أيها الأخوة: موضوعنا لهذه الليلة موضوع مهم، ويكفي في التدليل على أهميته حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: ( الدين النصيحة) يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين بأنه النصيحة.
وهذا الموضوع -أيها الإخوة- يتكون من ثلاثة أركان:
1- الكلام على الناصح.
2- الكلام على المنصوح.
3- الكلام على النصيحة.
لأن أركان هذا الموضوع ثلاثة: ناصح، ومنصوح، ونصيحة.
وقبل أن نبدأ في الكلام على الأركان الثلاثة لهذا الموضوع فلا بد من مقدمة يكون فيها تعريف النصيحة وأهميتها ومجالاتها. فأقول وبالله التوفيق وأسأله سبحانه وتعالى أن يقينا الزلل ويجنبنا الباطل والوقوع فيه.
أيها الإخوة: كلمة نصيحة مأخوذة من الفعل العربي نصح، قال ابن منظور في لسان العرب: نصح أي: خلص، والناصح أي: الخالص من العسل وغيره، العسل إذا كان صافياً يسمى ناصحاً أي: خالصاً، ويقال: نصحاً ونصيحة في المصدر، وتقول: نصحت فلاناً ونصحت له، تقول: نصحته ونصحت له، ونصحت له أفصح؛ لأن القرآن ورد بهذا، فقال عز وجل عن نبيه نوح عليه السلام: وَأَنْصَحُ لَكُمْ [الأعراف:62].
ويقال: انتصح فلان أي: قبل النصيحة، وقال ابن حجر رحمه الله: النصح هو تخليص الشيء من الشوائب والغش. فكأنه شبه الناصح بأنه يخلص المنصوح من الغش، ويخلصه من الشوائب التي علقت به وبحاله، كما يخلص العسل من الشمع والشوائب، ومنه قول الله عز وجل: تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8] ما هي التوبة النصوح؟
التوبة الخالصة من شوائب الرياء، والذنوب، والإصرار، وعدم الندم.. إلى آخره، فالتوبة النصوح من هذا الباب.
النصح هو الخياطة، والمنصحة هي الإبرة، والمعنى: أن الإنسان يلم شعث أخيه.. يلم ما ظهر من أخيه من عيوب بالنصيحة، كما أن الإبرة تلم الثوب المهتري الذي يراد رتقه، فتأتي هذه الإبرة فتلم شعث هذا الثوب، فكذلك الناصح يلم شعث أخيه وما ظهر منه من العيوب.
قال ابن الأثير رحمه الله: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة، وهي: إرادة الخير للمنصوح له، ذكرنا التعريف في اللغة وهذا هو التعريف في الشرع.
وقال ابن الأثير رحمه الله: فلا يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة غير كلمة النصيحة، أي: بلغ من جماع هذه الكلمة وبلاغتها أنه لا يمكن التعبير عن هذا المعنى بكلمة واحدة إلا كلمة النصيحة.
وقد جاءت هذه اللفظة في القرآن الكريم بصيغ شتى: جاءت بصيغة الفعل، وجاءت بصيغة الاسم والمصدر، فمن ذلك أن الله ذكر هوداً عليه السلام بصيغة الوصف، فقال: وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ [الأعراف:68] بصيغة الوصف، وذكر نوحاً عليه السلام بصيغة الفعل، فقال عز وجل عن نوح عليه السلام: وَأَنْصَحُ لَكُمْ [الأعراف:62] أنصح فعل، والفعل يدل على تكرار الحدوث، أي: عندما تقول: أنصح، يعني: أستمر في النصيحة.. نصيحة بعد نصيحة، وإذا قارنا بين نوح وهود فمن كان أكثر نصحاً لقومه في التكرار؟ نوح؛ لأن الله قال في القرآن: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً [نوح:8-9] بالليل والنهار سراً وعلانية، فكان دائماً يكرر، فلذلك جاء التعبير عن دعوة نوح ونصيحته لقومه من شأن الدال على تكرار الحدوث، بينما جاء عن هود عليه السلام بالمصدر الدال على حدوثه حيناً بعد حين، وفترة بعد فترة، وهذه المسألة هي من الأهمية بمكان، فإن الله عز وجل أبلغنا أنها كانت وظيفة الرسل، فقال عن نوح عليه السلام: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:62] وظيفة نوح والرسل هي النصيحة بدليل هذه الآية.
وكيف استطاع إبليس لعنه الله أن يخدع أبانا آدم وأمنا حواء عن طريق النصيحة، ما هو الدليل؟ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21] قال: أنا ناصح وأريد النصيحة هذه شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120] أنا ناصح، فما تبعاه إلا بعد أن قاسمهما إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21] فانظر إلى عمق القضية، وكذلك كيف اقتنع فرعون ومن معه في بيته بأن تأتي أخت موسى لهم بأمه؟ لم يقتنع إلا بعدما دخلت عليه الأخت من باب النصيحة، أن هذه المرأة التي ستأتي بها ناصحة، فقالت أخت موسى لما عجزت النساء عن إرضاع موسى عليه السلام فجلس يتلوى ويبكي قالت لهم: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12] فعند ذلك اقتنعوا وأتي بأم موسى فصارت ترضع ابنها وتأخذ الأجر.
لقد جعل الله النصيحة حيلة العجزة، وعذر القاعدين للضرورة، ورافعة للحرج عنهم في حالة قعودهم، الناس الذين لم يستطيعوا الجهاد بسبب المرض أو الشيخوخة جعل الله عز وجل النصيحة عذراً لهم في القعود، إذا قعدوا ما عليهم حرج بشرط أن ينصحوا، قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:91] ما عليهم حرج في حالة إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:91].
وعن أبي رقية تميم بن أوس الداري -وهو صحابي جليل كني بابنته؛ لأنه لم يكن له غيرها- قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم .
لقد عظم الرسول صلى الله عليه وسلم النصيحة فجعلها هي الدين، لماذا؟ لعظمها، قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة ) عرَّف الدين بأنه نصيحة؛ لأن النصيحة هي جل الدين، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة) هل الحج كله عرفة؟ لا. لكن لعظم عرفة في الحج وهو أعظم ركن في الحج، فقال: (الحج عرفة) كذلك هنا قال: (الدين النصيحة) فإن قلت: يا أخي، ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم لما سأله الصحابة: لمن يا رسول الله النصيحة؟ قال: لله، كيف تكون النصيحة لله؟ قد يقول بعض الناس: هل يحتاج الله إلى نصح؟ كيف ينصح العبد ربه؟ فنقول: إن الله تعالى لا يحتاج إلى نصيحة، ولكن النصيحة لله كما قال العلماء: تكون بالإيمان به إيماناً كاملاً بأسمائه وصفاته من غير التعرض لها بأي نوع من أنواع التحريف أو التعطيل أو التشبيه، وطاعة أوامر الله عز وجل والانتهاء عما نهى عنه، وتعظيم حرماته.. وهكذا، هذه هي نصيحة العبد لربه.
فإن قلت: وما نصيحة العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأقول لك كما قال أهل العلم في شرح الحديث: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وتعظيم حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم، والإحسان إلى أهل بيته وإلى ذريته، والقيام بسنته والذب عنها، وتميز صحيحها من سيقيمها، ونشر السنة بين الناس، هذه نصيحة المؤمن لرسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: ولكتابه؟ كيف تكون النصيحة للقرآن؟
النصيحة للقرآن هي الإيمان بأنه كلام الله تعالى منزل غير مخلوق، والإيمان بمحكمه ومتشابهه، والعمل بالمحكم وتطبيقه في الواقع، وتلاوته حق التلاوة.. وهكذا، هذه هي النصيحة للقرآن.
أما النصيحة لأئمة المسلمين: فإن كانوا أبراراً يتقون الله عز وجل فإن نصحهم بطاعتهم واتباعهم وتأييدهم، ونصرتهم والجهاد معهم، والقيام بحقوقهم وعدم شق عصا الطاعة عليهم.. وهكذا.
والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم وتعليمهم وتفقيههم بأمور دينهم.
فانظر رحمك الله كيف جمع هذا الحديث أمور الدين كله، والآن تعلم -يا أخي- كيف كان الدين والنصيحة.
ثانياً: فيها تحقيق معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من النصيحة.
ثالثاً: تنظيف المجتمع من المحرمات والمنكرات والسلبيات والموبقات، هذه كلها من نتائج النصيحة.
رابعاً: القيام بحقوق الأخوة الإسلامية لا يتحقق إلا إذا قمنا بواجب النصيحة.
خامساً: النصيحة تعبر عن تكامل المجتمع المسلم، فهي مظهر من مظاهر المجتمع المسلم، الآن عندما نقول: إن المجتمع المسلم مجتمع عظيم، وعندما نقارن بين المجتمع المسلم والمجتمعات الأخرى، تبرز النصيحة معلماً بارزاً من معالم المجتمع الإسلامي، دلونا على أي مجتمع يطبق النصيحة؟ بالعكس تلقى المجتمعات الأخرى غير الإسلامية مجتمعات أنانية، لا أحد ينصح أحداً، ولا أحد يعلم أحداً، وإذا علم أحد مصلحة في أمرٍ كتمها وأخفاها وصار انتهازياً ينتفع هو منها ويخفيها عن الآخرين، ولا أحد يصلح خطأ الآخر ودعوى الحرية الشخصية تسير في تلك المجتمعات، ولا أحد ينكر على أحد أي شيء؛ لأن كل شخص حر في نفسه، ولهذا استشرى الفساد وعم في المجتمعات الأخرى.
أما المجتمع الإسلامي فمن أهم ميزاته وعناصر تكوينه وبروزه وثباته واستمراريته: النصيحة، تصور الآن لو طبقنا النصيحة تطبيقاً صحيحاً، هل يكون هناك منكر في المجتمع؟
لو طبقنا النصيحة تطبيقاً صحيحاً هل يتخلف المسلمون؟ لا يمكن، فما وقع الآن من تقصير وإهمال في النصيحة أدى إلى هذا التخلف الذي عليه المسلمون.
النصيحة لا تنطلق إلا بشعور بالمسئولية، أي: متى فرط المسلمون بالنصيحة؟ لما فقدوا الشعور بالمسئولية، وعندما تشعر بالمسئولية عن أفراد المجتمع، وتشعر بالمسئولية عن حقوق الله التي فرضها عليك، عندئذ تقوم وتنصح، لكن إذا لم يكن عندك شعور بالمسئولية فلن تنصح، ولذلك الناس الذين لا يشتغلون بالدعوة ولا بالنصح، مسئوليتهم وشعورهم بالمسئولية ميتان، لذلك لا يقومون بحقوق النصيحة.
وانظر معي إلى هذا الحديث العظيم الصحيح عن جرير بن عبد الله قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم) رواه البخاري ، وزاد مسلم في صحيحه : (على السمع والطاعة فيما استطعت، والنصح لكل مسلم) فبايع صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله ، وكان من سادات قومه، كان ملكاً متوجاً فيهم -كبيراً فيهم- جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فبايعه على السمع والطاعة، وهذا شيء عظيم جداً، والصلاة والزكاة من أركان الدين، والنصح لكل مسلم، اشترط الرسول صلى الله عليه وسلم في البيعة النصح، لأهميته، وقرنه بالسمع والطاعة، والصلاة والزكاة دلالة على عظم النصح.
ولذلك كان جرير بن عبد الله قد انتصح نصحاً عظيماً من هذه البيعة، فقام بواجب النصيحة على أتم وجه، فكان يكثر النصح كما أشار شراح السير في ترجمة جرير بن عبد الله راوي هذا الحديث، أنه كان يكثر النصح جداً، ويبذل النصيحة لكل أحد، حتى في البيع والشراء، حتى قيل: إن غلامه اشترى له فرساً بثلاثمائة درهم، فذهب جرير بن عبد الله إلى البائع، وقال له: إن فرسك خير من ثلاثمائة فجعل يزيده حتى بلغ به ثمانمائة درهم.
ووقع في صحيح البخاري -أيضاً- وخطب جرير، وهو جزء من الحديث، فقال: (أما بعد: فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام؟ فشرط عليّ النصح لكل مسلم، فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لناصح لكم ثم استغفر الله ونزل).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم ست) وذكر منها: (وإذا استنصحك فانصحه) فانصحه: أمر، ضع صيغة الأمر التي تدل على الوجوب أصلاً، ضعها وزد عليها، كلمة (حق) في بداية الحديث: (حق المسلم على المسلم) والحق كما ذكر ابن حجر رحمه الله لا بد أن يؤدى، فرجح ابن حجر رحمه الله أن النصيحة واجبة؛ أولاً: لأن الأمر يقتضي الوجوب.
ثانياً: لأن الكلمة في البداية كلمة حق، أي: لا بد أن تؤدى، لأنه حق: (حق المسلم على المسلم)، وقال في دليل الفالحين : "حكمها الوجوب على قدر الحاجة إذا أمن على نفسه".
وقال ابن حجر رحمه الله: هل ينصح للكافر؟
فقال: ينصح الكافر بدعوته إلى الإسلام، ويشار عليه بالصواب إذا استشار -مثلاً-: لو جاءك كافر وقال لك: أشتري سيارة كذا أو كذا؟ فيشار عليه بالصواب، لأن هذا من عموم النصيحة، وهذا من باب دعوته إلى الله عز وجل وتأليف قلبه فيما لا يترتب عليه ضرر بالمسلمين، وهذا الشرط واضح.
الحقيقة أنها تتعدى إلى أكثر من هذا، فمن النصيحة للمسلم بالإضافة إلى ما ذُكِرَ سابقاً، نصيحة المسلم بالأخطار التي تحيط به، إذا أحسست بأن أخاك المسلم في خطر فعليك أن تنصحه فوراً، وتنبهه على هذه الأخطار المحدقة به، وكيف السبيل إلى النجاة منها؟ الدليل: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [القصص:20] أي: من آخر المدينة مع طول المسافة (يسعى) يشتد بالمشي قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20] فالنصيحة هنا ماذا ترتب عليها؟ وماذا تطلبت من هذا المؤمن الذي كان يخفي إيمانه لما علم بالمؤامرة وبالتخطيط لقتل موسى؟ ماذا استشعر هذا المسلم الذي يخفي إيمانه من واجب النصيحة؟ أن يأتي من أقصى المدينة مع طول المسافة ويشتد ويسعى في المشي حتى يأتي إلى موسى وينبهه إلى الخطر، يقول له: انتبه احذر.. إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ [القصص:20] دله أولاً على الخطر، ثم دله على السبيل، فاخرج من هذه المدينة ولا تختبئ؛ لأنهم سوف يبحثون عنك ويمسكوك: فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص:20-21] وخرج إلى مدين..إلخ آخر القصة.. فانظر رحمك الله إلى الفقه العظيم الذي فقهه أولئك المؤمنون الأوائل من هذه القضية.
إذاً أيها الإخوة: المسألة واسعة وكبيرة جداً، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كما في صحيح الجامع : (ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه) يقول لك شخص: والله أنا أشير عليك يا فلان أنك -مثلاً- تستثمر أموالك في المشروع الفلاني، وهو يعلم أن الرشد في غيره، وهو يعلم أن الصحيح أو الأكثر ربحاً والأنفع أن يستثمر في مجال آخر، فقد خانه، والخيانة عظيمة، والخائن يرفع له لواء يوم القيامة يقال هذا غدرة فلان بن فلان.
نقول: إن الحرية الشخصية مكفولة في الإسلام، وإلا لماذا جعل القصاص في الإسلام؟ ولماذا جعل حد السرقة؟ ولماذا جعل حد القذف؟ لو قال شخص لشخص: يا زاني! وذاك بريء، يجلد ثمانين جلدة حد القذف، لماذا يجلد علىالقذف؟ لأن هذا من باب احترام وإرساء قواعد الحرية الشخصية في النظام الإسلامي، الإسلام يريد من المسلم أن يكون إنساناً حراً مكفول الحرية، لا أحد يستطيع أن يعتدي عليه، لكن هل يرضى الإسلام أن ينطلق الناس في حرياتهم الشخصية فيتجاوزون الحدود، ويقعون في المحرمات، ويعصون الله تعالى، وينتهك كل واحد حرمات الآخر، ويتلاعب كل شخص على الآخر، وتهدم البيوت بهذه المنكرات بحجة الحرية الشخصية؟
كلا! ولذلك إذا كان هناك شخص مقيم على منكر، وقال: أنا حر في نفسي، نقول له: هذه ليست حرية، وإنما هي عبودية للأهواء، أي: هذا يتبع هواه، وصار عبداً لهواه ولم يصر حراً.
الجواب: بعضهم لا يقبلون النصيحة لهوى، وبعضهم يدعي الحرية الشخصية، وهذا كلام غير صحيح، هل هناك مانع يمنع الناس من قبول النصيحة؟
الحقيقة أن هناك أسباباً كثيرة:
منها: أن الناصح لم يحسن في عرض النصيحة، فيمس كبرياء الناس ويواجههم مواجهة عنيفة بأسلوبه الحاد، فيسبب عدم قبول النصيحة، فإذاًً النصيحة تعتمد على شخصية الناصح، وعلى الأسلوب والطريقة التي ينتهجها لإيصال النصيحة.
إذاً: لابد من استعراض هذه الأشياء والتركيز عليها، لماذا يرفض كثير من الناس النصيحة؟
أحياناً يُؤلف كتاب وينشر، فيقوم شخص بالرد على أشياء في هذا الكتاب، أو على أشياء في مقالة، حتى هؤلاء السيئين الذين ينشرون المقالات التي فيها خلط السم بالدسم، عندما يرد عليهم وينشر الرد، تجد عناوين الكتب رد على رد، وتقرأ فيها: بالإشارة إلى رد فلان على مقالتي، وبالإشارة على رد فلان على كتابتي أو على كتابي فإني أقول، ويبدأ بالهجوم المعاكس للعملية، فلماذا لا يقبل النصيحة؟
ذكرنا الآن جانب الهوى وهو جانب كبير جداً، وسبق أن تطرقنا إلى هذا الموضوع في درسين سابقين.
أفاد رجل مسن بأنه ترك الصلاة في فترة ماضية من عمره، لماذا ترك الصلاة؟ قال: لأني كنت أتوضأ مرة في مواضئ مع الناس، فدخل رجل علي وأنا أتوضأ، وقال لي أمام الناس: أنت يا جاهل! أنت لا تدري ما دينك، هذا وضوء أم إهمال، قال: ففوجئت بهذا الأسلوب، ليس فقط سأترك الوضوء الصحيح بل لا أصلي أيضاً، والحقيقة أن هذه المسألة تقع كثيراً، مثلاً: ينصح شخص آخر في الصلاة فيقول له هذا المنصوح: هل أنا أصلي من أجلك؟ ما رأيك أن أترك الصلاة، ماذا ستفعل؟
الذين يفعلون هذه الأفعال لا يقدرون الحق قدره، لأن من المفروض أولاً: أن يتخلوا عن أهوائهم ويتبعوا الحق، ثانياً: يجب أن يكون الحق عندهم أغلى من الأسلوب، قد يكون الأسلوب التي عرضت به القضية غير صحيح، لكن هنا نقول: أنت تتبع الحق أم تتأثر بالأسلوب؟ هل عندك الأغلى الأسلوب أم الحق؟ الحق أغلى، فلو كان الأسلوب خاطئاً فعليك أن تتبع الحق.
ذكر ابن القيم رحمه الله مباحث جليلة في الفروق بين النصيحة والتشهير في كتابه الروح ، وهي مهمة ينبغي الرجوع إليها، فمن المباحث الفروقية التي ذكرها في هذا الكتاب، يقول: النصيحة: هي إحسان إلى المنصوح بصورة الرحمة له، أي: أنت تتكلم وأنت تريد أن تتحدث بلهجة الراحم بهذا الشخص، والشفقة عليه، والغيرة له وعليه، فهو إحسان محض، إحسان نقي ليس فيه شوائب، يصدر عن رحمة ورقة، ومراد الناصح بها وجه الله ورضاه.
وأما المؤنب أو المشهر فهو رجل ليس قصده الله والدار الآخرة، وليس قصده الإحسان، وإنما قصده التعيير والإهانة وذم من أنبه وشتمه في صورة النصح.
أي: هذا شتم لكن نصيحة، فهو يقول: يا فاعل كذا وكذا، يا مستحق للذم والإهانة في صورة الناصح المشفق، كيف تمشي هذه؟ كيف تركب؟ وعلامة هذا الرجل المؤنب -انظر ابن القيم رحمه الله يضع فرقاً دقيقاً- يقول: علامة هذا المؤنب أنه لو رأى عاصياً في معصية فإنه يؤنبه في نفس المجلس ولو رأى عاصياً آخر في نفس المعصية، لكنه يحبه ويحسن إليه -أي: بينه وبينه مصالح مشتركة أو أن بينهم ميول ومحبة وإحسان- فإنه لا يعرض له، ولا ينصحه كما نصح الأول، مع أنها نفس المعصية، لا ينصحه ولا يقول له شيئاً، ويطلب له وجوه المعاذير، يقول: يمكن كذا ويمكن كذا، يلتمس له أعذاراً، فإن غلب ولم يلق عذراً قال: وأنا ضمنت له العصمة؟ أي: ليس هناك أحد معصوم؛ والإنسان معرض للخطأ، ومحاسنه أكثر من مساوئه، عنده حسنات كثيرة والحمد لله، والله غفور رحيم.. ونحو ذلك، فيا عجباً كيف كان هذا لمن يحبه دون من يبغضه! وكيف كان حظ ذلك منك التأنيب في صورة النصح، وحظ هذا منك رجاء العفو والمغفرة وطلب المعاذير.
ومن الفروق بين الناصح والمؤنب: أن الناصح لا يعاديك إذا لم تقبل نصيحته، بعض الناصحين إذا لم يقبل المنصوح نصيحته لا يكلمه ولا يسلم عليه ولا يعرفه، ويشتمه ويسبه ويذكره بالسوء، لماذا لم يسمع كلامي؟ أما الناصح الحقيقي فيقول للمنصوح الذي لم يقبل: وقع أجري على الله قبلت أو لم تقبل، ويدعو له بظهر الغيب، ولا يذكر عيوبه ولا يبينها بين الناس ويشهر به.
أيها الإخوة: إن من الصدق في الأخوة أن يقال للرجل في وجهه ما يكره، فإن كان على وجه النصح فهو حسن، فقد قال بعض السلف لبعض إخوانه: إنك لا تنصحني حتى تقول في وجهي ما أكره؛ لأن هذا إحسان أن تخبر أخاك المسلم بالعيب الذي عنده، هذا إن كان على وجه الإحسان، صحيح أن ذاك شيء يكره لكن تنصحه، وإن كان على وجه التوبيخ بالذم فهو قبيح مذموم، وقيل لبعض السلف : أتحب أن يخبرك أحد بعيوبك؟ فقال: إن كان يريد أن يوبخني فلا.
ومن الأدلة على عدم جواز التوبيخ في النصيحة من غير حاجة، لأن هناك حالات تكون فيها التوبيح لغير حاجة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري : (إذا زنت الأمة فتبين زناها -بالحمل وما أشبه ذلك- فليجلدها -أي:سيدها- ولا يثرب) لا يثرب، أي: لا يعيب ولا يوبخ ولا يعيرها بذنبها؛ لأن الحد قد أقيم عليها، والحد إذا أقيم على أحد فهو كفارة له، فلماذا بعد ذلك يقال: فلانة زانية، وقد أقيم عليها الحد وطهرت من هذا الذنب؟
يدخل في ضمن التشهير، النصيحة أمام الآخرين، ولذلك قيل: النصيحة بين الملأ فضيحة، ومنها كذلك: أن بعض الناس الذين يؤنبون أبناءهم في المجالس أمام الضيوف، أو المدرس الذي يؤنب الطالب في الفصل أمام الناس، أو الزوج الذي يؤنب زوجته أمام أقربائه أو المحارم، فيقول: أنتِ طبخك فيه كذا.. وهكذا ينزل فيها تأنيباً وشتماً وتعييراً أمام الناس، هل هذه نصيحة؟ لا يمكن أن تسمى نصيحة، وإنما هذا تشهير وهو محرم، ولذلك قال الشافعي رحمه الله في أبياته المشهورة:
تعمدني بنصحك في انفرادي وجنبني النصيحة في الجماعة |
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه |
فإن خالفتني وعصيت قولي فلا تغضب إن لم تعطَ طاعة |
انصحني منفرداً لا تنصحني بين الناس، إذا لم أطعك فلا تستغرب، الشافعي رحمه الله يتكلم بلسان عامة الناس وإلا فهو رحمه الله يقبل النصح حتى من الشخص الذي يشهر به، يأخذ النصيحة منه، ولذلك تجنب التشهير في النصيحة أمر مهم، ولهذا كانت النصيحة بالقدوة من أعظم وسائل النصح؛ لأنها خالية من التوبيخ والتشهير، وقد ذكرنا سابقاً هذه القصة اللطيفة، ولو أنه ليس لها إسناد كما ذكر الشيخ الألباني حفظه الله، ولكن لا يؤخذ منها أحكام ولا أشياء شرعية، ولذلك كما ذكر العلماء لا بأس بذكر هذه القصص التي لا يعرف حالها إذا كان فيها فوائد، فتذكر للعبرة والعظة لا لأخذ الأحكام، أما ما عرف كذبه فهذا شيء آخر، القصة هي: أن الحسن والحسين رضي الله عنهما دخلا على رجل يتوضأ، وكان هذا الرجل وضوءه سيء جداً والله لا يقبل الصلاة إلا بوضوء صحيح، فهما الآن في حيرة ينبهون هذا الرجل الذي هو أكبر منهما في السن إلى الطريقة الصحيحة من غير جرح كبريائه أو أحاسيسه أو هو رجل أكبر في السن، فكيف يفعلون؟ فنظر الحسن إلى الحسين نظرة ذات معنى، ثم تقدم من الرجل، فقال له: يا عم! أنا وأخي قد اختلفنا أي واحد وضوءه أحسن، أنا أقول: وضوئي أحسن، وهو يقول: وضوءه أحسن، أنا أقول وضوئي موافق لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول وضوءه أقرب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وضوئي، فالآن جئنا إليك تحكم بيننا، فتقدم الحسن فتوضأ وضوءاً كاملاً فأسبغ الوضوء واتبع السنة، فلما انتهى الحسن تقدم الحسين فتوضأ وضوءاً لا يقل حسناً عن وضوء أخيه، ولما رأى الرجل المنظر، قارن بحال نفسه وفهم، قال: والله أنتما على صواب وأنا على خطأ.
انظر إلى هذا الأسلوب الحكيم الدقيق الذي ينم عن ذكاء وفطنة لطريقة النصيحة، وقارن بين هذا وبين حال ذلك الرجل الذي ذكرنا قصته سابقاً والذي ترك الصلاة كلها لأن رجلاً شهر به بين الناس وهو يتوضأ.
المشكلة أن الناس البعداء عن الإسلام بالذات الواحد منهم كالبالونة، منتفخ ومنتفش، لا يريد أن يقترب أحد منه، له كرامته وهذا شيء تضخم مع الأسف، كرامته ومشاعره وأحاسيسه، ولذلك يريد شيئاً بسيطاً، ويثور عليك ويزبد؛ لأن الناس الذي يعيشون في الجاهلية وهم بعيدون عن شرع الله، الواحد منهم لا يعرف شيئاً اسمه أخوة ولا نصيحة، ولا يعرف شيئاً اسمه قبول الحق أو الابتعاد عن الهوى.
أحياناً تكون النصيحة أمام الناس أو بين الجماعة لا بد منها، كأن يكون شخص في ظرف معين، لا يمكن إلا أنك توجه النصيحة أمام المجموعة، ولا يوجد وقت أنسب من هذا الوقت، ولو أنك لم تنصحه فات الوقت، فمثالاً: ما رواه مسلم من حديث سليك الغطفاني: أنه دخل المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس من غير أن يصلي ركعتين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم -والناس جلوس يستمعون إلى الخطبة-: (أركعت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فاركعهما) لماذا لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: الآن نتركه يجلس وبعد الصلاة سوف أنصحه بانفراد؟ لأنه لو سكت فعل المحظور، ولو جلس من غير أن يصلي ركعتين فات وقتهما وكيف يقضيهما بعد ذلك؟ لا يمكن، لأن الركعتين وقتهما عند دخول المسجد، فلذلك أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقوم ويصلي الركعتين.
كذلك الرجل الذي كان يتخطى رقاب الناس والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب -شخص يؤذي المسلمين ويتخطى رقاب العالم بدون حياء وبدون هيبة وبدون أي شيء- فقال صلى الله عليه وسلم: (اجلس فقد آذيت) قالها أمام الناس، لماذا؟ لأن الجرم فضيع، ولأن هذا الرجل كان يؤذي الناس، ولو سكت عليه وقال: أنصحه بعد الصلاة، ماذا يترتب على هذا؟ أذية للمسلمين.
أحياناً -أيها الإخوة- يكون الذنب عظيماً، ويكون لا بد من تعظيمه في عيون الناس، ولا بد من تسليط الأضواء على هذه القضية التي حدثت، مثال: ابن اللتبية رجل من الصحابة، ويخطئ كالبشر، جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالصدقات والزكوات، فقال: (يا رسول الله! هذا لكم وهذا أهدي إليّ، فغضب الرسول غضباً شديداً وصعد المنبر، وجمع الناس وقال: أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيأتيه أم لا) فكل ما جاء نتيجة استخدام عامل في شيء من الفوائد أو العوائد فإنه يرجع إلى صاحب الحق أصلاً: (أفلا قعد في بيت أبيه وأمه) هذا تقريع؛ لأن القضية خطيرة، والمسألة تحتاج إلى نشرها بين الناس حتى يتعظوا بها، فقد يكون هناك سلبية في جرح شعور الشخص، لكن المصلحة أكبر من المفسدة، ومع هذا يجب على الإنسان أن يكون حكيماً حتى عندما ينصح بين الناس في المجلس.
وقصة عبد الله بن المبارك من أجمل القصص في هذا الموضوع، كان عبد الله بن المبارك جالساً وحوله أصحابه، فعطس رجل في المجلس ولم يقل: الحمد لله، فالآن لو أتى شخص وقال له: أنت ما عندك علم وأنت جاهل، لماذا لا تقول: الحمد لله، تعطس مثل البهيمة، قد يقول قائل هذا، الآن لو سكت عنها ذهب الوقت، فماذا يفعل عبد الله بن المبارك حتى يصل إلى مقصوده من إبداء النصيحة من غير جرح لكبرياء ذلك الرجل؟ فقال عبد الله بن المبارك على هيئة السؤال للرجل الذي عطس، ماذا يقول الرجل إذا عطس؟ فقال الرجل: الحمد لله، فقال ابن المبارك : يرحمك الله، فحصلت القضية وانتهت بسلام، وأدينا الغرض، الرجل حمد الله وشمتناه، وصار المقصود بدون أن تحدث مضاعفات ولا سلبيات ولا منكرات، فهذه الأشياء قد تنقدح في ذهن شخص مؤمن بالله، الذي عنده علم بالشريعة، الذي يسير على نور من الله يلهمه الله حسن التصرف في المجالس إذا أرد أن ينصح، وسبحان الله! الإخلاص أحياناً يكون له أثراً، فتجد الناس يتقبلون من فلان ولا يتقبلون من فلان في المجلس، مع أنها نفس النصيحة ونفس الكلام! لماذا يتقبلون من هذا ولا يعتبروه جرحاً، ولا يتقبلون من هذا ويعتبروه تعدي؟ لأنك تجد الرجل الأول إنسان فيه إخلاص وإيمان كبير بحيث أن هذا الإخلاص والإيمان شع نوره حتى وصل إلى قلب الرجل الآخر، فجعله يتقبل بدون أن يحس أن هذا فيه تعدٍ وجرح، الأسلوب مهم جداً.
لذلك الواحد -مثلاً- لو أراد أن يرد على مقالة أو كتاب، إذا كان خطر هذه الأفكار المنشورة في ذلك الكتاب أو المقالة عظيماً ويضلل الناس ولا بد من نشره، فإنه أولاً يكتب لصاحب الكتاب الأصلي أو المقالة نصيحة، فيقول: يا أخي! أنصحك في الله وأكتب إليك هذه السطور للقيام بواجب النصيحة أنك ذكرت في مقالك كذا وفي كتابك كذا، فلو أنك رجعت وأعلنت للناس الشيء الصحيح كذا وكذا، نصيحة سرية في خطاب بيني وبينك، ثم أرسل له هذا الخطاب، فذاك الشخص الآن يكون عنده استعداد وتقبل، وقد يكون عنده من الإيمان ما يدفعه إلى نشر التعديل أو التغيير، ويقول: يا ناس! إني كنت أخطأت في كذا فنبهني بعض الإخوان فتراجعت وأشهدكم بأني كذا وكذا.
لكن لو ذهبت ونشرت من دون أن توجه النصيحة له، فهذا يدعوه إلى عدم التقبل، وهذه المسألة يحتاج إليها كثير من الطلاب مع مدرسيهم، لأن كثيراً من المدرسين قد يقولون في الفصول الدراسية أشياء خطأ، فهنا ليس من الحكمة أن يقوم الطالب ويقول: هذا خطأ، وأنت كذا، والصحيح كذا وكذا؛ لأن المدرس يشعر بأن له الأحقية وهو في منزلة أعلى، فكيف ينتقد أمام طلبته؟ ففي هذه الحالة يكون الانتقاد دافعاً لهذا المدرس إلى أنه يسكت الطالب ويرد عليه، وقد يطرده من الفصل.. وهكذا، فهنا يكون من الحكمة ومن آداب النصيحة أن يخرج الطالب خارج الفصل بعد الحصة وينبه المدرس إلى هذا الخطأ، فيأتي المدرس إذا كان فيه خير في الحصة التي بعدها ويقول: والله أنا قلت كذا وكذا وأنا أتراجع عن هذا، أو أثناء الحصة وإذا خشي أن يداهمه الوقت يكتب في ورقة ويعطيها له مثلاً، أو يسر إليه سراً أو كان يتكلم في موضوع فتعرض لهذه النقطة، وقال: فأما إذا لم يطع المدرس ولم ينتصح ولم يتراجع ولم يبين للطلبة خطأ ما قاله فإن الطالب في هذا الحالة لا يجوز له أن يسكت مطلقاً، ويجب أن يعلن الحق ويصدع به أمام زملائه في الفصل، ويقول: إن المدرس قال كذا وكذا، وهذا غير صحيح، وهو مخالف للحق والدليل كذا، وقد نصحته قبل أن أتكلم بكلامي هذا، وأشهدكم على ذلك.
يقول الشيخ ابن عثيمين: لا بد أن يعلن، إذا كانت القضية تضلل الناس وتعطيهم مفهومات خاطئة وتصورات سقيمة فهنا لا بد من البيان، وهذه مسألة تطول ونكتفي بهذه الإشارة.
قد تختلط أحياناً النصيحة بالغيبة، كيف ذلك؟ يأتي فلان يسألني ويقول: ما رأيك في فلان؟
فأقول: ماذا تريد منه؟
فيقول: أريد أن أشتري منه وأتعامل معه وأتزوج من عنده، فتتحول النصيحة إلى غيبة، وتلبس الغيبة ثوب النصيحة، فيقول ابن القيم رحمه الله في ذلك المبحث الجليل من كتابه الروح : الفرق بين النصيحة والغيبة: أن النصيحة يكون القصد فيها تحذير المسلم من مبتدع، أو فتان، أو غاش، أو مفسدٍ، فتذكر ما فيه إذا استشارك في صحبته ومعاملته والتعلق به، لو جاء شخص واستشارك في صحبته أو معاملته أو التعلق به، يتعلق بمن؟ بهذا الغاش، أو المبتدع، أو الفتان، أو سيئ الخلق إلى آخره.. ما هو الدليل؟ الدليل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـفاطمة بنت قيس وقد استشارته في نكاح معاوية وأبي جهم ، قالت: (يا رسول الله! أريد أن أنكح
لو قال: لا. هذه غيبة، لا نهتم بكتب الجرح والتعديل، لكنا أخذنا بأحاديث كثيرة جداً وكلها ضعيفة وموضوعة، فإذاً هذا دين.
فإذا وقعت الغيبة على وجه النصيحة لله ورسوله وعباده المسلمين فهي قربة إلى الله من جملة الحسنات، وإذا وقعت على وجه ذم أخيك وتمزيق عرضه والتفكه بلحمه والغض منه، لتضع منزلته من قلوب الناس، حتى تنزل قدره في قلوب الناس، فهي الداء العضال، ونار الحسنات التي تأكلها كما تأكل النار الحطب، فهكذا تتلبس النصيحة الغيبة، تأخذ شكل النصيحة وهي غيبة، فإذا كان في نصح للمسلمين تحذير من خطأ حقيقي فعند ذلك لا تكون النصيحة غيبة، أما إذا كان قصدك التشهير والغض من قيمة هذا الرجل في عيون الناس، فتكون هذه غيبة.
إذاً الفرقان الأساسيان بين النصيحة والغيبة، أو النصيحة والتشهير، أمران مهمان جداً.
الأول: النية، نية الذي ينصح غير نية الذي يشهر، ونية الذي ينصح غير نية الذي يغتاب، هذه مسألة مهمة جداً.
الثاني: الأسلوب، أسلوب الذي ينصح غير أسلوب الذي يشهر، وأسلوب الذي ينصح غير أسلوب الذي يغتاب، فالنية والأسلوب كشافان عن أدواء القلوب ووقوعها.
فالدليل على صدق هذا من كذبه، أين كانت هذه الأشياء من قبل؟ هل ظهرت الآن أم أنك متكاسل في النصيحة؟ عندما ظهرت العداوة بدأت الآن تنصح.
كذلك يجب أن يكون الهدف من النصيحة هو تعليم المنصوح وتصويبه، وليس أي شيء آخر كتجريحه أو تحطيم نفسيته، ويجب الابتعاد عن أسلوب الأستاذية في النصيحة والتواضع للمنصوح، بعض الناس عندما ينصح ينصح كأنه شيخ كبير، وذاك أصغر تلميذ عنده، فتراه يتعالى ويتعالم ويتعاظم عليه، ويجلس كأنه شيخ وذاك طالب صغير، والآن يوجه إليه من فوق إلى تحت، فمن كانت هذه نفسيته في النصيحة، فإن أسلوبه يكون فظاً جافاً وغليظاً، وليس فيه رقة، لأنه الآن يتعاظم عليه، فينبغي الابتعاد عن أسلوب الأستاذية -إن صحت التسمية والإطلاق- عند تقديم النصيحة، وإنما تقدمها بتقديم أخ ناصح مشفق رحيم، يريد الخير لأخيه، لا يتعاظم ولا يتعالى ولا يتكبر عليه، ولذلك تجد كثيراً من المنصوحين لا يقبلون النصيحة؛ لأنه يشعر بأن الناصح متكبر ومتعالٍ ومتعاظم، فهذا يكون سداً في وجه قبول النصيحة.
كذلك أن يكون الناصح عاملاً بما ينصح، ومن الكلام الحسن في هذا ما ذكره ابن حجر رحمه الله في آخر كتاب الإيمان في صحيح البخاري وهو يشرح كتاب الإيمان، قال ابن حجر رحمه الله: ختم البخاري كتاب الإيمان بباب النصيحة، البخاري لما صنف الصحيح بدأ بالوحي، ثم الإيمان، وآخر شيء في كتاب الإيمان: باب النصيحة وجاء فيها أحاديث.
طريقة التصنيف عند البخاري رحمه الله لها مدلولات، وهذا من عظمة صحيح البخاري.
قال ابن حجر رحمه الله: مشيراً إلى أنه عمل بمقتضاه -البخاري نفسه عمل بمقتضى النصيحة- كيف؟ بالإرشاد إلى العمل بالحديث الصحيح من السقيم، يعني: البخاري ماذا فعل في هذا؟ صحيح البخاري عبارة عن نصيحة يقدمها البخاري للأمة ينصحهم فيها بالمحافظة على الحديث الصحيح وطرح الحديث السقيم، كما أنه جمع الصحيح في جامعه واستبعد الضعيف والموضوع، انظر كيف الفطنة، وانظر إلى الدقة في ترتيب هذا المصنف العظيم، وكذلك عقب باب النصيحة بكتاب العلم، لما دل عليه حديث النصيحة، أن معظمها يقع بالتعلم والتعليم، وهذه مسألة مهمة جداً، يمكن أن يوجد فينا شخص ليس عنده أسلوب، لا يستطيع أن ينصح ماذا يصنع؟ يتعلم كيف ينصح، يسأل ويرى الناصحين كيف ينصحون، وهذا مهم جداً إذا أردت أن تعرف وتريد أن تكون ناصحاً جيداً، فانظر إلى الناصحين الناجحين الذين لاقت نصائحهم قبولاً في أوساط الناس، كيف نصحوا؟ وما هي عوامل النجاح عندهم؟
فالنصيحة تعليم.
ومن شروط الناصح: ألا يحتقر أخاه المسلم عند نصحه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) يكفي المسلم من الشر احتقار أخيه المسلم، وكثيراً من الناصحين تخرج نصائحهم بقالب الاحتقار للشخص الآخر، فالشخص الآخر عندما يشعر أنه محتقر، ومهان وذليل، يرفض النصيحة وقد يطأطئ ويهز رأسه، يعني: أنه جيد، وبعضهم يقول: جزاك الله خيراً، لماذا؟ نتيجة أسلوب الاحتقار الذي تعرض له.
ولذلك فإنه يجب تجنب تجريح الشخص في النصيحة، هذا كلام مهم، مثل الاستهزاء باسم المنصوح، ما علاقة اسمه بالنصيحة وكونه وقع في اسمه -مثلاً- عيب نتيجة جهل من أبيه أو من جده، ما ذنبه في أن تعيب اسمه أو تعيب شيئاً في شخصيته أو طبائعه، أو سجاياه، أو طريقة كلامه ومشيته، أو شكله، أو ملابسه إلى آخر ذلك؟ هذا خلط، عندما تنتقد هذه الأشياء، أنت تخلط النصيحة بأشياء ليس لها علاقة بالنصيحة، شخص -مثلاً- تريد نصحه في قضية الكذب، فتقول: أنت يا صاحب الأنف الطويل، لماذا تكذب؟ ما علاقه أنفه في عملية الكذب، أو أنت يا أعرج فيك كذا وكذا، هذا يقع كثيراً وهو استهزاء بكلام المنصوح، أو طريقة مشيته، أو شكله، أو سجاياه وطبائعه، فهذه من الأشياء التي تسبب رفض النصيحة.
كذلك يجب تجنب الكلمات الجارحة التي تخدش كبرياءه وتجرح شعوره، أو أن تستهزئ به وتسخر منه، ويدخل في هذا عدم إطلاق عبارات اليأس، مثل أن تقول لإنسان تنصحه: أنت لا خير فيك، ولا فائدة، أنت لا يفيد النصح معك.. ونحو هذا يقع كثيراً، هذه العبارات تثبط الشخص، وتكون ذات مردود سلبي على المنصوح، فتجعله لا يقبل النصيحة.
كذلك أيها الإخوة: عند النصيحة يتنبه إلى الفرق لماذا وقع في الخطأ؟ أنا أريد أن أنصح شخصاً -مثلاً- يحلق لحيته، أرى قبل أن أنصح، هذا الشخص الذي يحلق لحيته هل هو جاهل بالحكم أم أنه عالم بالحكم ومصر عليه؟ وأنظر إلى هذا الذي يطيل ثوبه هل هو جاهل بالحكم أم أنه عالم بالحكم ويصمم ويصر عليه؟
هذه النقطة أهميتها في درجة الشدة أو اللين في النصيحة، عندما تنصح شخصاً جاهل بالحكم يختلف عندما تنصح شخصاً يعلم بالحكم ويعاند ويصر على خلافه، أما إذا عاملت الناس معاملة واحدة، الجاهل مثل المتعلم، والذي يعرف مثل الذي لا يعرف، يكون عندك اختلال في ميزان النصيحة، فينبغي أولاً أن تقول: يا أخي أنت تعلم حكم المسألة الفلانية؟ هل عندك فكرة عن حكم هذا الشيء؟ فهنا يقول لك: والله ما عندي معرفة، لكن عندي كذا، فهنا يفرق، أما لو كان معانداً فعند ذلك تذكره بآيات فيها مثلاً الشدة والعذاب وعاقبة هؤلاء المعاندين إلى آخره...، أما أن تذكر له آيات المعاندين -مثلاً- والأحاديث التي فيها التخويف والتهديد لإنسان ما بدا منه عناد ولا بدا منه شيء وإنما هو رجل جاهل يجهل الحكم فهذا خطأ، فلذلك ينبغي وضع هذه النقطة أمام أذهاننا ونحن ننصح الناس، وهذا من الأهمية بمكان.
كذلك أيها الإخوة: عدم المبالغة بالنصيحة، أحياناً يضخم الخطأ، يريد أن ينصح شخصاً في شيء فيضخم الشيء، فتسمعه يقول: هذه كبيرة من الكبائر، وهذه مسألة خطيرة، وأنت ذهبت في ستين داهية، هذا التضخيم أو التهويل له أثر سيئ سلبي؛ لأن الشخص ذاك، إذا نصحه أي ناصح بعدها حتى لو كانت خطيرة أو عظيمة، وهذا كل شيء قال: خطيرة وعظيمة، فإذاً يقول: هذا والله كل شيء عنده خطير وعظيم، أي: كل الأشياء مثل بعض ولا يبالي، وقد يؤدي إلى عدم الاعتراف بالخطأ؛ لأنه فعلاً لا يرى أن الخطأ عظيم، فأنت عندنا تنصحه وتعظم وتكبر الخطأ هو شيء صغير، فيقول: هذا رجل ما عنده ميزان لتقييم الأمور، فينبغي أن يكون النصح على قدر الخطأ، أما تكبير الخطأ وتهويل فهو إما أن يؤدي إلى رفض النصيحة، أو عدم الاعتراف بالناصح، وعدم أخذ كلامه مأخذ الجد، أو تدفع على التمرد على الناصح وعدم الاستجابة له، أو التقاعس أي: كل شيء خطير فيتقاعس عن التغيير.. وهكذا.
كذلك ينبغي للناصح أن يتوخى الأوقات المناسبة للنصيحة، فلا ينصح شخصاً وهو غضبان، أو جيعان أو نحو ذلك ينبغي أن يتوخى الأوقات المناسبة.
لا بد للناصح -أيها الإخوة- أن يختار القنوات المناسبة لإيصال نصيحته، أحياناً لا يكون من المناسب أنك تكلمه شفهياً، نعم. تكتب كتابة حتى لو كان جارك، أو أخوك أو أبوك، أحياناً لا يكون مناسباً أن تكلمه شفوياً لأي علة من العلل، أو مثلاً إذا كلمته شفوياً يمكن أن يثور عليك أو يقاطعك ولا يجعلك تكمل الكلام، أو لا يعطيك فرصة أن تنصح، فإذا كتبت رسالة وأعطيته إياها فسيأخذ الورقة ويقرأها، فحينئذٍ تكون الكتابة أفيد من النصيحة الشفوية، وأحياناً يكون إعطاء كتاب أفيد من أنك تكتب أنت، أو تنصح بنفسك، أحياناً قد يكون من المناسب أن تعطيه شريطاً لواعظ أو خطيب أو محاضر أو فقيه أو عالم، فيأخذه فينتصح به -وسيلة غير مباشرة- وأحياناً لا يكون من المناسب مطلقاً أن يشعر هذا الرجل أن لك ضلع في الموضوع، أو أنك داخل فيه حتى بشيء بسيط؛ لأنه قد يوجد حساسية بينك وبينه، فإذا حس أنك وراء الموضوع يشق الأوراق ويرمي الكتب ويهمل كلامك.. وهكذا، أو أنك تخشى -من سوء الظن- أنك إذا نصحته، يقول: هذا الآن يتصيد عيوبي، هذا لأننا اختلفنا بالأمس، فيكون من المناسب أن تصل النصيحة عبر شخص آخر، تذهب لشخص فاعل خير، تقول: يا أخي! هذا فلان أريد أن أنصحه في كذا، لكن أخشى أن يسيء الظن.. أخشى من أشياء، ويمكن أن يسمع كلامك أحسن مني، أو عندك قدرة على التعبير وقدرة على المناقشة أكثر، فأرجو أن تنصحه بكذا وكذا، فيكون وصول النصيحة عبر شخص آخر أكثر تأثيراً وأنفع وأجدى.
وبعض الناس مع الأسف الشديد بسبب حساسيات معينة أي شيء يأتيه من شخص المهم أنه فلان بن فلان فلا يهمه الشيء الذي يقوله، وأي شيء يأتيه منه يرميه على جنب، أحياناً تصل العلاقات إلى هذه الدرجة، وإذا لم يعلم بالشخص صاحب النصيحة يكون أولى، وممكن أن تكون النصيحة موقعة باسم فاعل خير، أو ناصح، بعض الناس ليس عنده اتباع للحق أو لا يتبع الحق، عنده من الذي ينصح؟ فلان آخذ منه، وفلان لا آخذ منه، فلذلك يكون ارتباط النصيحة باسم معين عند بعض الناس وسيلة لإسقاطها وعدم أخذها، فيكون تجريده عن الاسم أو أي سمه أو صفة تدل على الناصح مناسب، ففي هذه الحالة تتبع هذه الطريقة.
كذلك لا بد أن يضع الناصح نفسه مكان المنصوح قبل أن ينصح، أحياناً الشخص يأخذ أشياء من بعض كتب علم النفس، أو بعض كتب علم التعامل التي يكتبها الغربيون، فيها حكم وأشياء طيبة، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، قبل أن تنصح ضع نفسك مكان المنصوح.. ضع نفسك مكان شخص يسمع الغناء متشبع به، عاش عليه فترة من الزمن، دائماً معه ليلاً ونهاراً، في سيارته وفي البيت، ضع نفسك مكان هذا الرجل، ثم تخيل أنك ألقيت الكلام الذي تريد أن تقوله، فهل يكون هذا الكلام مجدياً أم لا؟
كثير من الأحيان يزور الشخص في نفسه كلاماً -أي: يضمر في نفسه كلاماً- يقول: فلان هذا أريد أن أكلمه بالكلام الفلاني كذا وكذا، والدليل كذا وكذا... إلخ، فيذهب سريعاً يهاجم فلان كذا وكذا، ولو أنه وضع نفسه مكان المنصوح لغيَّر أشياء كثيرة في النصيحة، فلذلك من القواعد الأساسية في النصيحة: ضع نفسك مكان المنصوح، قبل أن تنصحه.
كذلك أيها الإخوة: أحياناً الناصح يكون له سلطة أو مسئولية على المنصوح، فلا ينبغي هنا أن تحمله سلطته أو مسئوليته على إساءة النصيحة، كالأب الذي عنده ولد، والمدرس الذي عنده طالب، والزوج الذي عنده زوجة؛ والناس الذين عندهم مسئولية وسلطة على من تحتهم، فلا تحملنهم هذه القوة والصلاحية التي عندهم على إساءة النصيحة، الواحد أحياناً تكون عنده قوة ويكون عنده سلطة، فتراه يسيء ولا يفكر بتحسين النصيحة، ولا يفكر بالأسلوب، يقول: هذا فلان هين.. هذا فلان نقهره.. هذا اتركه عليّ أنا أكسر رأسه، أنا.. لماذا هذه الأشياء؟ لأنه يستخدم السلطة أو المسئولية التي لديه في الإساءة، فلا يفكر في شكل النصيحة، كيف ينبغي أن تكون، فلذلك ترى كثيراً من الأبناء يكرهون آباءهم، وكثيراً من الزوجات يكرهن أزواجهن، وكثيراً من الطلاب يكرهون مدرسيهم، لماذا؟ لأن ذاك عنده سلطة يستخدمها ويسيء في النصيحة.
على الناصح ألا ييئس من تكرار نصيحته.. ينصح مرة واثنتين وثلاثاً وعشراً، ويغير في الأسلوب، مرة يأتي من هذا الطريق، وأخرى يأتي من هذا الطريق، وينوع، نفس النصيحة، والقالب، والأسلوب، والكلمات، والألفاظ، فينبغي أن يكرر ولا ييئس، وإذا يئس فشل، الناصح استمر في النصيحة فهذا طريق النجاح، ومتى يئس فشل، وأحياناً يكون ما بينك وبين النجاح إلا آخر محاولة، فأحياناً يقف الناصح قبل النهاية في شيء بسيط فيضيع الجهد كله، مع أنه لو واصل قليلاً لوجد النتيجة، لكن بسبب اليأس القاتل الذي يغرس أحياناً في نفسه نتيجة الصد والابتعاد من قبل المنصوحين، فإنه في النهاية يتثبط وييئس، ولنا عبرة بنبي الله نوح عليه السلام، هذا النبي العظيم الذي ضرب القدوة العظيمة في الدعوة إلى الله تسعمائة وخمسين سنة أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً [العنكبوت:14] ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وما ترك وسيلة إلا ونصح بها هؤلاء الناس، مع أنه ما استجاب له إلا أربعون أو سبعون.
إذاً.. النتيجة قليلة ومع ذلك استمر في النصيحة حتى آخر لحظة، وهو مستمر إلى أن قال الله له: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36] هنا قال نوح: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26] ودعا عليهم؛ لأن الله أوحى إليه أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36]، لم يعد هناك أمل في الاستمرار، لن يؤمن أكثر من الذين آمنوا.
وذكرنا أن الله عز وجل لما قص قصة نوح أتى بالنصيحة بالفعل، فقال عن نوح: وَأَنْصَحُ لَكُمْ [الأعراف:62] صيغة الفعل الدالة على تكرار الوقوع والحدوث.
ويقول ابن القيم رحمه الله في أبيات طريفة يرد بها على هؤلاء الصوفية الذين جعلوا ذكر الله طنطنة ومزامير، فقال:
وتكرار ذا النصح منا لهم لنعذر فيهم إلى ربنا |
أي: حتى نقيم الحجة، وحتى نعذر أمام الله أننا قد قدمنا ما علينا.
فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في أمرنا |
فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تنتنٍ تنتنا |
لأن هذا شغل هؤلاء الناس.
كذلك من الآفات التي تعتري الناصح: أن بعض الناصحين من كثرة ممارسة النصيحة وتعوده على النصيحة تصبح عنده مناعة أنه ينصح من قبل الآخرين.
نعم يحصل هذا، فهو الداعية والناصح، وهو الذي يوجه ويعلم، وينبه ويحذر، والذي..إلخ، فهذا الرجل باستمراره بهذا العمل -وهو عمل طيب ولا شك- يتكون عنده في نفسه نوع من المناعة ضد النصائح التي توجه له من الآخرين؛ لأنه يرى نفسه أنه الناصح، فكيف يأتي أحد ينصحه؟
أحد الإخوة يحكي لي قصة واقعية حصلت مع أحد أقربائه، أنه رأى شخصاً يغلظ على إنسان في النصح، فقال: يا بن الحلال! أرفق به، فقال: مالك شغل أنا كذا وكذا، فقال له: يا بن الحلال! اذكر الله، قال: أنا أذكر الله، ذاك يقول: أنا الذي أذكر الله؟!! لأنك عندما تقول لشخصٍ: الله يهديك، يقول: أنا الله الذي يهديني؟!! أنت الله يهديك وأنت الذي كذا، أو يقول: تعود أنت غصباً عنك، فهذه العبارة تنطلق منه، يعني: هو ناصح فكيف يأتي أحد ينصحه وينتقده.
إذاً.. ينبغي أن ينتبه خصوصاً في مسألة من المسائل وهي: أن الناصح أو الداعية يكون غالباً إلمامه أو مجال نصحه في الأشياء الشرعية غالباً، فقد يتفوق على عامة الناس في الأشياء الشرعية، لكنه في الأشياء الحياتية أو الدنيوية قد لا يكون عنده خبرة، مثلاً ليست عنده خبرة بالسيارات، ولا بالطرق ولا بالملابس، ولا بالآلات، فنتيجة لهذه النقطة التي ذكرناها آنفاً، يأتي شخص -مثلاً- ويقول للناصح أو للداعية: هذه سيارتك فيها كذا، المفروض أنك تفعل كذا، قال: اذهب، أنت لا تفهم، أو يقول له: هذا الطريق أقصر، ويقول: لا؛ لأنه يظن أنه مادام أنه ينصح في الأشياء الشرعية فالأشياء الأخرى التي عامة الناس يفهمون فيها أكثر منه لا يسمع لهم فيها، وهذه نقطة سيئة قد تؤدي إلى الغرور، صحيح أنك تفهم في أمور الدعوة وفي طرق كسب الناس، وكيف تصل إلى قلوبهم، لكن قد لا تفهم في العلوم، وقد لا تفهم أشياء في حاجات من متاع الدنيا، فإذا جاء شخص يريد أن ينصحك فتقبل نصيحته وافسح له المجال، ولا يلزم أن يكون كل إمام مسجد خبيراً بالميكرفونات أكثر من الناس الذين وراءه، ولذلك تجد بعض هؤلاء ما دام أنه إمام المسجد فهو الذي سوف يتحكم بالميكرفونات وبالصوت، وهو الذي يعلم بالأجهزة أكثر من الموجودين، وهذا غير صحيح.
ولذلك كثيراً ما يشتكي بعض الناس من هذه النوعية، يقولون: هذا فلان لم يترك شيئاً، يقول: كل شيء هو يفهمه أكثر منا، عنده علم بالحديث على عيني ورأسي، عنده علم بالفقه ما اختلفنا، عنده كذا، لكن لما آتي على قضية ليست في تخصصه فيقول: لا. أنا رأيي كذا، فهذا من الأشياء السيئة في التربية والدعوة والنصيحة.
فنسأل الله تعالى أن يهدينا رشدنا، وأن يلهمنا الحق، وأن يجعلنا من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم المقتدين به المتأسين به.
أولاً: أنك تعرف أن نصيحتك في محلها أو لا.
ثانياً: أنه يدعم نصيحتك عند المنصوح، عندما تقدم الكلام بدليل يكون له من الوزن والقيمة ما لا يكون للكلام عندما يكون خالياً من الدليل، وهذا صحيح وأمر مشاهد ومعروف بالتجربة؛ لأن الناس الذين لديهم عقل ووعي لا يقبلون الأمور بغير أدلة، وقد يناقشون ويعترضون، فإذا لم يكن الدليل فيما تقدمه لهم، فإن هذه النصيحة ستكون نصيحة ناقصة، والدليل بعمومه سواءً كان من الكتاب أو من السنة، أو من أقوال الصحابة، أو من الإجماع أو قياس صحيح.. إلخ.
لقد كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم من أهم صفاتها الوضوح -الكلام الذي كان صلى الله عليه وسلم يقوله للناس من أهم صفاته أنه كان كلاماً واضحاً- لذلك لا تجد الناس انصرفوا من مجلس من مجالسه عليه الصلاة والسلام من غير فهم، وإنما كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يطرح عليهم موضوعاً وينتظر منهم السؤال عن هذا الموضوع (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟) وهكذا.. لكن عندما يفسر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يجيب عن سؤال، أو ينصح إنساناً تكون النصيحة في غاية الوضوح، تصل إلى شغاف القلوب فتمس تلك الضمائر فيحييها الله عز وجل، فتتأثر بهذا الكلام الذي تسمعه.
كذلك فإن من الأمور المهمة في النصيحة: أن تكون خاليةً من التكلف والتفاصح والتعاظم، وهذا أمر تطرقنا إليه في كلامنا عن الناصح.
ولقد نهى الله عز وجل الصحابة رضوان الله عليهم عن سب آلهة المشركين، مع أن سب آلهة المشركين من الأمور المشروعة؛ لأنها آلهة زائفة، ومع ذلك فقد نهى الله عز وجل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في ظرفٍ من الظروف ووقت من الأوقات عن سب آلهة المشركين، لماذا؟ يقول الله عز وجل: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108] لأن سب آلهة المشركين ستؤدي إلى أن يسب الكفار الله عز وجل، وسب الكفار لله عز وجل منكر عظيم جداً، فلذلك إذا علمت أن الشخص الآخر سيسب الدين، أو يسب الرب عز وجل جراء النصيحة التي ستنصحه بها، فإنه في هذه الحالة لا يستحسن أن تنصح، وتؤخر أو تتخذ وسيلة أخرى تتلافى بها هذه السلبية.
والعجيب أن الكثير من المسلمين لا يلتزمون بهذه الصفة القرآنية للنصيحة، في الوقت الذي استفاد منها من أعداء الإسلام، فأنت إذا نظرت -مثلاً- إلى طريقة المبشرين بالدين النصراني المحرف وأسلوبهم، تجد أن الأسلوب يعتمد اعتماداً كبيراً على اللين والعاطفة، واستثارة المكامن الحساسة في النفس المخاطبة، فوصلوا إلى نجاحٍ عظيم بسبب حسن أسلوبهم، فصارت النتيجة إدخال كثير من الناس في النصرانية أو إبعادهم عن الإسلام، يتدسسون إلى المسلمين تدسساً رفيقاً بلين ولطف فيصلون إلى ما يريدون الوصول إليه من الأهداف المدمرة لعقائد المسلمين وأخلاقهم.
نحن ورَّاث العلم النبوي والطريقة المحمدية، نحن الأحق والأجدر باتباع اللين في الأسلوب، وإذا نظرت إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وجدت نصيحته عليه الصلاة والسلام تتصف اتصافاً كاملاً بهذه الصفة، نحن الآن نتكلم تحت عنوان النصيحة بين اللين والشدة، وحديث معاوية بن الحكم السلمي في صحيح مسلم معروف، عندما جاء في الصلاة وتكلم وشمت الرجل الذي عطس من الصحابة، والصحابة ينظرون إليه شزراً، ويضربون بأكفهم على أفخاذهم يسكتونه، فماذا قال الرجل رضي الله عنه بعدما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ونصحه؟ قال: (فوالله ما كهرني -أي: ما نهرني- ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) وهكذا.. ولذلك هذاالرجل بقيت مؤثرة في نفسه هذه اللمسة النبوية في النصيحة حتى أخبر بها طائفة من الناس.
ومن هنا نعرف مدى نجاح الناصح بأشياء كثيرة:
منها: ما هو موقف المنصوح من النصيحة؟ وما هو الأثر الذي تركته النصيحة في نفس المنصوح؟
فهذا الصحابي رضوان الله عليه أثرت نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه أثراً بالغاً، لذلك يقول الرجل: فوالله ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لهذا الأسلوب الفذ الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم.
أيضاً قصة الأعرابي الذي بال في المسجد.
أحياناً يضطر الناصح إلى شيء من الشدة، أو يكون الشخص المنصوح يحتاج إلى شيء من الشدة، وإذا ما شددت عليه في القول قد لا يتأثر؛ لأن بعض النفوس يدخل إليها من باب الشدة والتقريع، ومعرفتها تعتمد على الفقه الذي يتكون عند الناصح -الداعية إلى الله عز وجل- من كثرة مخالطته وخبرته بالناس ومعاشرته لهم.
أحياناً تضطر إلى نوع من الشدة؛ كأن تكون النفسية التي أمامك من النوع الذي يتأثر بالشدة، أو يكون الموضوع أو الخطأ الذي حصل خطأً كبيراً لا يمكن للإنسان أن يسكت عنه أو يؤخره، فمثلاً: شخص أمامي يسب الدين ويستهزئ بالإسلام وبصفات الله عز وجل، ويتنقص من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل أقول له: يا أخي! لو سمحت.. لو تكرمت؟ لا يمكن؛ لأن الموقف لا يسمح باستخدام اللين، اللين هو الأساس والقاعدة، لكن ليس هو المطرد في جميع الأساليب، وإذا اضطر الإنسان أحياناً إلى استخدام الشدة فإنه من المناسب أن يخلط مع أسلوب الشدة شيئاً من اللين، ويستخدم شيئاً من عبارات التلطيف، والناظر في رسائل الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كالرسائل الموجودة في تاريخ نجد لـابن غنام رحمه الله، يجد فيها استخداماً جيداً لأسلوب اللين مع الشدة، فتجد الشيخ في رسائله أحياناً يشتد على المرسل إليه الخطاب أو النصيحة شدةً بالغة في أمر يتعلق بالشرك، أو الموقف من المشركين والمنافقين، أو الموقف من القبور، أو الموقف من غلاة الصوفية ، لكنه لا يلبث أن يتبع تلك الجملة الشديدة بجمل تلطيفية جيدة تخفف من وقع الشدة الوقع السلبي على نفس المنصوح، ولو كان الوقت مناسباً لذكرنا لكم أمثلة، ولعل الوقت يتاح إن شاء الله للكلام على رسائل مؤثرة.
كذلك النصيحة بين اللين والمداهنة، يفهم الناس أحياناً قول الله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] فهماً معوجاً خاطئاً، كيف؟ يفهمون أن اللين في الأسلوب، أي: اللين في المضمون.. يفهمون أن اللطف مع الناس، أي: أنك تميع لهم كثيراً من القضايا الإسلامية التي تنصحهم بها، وهذه فكرة خطيرة تؤدي إلى انزلاقات ومنعطفات تجنح بالداعية عن الصراط المستقيم، إذا فهم هذا الداعية أن قول الله عز وجل مثلاً: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] أي: أنه يلين في الحق، بمعنى: أنه إذا سئل عن حكم شرعي -مثلاً- فتجده يفهم أن من اللين أن يميع الحكم ويفهم الناس بأن المسألة فيها سعة وفيها مجال وهي محرمة بالنص الواضح القاطع، فتجده من فهمه المعوج للين ينحرف في عرض الأحكام والمبادئ والتصورات الإسلامية القاطعة، ويعرضها بأسلوب مهزوز، ركيك.. أسلوب فيه من التميع ما يشوه المنظر، أو ما يشوه نظرة هذا الشخص لهذه الأحكام وهذه التصورات.
وهذه -أيها الإخوة- من المسائل التي تجعل النصيحة قبيحة فعلاً، لأنها تؤدي إلى سلبيات ونتائج عكسية كثيرة، فينبغي أن نفهم أن اللين في الأسلوب لا يعني اللين في الحق، كوني أتلطف مع شخص فأعرض له حكماً شرعياً، حكم الغناء -مثلاً- يمكن أن أعرضه بأسلوبٍ لين، لكن لا يمكن مطلقاً وليس من الصحيح أن أقول: والله يا أخي! عموماً الغناء فيه أقوال، واختلف بعض العلماء فيه، وإذا كانت الموسيقى هادئة فإن الأمر فيه سعة.. وهكذا بعض الناس يفهم اللين.
مثلاً التهاون في الأحكام التي تتعلق بمظهر المسلم، أو الموقف من الكفار، تقول: والله لا بأس إذا كان وإذا كان وإذا كان، وتخرج القضية عن الإطار الإسلامي الصحيح.
فينبغي -أيها الإخوة- أن نعدل: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام:152] وأن نحق الحق وألا نميل يميناً أو يساراً ونحن نعرف دين الله عز وجل وننصح الناس.
النصيحة عبادة ومسئولية، فإذا انقلبت إلى تجريح أو تشهير أو تملق أو تزلف فقد خرجنا بدين الله تعالى عن الطريق الصحيح إلى أغراض أخرى شخصية ومطامع دنيوية، لا تلبث أن تميت قلب الناصح.
فإذاً: على الداعية إلى الله الناصح أن يميز في المواقف والأوقات والأحوال، بين ما هو مناسب في التدرج وعدمه.
وقد يكون التلميح استعماله خاطئ عندما لا يفهم الشخص الآخر ماذا تقصد، فبعض الناس يلمح ويستخدم شطارته في التلميح، ولكن هذا التلميح يؤدي إلى عدم وضوح الفكرة أبداً عند الشخص المنصوح، لا يفهم ماذا تقصد من كثرة التلميحات صارت النصيحة عبارة عن ألغاز ومعميات لا يمكن فكها ولا حلها ولا فهم المقصود منها، فإذاً لكل ميدان رجال، ولكل مقام مقال، فلا بد من استخدام التلميح لأنه أسلوب جيد في بعض الأحيان، لكن إذا كان الشخص لم يفهم من التلميح، فهنا ينبغي المصير إلى التصريح الذي يوضح القضية؛ لأنه ما فهم ولا تلقى الفكرة ولا وصلت مداركه إلى فهم المغزى، فلذلك يكون استخدام التصريح في هذه الحالة بأسلوبه الشرعي وحدوده وآدابه الإسلامية من الأمور المفيدة.
والإكثار من التلميح قد يكون ذو سلبية في بعض الأحيان، فمثلاً تجد في بعض المجالس ناصح يقول: بعض الناس يفعلون كذا، وبعض الناس كذا، وبعض الناس كذا، هذه طريقة ليست ناجحة دائماً، بل إنها قد تسبب كراهية للناصح؛ لأنها عبارة عن لمز من طريق خفي، إذا تكررت تصبح إيذاءً، والمنصوح يشعر بأنك تغمزه بنوع من الإيذاء، ففي هذه الحالة لا يكون من الحكمة في النصيحة استخدام نقطة بعض الناس.. وبعض الناس، كما يفعل البعض.
إذاً: استخدام عبارات الاستمالة في النصيحة من الأمور المشجعة على قبولها، فمثلاً عندما تقول: يا أخي! مثلك لا يخفى عليه أن هذا الأمر كذا وكذا، أو تقول مثلاً: أنت يا أخي! في مقام أعلى من أن ترتكب هذا الأمر، أو أنت -مثلاً- أوعى من أن يصدر منك هذا الفعل السيئ، أو تقول له معنى قول الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام |
تقول: يا أخي! أنت الحمد لله عندك ميزات وعندك قدرات وإمكانيات، وعندك كمال في جوانب كثيرة، وعندك استعداد لتكمل النقص في نفسك في الجوانب الفلانية، فهلا أكملت النقص في هذه الأشياء، والحمد لله أن الله أعطاك قدرات ومواهب وأعطاك إمكانية واستطاعة لتتلافى هذه الأشياء، وتؤسس في نفسك الخصال الحميدة الفلانية، وتمنع هذه الأخلاق الرديئة من البروز والظهور بصبرك على نفسك، وبقوة نفسك وشخصيتك تستطيع أن تفعل كذا وكذا، هذه من العبارات التي تستمال بها قلوب الناس.
وأحياناً يقول الإنسان: هذه أساليب مكشوفة، أو يقول: هذه كلمات رخيصة وأساليب ممزوجة ومكشوفة وليس هناك داعٍ لاستخدامها.
الحقيقة أن هذا ليس بصحيح على إطلاقه، لأنك أحياناً قد تستخدم هذا الأسلوب مع بعض الناس، مثلاً -يا أخي- أنت لا يتناسب مع مكانتك أن تفعل كذا، لكن لو استخدم معه هذا الأسلوب فإنه يتأثر به تأثراً إيجابياً مع أنه هو يستخدمه، هذا يلاحظه الشخص أحياناً على نفسه، فلذلك لا يقول الناصح: والله هذه أساليب مكشوفة، وهذه القضايا مستهلكة، لا. هذه أشياء مهمة، حتى مع أن المنصوح يعرفها لكنها ذات أثر عليه.
فإذاً نصح الكبار ليس مثل نصح الصغار، ونصح أرباب المنزلة أو الجاه أو المال ليس مثل نصح من ليس عنده هذه الأشياء، فإنزال الناس منازلهم ومعرفة طبقاتهم ومراتبهم من الأمور المساعدة على تقبل النصيحة.
نصح المثقف ليس مثل نصح العامي، ونصح الجاهل ليس مثل نصح المتعلم.. وهكذا.
فإذاً: الناصح عندما ينصح يحاول أن ينقد الفكرة لا أن ينقد الشخص الذي يقول الفكرة بالدرجة الأولى؛ لأن الناس إذا نقدت الأشخاص أمامهم وفيهم حب لهؤلاء الأشخاص فإنهم يرفضون نصيحتك، لكنك لو عرضت الفكرة من دون أن تقول: قال فلان؛ لأن نسبة الكلام إلى القائل من الأمور التي تحمل الشخص على رفض الفكرة أو النصيحة التي توجهها إليه.
وسبق أن تكلمنا عن هذا الفرق بين النصيحة والغيبة، ولكن أحياناً يضطر الناصح إلى أن يتكلم على الناس، أو إذا كانت الفكرة لا يمكن تعريفها إلا بذكر الشخص، مثلاً: السلف كانوا يذكرون الجهمية ونقد فكرة الجهمية ، هذه الفكرة لا يمكن أن تعرف إلا بهذا الاسم، والجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان الذي اخترع الفكرة.. وهكذا.
فأحياناً يكون ذكر الاسم لتحذير الناس من رجل مبتدع أو منحرف انحرافاً خطيراً، أو يخشى عليه من حب الرئاسة مثلاً، أو أن يتأثروا به تأثراً سلبياً يكون من الأمور المطلوبة.
كذلك لا بد أن نعلم أن لكل نفس باباً وإليها طريق، فهذا يدخل إليه من باب الثناء مثلاً، وهذا يدخل إليه من باب العاطفة، وهذا يدخل إليه من باب التسلسل الفكري، وهذا يدخل إليه من باب التهديد والتخويف، وهذا يزعجه التطويل ويحب الاختصار، وهذا يؤثر فيه الشرح والبيان.. وهكذا فالناس أنواع.
وانتقاء الأسلوب المناسب لكل شخص منهم مطلوب، وأحياناً تكون هناك عبارتان تؤديان نفس المعنى، فعبارة تجد لها مكانة في النفس، والأخرى تكون مرفوضة.
هذه قصة تروى عن أمير في الماضي رأى رؤيا، فأتى بأحد رعيته أو حاشيته لكي يعبرها له، فقال له: إن تعبير رؤياك أن أهلك سيموتون كلهم، فضربه وحبسه وطرده، ثم عرض الرؤيا على شخص آخر، فقال له: إن معنى هذه الرؤيا: أن الله سيطيل في عمرك حتى تكون آخر أهلك موتاً.. انظر الفرق! المعنى: أنهم سيموتون قبله، لكن ذاك قال: معناه أن أهلك كلهم يموتون، وهذا قال: إنها ستطول بك الحياة حتى تكون آخر أهلك وفاةً، نفس المعنى، ونفس المؤدى، لكن طريقة التعبير اختلفت، فأكرمه وكافأه وأثنى عليه.
قد تكون الكلمة أحياناً لها عكس معناها، ونفس الكلمة لها معنى ولها معنى معاكس، ونعرف هذا باختلاف الأحوال والقرائن التي تقترن بها أثناء عرضها، مثلاً: إذا خرجت مع زميل لك من العمل آخر الدوام وأنت مرهق جداً، فوصلته بسيارتك إلى باب بيته، فإذا نزل من الباب ماذا يقول؟ تفضل معنا، معناها: مع السلامة، صحيح هذا معناها، وأحياناً يكون معناها: تفضل، إكرام صحيح يقصد بها هذه الكلمة، وأحياناً يكون معنى تفضل أي: مع السلامة؟ حسب الواقع.
كذلك أحياناً يكون شخص يتكلم فيأتي آخر يريد أن يدخل في العرض بالكلام، فيقول له مثلاً: لا أريد أن أقطع كلامك، ويأتي بالكلام الذي وراءه، كيف وهو قد قطع كلامه؟ انظر العبارات! وأحياناُ يطيل الزائر الزيارة، فجاء صاحب البيت وتململ، فذاك يريد أن يستأذن من أجل أن يمشي، فيقوم صاحب البيت يجامل ويقول: اجلس عندنا، وهو يريد أن يمشي، اجلس عندنا معناها: امش بسرعة.
إذاً ينبغي انتقاء الكلمات حتى يكون الأسلوب ناجحاً، هذه النصيحة مثل العرض تعرض بضاعة أو سلعة، لكن هناك فرق بين من يعرض السلع الدنيوية ومن يعرض السلع الأخروية، إذا كان هؤلاء أصحاب علم التسويق يزينون السلعة ويحرصون حرصاً شديداً على أن تظهر السلعة بأجمل منظر للمستهلك، فلماذا نحن الدعاة إلى الله المسئولون عن الإسلام المكلفون من الله سبحانه وتعالى بنشر الدين لا نستخدم أساليب الجذب الشرعية لتسويق الفكرة الإسلامية بين الناس إن صح التعبير؟
خطاب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز ، وخطاب سفيان الثوري إلى هارون الرشيد من النصائح المؤثرة جداً، وتجد فيها مواعظ كثيرة وتذكير بالله عز وجل، ولذلك ترى أثر خطاب سفيان الثوري على هارون الرشيد وخطاب الحسن البصري على عمر بن عبد العزيز كان قوياً جداً لاقتران هذه النصائح بالموعظة، وأنا أسوق لكم الآن نموذجاً واحداً من النصائح التي حصلت في بلاد الأندلس.
لما بنى عبد الرحمن الناصر مدينته الخالدة الزهراء في الأندلس تفنن في بنائها وجعلها من أعاجيب المدن في العالم، وكان مما بناه فيها الصرح الممرد، اتخذ قبته قراميد من ذهب وفضة حتى أنفق عليها من خزينة الدولة مالاً عظيماً، وكان في قرطبة عالمها الفقيه الجريء المنذر بن سعيد، فهاله انهماك الخليفة الناصر في بناء الزهراء وما أنفقه من أموال الدولة عليها، وكان الناصر يحضر صلاة الجمعة في الجامع، ويستمع إلى خطبة قاضيه منذر بن سعيد ، فوقف الخطيب يخطب الجمعة، وكان مما بدأه في تقريع الناصر على إنفاقه الأموال وانهماكه في بناء الزهراء أن تلا قول الله تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:128-135] ثم وصل ذلك بقول الله تعالى: مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى [النساء:77] ثم أخذ يذم تشييد البنيان والإسراف في الإنفاق حتى خشع القوم وبكوا وضجوا، ثم التفت إلى الناصر وقال له أمام الناس يومئذ: ما ظننت أن الشيطان أخزاه الله يبلغ بك هذا المبلغ، ما ظننت أن الشيطان يضحك عليك ويوصلك إلى هذه الدرجة، ولا أن تمكنه من قيادتك هذا التمكين، سلمت قيادتك للشيطان مع ما آتاك الله وفضلك به على العالمين، حتى أنزلك الله منازل الكافرين، فاقشعر الناصر من قوله، وقال: انظر ماذا تقول، كيف أنزلتني منازلهم؟ فكر كيف تتحدث، كيف تضعني منازل الكافرين؟ قال: نعم أليس الله تبارك وتعالى يقول: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ [الزخرف:33-34] هذه لمن؟ فوجم الخليفة ونكس رأسه ملياً ودموعه تجري على لحيته خشوعاً لله تبارك وتعالى وندماً على ما فعل، ثم أقبل بعد انتهاء الخطبة والصلاة على قاضيه المنذر بن سعيد ، فقال له: جزاك الله خيراً يا قاضي عنا وعن المسلمين، وكثَّر في الناس أمثالك، فالذي قلت والله لهو الحق، وقام من مجلسه ذلك وهو يستغفر الله، وأمر بأن ينقض سقف القبة وأن تكون قراميدها تراباً.
فإذاً اقتران النصيحة بالموعظة، كالتذكير بالله عز وجل، وذكر الجنة والنار وعذاب القبر، وذكر الأشياء الإيمانية المؤثرة، والتذكير بعظمة الله وصفاته من الأمور التي تجعل النصيحة ذات وقع على الناس، وتوجيهها إلى الكبار ونصحهم وهزهم بهذه الآيات له أثر كبير أيضاً.
أحياناً تكون النصيحة عبارة عن شريط يحمل في طياته تبيين مسائل وتصورات ومفاهيم، وتبيين أخطاء ومنكرات، فيكون هذا الشريط من وسائل النصائح المؤثرة، ويؤثر هذا كثيراً في حالات، منها:
أن يكون بينك وبين المنصوح سوء تفاهم أو علاقات غير حسنة، فكونك تأتي وتكلمه شفوياً هذا قد يسبب نوعاً من الأخذ والعطاء والجدل والمراء في الموضوع، فعندما تكتب له كتابة أو تعطيه شريطاً يتضمن ما تريد أن تكلمه عنه فإنه يزيل هذه السلبية، أو إذا كان الشخص من طبيعته المراء والجدال، ولا يمكن أن تكلمه بكلمتين -مثلاً- إلا ويدخل بينهما كلمة من عنده، ففي هذه الحالة يكون نصحه عن طريق الكتابة إليه وهي من الأمور المناسبة، لأنه ليس من المعقول أن شخصاً يأتيه خطاب أو كتاب فيه نصيحة فيقرأ سطرين ويغلق ثم يرد عليهما، لا يمكن أن يفعل هذا، بل تجده يسترسل في القراءة إلى الأخير، فتأتيه الفكرة كاملة واضحة مستتمة، بخلاف ما إذا ناقشته بنفسك وتحول الموضوع إلى جدل وأخذ وعطاء.
كذلك يكون استخدام هذا الأسلوب مناسباً إذا كنت لا تريد أن يعرف المنصوح من الذي نصحه، فأحياناً يكون ذكر الاسم فيه حساسية معينة قد لا يقبل الشخص، وإذا لم يعرف اسمك يقبل، فلذلك يكون عدم ذكرك للاسم بطريق الكتابة من الأساليب الطيبة، وهذه الأشياء يكون لها تأثير بإذن الله إذا أخلص الإنسان النية ولو بعد حين، فقد حدث مرة من المرات أن أحد الناس الذين هداهم الله عز وجل كانت له أخت لا تتحجب، فكان مسافراً على عجل فأهدى لها شريطاً عن الحجاب، وكان سفره طويل وبعيد، فرجع بعد فترة طويلة ووجد أن أخته قد تحجبت، فسألها قال: سبق أن تكلمنا في هذا الموضوع تكراراً، لكن ما هو السبب؟ فقالت: أتذكر ذلك الشريط الذي أهديتني إياه مرة من المرات كان هو السبب المؤثر في نفسي فتحجبت، وأحياناً كما تقول الحكمة: وما السيل إلا اجتماع النقط.
ومن الأمور التي ينبغي الانتباه لها أنه لا يشترط أن تكون النصيحة مؤثرة، بمعنى أن بعض الإخوة عندما قرأ العنوان قال: النصيحة المؤثرة، بمعنى: كيف نبكي الناس ونجعلهم يتأثرون إلى درجة البكاء، لا. لا يشترط في النصيحة أنك إذا نصحت إنساناً لا بد أن يبكي.. لا يشترط في النصيحة المؤثرة الناجحة أن يبكي المنصوح، لا. ولكن أن تتبين نجاح النصيحة من عدمها بالأثر الذي لاقته في نفس المنصوح، فبعض الناس يظن أن المنصوح إذا لم يبك ولم تذرف عيناه بالدموع أنه لم يتأثر، لا. قد يكون هناك رجل يملك نفسه ويملك عاطفته ولا يستجيش بسهولة وتنطلق منه العبرات ويتأثر، فإذاً: التأثر الشكلي -البكاء- ليس من علامات النجاح، بل إن بعض الناس قد يبكي عند سماع نصيحة أو موعظة، ولكن إذا فارق المجلس انتهى كل شيء، فالعبرة بالمادة والأسلوب الذي يلقى على نفس ذلك الشخص فيتأثر بإذن الله.
كذلك: ينبغي معرفة التوقيت الصحيح للنصيحة وخصوصاً إذا كانت النصيحة تهدف إلى علاج الأخطاء.
فينبغي كما يقول بعض الكتاب الإسلاميين ألا تكون النصيحة بعد الخطأ بفترة طويلة، فينسى الشخص المخطئ خطأه ويصبح التعليق بارداً جداً، بل إنه لا بد من الضرب على الحديد وهو ساخن؛ لأن الحديد إذا كان ساخناً فإنه يسهل تشكله، فتأخير النصيحة على الأخطاء إلى أمد بعيد له عدة سلبيات، منها:
إشعار المذنب بأن ما فعله كان صحيحاً، وإلا لماذا لم يعترض علي؟ إذا تأخرت النصيحة على الخطأ فترة طويلة فإن الشخص يطمئن إلى واقعه ويرضى بالواقع، ويقول: لو كان خطأ لاعترضوا علي.
ثانياً: إذا جاءت النصيحة متأخرة يكون في نفس المنصوح شيء من الشيطان، ما الذي دفع الناصح أن ينصح الآن بعد هذه الفترة هذا بلا شك دافع شخصي، لماذا تأخر وجاء الآن يبلغني النصيحة عن الموضوع؟ هناك حاجة شخصية، لو كان يريد أن ينبه لنبه من قبل، لكن الآن بعد أن صارت مشكلة بيني وبينه ظل يتصيد الأخطاء ويفكر في الماضي، فأخرج لي مجموعة من النصائح.
ثالثاً: برود الحدث وعدم وجود القابل النفسي للاستجابة، هذه بعض السلبيات التي تترتب على تأخير النصيحة عن الأخطاء، ولكن قد يكون من المصلحة أحياناً التأخير خاصةً إذا كانت نفس المنصوح أو المخطئ مضطربة جداً بحيث أنه لا يقبل أي كلام، فتأخير النصيحة حتى تهدأ نفسه وتستقر الأمور وتتضح المواقف من الأشياء المهمة.
الحرص من المنصوح على النصيحة أمرٌ مهم، لأن العين كما قال الشاعر:
العين تبصر منها ما دنا ونـأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة |
فالشخص يرى ما أمامه في الآخرين، سواء كان قريباً أو بعيداً، لكنه لا يرى نفسه إلا بمرآة حقيقية، ولذلك انظر إلى بلاغة الوصف النبوي عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن مرآة أخيه) لماذا كان مرآة؟ لأنه يعكس له صورته وعيوبه ومحاسنه بالنصائح.
قال عمر بن عبد العزيز: [من وصل أخاه بنصيحة له في دينه ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته وأدى واجب حقه].
وقال بعضهم: من نصحك فقد أحبك، ومن داهنك فقد غشك، ومن لا يقبل بنصحك فليس بأخ لك.
إذاً.. طلب النصيحة يدل عليها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( وإذا استنصحك ) زيادة الألف والسين والتاء تدل في اللغة العربية على الطلب، استنصحك: طلب النصيحة، استكتب طلب الكتابة، استشار طلب المشورة.. وهكذا.
فمن صفات المؤمن أنه يطلب النصيحة من الآخرين، هذا من أول واجبات المنصوح أنه يبحث عن الناصح الأمين.
فهذا موسى عليه السلام لما جاءه الرجل قال له: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [القصص:20] ماذا فعل موسى عليه السلام؟ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص:21] مباشرةً، لم يقل: أنا أستطيع أن أدبر أموري ونفسي، وأستطيع أن أختفي وأنا ماهر: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص:21] لأن ذلك الرجل كان قد اطلع على أحوال القوم وتبصر بالأمور التي لم يعرفها موسى عليه السلام، فلذلك قال: فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص:20-21] بادر بتنفيذ النصيحة فوراً.
وبعض الناس من المنصوحين يتقبلون النصيحة بالقول، يقول: جزاك الله خيراً، ما قصرت، وأنا مخطئ، وإلى آخره...، وكلامك صحيح، لكنه عملياً لا يطبق، هذه هي المشكلة.
والرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نبحث عن الناصح حتى في الأشياء التي قد تبدو ليست ذات أهمية، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال في الرؤيا -إذا رأى الإنسان رؤيا في المنام- ألا يقصها إلا على واد أو ناصح أو ذي علم، لماذا يقص الرؤيا على الناصح؟ حتى لا يؤول له الرؤيا بتأويل سيئ فتقع كما أخبر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الرؤيا على رجل طائر تقع على ما تعبر به) فإن عبرها بسوء وقعت كما أخبر، وإن عبرها بشيء حسن وقعت كما يقول، هذه من العجائب التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذا رأيت رؤيا فلا تقصها إلا على واد -بينك وبينه مودة- أو ناصح، أو إنسان عنده علم يفسر لك الأمور، فنطلب الناصح حتى في تفسير الرؤى.
وهناك قصة مهمة جداً لكن لن نستعرضها الآن وإنما سنشير إليها إشارة: ذات مرة في موسم الحج كان عمر رضي الله عنه مع الناس، فقام أحدهم وقال: والله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة، والله لئن مات عمر لأبايع فلاناً أو فلاناً، فغضب عمر رضي الله عنه غضباً شديداً لما بلغه الكلام وهمَّ أن يقوم وينصح ويكلم الناس، ويأمر ويؤنب هذا الشخص على فعلته ويبين القضية؛ لأن القضية خطيرة، فجاءه عبد الرحمن بن عوف ، قال: يا أمير المؤمنين! انتظر حتى تقدم المدينة فإن فيها من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وعلماء الناس وفقهائهم من إذا سمع الكلام أداه كما سمعه وعرفه وفهمه، فأخذ عمر رضي الله عنه بنصيحة عبد الرحمن وانتظر حتى قدم المدينة فتكلم، فكان لكلامه وقعٌ طيب وأثرٌ كبيرٌ على الناس.
والقصة في الصحيح ولعلنا نقف عندها وقفات في المستقبل إن شاء الله.
كذلك كان عمر رضي الله عنه يوماً مع أصحابه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! اتق الله، فقال بعض الحاضرين لذلك الرجل: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟! فقال عمر: [دعوه فليقلها، لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها] عبارة ذهبية.
فإذاً: لا يستهين الإنسان أن ينصح من هو أعلى منه، ولا يستهين المنصوح الكبير أن يطلب النصيحة ممن هو أدنى منه، فرب طالب علم أسدى لعالم نصيحة غالية، ورب مربٍ تلقى نصيحة ممن يربيه، وأب تلقى نصيحةً من ابنه لا تقدر بثمن، فإن بعض أذهان الناصحين قد تنقدح على معان وأمور لا تخطر ببال المنصوح أبداً، حتى ولو كان أعلى قدراً وأجل وأعلم، فلذلك لا يحمل المنصوح الأعلى منزلة ومرتبة أن يطلب النصيحة ممن هو أدنى منه.
شبهة: بعض الناس المنصوحين يقول: إذا أنا قبلت كلام فلان فهذا يعتبر مطعن في شخصيتي، لماذا؟ يقول: هذا يدل على ضعف شخصيتي.
أيها الإخوة: هذا على العكس تماماً، ليعلم كل منصوح بأنه إذا قبل النصيحة فإنه سيكون له في نفس ناصحه مكانةً عظيمة، يقول الشافعي رحمه الله: ما نصحت أحداً فقبل مني إلا هبته -خفت منه وعظم في عيني- واعتقدت مودته، ولا رد أحدٌ علي النصح إلا سقط من عيني ورفضته.
إذاً لا بد أن يكون صدر المنصوح واسعاً ويتقبل خصوصاً من الناس الذين يصلون في المساجد، وبعض الناس ينصحون من بعض المصلين، فتجده تأخذه العزة بالإثم ويرفض النصيحة، ويقول: أنت أفهم مني؟ وهذا دين جديد، وأنت مبتدع..إلخ بدون أن يقيس ويعرف الكلام وأدلة الكلام.
كذلك من آداب المنصوح: أن يتيح الفرصة للناصح لإبداء النصيحة ويشجعه لإكمال كلامه واستفراغ المزيد مما عنده، لأن بعض الناس يقطع الكلام على الناصح ولا يريد أن يسمع أكثر من كذا.
من الآداب أن يستزيد ويستفرغ ما عند هذا الناصح ويشجعه على إتمام النصيحة، ويشعره بأنه غير متحرج أبداً، وأن هذا لا يعتبر نقداً ولا تجريحاً وأنه يطلب منه أن يكمل كلامه.
فإذاً هذا المنصوح إذا سمع النصيحة يقول للناصح: يا أخي جزاك الله خيراً، وواجبك أديته، وأنت مثاب إن شاء الله، وأنت مأجور على نصيحتك لي.. وهكذا.
هذه طائفة من النقاط المتعلقة بالنصيحة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، لأن استماع القول واتباع أحسنه من صفات المؤمنين، فنسأل الله أن يجعلنا كذلك.
الجواب: التشقير هو: صبغ يباع في الأسواق يرشوه على جزء من الحاجب بلون البشرة، بحيث يظهر للذي ينظر في الحاجب أنه نحيف، أي: كأنه منتوف ولكنه ليس كذلك؛ لأنه مصبوغ من الأعلى مثلاً أو من الحواف بصبغ مشابه للون البشرة، فبعض النساء سألن عن هذا، فتوجهت بهذا السؤال للشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله فقال: لا حرج في هذا؛ لأنه ليس نتفاً، إلا أن يكون الصباغ أسود فإنه منهي عنه، أما إذا كان غير ذلك فإنه لا بأس به.
الجواب: قال الشيخ ابن باز: الظاهر أنه لا بأس به؛ لأنه ليس بتفليج، والتفليج تفريق الأسنان أو وشرها لأجل الحسن، وإنما نهي عنه لأنه نوع من المثلة، أي: الآن صار عندها نوع من التشوه، فهذا ليس تحسيناً وإنما حصل تشويه، وليس من أصل الخلقة، أي: لم يخلق سنه مكسور، فإزالة المثلة في هذه الحالة ليس بداخل في التفليج، ولكن ذكر الشيخ ابن عثيمين عند سؤالي له إضافة أخرى، قال: لكن هنا تلبس المكسور أولى من أنها تزيل من الأسنان، تلبس سنها شيئاً معدنياً بحيث يصبح في نفس الطول.
الجواب: السنة للمصلي قاعداً أن يتربع كما ورد في الحديث الصحيح، فيقول الشيخ عبد العزيز: يضعها مثل الصحيح على صدره قبل الركوع وبعد رفعه من الركوع.
الجواب: إذا تكلم شخصان في الهاتف، فإذا انتهوا هل تقال كفارة المجلس أم لا؟
فكان جواب الشيخ: ما أعلم هذا، أي: لا يعلم بأن هذا يقال في المحادثات الهاتفية، ولكن قال الشيخ: إذا كان لوحده، أي: أنا تكلم عليَّ شخص في الهاتف فرددت عليه ثم أغلقت السماعة، فإذا أردت أن أقوم من المجلس الذي تكلمت فيه فأقول دعاء المجلس ولو كنت وحدي؛ لأني تكلمت وحصل مني كلام في المجلس، فأقول دعاء المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
الجواب: من المعلوم أن الكدرة إذا اتصلت بالحيض من آخره فإنها تعتبر من الحيض، فإذا كانت المرأة يخرج منها كدرة في بداية الحيض قبل الدم متصلاً به، فيقول الشيخ: تعتبر منه كما أنها تعتبر منه في آخر الحيض، كذلك تعتبر من الحيض إن جاءت في أوله.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل والفقه في الدين.
وصلى الله على نبينا محمد.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر