وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،، هذه المحاضرة عن بر الوالدين وهي بعنوان: (قرة العينين في بر الوالدين).
ولا شك أن قرة العينين في بر الوالدين فعلاً، كيف لا وقد جاءت الآيات والأحاديث تبين هذا، وسنتعرض إن شاء الله لهذا الموضوع في عدد من النقاط، منها:
1- بر الوالدين في القرآن.
2- بر الوالدين في السنة.
3- بر الوالدين عند الصحابة والسلف .
4- فوائد من بر الوالدين.
5- صور البر وأشكاله قبل الوفاة وبعد الوفاة.
6- إيذاء الوالدين وعقوبة العقوق.
7- الموقف من الأب المشرك والأم الكافرة.
8- الوالد الفاجر والوالدة العاصية.
9- أحكام فقهية تتضمن:
أ- حكم المال إذا أخذه الأب.
ب- الاستئذان في السفر.
جـ- قطع الصلاة لهما.
د- تعارض بر الأب مع بر الأم.
10- ماذا يفعل الولد إذا أمراه بترك الواجبات أو فعل المحرمات أو الوقوع في المشتبهات؟
11- وأخيراً: الشباب والدعوة وبر الوالدين.
بين الله سبحانه وتعالى أهمية بر الوالدين، لما عطف الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك على بر الوالدين، فقال عز وجل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36]، وقال عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23]، وقرن شكره بشكرهما، فقال الله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، وبين الباعث على البر تهييجاً للنفوس، فقال عز وجل: وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، وامتدح الله عبده يحيى، فقال: وَكَانَ تَقِيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً [مريم:13-14]، وكذلك حدّث عيسى عن نفسه في المهد بأن الله عز وجل جعله مباركاً، فقال: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً [مريم:31-32].
وقال سبحانه وتعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24] فيه بيان أن بر الوالدين أعظم من بر الأصحاب؛ لأن الله قال في الأصحاب: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215]، وقال في بر الوالدين: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24]، ولا شك أن خفض جناح الذل من الرحمة أبلغ من مجرد خفض الجناح.
ولذلك فإن هذه الآيات في سورة الإسراء: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] حتى هذه الكلمة اليسيرة التي تعبر عن الزجر لا تقلها، أو لا تقل أي عبارة تدل على الاستقذار والاحتقار، فأخذ الله علينا ألا نؤذي الآباء ولا الأمهات بأقل القليل ولا بكلمة (أف) وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23] فلا يزجرهما بكلام، ولا ننفض اليد في وجوههما بأي طريقة تؤذي: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً [الإسراء:23] فلا تسمِ وتقل: يا فلان، ولا تغلظ عليهما بالقول فضلاً عن السب والشتم، وإنما تناديهم بالقول اللطيف، قال ابن المسيب رحمه الله في قوله تعالى: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً [الإسراء:23] قال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ فكيف يكون حاله.
وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الذي يخرج من بيته يسعى على والديه فإنه في سبيل الله، أجره مثل أجر الخارج في سبيل الله، كما في حديث كعب بن عجرة عند الطبراني وهو حديث صحيح، قال صلى الله عليه وسلم: (إن كان خرج يسعى على صبية صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله).
كذلك إسحاق مع إبراهيم، ويعقوب مع إسحاق، ويوسف مع يعقوب ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:34]، وكذلك لقمان مع ولده.
وكذلك الصحابة رضوان الله عليهم ضربوا الأمثال، فهذا ابن عمر وعمر وبره به معروف، وابن عمرو وعمرو بن العاص وبره به معروف، وهذه عائشة وأبوها، وجابر وأبوه، كل واحد من هؤلاء له قصص تدل على بره بأبيه، وقيس بن سعد بن عبادة وأبوه سعد بن عبادة ، والحسن والحسين وأبوهما علي ، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله سمي بـالسجاد من كثرة عبادته هو وأبوه، والزبير وابنه عبد الله ، وعبد الله بن عباس وأبوه العباس ، وغيرهم من الصحابة آباء وأبناء كانوا بررة رضي الله تعالى عنهم.
وقد كان الصحابة يُفَدون النبي صلى الله عليه وسلم بآبائهم وأمهاتهم، دلالة على أن من أغلى الأشياء عندهم الآباء والأمهات.
وهؤلاء التابعون الذين ساروا على منوالهم، فهذا أويس القرني الذي حبسه اشتغاله بأمه وبره بها عن السفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففاتته الصحبة، لكنه كان مقيماً على طاعة أمه وبره بها، وقد احتبس معها في اليمن قائماً عليها، وهو الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خير التابعين
وهذا ابن عمر كان باراً بأبيه بعد موته، أعطى حماره وعمامته لأعرابي كان أبوه صديقاً لـعمر.
وأيضاً كان السلف من التابعين لهم مواقف، فهذا مسعر بن كدام رحمه الله كانت أمه عابدة، وكان يحمل لها لداً -شيئاً مثل البساط تصلي عليه- ويمشي معها حتى يدخلها المسجد، فيبسط لها اللد، فتقوم فتصلي ويتقدم إلى مقدمة المسجد فيصلي ثم يجلس، ويجتمع إليه من يريد فيحدثهم، كان من العلماء، لكن هذا العالم كان يأتي بأمه معه إلى المسجد، فيفرش لها السجادة تصلي ثم ينصرف إلى درسه، فإذا انتهى حمل لدها وانصرف معها.
وكان زين العابدين -من سادات التابعين- كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟ فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها.
و عبد الله بن عون نادته أمه من بعيد، فأجابها من بعيد، فعلى صوته صوتها -صار أرفع- فأعتق رقبتين.
وكان هؤلاء رحمهم الله يحتسبون الأجر في برهم لآبائهم وأمهاتهم، قال محمد بن المنكدر : بت أغمز رجل أمي، وبات عمي يصلي ليلته فما تسرني ليلته بليلتي، ولا أظن أني أستبدل عملي هذا ولو بقيام الليل.
وكان حيوة بن شريح وهو من كبار العلماء يجلس في حلقته يعلم الناس، فتقول له أمه: قم يا حيوة ! فألقي الشعير للدجاج، فيقوم فيطعمهم، ثم يرجع.
وكان عروة بن الزبير يقول في سجوده: اللهم اغفر للزبير بن العوام وأسماء بنت أبي بكر .
وكان أبو يوسف الفقيه يقول: اللهم اغفر لأبوي ولـأبي حنيفة .
وكان طلق بن حبيب يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيته وهي تحته إجلالاً لها.
ودخل أحدهم مع أبيه السجن، فاحتاج الأب لماءٍ مسخن، فمنعه السجان من الحطب، فقام الولد إلى إناء، فأدناه من المصباح، فظل واقفاً حتى الصبح؛ كي يجهز لأبيه ماءً دافئاً.
وكذلك جاء عند البخاري في الأدب المفرد وإسناده صحيح على شرط الشيخين : [أن
وكذلك جاء عن عائشة في قصة المرأة التي عملت السحر في دومة الجندل ، وقدمت المدينة تسأل عن توبتها، تقول عائشة : [فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم] لأنها جاءت على وقت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت تستفتي عن الكفارة، تقول عائشة : [لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها -أي: بالجواب- حتى إني لأرحمها تبكي، فروت قصة السحر وهي تقول لـعائشة : إني لأخاف أن أكون هلكت، سُقِطَ في يدي وندمت، والله يا أم المؤمنين ! ما فعلت شيئاً قط ولا أفعله أبداً، فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يومئذٍ متواترون، فما دروا ماذا يقولون لها، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلم، إلا أنهم قالوا: لو كان أبواك حيين أو أحدهما لكانا يكفيانك] وجوّد ابن كثير إسناده عند ابن أبي حاتم.
وصور البر وأشكاله كثيرة، فمن ذلك:
وعندما يطعنان في السن ويكبران؛ ينبغي أن يزداد الرفق بهما لحاجتهما إلى المساعدة، وكم من عائلة فيها أب كبير أو أم مشلولة تحتاج إلى تغيير، ويحتاج الأب إلى إزالة نجاسة.. ونحو ذلك، فعند ذلك لا يثبت على هذه الخدمة إلا من عصم الله قلبه وثبته؛ لأن كثيراً من الناس يأنفون ويتأففون، وهي قد كانت تزيل الأذى والنجاسة عنك وأنت صغير وهي فرحانة، وأنت لو أزلت النجاسة عنها وهي كبيرة فإنك تزيله وأنت قرفان، فشتان شتان بينها وبينك.
وكذلك لا يحد النظر إليهما، ما بر بأبويه من أحد النظر إليهما، وأن يكون عندهما خاشعاً ذليلاً، وكذلك يستأذنهما في السفر، ويقوم لهما لو دخلا عليه، ويقبل اليد والرأس ويدعو لهما حيين وميتين، وكما قال الله عز وجل وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:24]، وكما قال نوح عليه السلام: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28].
وينبغي عليه أن يسعى في إرضائهما وأن يتحمل المشاق في ذلك، وأن يجاهد نفسه، فقد روى البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح، عن أبي بردة قال: [سمعت أبي يحدث أن
فهذه آلام الطلق التي تعرضت لها الأم من يجازيها عليه.
وكان هناك رجلان من الصالحين في الطواف فإذا أعرابي معه أمه يحملها على ظهره ويرتجز، ويقول:
أنا لا أزال مطيها لا أنفر وما حملتني ووضعتني أكثر |
وإذا الركائب ذعرت لا أذعر |
لبيك اللهم لبيك
فقال أحدهما: نرمي وندخل في الطواف لعل الرحمة تنـزل فتعمنا.
وقال أبو بكر رحمه الله في زاد المسافر : من أغضب والديه وأبكاهما فيجب عليه أن يرجع فيضحكهما كما أبكاهما، وذلك لحديث عبد الله بن عمرو قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه، فقال: جئت لأبايعك على الجهاد وتركت أبوي يبكيان، قال: ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما).
ولأجل هذا أيضاً في قصة كلاب المشهورة وهو ولد أمية بن أشكر ، وهذا رجل أدرك الجاهلية والإسلام، وابنه كلاب من وجهاء وسادات المسلمين، وقد استعمل عمر رضي الله عنه كلاباً على أيلة ، وكان قد خرج مع المسلمين في الجيش، وصار أميراً على أيلة لـعمر ، فاشتاق الأب لـكلاب يوماً من الأيام، فقال:
لمن شيخان قد نشدا كلاباً كتاب الله لو عقل الكتابا |
يناديني فيعرض في إباءٍ فلا وأبي كلاب ما أصابا |
إذا سجعت حمامة ببطن وادٍ إلى بيضاتها أدعو كلابا |
تركت أباك مرعشة يداه وأمك ما تسيغ لها شرابا |
فإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يلتمس السرابا |
ثم سمع عمر بالقصة فاستنشد الشعر منه، فأنشده له، فرق للأب، وأنفذ خلف كلاب أن يقبل، فقدم ووصف بره لأبيه، وأنه كان يحلب له في الإبل، وكان الأب غير موجود، فقال له عمر : احلب لبناً، فحلبه الولد، وحضر أمية وكان لا يرى الولد، فسقاه عمر من الإناء الذي حلبه ولده في غيبته وهو لا يراه، فقال الأب: إني لأشم رائحة يدي كلاب ، فبكى عمر، وقال: هذا كلاب ، فضمه إليه. وقال عمر : جاهد في أبويك.
قال ابن عبد البر : هذا الخبر صحيح.
وبر الوالدين مراتب، وقد ضرب بعض العلماء مثلاً، قال: لو أن الولد أحضر في بيته طعاماً مستلذاً يشتهيه وأبوه غائب، فأرسل الولد خلف أبيه يدعوه إلى الطعام؛ كان براً شاكراً، ولو أرسل خلفه دابته لكي يأتي الأب عليها، كان في الشكر منه أدخل، ولو ذهب خلفه بنفسه كان في البر أجزل، فإن أمر الغلام بطرح الماء على يديه ليغسل فقد بره وشكره، وإن كان بنفسه طرح الماء على يده ليغسل الأب كان أبر وأشكر.. وهكذا.
صحيح أن الولد قد لا يأثم بإهمال هذه الأشياء مثلاً، لكن الذي يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.
وكذلك الصدقة، فعن ابن عباس رضي الله عنها، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي توفيت، أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم. قال: فإن لي مخرفاً -فستان- فأنا أشهدك أني قد تصدقت به عنها) وعن عائشة رضي الله عنها، (أن رجلاً قال: إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ولي أجر؟ فقال: نعم. فتصدق عنها) رواهما البخاري ، وبوب للأخير باب: ما يستحب لمن توفي فجأة أن يتصدقوا عنه، طبعاً هذا بالإضافة إلى إنفاذ الوصية وإحسان التجهيز والكفن والصلاة والدفن والدعاء، والحج عنه إذا لم يحج والعمرة عنه إذا لم يعتمر، وحتى لو حج واعتمر؛ فإنه يشرع له أن يحج عنه ويعتمر، ولا بأس بذلك.
وبالإضافة إلى ذلك يقضي دينه، وهذا من أعظم ما يقدمه الأبناء نحو آبائهم وأمهاتهم، أن يبادروا إلى قضاء ديونهم.
ومن الأمور كذلك: صلة أصدقاء الأبوين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد وفاة الأب)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده)، فإذا أردت صلة لأبيك المتوفى فصل أقرباءه أو صل أصحابه وأصدقاءه بعد موت الأب، زرهم وتفقدهم ولو بهدية.
وعن أبي بردة قال: (قدمت المدينة ، فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لم أتيتك؟ قلت: لا. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده، وإنه كان بين أبي عمر وأبيك إخاء وود، فأحببت أن أصل ذلك) حديث صحيح.
وهذا أمر يكاد أن يكون مفقوداً؛ لأن الشباب والأولاد يصلون ويزورون أقرانهم، وينسون أصحاب الأب وأقرباءه، وكذلك صاحبات الأم يمكن أن يتفقدها بهدية، أو إرسال سلام ونحوه.
وبعض الناس لا يكتفي بالعقوق أو معصية الأبوين، وإنما يجاهر بالسوء والفحشاء، فيقنط ويقهر أبويه، ويرفع الصوت ويتأفف، ويقول لأحدهما: أراحنا الله منك، وأخذ بعمرك، وعجل بزوالك يا شيبة النحس! ويا عجوز الويل! وحاله وحال أبيه كما قال الشاعر:
أريد حياته ويريد موتي ...................... |
وربما يصل العقوق إلى درجة أن يتمنى الوالد أنه لم يلد له هذا الولد، وربما لو كان عقيماً كان أحسن، وقد ينهب بعضهم مال أبيه، وربما طرد أباه من البيت، ويمنع عنه النفقة، وقد يلطمه، وقد يحجر عليه، وقد يقول لأبيه: قد أخذت حقك، واستوفيت أجلك، وسئمتك الحياة، وملَّك الزمان، يا ليتك تموت ولم تحمل.
قال الحسن : انتهت القطيعة إلى أن يجابي الرجل أباه عند السلاطين. أي: يخاصمه في المحاكم، وخصوصاً إذا كان بغير حق، وهذا العقوق لو صادف دعوة من الأب أو من الأم على الولد فإن دعاء الأب على ولده ودعاء الأم على ولدها مستجاب، ما بينها إلا مسافة تقطع في لمح البصر، تصعد دعوة المظلوم إذا كان أباً أو أماً إلى السماء، فيجيب الله عز وجل.
ذكر أن شاباً كان مكباً على اللهو واللعب لا ينفك عنه، وكان له والد صاحب دين، كثيراً ما يعظ هذا الابن، ويقول له: يا بني! احذر هفوات الشباب وعثراتهم، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألح عليه زاد له في العقوق، وجار على أبيه، ولما كان يوم من الأيام؛ ألح على ابنه في النصح على عادته، فمد الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام فيتعلق بأستار الكعبة ويدعو على ولده، فخرج حتى انتهى إلى البيت الحرام، فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض البسيطة من قرب ومن بعد |
إني أتيتك يا من لا يخيب مـن يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد |
هذا منازل لا يرتد من عقق فخذ بحقي يا رحمان من ولدي |
وشل منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد |
فقيل: إنه ما استتم كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الوالد على ولده) .. (ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد لولده) حديثان صحيحان، فيستجاب دعاء الأب والأم على الولد أو للولد، فكن باراً تنل دعوة مستجابة، ولا تكن عاقاً فتنل دعوة عليك مستجابة، والذي يعق والديه لا شك أنه لا يقدر ما حصل منهما تجاهه، وليس عنده عرفان ولا شكر جميل ولا اعتراف بالنعمة، كما قال أحد الآباء معبراً في عتاب ولده:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعـاً تعل بما أحنو علي وتنهل |
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململ |
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهمل |
تخاف الردى نفسي عليك وإنني لأعلم أن الموت وقت مؤجل |
فلما بلغت السن والغاية التـي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل |
جعلت جزائي غلظة وفظـاظة كأنك أنت المنعم المتفضل |
فليتك إذ لم ترع حق أبـوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل |
ليتك فعلت مثل الجار، لو كان يدري الابن أية غصة قد جرعت، هذا لو أن إنساناً فارق أباه وذهب عنه.
بعض الأبناء والأولاد لا يقدرون مشاعر الأبوين إذا سافر الولد، مع أنه يعتري نفوسهما كثير من الأثر النفسي؛ لأن الولد له فنون وأصدقاء وعالم آخر، فهو يذهب ويسافر ولا يفكر في استئذان أبويه:
لو كان يدري الابن أية غصـة قد جرعت أبويه بعد فراقه |
أم تهم بوجده حيرانة وأب يسح الدمع من آماقه |
يتجرعان لبيِّنه غصص الـردى ويبوح ما كتماه من أشواقه |
ذرفا لأم سل من أحشائها وبكى الشيخ هام في آفاقه |
ولبدل الخلق الأبي بعطفه وجزاهما بالعدل من أخلاقه |
ونحن الآن مع قرب قيام الساعة زيادة في عقوق الأبناء لآبائهم، فيقدم رجل زوجته على أبيه وأمه، ويبر صديقه ويجفو أباه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكن اعلموا أن هذه المسألة دين ووفاء، وأن من عق أباه وأمه أرسل الله عليه من أبنائه من يعقه ويعاقبه، كما ذكر أن عاقاً كان يجر أباه برجله إلى الباب، فعاقبه الله بأن كان له ولد يجره برجله إلى الشارع، فيقول الأب: حسبك! ما كنت أجر أبي إلا إلى الباب، فيقول الولد: هذه الزيادة صدقة مني عليك.
وبعضهم يتكبر على أبويه خصوصاً إذا كان صاحب شهادة علمية أو جامعية، والأب فلَّاح أو فقير أو عامي أو أمي ومثل ذلك، ولما جاء رجل من الخارج معه شهادة عليا وجاءه أصحابه يزورونه في البيت في بلده، وكان أبوه مزارعاً فقيراً، وهيئته هيئة فلاح فقير، فلما دخلوا عليه في البيت خجل أن يقول لهم هذا القروي هذا أبي، فقال: هذا خادم عندي.
وهذا إنسان -هذه قصص واقعية- أخذ من أمه عشرين ألفاً لم يرجعها، والثاني أخذ اثنا عشر ألفاً ولم يرجعها، فلما طالبت الأول قال: أنتِ سكنتِ في البيت عندي ثلاث سنوات تأكلين وتشربين، اعتبري العشرين ألفاً هذه إيجار ثلاث سنوات ونفقة الأكل والشرب.
وهذه بنت تطلب منها أمها نقوداً، تقول: لا أعطيك، ولو سألتيني مرة ثانية لا أدخل بيتك.
ولذلك يروى في الأمثال ما يقارب القصص والأخبار أشياء من الأمور المعبرة: هذا رجل متزوج قالت له زوجته: لا بد أن تذهب بأبيك خارج البيت، لا نستطيع أن نتحمل هذا الطاعن في السن.. هذا أخلاقه لزقة.. هذا وهذا، لا بد أن تخرجه، فهمّ أن يخرج به إلى كهف ومغارة ويضعه هناك، فأخذ الزوج أباه الطاعن في السن، وفي الطريق قال الأب لابنه: أتطرحني في الكهف وهناك برد، هلَّا أتيت لي بلحاف، وكان لهذا الابن ابن وهو حفيد الجد المأخوذ إلى الغار، فقال الأب لولده الصغير: اذهب وهات لحافاً لجدك، وكان هذا الولد الصغير ذكياً، فذهب وجاء بنصف لحاف، فأعطاه لأبيه، وقال: هذا لجدي الذي طلبت، فقال: هذا نصف لحاف، فأين النصف الآخر؟ قال: خبأته لك يا أبي.
وهؤلاء المتزوجون لا يحترمون أمهاتهم في كثير من الحالات، فتراه يبتعد عن أمه، مع أنه قد لا يكون له حاجة للذهاب، وإذا سألته: إلى أين تذهب؟ قال: مالكِ؟ ماذا تريدين؟ ونهرها، ولا يأتيها ولا يسألها ولا يقول: ماذا في خاطرك؟ وماذا تريدين؟ ولا يبدي استعداده لعمل الأشياء لها.
هؤلاء الذين يخرجون من البيوت ينشغلون بزوجاتهم، ويبتعدون عن آبائهم وأمهاتهم وتحس الأم بفراغ كبير من جهة ولدها، وتحس بأن الزوجة قد أخذت ولدها عليها بالكلية، وهذا يسبب الغيرة بين الأم وزوجة الابن.
ومجتمعنا فيه آفات وشرور كثيرة، وبعد الناس عن الدين سبب مآسٍ، تقول إحدى الأمهات: إني أصيح عند ربي، وربما يصل الحال بي من عقوق ولدي أن أدعو على نفسي وعلى بطني الذي حمله وعلى الثدي الذي أرضعه، قالوا لي: اشتكي عند الجهات الرسمية يسحبون جوازه، وأنا لا أريد لولدي الفضيحة، لكن لا يسأل عني وراتبه كبير، وبالشحاذة أخرج منه بمائة ومائتين، وإذا كلمته عن السفر إلى الخارج للعلاج، قال: أنت رجعية. تقول: جلست في المستشفى ثمانية أيام لم يسأل عني إلا مرة، ويكذب علي، تقول: أنا يمكن أقف أمام الله وأصيح وأطلب ربي وأدعو عليه دعوة لا يردها الله، لكن لا أريد الضرر لولدي ولا الأذية، وعنده زملاء في العمل عندهم عوائل يسافرون إلى الخارج، أمه تقول: انظر إلى أقربائك المستقيمين يقول: لا تقولي: انظر إلى فلان وفلان، كل واحد له طبيعته، تقول: تعبت عليه وربيته وهو الآن يغلق الباب ويمشي إذا ما أعجبه الكلام.
وهذه تقول: ولدها لا يصلي ويسكر، ويرفع يده على أمه وهي ربته وتعبت عليه، وهو يتيم وأنفقت عليه ولا يعطيها قرش واحد، ويصرف راتبه على أصحاب السوء وفي المخدرات.
وبعضهم لا يكون عنده لطافة ولا حسن أدب حتى في الاتصال بأهله، فيجعل زوجته تذهب إلى بيت أبيه وتزورهم بالنيابة عنه، وتتصل عليهم بالهاتف، وتقول: خذ كلم أباك.
لا نريد -يا أيها الإخوة- أن نكون مثل الكفار الذين اشتدت عندهم المآسي من هذا النوع، وتقرأ: هذه قتلت أباها، وهذه طعنت أمها عدة طعنات، حتى ظنت أنها ماتت وأخذت النقود وهربت مع عشيقها، أولئك الكفرة وضعوا آباءهم وأمهاتهم في مصحات ودور الرعاية، حتى صار الحال أن يفتخر الأب أمام الآباء الآخرين في دار الرعاية أن ابنه يزوره مرة في الشهر، وأنه إذا ما استطاع أن يزوره مرة في الشهر يتصل به هاتفياً.
وذلك الذي رضي بعد التوسل أن يبقي أمه عنده شريطة أن تعمل في كنس البيت والزبالة وجلب الأغراض للمنـزل، ويعطيها أجرة مقابل خدمة السكن.
وأنتم تسمعون عن الجرائم الكثيرة التي تحصل، ومنها: من قتل أمه واستعمل سكيناً، أو استعمل قالباً من الأسمنت، وتعاون على قتلها هو وزوجته، وغير ذلك من القصص في الواقع؛ لأننا نحن نقلد الكفرة ونسير وراءهم حذو القذة بالقذة، وينبغي أن ينتبه حتى الشباب المتدين إلى برهم بآبائهم وأمهاتهم، فبعضهم يستخدم الشدة في الكلام، وصفق الأبواب، ورفض الخدمة وجلب الأغراض، فضلاً عن أولاد السوء الذين يعملون أكثر من هذا بكثير كما ذكرنا.
وبعض الأولاد يقاطعون آباءهم لأمورٍ دنيوية، فإذا رفض الأب أن يشتري له سيارة فإنه يقاطعه ولا يكلمه.
وكذلك بيَّن له بالحجة والدليل، ولم يقل: افعل ولا تسأل: لماذا؟ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم:42] وهو يبدي شفقته على أبيه في أثناء الخطاب والدعوة، ويقول: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ [مريم:45] فتأمل في هذا الخطاب.. ما أحسنه! وما ألطفه! مع كون الأب كافر من أعداء إبراهيم.
وهذه قاعدة المعاملة قد جاءت بها النصوص الشرعية عندما قال الله عز وجل: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [لقمان:15] أي: ليس فقط إذا كان كافراً أو مشركاً، وإنما حتى لو أمرك بالشرك ماذا تفعل؟ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [لقمان:15] لأن طاعة الله مقدمة وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] مع أنهما يأمران بالشرك ويأمران بالكفر.
وفي صحيح مسلم، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، أنه نزلت فيه آيات من القرآن، قال: (حلفت
وكذلك من الأصول الشرعية في معاملة الوالدين إذا كانا على الكفر قول الله عز وجل: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8].
ولذلك جاء في صحيح البخاري، عن أسماء قالت: (قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم، إذ عاهد النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة في صلتي -راغبة في زيارتي أن أكرمها- وهي مشركة، أفأصلها؟ قال: نعم. صِلي أمك) لا يمنع ذلك، فالوالدان لهما أحكام واستثناءات خاصة.
وقال ابن جرير رحمه الله: بر المؤمنين للكافرين للقرابة لا يحرم؛ إذا لم يكن فيه التقوية على الحرب بكراع أو سلاح، أو دلالة على عورة أهل الإسلام لحديث أسماء ، فهذا هو الموقف من الأب والأم الكافرين والمشركين.
قال الإمام أحمد : يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر، إذا رأى على أبيه أمراً يكرهه يعلمه بغير عنف ولا إساءة، ولا يغلظ له بكلام وإلا تركه، وليس الأب كالأجنبي، وقال: إذا كان أبواه يبيعان الخمر؛ لم يأكل من طعامهم ويخرج عنهم.
وسأل رجل أبا عبد الله : إن أباه له كروم -بساتين عنب- يريد أن يعاونه على بيعها؟ قال: إن علمت أنه يبيعها ممن يعصرها خمراً فلا تعاونه.
إذاً: الأب والأم إذا كانا فاجرين فاسقين عاصيين، لا يعينهما الولد في المعصية، وأحياناً يصل الأمر ببعض الحالات أن يكون الأمر في غاية الوقاحة، وهذه قصة واقعية:
بنت اكتشفت أن أمها -والعياذ بالله- تفعل الفاحشة، فنبهتها ووعظتها، والأم تقول: لا تغضبيني، وتؤلف من عندها كلاماً تقول: الأم إذا كانت زانية، تغسلها بنتها من جنابة الزنا -أي: إنه يجب عليكِ أن تبري- فعليها أن تعظها وتذكرها بالله وتبين لها بالأدلة.
والآن الفساد في المجتمع له حالات كثيرة، فتجد فسق الأبوين مع صلاح الأولاد، فتداخلت الأمور والأشياء، واختلف الأمر عما كان في الزمان الأول، والهداية إذا شملت كثيراً من الشباب والحمد لله فإنه قد ينتج أنه يكون هناك مفارقات في البيت، فينبغي أن يكون الموقف حكيماً والتبيان حاصل، ولو استدعى الأمر واستعان بأقرباء أو التنبيه؛ لأنه قد يكون واجباً تبليغ زوج هذه المرأة بحالها حتى يقوم عليها، فعند ذلك يبلغ ولا يعتبر من العقوق.
بل إن الشريعة قد جعلت (أنت ومالك لأبيك) هو السبب في وجودك، فصار مالك ملكاً له: (أنت ومالك لأبيك) وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من أطيب ما أكل الوالد من كسب ولده؛ لأن ولده من كسبه.
فإذاً: يشترط ألا يضراه وألَّا يأخذا من ولد فيعطيا ولداً آخر.
وتجب النفقة للأبوين المحتاجين شرعاً، والأم إذا كانت متزوجة من رجل آخر فإن زوجها ينفق عليها، لكن لو احتاجت فيجب على الولد أن ينفق على أمه إذا لم تجد طريقاً.
ولا يحق للولد أن يمنع أمه من الزواج ما دامت ترغب في ذلك وهو متيسر، ويبلغ العقوق ببعضهم أن يعير أمه بالنكاح إذا تزوجت، أو البنت تقول: تزوجت على أبي وأنت فيك كذا وكذا، هذا حرام عليها ولا يجوز.
ويجب استئذانهما في الجهاد كما ثبت عند أبي داود : (أن رجلاً هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن، فقال: هل لك أحد في اليمن ؟ قال: أبواي، قال: هل أذنا لك؟ قال: لا. قال: فارجع فاستئذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما) وهذا إذا لم يكن الجهاد فرض عين، وكان النفير عاماً، فإن كان النفير عاماً؛ فإنهما لا يطاعان في الجلوس.
وينبغي أن يعلم أن الجهاد قد يكون فرض عين، وطاعة الوالدين فرض عين كذلك، فلا يجب نسيان فروض الأعيان الأخرى والاحتجاج بأن هناك فرض عين، علماً أنه في كثير من الحالات يكون المستند الشرعي في إيجاب الجهاد على شخص بعينه غير وارد بأمور تتعلق بحال المسلمين، فإنه لا يجوز للمسلمين إعلان الجهاد إذا لم يكونوا على استعداد، وليست المسألة إلقاء المسلمين كالشياة لتذبح، وإنما إذا صارت المسألة مسألة دفاع عن النفس فإن المسلم يدافع عن نفسه، فالمسلم إذا دوهم في بيته أو عرضه وماله؛ يباح له أن يقاتل ويرفع السلاح ويدافع عن نفسه، ويجب على المسلمين دعمه وتقديم كل أشكال المساعدة الحربية والمالية والاقتصادية والمعنوية والدعوة والتعليم.. ونحو ذلك.
وقال الإمام أحمد في الرجل يغزو وله والدة، قال: إذا أذنت له وكان له من يقوم بأمرها يجوز له أن يجاهد. وقال في رواية أبي داود : يظهر سرورها. قال: هي تأذن لي. قال أحمد : إن أذنت لك من غير أن يكون في قلبها، وإلا فلا تذهب.
قال الإمام أحمد : ينبغي أن تكون راضية قلبياً مطمئنة ومقتنعة، وجاء كلام المفسرين في أصحاب الأعراف أن منهم أناساً غزوا بغير إذن والديهم ولا رضا الوالدين فقتلوا، فمنعهم القتل في سبيل الله من دخول النار، ومنعهم عصيانهم لآبائهم دخولهم الجنة، فهم على جبل بين الجنة والنار.
نقول أولاً: إذا كان عندك مجال لطلب الرزق في بلدك بما يكفيك، فبقاؤك عندهما واجب البر بهما، وإذا كان لا مجال عندك والحالة ضيقة وأنت محتاج ولا بد أن تذهب إلى بلد آخر؛ فإنك تترفق وتستأذن بالكلام الطيب، حتى تستغني فترجع إليهما.
وكذلك السفر لطلب العلم، فإنه يستأذن والديه، فقد روي أن الفقيه نصر بن أبي حافظ المقدسي لما رحل من بيت المقدس لطلب العلم إلى الفقيه الكازروني من أرض العراق ، قال له الكازروني لما قدم عليه: ألك والدة؟ قال: نعم. قال: فهل استأذنتها؟ قال: لا. قال: فوالله لا أقرأتك كلمة حتى ترجع إليها، فتخرج من سخطها، قال: فرجعت إليها، فأقمت معها إلى أن ماتت، ثم رحلت في طلب العلم.
وأما إن كان لتحصيل علم يحتاج إليه، فإنه لا بأس له بالسفر، مثل: أن ينوي طلب العلم، ولا يجد مجالاً إلا في الدراسة في كلية شرعية في خارج البلد ولا مجال لطلب العلم في بلده، والعلم الذي يريد طلبه يحتاجه أو يحتاجه البلد، فإنه يخرج ولو بغير إذنهما، مع غاية التلطف وتكرار المزاورة والإقامة عندهما ما أمكن ذلك.
فحصلت بعد ذلك القصة المعروفة من هذه المرأة التي زنت بالراعي واتهمت جريجاً ، وجاء بنو إسرائيل فكسروا صومعته وضربوه، ثم توضأ وصلى ركعتين ثم دعا الله سبحانه وتعالى وجاء للغلام، فقال: من أبوك؟ قال: الراعي، فبعد ذلك عرفوا شأنه، وسبح الناس وعجبوا، وأرادوا أن يعيدوا بناء الصومعة من الذهب، فقال: أعيدوها طيناً كما كانت.
فالمهم أنه إذا ناداك أحد الأبوين وأنت تصلي صلاة النافلة، فإن كنت تعلم أنك لو ما أجبت الآن يغضبان عليك فعليك أن تقطع صلاة النافلة وتجيب، وإن كانت فريضة تخفف الصلاة.
وكذلك لو قال لك أبوك مثلاً: لا تكلم خالك أو عمك، أو قالت لك أمك: لا تكلم خالتك، ماذا تفعل؟ تكلم خالتك سراً وتكلم عمك سراً، فتصل الرحم ولا تعصيها في ظاهر الأمر، أي: يسهل عليك ألا تغضبها.
وإذا تعارضا تعارضاً ليس فيه معصية، لكن لم تستطع أن تصلهما جميعاً مثل الإنفاق، ما عندك إلا مال قليل لا يكفي إلا لواحد منهما، فالأم مقدمة على الأب في البر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بها ثلاثاً ويحاول التوفيق ما أمكنه.
كذلك إذا كان كل واحد منهما أمراه بأمرٍ في نفس الوقت، فإنه يحاول التوفيق ما أمكنه ذلك بكل طريقة يفرغ وسعه وجهده لهذا الأمر، كما قال رجل لـمالك : والدي في السودان كتب لي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من الذهاب، تقول: ابق عندي، فقال الإمام مالك: أطع أباك ولا تعص أمك، معناه: أن يجتهد في إقناع أحد الطرفين أو ماذا يفعل؟ يأخذ أمه ويذهب إلى أبيه، ومعنى كلام مالك رحمه الله: المبالغة في إرضاء الطرفين، والأم لها ثلثي البر.
وكذلك من المسائل التي تكلم فيها العلماء: لو أن الأم أرادت الولد شاهداً، أو يترافع عنها في المحكمة ضد الأب؛ لأن الأب يقصر مثلاً في النفقة ونحو ذلك، فقال بعض العلماء: لا يترافع الابن وإنما يبقى خارج النوبة، وبعضهم قال: إذا كانت مظلومة يترافع لها ضد أبيه مع الإحسان للأب، وإنما المعاملة من باب أنها تمشي الأوراق.
وكذلك سئل الأوزاعي : عن رجل تمنعه أمه عن الخروج إلى الجماعة والجمعة؟ فقال: ليطع ربه وليعص أمه في ذلك.
وروى البخاري عن الحسن قال: من منعته أمه عن العِشاء في الجماعة شفقة عليه فلا يطعها. لو قالت: يا ولدي! برد، والمسجد بعيد، فصلاة الجماعة واجبة، والولد بقدرته أن يذهب وليس هناك خوف عليه لا من اختطاف ولا من قتل ولا من حرب ولا من سباع، فإنه يذهب إلى الجماعة.
سمعت هارون بن عبد الله يقول: جاءني فتى، فقال: إن أبي حلف عليَّ بالطلاق أن أشرب دواءً مع مسكر، قال: فذهبت به إلى أبي عبد الله -الإمام أحمد - فأخبرته أن هذا الأب يأمر ولده بأن يشرب الدواء مع مسكر، فقال الإمام أحمد : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام) ولم يرخص له.
وقال الإمام أحمد في رواية الحارث : في رجل تسأله أمه أن يشتري لها ملحفة للخروج؟ قال: إن كان خروجها في بابٍ من أبواب البر كعيادة مريض أو جارة أو قرابة لأمر واجب لا بأس، وإن كان غير ذلك فلا يعينها على الخروج. فلو قالت: خذني على حفلة لفتاة وأنت تعلم أن فيها منكرات؛ فإنه لا يجوز لك أن تذهب بها مع التلطف، ولو دعت عليك.
وفي رواية عن الإمام أحمد : أنه سئل عن رجل يكون له والد يكون جالساً في بيت مفروش بالديباج -يعني: الحرير والحرير حرام- الأب يقول للولد: ادخل عليَّ، والأب جالس على الأريكة وأمامه بساط من الحرير؟ قال الإمام أحمد : لا يدخل عليه، قلت: يا أبا عبد الله ! والده، قال: إلا إذا دخل يلف البساط من تحت رجليه ويدخل، المهم ألا يطأ الحرير.
ومن الدقائق التي ذكرها أهل العلم كذلك ما ذكره الملا علي قاري في شرح الفقه الأكبر قال: لو كان لمسلم أم أو أب ذمي، فليس له أن يقودهما إلى البيعة، لأن ذهابهما إلى البيعة معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
لكن لو قالا له: إذا كانت لا تريد أن تأخذنا، فنحن نذهب في سيارة أجرة، لكن ارجع لنا عند موعد الخروج من الكنيسة، هل يذهب ويأتي بهما أم لا؟ الجواب: أما إيابهما منها إلى منـزلهما فأمر مباح، فيجوز له أن يساعدهما، ولعل آخر رجوعهما عن البيعة إلى المنـزل يوفق الله للتوبة وحسن الخاتمة.
لكن لو أنهما أمراك أن تأكل معهما، وإذا ما أكلت معهما يغضبان عليك، والطعام الذي يأكلانه فيه شبهة، ماذا تفعل؟
بناءً على قول الأكثرين: فإنك تأكل معهما فإن ترك الشبهة مستحب، وطاعة الوالدين واجبة، فيقدم الواجب على المستحب، فإن كان الأب مكسبه من حرام أو الأم مكسبها من حرام أيضاً، فإذا علمت أن هذا حرام معين؛ لا تأخذه ولا تأكل منه، وإذا اختلط الحرام بالحلال، وليس فيه تمييز؛ فإنك تأكل إذا أمراك بذلك، فإن كان حراماً خالصاً؛ فإنه لا يأكل، وإن كان مختلطاً فإنه يأكل.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله: عن رجل مات أبوه وعليه دين وله مال فيه شبهة، فهل يجوز لي أن آخذ مال الأب وأستوفيه لأقضي به الدين؟ قال: تدع ذمة أبيك مرتهنة أي: اقض الدين لأن قضاء دين أبيك واجب، وتحصيل الأموال التي فيها شبهة ليس بحرام، فتسدد دين أبيك.
وقال في مسألة: لا يجاهد من أبواه إلا بإذنهما. أي: جهاد التطوع، ويروى ذلك عن عمر وعثمان وهو قول مالك والشافعي وسائر أهل العلم، واحتجوا بالأحاديث؛ ولأن بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية وفرض العين مقدم، فإن تعين عليه الجهاد سقط إذنهما، وكذلك ما وجب كالحج وصلاة الجماعة والجمعة والسفر للعلم الواجب لأنه فرض عين، هذا عرفناه سابقاً أنهما لا يطاعان في تركه.
لكن بالنسبة للنوافل فإذا أمراه بترك النافلة مطلقاً لا يطاعان، لو قالا له: لا تصل صلوات نافلة أبداً، لا نسمح لك أ، تصلي إلا الفريضة، فماذا يفعل؟ لا يجيب. إن قالا له: لا تصوم صيام تطوع نهائياً وليس عليه ضرر في الصيام، فإنه لا يجب عليه الامتثال، فليس لهما منعه من الأشياء النافلة مطلقاً، والسنن الراتبة إذا دعياه لحاجتهما المرة بعد المرة فليطعهما، أي لو قالا: لا تصل السنة، تعال نريدك في مشوار، يذهب معه هذه المرة، صلاة الليل تعال أريدك في قضية، ليس فيها شيء، لكن دائماً يقول له: لا تصل ولا نافلة ولا سنة راتبة ولا قيام ليل، فلا يطاعان في هذا، لأن هذا ليس من حقهما.
هذه قاعدة: إذا كان النهي عن النوافل على سبيل الدوام واللزوم فلا طاعة لهما؛ لأن فيه إماتة لشعائر الإسلام.
وذكر بعض أهل العلم: أن الوالد لا يجوز له منع ولده من السنن الراتبة، وكذلك الزوج لا يمنع زوجته من السنن الراتبة، والسيد لا يمنع عبده من السنن الراتبة، وصاحب الشركة لا يجوز له منع الموظفين من السنن الراتبة بالكلية، فكل ما تأكد شرعاً لا يجوز منع الولد منه، وكذلك النفل المؤكد كطلب العلم إذا كان لا يضرهما، قال بعض العلماء: إنه لا يطاع في مثل ذلك.
وكذلك تطليق الزوجة برأي مجرد: طلق زوجتك لماذا؟ لا يوجد سبب، طلق، هذا لا يطاعان فيه حيث لا ضرر ولا ضرار، فإذا أمراه بطاعة الزوجة لمجرد هوى وهذا يحصل عليه ضرر فلا يلزمه الطاعة.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله: عن رجل يصوم التطوع، فسألاه أبواه أو أحدهما أن يفطر؟ قال: يروى عن الحسن أنه يفطر وله أجر البر وأجر الصوم، وقال: إذا أمراه أبواه ألا يصلي إلا المكتوبة يداريهما ويصلي.
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ففي الصوم كره الابتداء فيه إذا نهاه، واستحب الخروج منه، وأما الصلاة فقال: يداريهما ويصلي.
وقد نص أحمد على خروجه من صلاة النفل إذا سأله أحد والديه.
إذاً: إذا كان النهي عن النافلة مطلقاً لا يطاعان، أما إذا كان مرة بعد مرة سألاه أشياء كثيرة؛ فيطيعهما.
إن نهياه عن طاعةٍ لهوى وتحكم ليس فيه أي مصلحة لهما، مثل لو قالا له: لا تحلق رأسك في الحج والعمرة، لماذا؟ قالا: لأنك سوف تصير أصلع وشكلك قبيح، لا نسمح لك أن تحلق رأسك في الحج والعمرة، فهذا تحكم ولا طاعة لهما في هذا مع التلطف والمداراة.
وسئل أحمد في رجل لا يخشى على نفسه العنت؟ فقال له: لا تتزوج، قال أحمد في رواية المروذي : إن كان رجلاً يخاف على نفسه ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهما ذلك، ولا يطيعهما.
لكن إن قالا له: تزوج لكن نريدك أن تتزوج فلانة، ولا نرضى لك غيرها، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقاً، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر منه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه فإن النكاح أولى، فإن أكل المكروه مرارة ساعة وعشرة المكروه من الزوجين على طول تؤذي صاحبه ولا يمكنه فراقه، وبناءً على ذلك لو قالا له: لا تتزوج إلا فلانة وهو لا يريدها؛ فإنه لا يجب عليه الطاعة في هذه؛ لأن هذه عشرة عمر، والضرر فيها واضح جداً.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية : عن رجل متزوج وله أولاد، ووالدته تكره الزوجة وتشير عليه بطلاقها، فهل يجوز له طلاقها؟
فأجاب: لا يحل له أن يطلقها لقول أمه، بل عليه أن يبر أمه، وليس تطليق امرأته من برها، والله أعلم.
وسئل رحمه الله: عن امرأة هي وزوجها متفقان، وأمها تريد الفرقة، فلم تطاوعها البنت، فهل عليها إثم في دعاء أمها عليها؟
فأجاب: الحمد لله، إذا تزوجت لم يجب عليها أن تطيع أباها ولا أمها في فراق زوجها ولا في زيارتها، ولا يجوز في نحو ذلك، بل طاعة زوجها عليها إذا لم يأمرها بمعصية الله أحق من طاعة أبويها، وأيما امرأة ماتت وزوجها عليها راضٍ دخلت الجنة، وإذا كانت الأم تريد التفريق بينها وبين زوجها فهي من جنس هاروت وماروت لا طاعة لها في ذلك ولو دعت عليها، اللهم إلا أن يكونا مجتمعين على معصية، أو يكون أمره للبنت بمعصية الله، والأم تأمرها بطاعة الله ورسوله الواجبة على كل مسلم، فإذا كانت الزوجة تعيش بطاعة الله؛ فلا يحق لأحد أن يتدخل.
ووردت هناك أحاديث في طلاق الزوجة إذا أمرها الأب، ففي الحديث الصحيح عند ابن حبان : (أن رجلاً أتى
الجواب: إذا كان تطليقه للمرأة فيه مصلحة للولد بسبب عصيان الزوجة وأنها فاجرة ومقصرة وفيها سوء في الدين والخلق، فيجب على الولد أن يطيع أباه وأمه في تطليق الزوجة إذا ما انصلحت، بل يجب عليه.
وسأل رجل الإمام أحمد ، فقال: إن أبي يأمرني بطلاق امرأتي. قال: لا تطلقها. قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته؟ قال: حتى يكون أبوك مثل عمر عنده حكمة عمر ونظر عمر .
ونص أحمد أيضاً أنه لا يطلق لأمر أمه، فإن أمره الأب بالطلاق ينظر إذا كانت الزوجة مقصرة عاصية طلق، وإذا كانت الزوجة مطيعة؛ لا يجب عليه الطلاق ويهدم بيته.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: يبر في جميع المباحات، فلو أمراه بأمر مباح يجب عليه طاعتهما فيما أمراه ونهياه، وهذا ما إذا كان فيه منفعة لهما ولا ضرر عليه.
إذاً: إذا كان عليه ضرر وليس فيه مصلحة لهما فلا تجب عليه الطاعة.
والذي ينتفعان به ولا يتضرر هو به؛ هذا يجب عليه أن يطيعهما فيه، فإذا كان ينتفعان به ولا يضره؛ فإنه لا يشترط في وجوب طاعتهما فيه فإن كان يضره طاعتهما فيه؛ لم تجب طاعتهما فيه، لكن إن شق عليه ولم يضره -أي: يمكن أن يتحمل مع شيء من المشقة- وجب عليه الطاعة لعظم حق الوالدين.
نقول أيها الإخوة: لا شك أن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى فيها متطلبات، وتحتاج إلى تضحيات وتقديم أوقات وأموال، وكذلك الأبوان يحتاجان إلى بر، ويجب ألا يفصل الشاب بين بر الوالدين والدعوة إلى الله، ويقول: أنا نذرت نفسي للدعوة وطلب العلم، يعني أن الوالدين ليس لهما حق في هذا، هذا خطأ، ويجب أن يكون بر الوالدين داخل في ضمن الدين والعبادة، بل هو كذلك ومنه فلماذا يفصل؟
وبعضهم يقدم طاعة إخوانه والشباب من أصحابه على طاعة والديه في جميع الأحوال وهذا خطأ، ولذلك فإن طاعة الوالدين مقدمة ولا شك.
ونأتي هنا إلى مسألة: إذا قال الأب لولده: لا تطلب العلم، ولا تحضر ولا حلقة؟ فهل يطاع لا شك أن هذا لا يطاع؛ لأن هذا تحكم بلا دليل، وفيه ضرر على الولد بحيث يمنعه من حضور حلق العلم بالكلية، لكن لو قال: اليوم لا تحضر، تعال أريدك؛ يذهب مع أبيه، أما أن يمنعه من طلب العلم بالكلية؛ فهذا لا يطاع.
كذلك لو قال: لا أريدك أن تدعو إلى الله سبحانه وتعالى أبداً؛ فأيضاً لا يطاع فيه.
لكن لو كان له مشوار مع شخص من المدعوين، وحضرت حاجة للأب فيقدم الأب فإن له الحق الشرعي.
كذلك إذا قال له: لا تصحب إخوانك في الله، ولا بد عليك أن تعتزلهم، فهذا الأمر الكلي بالاعتزال لا يطاع فيه؛ لأن فيه ضرر على الولد وفقد الرفقة الصالحة، وربما حصل للولد فيه انتكاسة، ولذلك لا يطاع في هذا.
لكن لو قال: أنت إلى أين ذاهب؟
قال: أذهب مع إخواني في الله. قال: أحتاجك في الذهاب معي إلى السوق؛ يقدم الأب ويذهب معه إلى السوق، لكن أن يقول: لا تذهب معهم مطلقاً فلا يطاع في هذا.
وينبغي على الشباب والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أن يرفقوا بآبائهم وأمهاتهم، وألا يضغطوا عليهم الضغط الذي يسبب لهم كسر الخاطر، ويسبب لهم الضيق، ولا يفرض عليهم الأمر فرضاً، يقول: ارض بالواقع وإلا أعصيك، إما أن تعطيني الموافقة وإلا أعصيك، فهذا لا يصح أن يفعل مع الأب أو الأم.
ويجب أن نفرق بين رفض الأب والأم شيئاً ضرورياً للابن شرعاً، كطلب العلم والزواج، وبين أن يرفض له أموراً يمكن للابن أن يستغني عنها دون ضرر عليه في الدين، أي: هناك فرق بين أن يرفض للابن أو يأمر الابن بشيء فيه ضرر على نفسه ودينه، وبين أن ينهاه عن شيء فيه مشقة عليه، لكن يمكن أن يتحمل ولا يتأثر منه، فيطاعان فيه.
وعند النظر في أمور الدعوة والتربية؛ فإنك تنظر هل هذا الأمر ضروري بالنسبة لك، وهل إذا لم تفعله تأثم مثلاً أو تتضرر في دينك أو يحصل لك انتكاسة؟ فإذا كان يحصل وليس للأب منفعة أو الأم بأمرهما؛ إذاً لا يطاعان، وتعمل هذه العبادة، وإذا كان لا يحصل عليه ضرر في دينه، ولا يأمرانك أمراً نهائياً كلياً عاماً، وإنما المرة بعد المرة قد تفوت عليك مناسبة حلقة، درس، مرة فهنا تلزم الطاعة.
ويجب أن نفرق كذلك بين أسباب مواقف الآباء إذا منعوا أولادهم من مرافقة أهل الخير، إذا منعه عداءً للدين وأهله قال: أنا لا أحب المتدينين أبداً، لا تمشِ معهم. هذا ليس له طاعة، قد يخاف على ولده من أمور متوهمة، فهنا الابن يراعي المقصد الحسن للأب؛ لأنه يخاف عليه، يراعي ذلك ما استطاع، وأحياناً يفعل ذلك الأب والأم تحكماً، يقول: لا تفعل كذا.. لا تذهب مع فلان.. لا تذهب مع هؤلاء.. لا تحضر درساً في كذا.. افعل.. نفذ، فهذا ذكرنا فيه أن هذا المنع بالكلية لا وجه له شرعاً.
وأحياناً يظن الأب أن المصلحة الدراسية للولد أن يدرس طيلة الوقت وألا يخرج مع إخوانه في الله وألا يحضر مجلس علم ونحو ذلك، قصد الأب ألا يضيع الولد الدراسة، فعلى الولد أن يثبت للأب أنه ليس بمضيع للدراسة، وأنه يقوم بها حتى يتشجع الأب على السماح لولده.
وختاماً: فإنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم البر بآبائنا وأمهاتنا، وأن يجعلنا من القائمين بحقوقهما والعاملين على إرضائهما في طاعته سبحانه.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر