إسلام ويب

عالم الأرواحللشيخ : محمد المنجد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ما حقيقة الروح؟ كيف تنظر إليها الشريعة؟ ما علاقتها بالإنسان؟ ما حقيقة تعلقها بالجسد وانفصالها عنه؟ هذه المادة محاولة جادة للإجابة عن هذه الأسئلة، وخطوة في طريق فقه هذه المسألة، ابتداءً من تعارف الأرواح وتناكرها، ثم علاقة الملائكة بالروح أثناء الموت وبعده، ومصير الروح بعد الموت، وبيان تلاقي الأرواح مع بعضها.

    1.   

    حقيقة الروح وبعض أحكامها

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله:

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]

    أما بعد:

    فإن علم الروح قد اختص به الله سبحانه وتعالى كما جاء في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث بـالمدينة وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفرٍ من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه لا يسمعكم ما تكرهون؛ فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا القاسم! حدثنا عن الروح؛ فقام ساعة ينظر، وفي رواية: رفع بصره إلى السماء، قال ابن مسعود رضي الله عنه: فعرفت أنه يوحى إليه، فتأخرت عنه حتى صعد الوحي، ثم قال: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85]) فالروح من أمر الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان الذي يشابه صنعة الله ويحاول تقليدها في عمل ذوات الأرواح من التماثيل والصور إنساناً ملعوناً عند الله تعالى: (لعن الله المصورين) ثم إنه يكون له بكل صورة صورها نفساً يعذب بها في جهنم، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، انفخوا فيها الروح، فلا يستطيعون ذلك؛ فيعذبون بالنار ويعذبون بالتكليف بما لا يطيقون ولا يستطيعون.

    وأمر الروح أمر معظم في الشريعة، فلا يجوز تعذيب الأرواح المعصومة ولا أرواح البهائم، ولذلك قال: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، وجاء في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه خرج من منزله، فمر بفتيان من قريش نصبوا طيراً يرمونه -يتدربون على رميه بالسهام من بعيد- وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا -أي: خوفاً من الصحابي- فقال ابن عمر : (من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً). أي: هدفاً لرميه، رواه البخاري رحمه الله وغيره.

    عالم الأرواح بين التآلف والاختلاف

    نحن نعيش في عالم الماديات والمحسوسات قد غابت عنا أمور كثيرة من شأن الأرواح وما يحدث لها، مع أنه حق وواقع، فتعالوا بنا ننتقل من عالم الأسواق والسلع والطائرات والمراكب والملابس والأطعمة والأدوية وسائر الماديات إلى عالم الأرواح لنأخذ جولة في ذلك العالم العجيب، لعله يكون في ذلك رقة تصيب قلوبنا، وتنقلنا من هذا الواقع الذي نعيشه يومياً إلى عالم آخر مختلف تمام الاختلاف ذكره لنا الله في كتابه وذكره نبيه صلى الله عليه وسلم، وشهد به الواقع؛ لنتعلم شيئاً عن أمر هذه الروح العجيبة لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) كما جاء في الحديث الصحيح، وهو عجب من العجب! فإنك ترى الإخوان في الله على بعد ما بينهما، أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، يعيشان كأنهما معاً من التقاء الروحين، بما حدث من التقارب بسبب الأخوة في الله، وتشاكل الطباع وتناسبها.

    أنواع تعلق الأرواح بالأجساد

    ثم إن الله عز وجل يقبض الأرواح عند النوم فيكون لها تعلقٌ بالأجساد من نوع يختلف عن حال اليقظة؛ لأن الأرواح تتعلق بالجنين حينما يرسل الملك لينفخ الروح، فإذا خرج إلى الدنيا وصار إنساناً يمشي أو يبكي ويبحث ويأكل الطعام صار لها تعلق آخر، فإذا نام صار لها تعلق آخر، فإذا مات صار لها تعلق آخر.. فإذا بعث صار لها تعلق آخر، وهكذا يتقلب الإنسان مع روحه في أطوار مختلفة: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19] أي: حال بعد حال.

    وقد نام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في السفر بعدما تكفل بلال بإيقاظهم لصلاة الفجر فغلبه النوم، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس، فقال لأصحابه: (إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء، يا بلال ! قم فأذن بالصلاة... ) الحديث، ولذلك يقول المسلم حينما يقوم من فراشه إذا اضطجع قبل ذلك: (باسمك ربي، وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، فإذا استيقظ فليقل: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي، ورد عليَّ روحي، وأذن لي بذكره) حديث صحيح يدل على أن الروح تخرج من الجسد عند النوم، ولكن يبقى لها معه تعلق واتصال، ولذلك يستمر في التنفس والحياة، وإلا فلو كان خروجاً كلياً كخروجها عند الموت لكان لجسده شأن آخر فيما يحدث له من البلى والفناء إلا عجب الذنب الذي يُركب منه الخلق يوم القيامة.

    1.   

    عمل الملائكة عند الموت

    لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ملك موكل بقبض الأرواح يرسله الله تعالى إلى من شاء، لا يحبسه حابس ولا جدار، يدخل على الفقراء والأغنياء والملوك فيقبض أرواحهم، أرسله إلى موسى فشمه شمة فقبضت روح موسى كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد شيء حصل بينهما، يرسله الله إلى الأنبياء وغيرهم ليقبض الأرواح، وله ملائكة يعاونونه، ويحضر عند الموت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب بحسب حال المحتضر، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن جهة خروج الروح تكون من قبل الرأس لا من غيره، وقد قال في الحديث الصحيح لما دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) فيكون خروج الروح من الجهة العلوية، والبصر يتبع الروح، ولذلك تجد الميت شاخصاً ببصره إلى الأعلى.. إلى جهة أعلى الرأس مكان خروج الروح.

    هذه الأرواح تجعلها الملائكة في أكفان من الجنة إذا كان أصحابها من أهل الجنة، وفي أكفان من النار إذا كان أصحاب الأرواح من أهل النار.

    مصير أرواح الشهداء

    أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمورٍ عجيبة تتعلق بالروح، ومن ذلك ما يكون للشهداء، قال صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة) الطير تأكل من ثمر الجنة، وأرواح الشهداء في أجوافها.

    وكذلك جاء في الحديث الصحيح عن مسروق قال: (سألنا الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله عن هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169] قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل -قناديل معلقة بالعرش تأوي إليها أرواح الشهداء- فاطلع إليهم ربهم اطلاعة -فهنيئاً لمن اطلع الله عليه- فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ -ففعل ذلك بهم ثلاث مرات- فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أنهم ليس لهم حاجة تركهم) حديث صحيح.

    هذه الروح جاء في الحديث الصحيح أنها تصعد وتهبط، وأنها تهوي وتتلقى.. (تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: هل عملت من الخير شيئاً؟ قال: لا، قالوا: تذكر! قال: كنت أداهم الناس فآمر فتياني أن يُنظروا المعسر ويَتجوزوا عن الموسر. قال الله عز وجل: تجوزوا عنه، تجوزوا عنه) هذا لفظ مسلم رحمه الله تعالى.

    خروج الروح من البدن

    الروح في البدن لها عند خروجها قعقعة وشنشنة واضطراب في نفس المحتضر؛ ولذلك لما أرسلت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيها، فأرسل إليها معزياً (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب) فأقسمت عليه أن يأتيها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبر بقسم المقسم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه الصحابة: معاذ وأبي وعبادة، فلما دخلنا ناولوا الصبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وروحه تقعقع في صدره -الروح تضطرب في الصدر عند الاحتضار- قال: حسبته قال: كأنها شنة -القربة القديمة- فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثراً لحال الصبي الذي يحتضر. فقال له عبادة : ما هذا يا رسول الله؟ قال: (الرحمة التي جعلها الله في بني آدم، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء).

    إن هذه الروح يا عباد الله تتأثر بشيء عظيم عند الموت وهو شهادة أن لا إله إلا الله كما جاء في الحديث الصحيح أن عمر رضي الله عنه مر بـطلحة وهو حزين، فسأله عن سبب حزنه؟ فأخبره طلحة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعلمٍ كلمة لا يقولها أحد عند موته إلا كانت نوراً لصحيفته، وإن جسده وروحه ليجدان لها روحاً عند الموت رحمة وفرجاً وتنفيسا، فلم أسأله حتى توفي -يقول طلحة حزيناً- قال عمر : أنا أعلمها، هي التي أراد عمه عليها -لا إله إلا الله- قال طلحة : صدقت).

    عباد الله: إن هذه الروح تصعد وتنزل، وتتصل وتنفصل، وتخرج وتذهب وتجيء، وتتحرك وتسكن، كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة والآيات التي جاءت من عند ربنا، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تصعد إلى السماء، ويصلي عليها كل ملك لله بين السماء والأرض إذا كان صاحبها طيباً من الصالحين، وتُستقبل استقبالاً عظيماً، وتفتح لها أبواب السماء، ويشيعها من كل سماء مقربوها إلى السماء التي بعدها، يعرجون معها تكريماً وتشريفاً، ويفتح لها باب السماء الثانية والثالثة.. وهكذا، حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله عز وجل ليقول الله لها: صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة -يكون فراشه من الجنة- وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، هكذا تشرف روح المؤمن.

    أما العبد الفاجر صاحب الكبائر، والمصر على الصغائر، الذي ليس له حسنات ماحية، ولا أمور مكفرة لهذه السيئات فأي استقبالٍ يستقبله؟ إن روحه تصعد إلى السماء بعد أن يستلمها ملائكة العذاب، فتغلق أبواب السماء دونها، ويقول الله: كذب عبدي، ويرد إلى الأرض فيطرح طرحاً من الأعلى إلى الأسفل.. يهوي من السماء إلى الأرض: حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].

    1.   

    عودة الروح إلى البدن

    عباد الله! إن لهذه الروح شأناً.. إن هذه الروح التي تخرج عند الموت تعود إلى الجسد ليقع العذاب والنعيم على الجسد والروح معاً، إنها ترجع للسؤال.. تعاد روحه في جسده ليأتيه الملكان فيجلسانه ليسألانه عن هذه الأمور المذكورة في الذكر الذي ينبغي أن يردد صباحاً ومساء: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً.

    عباد الله! دلت الأحاديث والنصوص على أن الروح تعود إلى البدن ليقع العذاب أو النعيم على هذه الروح التي تكون في البدن في القبر كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ولذلك نعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن إنساناً لو أُحرق حرقاً بالنار وذر رماداً في يومٍ عاصفٍ عند البحر لجمعه الله وأوقع العذاب أو النعيم على روحه وبدنه، وكذلك لو تخطفته الطير.

    الأدلة على عذاب القبر

    دلت النصوص على عذاب القبر ونعيمه، ومنها: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)، وقبل ذلك قول الله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] وعذاب البرزخ مذكور في القرآن والسنة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الكفار يعذبون، وأنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم، لا يسمعه الجن ولا الإنس، وقد شهد الواقع بذلك أيضاً، حتى قال بعض أهل العلم: لهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مغلت -أكلت التراب مع البقل- فأصابها شيء في بطنها إلى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كـالإسماعيلية والنصيرية والقرامطة من بني عبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام ، فإن أصحاب الخيل التي أصابها هذا الداء كانوا يقصدون قبورهم، فإذا سمعت الخيل عذاب القبر أحدث ذلك لها فزعاً وحرارة تذهب بذلك المغل الذي حدث لها في بطنها، وقد ذكر بعض أهل العلم وهو الحافظ عبد الحق الإشبيلي رحمه الله في شرحه لـصحيح مسلم ، لما وصل مع الطلاب إلى الحديث الذي فيه عذاب القبر أخبرهم بالقصة التي حدثت أن دابة أتت إلى قبرٍ من القبور فألصقت أذنها به ثم تراجعت إلى الوراء، ثم ذهبت إلى القبر فألصقت أذنها به ثم تراجعت إلى الوراء، فعلت ذلك مراراً، ومن يسأل بعض الرعاة الذين ربما يرعون حول المقابر أو يمرون ببهائهم على المقابر لسمع من ذلك أحداثاً عجيبة.

    الأعمال التي تنفع الإنسان في قبره

    عباد الله: إن الذي ينفع الإنسان في قبره هو عمله الصالح، ولذلك جاء في الحديث الصحيح إن شاء الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت إذا وضع في قبره يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله، وفعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من يمينه، فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل -لا يمكن الاختراق من هذه الجهة- ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان: ما قبلي مدخل. فيقال له: اجلس، فيجلس قد مثلت له الشمس وقد أخذت بالغروب، فيقال له: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ ما تقول فيه وما تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي -لأنه كان متعوداً على إدراك صلاة العصر، لا يضيعها حتى تغيب الشمس- فيقولون: إنك ستصلي، أخبرنا عما نسألك عنه، ثم يجيبهم بعد ذلك عن هذه الأسئلة التي طرحوها عليه) حديث حسن، رواه ابن حبان رحمه الله تعالى.

    وكذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المؤمن إذا حضره الموت حضرته ملائكة الرحمة)، قال في الحديث الصحيح: (عند صعودها إلى السماء يقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض، صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه عز وجل، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل، وإن الكافر إذا خرجت روحه من نتنها -وذكر الراوي لعناً يحصل- ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، ويأمر بها إلى آخر الأجل) رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.

    عباد الله: إن هذه الأشياء التي تقع على الروح وإن كنا لا ندركها فإنها واقعة حقاً حقاً؛ لأن ذلك قد جاء في الأخبار الصحيحة من أنها تبلغ الحلقوم، وأن الإنسان يغرغر إذا بلغت الروح الحلقوم.. إنها جاءت الأخبار بأنها تصعد.. إن الأخبار قد جاءت بأن العذاب والنعيم يقع، ولو أن إنساناً قال لك: لقد نبشت قبراً بعد وفاة صاحبه الكافر فوجدت بدنه سليماً، إنهم يحنطون أجساد موتاهم ويجعلونها في توابيت، وربما جعلوها في المتاحف والمزارات، ولا نرى قبضاً ولا هصراً ولا عصراً، بل نرى صدور هؤلاء الأموات سليمة لم يحصل لها شيء؟! نقول له: لقد خرجت المسألة الآن من عالم المحسوسات وصارت في عالم الغيب، ونحن لا نطلع عليه ولا نرى ولا نحس، ولكن العذاب واقع ولا بد على مثل هؤلاء الكفار، نسأل الله السلامة والعافية.

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وثبتنا في قبورنا، اللهم ارحمنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض إنك على كل شيء قدير.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    أماكن أرواح الصالحين بعد موتهم

    الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، لا إله إلا هو يفعل ما يشاء، أشهد أنه الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، هو الرحمة المهداة، والبشير النذير، والسراج المنير، أرسله الله إلينا، علمنا فأحسن تعليمنا، وأدبنا فأحسن تأديبنا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    عباد الله! إن هذه الروح يكون لها مواقف شتى في أمكنة مختلفة قد جاءت في الأحاديث الصحيحة، فإن قلت يا عبد الله: أين تكون الأرواح إذا خرجت؟ فإن النصوص قد جاءت بأن منها ما يكون في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، وجاء في بعض النصوص بأنها تكون عن يمين آدم وعن يساره أرواح أيضاً، فعن يمينه أسمدة (وهي أرواح المؤمنين)، وعن شماله أفئدة (وهي أرواح الذين كتب الله عليهم العذاب)، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شخص بعد الموت محبوس على باب الجنة، فقال: (رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة) وفي الحديث الصحيح: (ومنهم من يُحبس في قبره بسبب الدين، ومنهم من حبس في قبرة في غلة غلها)، ومن الأرواح ما يكون مقره عند باب الجنة كما جاء في حديث ابن عباس : (الشهداء على بارق) ما هو بارق؟ (قال: نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرةً وعشياً) حديث صحيح.

    إذاً: الأرواح منها أرواح في مراتب عليا تسرح في الجنة.. في مراتب عليا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومنها ما يكون على بارق -نهر بباب الجنة- يخرج رزقهم من الجنة إليهم بكرة وعشياً، ومنها ما يكون في قناديل، أو منها ما يكون آوياً تحت العرش يأوي إلى تحت العرش كما جاء في الحديث أيضاً عن أرواح المؤمنين أنها معلقة، أنها تكون تحت العرش، ومن الأرواح ما يكون محبوساً في الأرض لا يرفع إلى الملأ الأعلى، ومنها ما يكون محبوساً في تنور من نار يأتيهم النار من أسفل فيضجون ويصيحون، وهؤلاء هم الزناة والزواني، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حالهم في الحديث الصحيح (أرواح الزناة والزواني تحبس في تنور من نار يعذبون إلى أن تقوم الساعة) هذا عذابهم في البرزخ، وكذلك أكلة الربا الذين رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يسبحون في نهر الدم ويلقمون الحجارة، ويسبحون والحجارة في بطونهم في نهرٍ من دم منتن كما كانوا يأكلون الربا في الدنيا.

    عباد الله! إذاً الأرواح أحوال مختلفة في أماكن مختلفة، ولكن يبقى لها اتصال بالبدن، ولو كانت تطير وتسرح في أنهار الجنة في أعلى عليين فإنه لا يزال لها تعلق بالبدن في الأسفل في الأرض لتنعم أيضاً.

    ولا تقل: كيف يكون الشيء في مكانين في وقت واحد؟ فالجواب: هذا في الدنيا، أما عالم الغيب -أمر الآخرة- فهو أمر مختلف تماماً، نعم تكون في مكانين في وقت واحد، وتكون متصلة بالجسد وهي في أعلى عليين.

    تلاقي أرواح المؤمنين بعد موتهم

    أرواح الأنبياء والصدقين والشهداء والصالحين معاً، فإن قلت يا عبد الله: هل تتلاقى أرواح المؤمنين بعد موتهم؟

    فاسمع الجواب: في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي رحمه الله، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حُضِر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضية عنك إلى روح الله وريحان ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى أنه ليناوله بعضهم بعضاً -الملائكة تناول الروح، يناوله بعضهم بعضا إكراماً للميت- حتى يأتون به باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض! فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليه -ترحيب حار من المؤمنين بروح أخيهم الذي قبض حديثاً فجاءته روحهم- فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ -ممن تركتهم وراءك في الدنيا؟- فيقولون له: دعوه أي: يستريح- فإنه في غم الدنيا -كان في لأوائها ونصبها ومرضها وحزنها وغمها وهمها وعقوق أولادها وعصيان أزواجها- فإذا قال-مجيباً لهم عن السؤال الذي طرحوه: أين فلان؟ ما حال فلان؟- فإذا قال: أما أتاكم؟ -فلان مات الذي تسألون عنه مات- فيعلمون حينئذٍ، قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية) ما جاءنا، إذاً ذهب إلى مكان آخر، فما هو المكان الآخر؟ أمه الهاوية.

    إذاً: تتلاقى أرواح المؤمنين ويتساءلون فيما بينهم، وقد جاء عن أبي هريرة أيضاً رفعه قال: (إن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين، فيود لو خرجت نفسه -لله يحب لقاءه- وإن المؤمن يُصعد بروحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فتستخبره عن معارفهم من أهل الأرض، إذا قال: تركت فلاناً في الأرض، أعجبهم ذلك -اطمأنوا، ربما يصلح حاله أو يزداد صلاحاً إذا كان صالحاً- وإذا قال: إن فلاناً قد مات، قالوا: ما جيء به إلينا أين؟ إلى أمه الهاوية) حديث حسن.

    تلاقي أرواح الأحياء مع أرواح الأموات

    أما تلاقي أرواح الأحياء مع الأموات فإن بعض أهل العلم قد فسروا قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42] فسروه بذلك، بتلاقي أرواح ما يقتضي تلاقي أرواح الأحياء مع الأموات، ومنهم من قال غير ذلك، وعلل بعض أهل العلم الرؤيا التي يراها الإنسان في نومه لميتٍ مات ويتحدث معه ويخاطبه ويكلمه بأنه من نتيجة تلاقي روحه لما خرجت وهو نائم وجالت وتجولت مع روح ذلك الميت.

    أما ما نُقل عن السلف في مسألة الرؤى التي رئيت للصالحين من موتاهم والأحاديث التي حدثوا بها فهي كثيرة جداً ومستفيضة، قال سفيان بن عيينة : رأيت سفيان الثوري بعد موته يطير في الجنة من نخلة إلى شجرة، ومن شجرة إلى نخلة، وهو يقول: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61] فقيل له: بم أدخلت الجنة؟ قال: بالورع.

    وقال صالح بن بشر : لما مات عطاء السلمي رأيته في منامي، فقلت: يا أبا محمد ! ألست في زمرة الموتى؟ قال: بلى. قلت: فماذا صرت إليه بعد الموت؟ قال: صرت والله إلى رب غفور شكور وخير كثير.

    ورئي الفضيل بن عياض بعد موته، فقال: لم أر للعبد خيراً من ربه.

    وقال أبو بكر بن أبي مريم: رأيت وفاء بن بشر بعد موته، فقلت: ما فعلت يا وفاء ؟ قال: نجوت بعد كل جهد. قلت: فأي الأعمال وجدتموها أفضل؟ قال: البكاء من خشية الله عز وجل.

    وقال عبد الله بن عبد العزيز: رأيت أبي في النوم بعد موته كأنه في حديقة، فقلت: أي الأعمال وجدتها أفضل؟ قال: الاستغفار أي بني.

    وقال سهيل أخو حزم : رأيت مالك بن دينار بعد موته، فقلت: أبا يحيى ! ليت شعري ماذا قدمت به على الله؟ قال: قدمت بذنوبٍ كثيرة محاها عني حسن الظن بالله عز وجل.

    وقال عمار بن سيف : رأيت الحسن بن صالح في منامي، فقلت: قد كنت متمنياً للقائك، فماذا عندك فتخبرنا به؟ فقال: أبشر! فإني لم أر مثل حسن الظن بالله شيئاً.

    ورأى الشيخ/ محمد الصالح -علامة القصيم - شيخه عبد الرحمن بن ناصر السعدي في منامه، فقال له: ما أكثر ما نفعك عند الله تعالى؟ فقال: حسن الخلق . وكان السعدي رحمه الله من المشهورين بحسن الخلق.

    وهذه قصة تأكدت من صحتها بنفسي، والذي يخبرك به الناس عما رأوه من حال أقاربهم بعد الموت في المنامات أشياء كثيرة جداً، فهذا عالم الأرواح بهذه الأسرار التي لا يعلمها إلا الله، وما علمناه نحن شيء يسير: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] وإن ما يحدث لهم الآن تحت الأرض وفي أعلى عليين وفي أسفل سافلين حوادث كثيرة جداً أكثر من الأحداث التي تحدث على وجه الأرض.

    كم مات من الناس من قبلنا من آدم إلى الآن؟

    كلهم لهم قصص وأحداث الآن تدور رحاها، تحت الأرض وفي أعلى عليين وفي أسفل سافلين، أحداث كثيرة جداً تحدث ونحن عنها في غفلة، فاستعدوا يا عباد الله، ولنستعد ولنأخذ العدة بما نحن عليه الآن لما سنكون عليه بعد الموت.

    نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله زاداً نافعاً يبلغنا مآلاً صالحاً.

    اللهم اغفر لنا يا رب العالمين، وتب علينا إنك أنت أرحم الراحمين، اللهم عجل فرجنا، وثبت أمننا، اللهم ارزقنا إيماناً صالحاً، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أراد بلدنا هذا بشر فكده، اللهم من أراد المسلمين وبلادهم بسوء فدمره واجعله عبرة للمعتبرين.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    766709783