَّف على الصالحين، افتح كتاب الله تبارك وتعالى.. لتكن همتك عالية.
أما هذه الهمة، همة الحبوب والتعاطي والإدمان فأنت تعرفها، إنها همة ما أخسها! وما أقذرها! وما أنجسها!
لتكن همتك أن تضحي بهذا الجسد الذي طالما تعاطى ذلك المخدر في سبيل الله جل وعلا، همتك همتك -يا أخي العزيز- ألا تموت إلا شهيداً في سبيل الله.
هذا الشاب كان يقود سرية المسلمين، فقبض نصارى الروم على المسلمين وكان فيهم عبد الله قائدهم، وجاء ملك الروم إلى عبد الله بن حذافة وقال له: أتريد أن ترجع إلى أهلك؟ قال: نعم. قال: أشاطرك نصف ملكي بشرط واحد. قال: ما هو؟ قال: أن تتنصر وتغير دينك من الإسلام إلى النصرانية؛ فضحك عبد الله بن حذافة وقال: [والله لو أعطيتني الدنيا بما فيها على أن أترك هذا الدين طرفة عين ما تركته، قال الملك: ادخلوه السجن ...] ويدخلون عليه امرأة من أجمل النساء، وتجملت أمامه، وحاولت أن تفتنه، فإذا بها تخرج بعد زمن وتقول للملك: " ... لا أدري أأدخلوني على بشر أم حجر! لا أدري أأنا أنثى أم ذكر ..." تقول: لم يلتفت إليَّ طرفة عين، فغضب الملك.
انظر إلى الصبر على الدين، انظر إلى لذة الطاعة، جيء بالقدور وأحميت، ووضع فيها الزيت وتحته النار تشتعل، والزيت يغلي، فجيء بـعبد الله بن حذافة وبصاحب له من أصحابه فإذا به ينزل حياً في قدر، في الزيت الذي يغلي، فاحترق حتى طفحت عظامه وشوي جلده، ونظر عبد الله، وقال الملك: الآن دورك، بكى عبد الله، فقال له الملك: خفتَ الآن قال: [لا. والله ما خفت ولكن صاحبي هذا كان ينافسني دوماً في طاعة الله، أما الآن فقد سبقني إلى الجنة.. يا ليتني كنت مكانه، يا ليتني كنت مكانه، والله الذي لا إله غيره لو كان عندي أرواحاً بعدد شعرات جسمي لتمنيت أن تخرج كلها في سبيل الله] قال تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
أرأيت صاحب الهمة العالية يتقلب على الفراش، ويحلم أن هذه الرقبة تطير في سبيل الله.
ستقول لي: يا شيخ! هذا في الأزمان الماضية، أما اليوم فمستحيل. أحدثك بقصة في هذا الزمن..
وتتعجب عندما تسمع أن أعلى نسبة انتحار في الدول المتقدمة، يشنق الواحد نفسه، يقطع شرايينه بالموس؛ لينزل الدم ثم يموت، يرمي نفسه من أعلى عمارة، يضع مسدساً على رأسه فيطلق طلقة يموت منها.
ما السبب؟
يقول الشاب: ضاقت علي الأرض بما رحبت، قال الله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124] يقول: خرجت من البيت وسافرت لا أدري أين أذهب، فخطر على بالي أن أذهب لأخي في بلد أخرى، دخلت وطرقت الباب على أخي -وكان أخوه صالحاً- قال أخوه: ما الذي جاء بك؟ قال: يا أخي مللتُ الدنيا، مللتُ الحياة، جئتك أمتع نفسي، قال أخوه: تفضل في البيت، يقول أخوه: نام تلك الليلة، وفي الفجر جاء رجل يوقظهم للصلاة، وعادته كل يوم كان أن يوقظ أهل البيت؛ يا أهل البيت صلاة الفجر.. صلاة الفجر، فقام الشاب فزعاً قال: ماذا تريد؟ قال: صلاة الفجر، قال: دعني، فأنا لا أصلي أصلاً، قال: أعوذ بالله، قال: اتركني أنا لا أصلي، قال: لِمَ لا تصلي.. ألست بمسلم؟! جرِّبِ الصلاة مرة، يقول: فذهب الرجل، وجلس هذا يفكر على الفراش ويردد في ذهنه: جرِّبِ الصلاة مرة.. يقول: فقام الشاب واغتسل من جنابة، ثم ذهب إلى المسجد، فإذا به يصلي، ثم يرجع إلى البيت يقول لأخيه: يا أخي وجدتها، قال: ماذا وجدت؟ قال: وجدت السعادة، قال: أين؟ قال: وجدتها في الصلاة، وجدتها في السجود، وجدتها في الركوع، قال تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22].
قال الشاب: بعد أيام جلستُ عند أخي.. وسوف أرجع إلى أمي، قال له: ارجع، يقول: ذهب إلى أمه وطرق الباب، قالت أمه: ما الذي جاء بك مسرعاً هذه المرة، قال: يا أماه وجدت السعادة في الصلاة، وفي القرآن، وفي العبادة، فرحت أمه، وظل أياماً مع أمه ثم قال: يا أماه أريد السفر، قالت له: إلى أين يا بني؟ قال لها: يا أماه أريد أن أذهب إلى الجهاد في سبيل الله، قالت أمه: لِمَه؟ قال: يا أماه! جسدي طالما عصى الله جل وعلا، وأريد أن أضحي بهذا الجسد لله عز وجل، قالت أمه: ما منعتك وأنت تسافر للمعصية أفأمنعك وأنت تسافر للطاعة، اذهب يا بني، فذهب للجهاد، وتدرب، ثم دخل في المعركة، وفي ذات اليوم حمل السلاح وبجنبه صاحب له، حميت المعركة واشتدت، فأصيب صاحبه بشظية، فحمَله ليسعفه لكنه استشهد في ذلك الموقع، فحَفَرَ القبر لصاحبه، وأنزل صاحبه في القبر، لم يغسله، ولم يكفنه، وهكذا الشهيد؛ يبعث عند الله وجرحه يَثْعُبُ دماً في المحشر، اللون لون الدم والريح ريح المسك، أنزل صاحبه في القبر ولم يدفنه، قال: اللهم إني أسألك أن لا تغرب شمس هذا اليوم إلا وقد قبلتني شهيداً في سبيلك، فلما أنزل صاحبه اشتدت المعركة مرة ثانية، وأسرع إلى سلاحه وتقدم في المعركة يخوضها ويقبل بصدره في القتال، وبعد لحظات، إذا به يفارق الحياة الدنيا ويُدفن في القبر الذي حفره مع صاحبه، قال الله: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].
وتذكر أنك إذا تبت إلى الله جل وعلا فسعادة في الدنيا، ثم قصور في الجنة، نهر من لبن، نهر من عسل، نهر من خمر، تقول لي: لا أتحمل، أقول لك: اصبر لله جل وعلا حتى تسمع تلك الكلمات عند أبواب الجنان، تقول لك الملائكة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24] الصبر، الصبر يا أخي الكريم، فارق تلك الصحبة، أقبل على الله جل وعلا، اشغل فراغك بقراءة القرآن، بالدعوة إلى الله، بالعلم النافع، بصلة الأرحام، ببر الوالدين، اشغل وقتك بما ينفعك عند الله جل وعلا، واعلم أنك إذا تبت فإن النهاية: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الإنسان:12-13].
وقبل أن أختم حديثي.. لي وإياك لقاء ليس على هذه الأرض، قد تكون على هذه الأرض؛ ولكن أنا على يقين بأننا سوف نلتقي يوم القيامة، إما أن نتخاصم عند الله جل وعلا، وإما أن نكون تحت ظل عرش الرحمن تبارك وتعالى، فاختر لنفسك أي الطريقين: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3] سوف نلتقي يوم القيامة، فإن تخاصمنا فلعلك تقول: يا رب ما جاءني من نذير، فأقبل على الله جل وعلا، فأقول: بلى يا رب.. سمع حديثي من ذلك الجهاز وبهذا الشريط، سمع كلامي وتلوتُ عليه آياتك وأحاديث رسولك، وحذرته من ذلك المصير لكنه أبى، أو تأتيني يوم القيامة تحت ظل عرش الرحمن فتقول لي: يا شيخ أتذكر تلك المحاضرة فأقول لك: وأي محاضرة؟ تقول لي: يا شيخ أتذكر محاضرة (رسالة إلى مدمن) أقول لك: لعلي أذكرها، تقول لي: يا شيخ والله ما إن سمعتها إلا وبدأت صفحة جديدة مع الله، كانت البداية صعبة لكن الله عز وجل أعانني: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] يا شيخ! أقبلت على الله فإذا بالرب جل وعلا يُقبِل علي، أصبحت أقرأ القرآن، وحفظته في عدة شهور، صرت داعياً إلى الله تبارك وتعالى، تعرفت على الصالحين، غيرت هذه الحياة كلها، شعرت بالسعادة التي كنت أبحث عنها، ثم ختم الله لي خاتمة حسنة، وهاأنذا اليوم يغفر الله لي ما مضى.
لعلنا نتعانق تحت ظل عرشه جل وعلا.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعني وإياك تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر