يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن الشهادة من أعظم الرتب وأعلاها، وأنفس المقامات وأحسنها وأبهاها، ذلك لما لأهلها عند الله تعالى من الأجر العظيم، والثواب الجزيل، والدرجة العالية.
والشهيد -أيها المسلمون- على ثلاثة أقسام:
الأول: شهيد الدنيا والآخرة، والثاني: شهيد الدنيا، والثالث: شهيد الآخرة. فشهيد الدنيا والآخرة: هو الذي يقتل في قتال مع الكفار مقبل غير مدبر؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، دون غرض من أغراض الدنيا.
جاء عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال مستفهماً: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
أما شهيد الدنيا فهو من قتل في قتال مع الكفار وقد غل في الغنيمة أو قاتل رياءً أو عصبية عن قومه، أو لأي غرض من أغراض الدنيا ولم يكن قصده إعلاء كلمة الله، فهذا وإن طبقت عليه أحكام الشهيد في الظاهر من دفنه في ثيابه ونحو ذلك لكنه ليس له في الآخرة من خلاق، ونحن نعامل الناس على حسب الظاهر في الدنيا، والله الذي يعلم الحقائق وهو الذي يتولى حسابهم يوم القيامة.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) رواه النسائي وسنده صحيح، فترجى هذه الشهادة لمن سألها مخلصاً من قلبه ولو لم يتيسر له الاستشهاد في المعركة لقوله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق؛ بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) ولذلك كان لا بد من سؤال الله الاستشهاد في سبيل الله بصدق لتحصيل هذا الأجر العظيم، ولو مات الإنسان حتف أنفه.
- وكذلك من أنواع شهداء الآخرة: الموت غازياً في سبيل الله لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهيد فيكم قالوا: يا رسول الله! من قتل في سبيل الله فهو شهيد. قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، قالوا: فمنهم إذاً يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد).
- عباد الله .. ومن أنواع شهداء الآخرة: الموت بالطاعون، قال صلى الله عليه وسلم: (الطاعون شهادة لكل مسلم) وقال -أيضاً- لما سئل عن الطاعون: (إنه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد) وقال عليه الصلاة والسلام: (يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء. فيقال: انظروا فإن كانت جراحهم كجراح الشهداء تسيل دماً، ريح المسك، فهم شهداء، فيجدونهم كذلك).
وكذلك فإن من أنواع شهداء الآخرة من مات بداء البطن لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (إن شهداء أمتي إذاً لقليل -ثم ذكر أنواعاً- ومن مات في البطن فهو شهيد) وعند عبد الله بن يسار قال: كنت جالساً وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة فذكروا أن رجلاً مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهداء جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره، فقال الآخر: بلى، وفي رواية: صدقت).
- وكذلك من أنواع شهداء الآخرة الموت بالغرق والهدم لقوله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء خمسة: المطعون -الذي أصيب بالطاعون- والمبطون -الذي قتل بداء البطن ومات بسبب مرض في بطنه، وأمراض البطن كثيرة ومنها: الكوليرا- والغرق -الذي مات غريقاً- وصاحب الهدم -الذي انهدم عليه بيته، الذي يسكن فيه، أو وقع عليه جدار أو حائط، مات بسبب الهدم، وكثير من الذين يموتون في الزلازل كذلك- وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله).
- ومن أنواع شهداء الآخرة موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها لحديث عبادة بن الصامت : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد
- وكذلك من شهداء الآخرة الموت بذات الجنب كما قال صلى الله عليه وسلم: (وصاحب ذات الجنب شهيد) وهو ورم يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع، أورام في الجانب يموت بسببها الإنسان، ونرجو -إن شاء الله- أن يكون كل مسلم مات بالسرطان من شهداء الآخرة الذين لهم أجر شهيد، الميت من ذات الجنب شهيد.
- وكذلك من أنواع شهداء الآخرة الموت بداء السل لقوله صلى الله عليه وسلم: (القتل في سبيل الله شهادة، والنفساء شهادة) قال في الحديث: (والسل شهادة، والبطن شهادة) فالذي يموت بالسل شهيد إن شاء الله.
وكذلك الموت في سبيل الدفاع عن المال المراد غصبه قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله -وليس الأمر للوجوب- قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) رواه مسلم .
وعن مخارق رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يأتيني يريد مالي؟ قال: ذكره بالله، قال: فإن لم يذكر؟ قال: فاستعن عليه من حولك من المسلمين، قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟ قال: فاستعن عليه السلطان، قال: فإن نأى السلطان عني وعجل علي؟ -هذا اللص قاطع الطريق عجل علي ولم يكن هناك وقت للاستنجاد- قال: قاتل دون مالك حتى تكون من شهداء الآخرة أو تمنع مالك).
- ومن الشهداء -أيضاً-: الموت في سبيل الدفاع عن الدين والنفس، قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد -الذي يقتل دفاعاً عن عرضه- ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد) وقال عليه الصلاة والسلام: (من قتل دون مظلمته فهو شهيد).
والموت في الرباط في سبيل الله من أعظم الميتات وأطيبها، قال عليه الصلاة والسلام: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان).
وأما من مات على عمل صالح قبض عليه فإنه من علامات حسن خاتمته، قال صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة).
- أيها المسلمون .. وإن من أعظم أنواع الشهادة -أيضاً- الموت بالحرق لقوله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله) وقال: (والحرق شهيد) فالذي يموت محترقاً فهو من أنواع الشهداء، ولا يصح التساهل في إطلاق لفظ الشهيد على الأشخاص، فالله أعلم من الذي يموت شهيداً في سبيله.
نسأل الله تعالى أن يحسن خاتمتنا، وأن يتوب علينا، وأن يوفقنا لعمل الصالحات وترك المنكرات، وحب المساكين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله .. إن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا وهو يحذر أمته من كل شر من خطورة النار، فقد روى البخاري رحمه الله عن أبي موسى قال: احترق بيت بـالمدينة على أهله، فحدثت النبي صلى الله علي وسلم بشأنهم، فقال: (إنما هذه النار عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم) ونظراً لشناعة الاحتراق كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الموت بها، لا لأنه ليس له أجر شهيد بل لشناعتها في الدنيا، فكان رسول الله صلى الله علي وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً) رواه النسائي وأبو داود وهو حديث صحيح، لكن إن حصل ومات بالحرق فإن له أجر شهيد كما تقدم، والله يفعل ما يشاء، وهو أعلم بمصائر العباد، وهو مقدر الأقدار سبحانه وتعالى.
وهؤلاء الأصناف الذين تقدم ذكرهم من شهداء الآخرة ماذا يفعل بهم من جهة الأحكام في الدنيا؟
قال العلماء: لا يغسل الشهيد -أي: قتيل المعركة مع الكفار- سواء كان مكلفاً أو غير مكلف إلا إن كان جنباً أو امرأة حائضاً، أو نفساء طهرت من حيضها أو نفاسها، وإن سقط من دابته، أو وجد ميتاً، أو سقط من شاهق في القتال، أو رفسته دابة في القتال، أو عاد إليه سهمه الذي أطلقه بالخطأ فالصحيح أنه يغسل إذا لم يكن ذلك من فعل العدو، لكن إن قتله العدو فلا يغسل ويبقى أثر الشهادة عليه، ومن قتل مظلوماً بأي سلاح كقتيل اللصوص ونحوه يلحق بشهيد المعركة في أصح الروايتين في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وقال بعض العلماء بتغسيله، وكذلك الغريق والمبطون والمرأة التي ماتت في الولادة فإنهم شهداء في الآخرة يغسلون باتفاق الفقهاء.
وأما الميت المحترق فقد ذهب العلماء إلى أن من احترق بالنار يغسل كغيره من الموتى إن أمكن تغسيله؛ لأن الذي لا يغسل إنما هو شهيد المعركة، ولو قتل في المعركة محترقاً أو أحرق العدو حصناً للمسلمين ونحو ذلك كان شهيداً لا يغسل، أما المحترق خارج المعركة فهو من شهداء الآخرة لا تجري عليه أحكام شهداء الدنيا فإنه يغسل، فإن خيف تقطعه بالغسل يصب عليه الماء صباً ولا يمس، فإن خيف تقطعه بصب الماء لم يغسّل، ولكن ييمم إن أمكن كالحي الذي يؤذيه الماء، وإن تعذر غسل بعض دون بعض غسل ما أمكن غسله، وييمم الباقي كالحي سواء.
وهذا المحترق يصلى عليه صلاة الجنازة، لأنه لا وجه لترك الصلاة عليه فإنه يصلى عليه ولو صار رماداً، يجمع رماده ويصلى عليه، وقال بعض أهل العلم بعدم الصلاة عليه واشترطوا حضوره أو حضور أكثره فإنه إذا صار رماداً لا يصلى عليه، ومذهب الإمام أحمد -رحمه الله- الصلاة عليه وإن صار رماداً.
عباد الله .. إذاً الذي يموت محترقاً له أجر شهيد، ويغسل إن أمكن وإلا ييمم ويصلى عليه.
وكل ما تقدم من الكلام كما يظهر لكم كانت مناسبته حضور هذا الحريق الذي سمعنا عنه في منى، وقد احترق أكثر خيامها بسبب ذلك الحريق، والله يقدر ما يشاء ويفعل ما يريد، ولا شك أن المصاب الذي حصل إنما هو مصاب لكل مسلم قلبه حي، فأما المسلم الذي في قلبه دغل فلا يكاد يكترث، وأما المسلم الذي قلبه حي فإنه يحس أن المصيبة مصيبته هو، وعزاؤنا فيهم أمور منها: أنهم ماتوا محترقين، ومن مات محترقاً له أجر شهيد.
وثانيا: أنهم ماتوا محرمين في عبادة وعمل صالح، فاجتمع لهم علامة من علامات حسن الخاتمة، والله تعالى يصطفي من عباده ما يشاء، وإن كان الأمر في الظاهر شراً بالنسبة إلينا فإنها إن شاء الله نعيم لهم في قبورهم، ورحمة لهم من ربهم، وثواب جزيل يكتب في صحائف أعمالهم، وخاتمة حسنة نرجو لهم بها الشهادة عند ربهم، فالحمد لله على كل حال، والحمد لله على ما قضى وقدر، ونسأل الله لهم الرحمة والمغفرة.
اللهم ارحم شهداء حريق الحج، اللهم ارحم شهداء حريق الحج، اللهم ارحم شهداء حريق الحج، اللهم أعظم لهم الأجر والثواب، اللهم ثقل موازينهم، اللهم وآتاهم أجر حجهم الذي قصدوه، اللهم إنا نسألك لهم الرحمة والمغفرة، ولأهليهم الصبر على مصابهم فيهم، اللهم إنا نسألك حسن العزاء فيهم، اللهم إنا نسألك قبول حج من حج من المسلمين، ونسألك أن تخلف بخير للقاعدين من المسلمين، اللهم إنا نسألك رفع الدرجات، وزيادة الحسنات، وتكفير السيئات.
اللهم إنا نسألك النصر للإسلام والمسلمين، اللهم عجل فرج المسلمين، اللهم عجل فرج المسلمين، اللهم عجل فرج المسلمين يا رب العالمين!
اللهم إنا نسألك الأمن في أوطاننا ودورنا، اللهم إنا نسألك النصر على أعدائنا، اللهم إنا نسألك قضاء ديوننا، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا حقوقك التي علينا يا رب العالمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر