إسلام ويب

كيف تكون مجالسنا إسلامية؟ [3]للشيخ : محمد المنجد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تكلم الشيخ حفظه الله في هذه المادة عن مسألة التناجي بين الناس، وحكمه وأحواله، ومتى يجوز ومتى لا يجوز، ثم أتبع ذلك بذكر صور يجوز فيها التناجي، وصور لا يجوز فيها التناجي، ثم ختم ذلك بالحديث عن التميز في التناجي وذمه، وأنه لابد من الوضوح في الشخصية اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    التناجي وأحكامه في الإسلام

    إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    أيها الإخوة! ذكرنا في الخطبتين الماضيتين شيئاً من أحكام المجالس وآدابها في الإسلام، وقلنا: إن ذلك الموضوع حساس ومهم، ونحن اليوم نتكلم عن أدب آخر من الآداب وهو وإن كان داخلاً في ضمن آداب المجالس إلا أن العلماء قد أفردوه في أبواب مستقلة من خلال مصنفاتهم، نظراً لأهميته؛ ولشدة الآيات والأحاديث الواردة فيه؛ ونظراً لفشو هذه القضية بين الناس اليوم في مجالسهم، فكان لا بد من إلقاء الضوء على هذه المسألة، وإيجاد حل لها، من خلال كلام ربنا سبحانه وتعالى، وأحاديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

    ألا وإن هذا الموضوع -أيها الإخوة- هو موضوع التناجي، الذي قال الله سبحانه وتعالى في شأنه في ثلاث آيات متتابعة في سورة المجادلة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة:8-10].

    الحكمة في تحريم النجوى

    فبين الله سبحانه وتعالى أن الحكمة في تحريم النجوى: أنها تحزن الذين آمنوا. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ [المجادلة:10] يعني: عندما يصدر هذا عن المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه: لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:10] أي: ليسوءهم: وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [المجادلة:10] مطلقاً، ومن أحس من التناجي ضرراً فماذا يفعل؟

    فليستعذ بالله وليتوكل على الله فإنه لا يضره شيء بإذن الله.

    فإذا أحسست يا أخي المسلم بحزن من جراء تناجي بعض الناس أمامك، فإنه يشرع لك أن تستعيذ بالله وتتوكل على الله، وتنزل هذه الضائقة بالله عز وجل فيكشفها الله عنك.

    سبب نزول آيات التناجي

    والتناجي -أيها الإخوة- من صفات المنافقين فإنهم كانوا يتناجون دون المؤمنين؛ حتى يحزنوا الذين آمنوا، وكان اليهود يتناجون أيضاً إذا رأوا مسلماً يمر من أمامهم فيتناجون حتى يخيفوا ذلك المسلم ويوهموه بأنهم يدبرون حوله مؤامرة، ويحيكوا حوله أخدوعة لعلهم يهلكونه بها، فكان المسلمون يحزنون لذلك فيجتنبون تلك الطرق، فنزلت هذه الآية تشتد على هؤلاء اليهود والمنافقين، وتبين للمؤمنين بأن هذا التناجي لا يضر مطلقاً إلا بإذن الله: وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المجادلة:10] فهم يتوكلون على الله؛ فيمنع الله عنهم ذلك الكيد، وذلك العداء.

    العلة في النهي عن التناجي

    وقد جاءت سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مبينة لهذه الأحكام، فقال ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس) لماذا؟ ما هي العلة المهمة جداً التي ينبغي لنا أن نفقهها؟ لأن عليها مدار الحكم فإذا انتفت العلة انتفى الحكم، وإذا وجدت العلة وجد الحكم، ما هي العلة في منع التناجي؟

    يقول صلى الله عليه وسلم في بقية الحديث: (فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس؛ من أجل أن ذلك يحزنه) فصار الحزن -أيها الإخوة- هو المانع من التناجي وهو السبب، لماذا يحزنه؟ يحزنه لأسباب ذكر العلماء بعضها فقالوا: أولاً: ربما توهم هذا الرجل الثالث أن نجواهما لتبييت رأي أو تجسيس غائلة ضده، ربما يتوهم هذا الرجل الثالث بأن هذين المتسارين يبيتان له أمر سوء ويحيكان شراً حوله، فلأجل ذلك منع التناجي.

    والعلة الأخرى: من أجل الاختصاص بالكرامة، يعني: كأن هذين المتناجيين يقولان بلسان الحال لا بلسان المقال: إنك أيها الثالث الذي تناجينا دونك لست بأهل لسماع كلامنا، وهذا الكلام ليس على مستواي إلا أنا وصاحبي، أما أنت فلست بأهل له، وليست هذه كرامة لك، وإنما كرامة لنا نحن المتناجيين، فهذه العلة أيها الإخوة أيضاً فيها الحزن الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أن فيها احتقاراً للشخص الثالث؛ لأنه ليس على مستوى الكلام كما يدعيان.

    النهي عن التناجي يحتمل التحريم

    وإذا نظرنا إلى الحكم في التناجي فقد ذكر بعض العلماء أن حكمه الكراهة، وذكر بعضهم أن حكمه التحريم، والظاهر أيها الإخوة أن الحكم في ذلك التحريم؛ لأن النهي يقتضي التحريم، ولأن الله تعالى يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً [الأحزاب:58] وأذية المؤمن محرمة، ولذلك يقول الله في هذه الآية: فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً [الأحزاب:58] وبما أن في التناجي إيذاء للمؤمن، إيذاء المسلم لأخيه المسلم، والإيذاء محرم بنص القرآن، فلذلك صار التناجي محرماً.

    وقد فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسألة حق فهمها، فروى الإمام مالك في الموطأ عن عبد الله بن دينار قال: (كنت أنا وابن عمر عند دار خالد بن عقبة في السوق، فجاء رجل يريد أن يناجيه -جاء رجل عند ابن عمر ، وابن عمر يريد أن يناجيه- وليس مع ابن عمر أحد غيري، فدعا ابن عمر رجلاً آخر من السوق -قال لرجل رابع تعال- حتى كنا أربعة، ثم قال لي وللرجل الثالث الذي دعا استأخرا شيئاً -واستأخرا من التأخر حتى يبلغ المناجي مراده، تأخر أنت والرابع شيئاً حتى أتمكن من كلام هذا الرجل الذي معي- فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يتناجى اثنان دون الثالث).

    إذا وُجِد رجلان يتناجيان فلا يُدخَل بينهما

    ويقول ابن مسعود رضي الله عنه لما جاءه رجل يريد أن يدخل بينه وبين رجل آخر؛ لكزه في صدره وقال له: (ألم تسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان اثنان يتناجيان فلا تدخل بينهما).

    فالحكم الثاني من أحكام المناجاة: أنك يا أخي المسلم إذا رأيت اثنين يتناجيان فيما بينهما، وأنت لم تكن معهما وإنما دخلت عليهما الآن فإنه لا يجوز لك أن تدخل وتجلس بينهما، أو تقرب رأسك منهما حتى تسمع كلامهما، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (إذا كان اثنان يتناجيان فلا تدخل بينهما).

    قال ابن عبد البر رحمه الله: لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما. وقال في الآداب الكبرى : ويكره أن يدخل في سر قوم لم يدخلوه فيه، والجلوس والإصغاء إلى من يتحدث سراً. وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بمنع الرجل أن يدخل بين اثنين.

    و هذا يعم عدم الدخول بينهما حتى ولو تباعد عنهما، حتى لو جلس بعيداً عنهما إلا بإذنهما، إذا قال: عن إذنكم أنا أدخل وأجلس في المجلس وهما يتكلمان، فأذنا له فيجلس بعيداً عنهما؛ لأنهما لما افتتحا حديثهما سراً وليس عندهما أحد دل على أن مرادهما ألا يطلع أحد على كلامهما، ويتأكد ذلك إذا كان صوت أحدهما جهورياً لا يتأتى له إخفاء كلامه ممن حضره، بعض الناس طبيعة صوته أنه مرتفع، فقد لا يستطيع أن يهمس همساً ويسر إسراراً فلذلك نهي عن الدخول بين المتناجيين، وقد يكون لبعض الناس قوة فهم، بحيث إذا سمع بعض أطراف الكلام استنتج فحوى الكلام كله، ولذلك لا يجوز الدخول على المتناجيين، أما المسألة الأولى التي تكلمنا عنها فإنه لا يجوز لاثنين أن يتكلما بحضرة رجل ثالث وهو موجود أصلاً.

    ويقول عليه الصلاة والسلام في تأكيد المنع في هذه المسألة: (ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون؛ صب في أذنه الآنك) والآنك أيها الإخوة: هو الرصاص المذاب من شدة الحرارة، يوم القيامة يصب في أذنه الآنك وهو الرصاص المذاب؛ لأنه قد دخل في حديث رجلين يستسران بينهما بغير إذنهما، وهذا يبين خطورة التجسس والتنصت على أسرار المسلمين.

    شروط التناجي

    ويشترط في جواز التناجي شروط منها:

    أولاً: أن تكون هناك مصلحة راجحة على مفسدة التناجي، ولذلك قال النووي رحمه الله في رياض الصالحين باب: النهي عن تناجي اثنين دون الثالث بغير إذنه إلا لحاجة. فصار هناك شرطان لجواز التناجي:

    أولاً: أن يكون بإذن الشخص الثالث، ويجب أن يراعى -أيها الإخوة- ألا يكون الشخص الثالث مكرهاً، لأن بعض الناس عندما يجلس في المجلس ثلاثة أشخاص يقول: عن إذنك يا فلان! ويتكلم مع الثاني، بدون أن يأخذ إذنه وبدون أن يستمع إلى إذنه، بل وبدون أن يكون الشخص الثالث راضياً، لأنه قد يحرج فيأذن وهو غير راض، لا بد أن يأذن الثالث الإذن الذي يدل على رضاه، وإلا فلا تناجي، وهذه أيها الإخوة من المسائل المخالفة للشريعة، الواقعة كثيراً، المنتشرة في المجالس.

    والشرط الثاني: أن يكون هناك حاجة فعلاً، يعني: مصلحة راجحة مؤكدة تتغلب على مفسدة مشكوك فيها وهي: إحزانه، فإذا كانت المصلحة قوية جداً، وإحزان الشخص هذا مشكوك فيه عند ذلك يجوز التناجي.

    صور التناجي المحرمة والمباحة

    هذا هو الضابط الذي ذكره العلماء، ومن هذه الصور مثلاً: أحياناً يأتيك ضيف أنت وهو في المجلس فيأتي إليك ولدك أو خادمك فتضطر أن تسر في أذن الولد أو الخادم كلاماً عن تجهيز الطعام مثلاً، أو عن تفريغ طريق مثلاً، أو أحياناً يقول لك ولدك: إن أمي تقول كذا وكذا، وفي هذه الحالة فقد درجت مروءة الناس على عدم الجهر بهذه الأشياء أمام الضيوف، فهذه المسألة هي مصلحة راجحة تقاوم المفسدة المشكوك بها، لأن الضيف سوف يقدر أن ولدك هذا عندما تسر إليه بكلام لن تقول كلاماً سيئاً عنه، وإنما سوف ترتب أنت وإياه أمراً يتعلق بالضيافة، أو يتعلق بداخل أهلك بداخل البيت، فلذلك لن يحزن، هذا مثال على التناجي الجائز، وإلا أيها الإخوة فأغلب صور التناجي الواقعة اليوم هي صور محرمة.

    وكذلك لو سأل إنسان: هل يدخل في التناجي أن يتكلم اثنان بلغة أخرى جهراً أمام ثالث لا يفهم هذه اللغة؟ لنفترض أن هناك ثلاثة رجال في مجلس واحد أحدهما لا يعرف اللغة الإنجليزية مثلاً، فأنت تكلمت مع صاحبك وأنت وإياه تفهمان هذه اللغة والثالث لا يفهم اللغة، تكلمتما بصوت مسموع، هل يدخل هذا في التناجي؟

    قال العلماء: نعم. يدخل ذلك في التناجي. ومنه قول النووي رحمه الله وفي معناه معنى التناجي: ما إذا تحدثا بلسان لا يفهمه لأن العلة موجودة، كأنك أنت وهو تساررتما لأن الشخص الثالث لا يفهم شيئاً، ففي هذه الحالة لا يجوز التناجي بهذه اللغة الثالثة.

    أما لو كان عندك في البيت مثلاً خادم أو سائق لا يتكلم بالعربية فهل يكون تناجياً أن تتكلم بالعربية مع صاحبك في البيت بحضرة الخادم؟

    الظاهر أن هذا لا يدخل في الحديث لماذا؟ لأن هذا الخادم موجود في البيت أصلاً، وكلامك مع صاحبك ليس عن الخادم، ولا من أجل الإضرار به.

    وكذلك فإن الخادم لن يحزن في هذه الحالة.

    وكذلك لأن التناجي هنا في الحديث خاص بالثلاثة الموجودين في المجلس في بعض الحالات، وليس الناس الموجودين في البيت من الخدم وأصحاب البيت مثلاً.

    فلذلك لا حرج أن يتكلم مثلاً اثنان من أهل البيت أمام الخادم باللغة العربية وهو لا يفهمها إذا كانا لن يتكلما في شأنه أو يغتابانه مثلاً، فإنك تجد بعض الناس الآن للأسف عندما يأتي خادم مسلم قد لا يتكلم اللغة العربية فتجد شخصاً يقول للثاني: انظر إلى هذا الغشيم كيف يضيف الناس، هذا عمره ما يتعلم، لو جلست ..، فيغتاب الرجل، ويشرِّح في عرضه، وينبذه بالألقاب التي نهى الإسلام عنها، والخادم أمامه مسكين لا يفهم، فإنه في هذه الحالة لا يجوز ذلك مطلقاً.

    وكذلك لو سأل إنسان فقال: هل يدخل في التناجي مثلاً عندما أكون أنا مع اثنين وأكتب لثالث صاحبي كتابة في ورقة وأريه الورقة والشخص الثالث لا يعلم ما هو المكتوب؟

    الجواب أيها الإخوة: إن هذا داخل في التناجي قطعاً، بل ربما كانت الكتابة في الأوراق أشد من الكلام، وبعض الناس يستعمل هذا، تجد ثلاثة في مجلس واحد يتكلم مع الثاني فيقول له: بكم اشتريت هذه أو كذا .. وكذا .. فلكي لا يخبر الثالث يكتب هذا في ورقة ويريه الورقة، يزعم أنه قد تخلص من هذا المحظور ولم يقع فيه، والحقيقة -أيها الإخوة- أنه ما تخلص منه مطلقاً، بل إنه وقع في عين التناجي، لأن هذه الكتابة في الورقة ستحزن الشخص الثالث ولا شك في ذلك.

    فلو كان هناك في المجلس أكثر من ثلاثة أو أربعة أو عشرة، هل يجوز أن تناجي تسعة دون العاشر، أو تناجي الثمانية دون التاسع؟

    الجواب كلا، بل هو ربما أشد من ذلك، يعني: ذكرت الثلاثة في الحديث لأنه أقل ما يتصور فيه التناجي لكنه عام، لو كان في المجلس خمسة أشخاص فاجتمع أربعة على جنب يتكلمون سراً والخامس موجود ألا يعتبر هذا تناجياً؟

    الجواب: نعم.

    وكذلك أيها الإخوة فإنه يجوز أن يتناجى جماعة دون جماعة؛ لأنه وقع في الحديث الصحيح من حديث ابن مسعود أنه قال: (فأتيته وهو في ملأ فساررته) فلو كان هناك جماعة وجاء واحد منهم وأسر في إذنك شيئاً، والبقية موجودون فلا حرج في ذلك كما ذكرنا آنفا.

    هذه بعض الأحكام المتعلقة بالتناجي.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبا وإياكم المحرمات والمنهيات، وأن يوفقنا لاتباع دينه، والتأدب بآداب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    ذم التميز في المناجاة

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله القويم.

    أيها الإخوة! قد جرت عادات بعض الناس في مجالسهم أنهم يتناجون، أو يأتي شخص ويتكلم مع واحد والآخر موجود، وصار هذا عرفاً في بعض المجالس ومنها وللأسف مجالس الدعاة إلى الله عز وجل.

    واعلموا -أيها الإخوة- أن هذه العادة عادة سيئة مرذولة، وكثير من الأحيان يتوهم الشخص أن فيها مصلحة وأن المصلحة راجحة، والحقيقة أنه ليست هناك مصلحة على الإطلاق، أو قد تكون المصلحة مرجوحة وإحزان الشخص الثالث أمر مؤكد لا شك فيه.

    فلذلك ينبغي ألا يلبس الشيطان على عباد الله الصالحين فيوقعهم في حبائله، فيظنون أن بعض أنواع التناجي للمصلحة لا شيء فيها، وهي ليست كذلك، وكما ذكرنا فإن العلة هي الإحزان، فإذا انتفت العلة مطلقاً وهذا أمر يصعب التأكد منه جداً، فإنه لا بأس من ذلك، بل إنه في كثير من الأحيان قد يدفع الشيطان إنساناً ليسر شيئاً في أذن أخيه بحضرة أخ له ثالث موجود، يحسب أن ذلك مصلحة، وقد يكون هذا خدعة من خدع الشيطان كيف ذلك؟

    قد يأتي في نفس الإنسان -أيها الإخوة- أحياناً حب التميز عن الآخرين، فيأتي في مجموعة وفيهم شخص فيسر إليه بحديث، ويأتي الجواب من ذلك الرجل ثم يتكلم، ويأتي كلام آخر سراً، لا لأن هناك مصلحة في هذا التسار ولكن لأن الشيطان قد لعب بنفس هذا الرجل وأدخل فيه قضية حب التميز عن إخوانه الآخرين، فهو يحب أن يكون له أسرار وأن تكون له قضايا خاصة، وأنها ليست بمستوى الموجودين، وأنه يتكلم مع شخص بعينه ولا يتكلم مع الآخرين، ليبدي لهم بأنه أعلى شأناً منهم، هذا أيها الإخوة من مداخل الشيطان على عباد الله.

    وفيه إدخال لحظوظ النفس وخلطها في مصالح الدعوة إلى الله، وهذا خلط لا تقره الشريعة ويأباه الإسلام ويدفعه بكل وسيلة؛ لأن الإسلام أيها الإخوة يحرص على وضوح شخصية الداعية إلى الله، وهذا أمر مهم جداً، لا بد أن تتصف شخصية الداعية بالوضوح التام أمام الناس، سواء كانوا من إخوانه الخلص أو من عامة الناس.

    1.   

    الوضوح في الشخصية وفوائده على صاحبه

    لا بد أن يكون الوضوح هي الصفة المتميزة لهذه الشخصية، ولهذا الوضوح يا إخواني فائدة عظيمة في الدعوة إلى الله، فمن فوائده:

    أنه يمنع قابلية إشاعات المغرضين على نفسه، إذا كان الإنسان غير واضح وتحيطه هالات من الغموض، فإن الناس المغرضين سيتكلمون فيه، ويقولون: انظر فلاناً ماذا حوله! إن أمره مريب، إنه كذا .. وكذا .. فتبدأ إشاعات المغرضين تلوكه، وهو السبب لأن شخصيته غير واضحة أمام الناس، وإذا أردتم مثالاً من السيرة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص على وضوح الشخصية أمام المجتمع بأسره، فتأمل معي يا أخي المسلم في هذه الحادثة، إنها قصة ابن أبي السرح ؛ وهو صحابي جليل أسلم، وكان من كتبة الوحي، ثم ارتد عن الإسلام وصار يقول لكفار قريش: أنا كنت أكتب الوحي لمحمد وأنا أصرفه حيث أشاء، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، ولما فتح مكة أمن الناس كلهم إلا أربعة منهم ابن أبي السرح هذا رضي الله تعالى عنه.

    وستعرفون من القصة لماذا رضي الله تعالى عنه، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في الصارم المسلول على شاتم الرسول ؛ وهو كتاب ممتاز ذو فوائد قيمة قال: قصة ابن أبي السرح مما اتفق عليه أهل العلم واستفاضت عندهم استفاضة تستغني عن رواية الآحاد كذلك، وهذا أقوى مما رواه الواحد العدل:

    ( لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن أبي السرح عند عثمان بن عفان ، فجاء حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم ) -عثمان أتى بهذا الرجل عبد الله بن أبي السرح وأوقفه أمام الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفتح- ( فقال: يا رسول الله! بايع عبد الله ، بايع هذا الرجل، يريد الآن أن يتوب بايعه، فرفع رأسه صلى الله عليه وسلم فنظر إليه ثلاث مرات، ثم كل ذلك يأبى أن يبايعه، فبايعه بعد الثلاث، فلما بايع النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي السرح على توبته ودخوله في الإسلام مرة أخرى، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: أما فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟! ) الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة: يا جماعة! ما فيكم رجل لبيب يفهم ويعقل ويستنتج من أني امتنعت عن مبايعة هذا الرجل ثلاث مرات أني لا أريد مبايعته فيقتله، لأن الرسول كان قد أحل دمه قبل أن يأتي تائباً.

    ( فقال رجل من الصحابة: ما ندري يا رسول الله! ما في نفسك -ما اطلعنا على دخيلة نفسك- ألا أومأت إلينا بعينك، إشارة إلى أنك تريد قتله وأنك لا تريد بيعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ) قال ابن تيمية : رواه أبو داود بإسناد صحيح، وخرجه جماعة من أهل العلم.

    فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد الغموض ولا يحبه، ولا يريد حتى الوصول إلى المقصود بالإشارات الخفية، بل يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون واضحاً.

    وهذا أيها الإخوة من أسباب عدم قبول كفار قريش لكثير من الإشاعات التي أشاعها المنافقون واليهود عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واضحاً في شخصيته وضوحاً بيناً.

    لذلك يقول عبد الله بن سلام لما جاء يختبر الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم يقول: (فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب)؛ لأن فيه وضوحاً ليس فيه مواربة ولا أسرار ولا غموض، (فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب).

    فإذاً أيها الإخوة! ينبغي أن يحرص الدعاة إلى الله عز وجل حرصاً كبيراً جداً على وضوح شخصياتهم أمام الناس؛ لأن في ذلك أكبر الإعانة والمساعدة على تقبل دعوتهم، وعلى إبعاد ألسنة أهل السوء عنهم.

    ونختم هذا الموضوع بهذه الأبيات الجامعة لهذه الآداب وغيرها، قال الشاعر:

    وقد خص بالصفع في الدنيا ثمانية     لا لوم في واحد منهم إذا صفعا

    المستخف بسلطان له خطر     وداخل في حديث اثنين قد جمعا

    وآمر غيره في غير منزله     وجالس مجلساً عن قدره ارتفعا

    ومتحف بحديث غير حافظـه     وداخل بيت تطفيل بغير دعا

    وقارئ العلم مع من لا خلاق له     وطالب النصر من أعدائه جمعا

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتخلقين بأخلاق الإسلام المتأدبين بآدابه.

    اللهم اجعلنا من المسلمين لك، المخبتين لك، المنيبين إليك الأواهين.

    اللهم واجعلنا ممن يقيم حدود هذا القرآن ويحل حلاله ويحرم حرامه.

    اللهم وانصر المجاهدين في كل مكان، وفي بلاد الأفغان ، وفي فلسطين ولبنان .

    اللهم دمر اليهود ومن شايعهم، اللهم إنهم عاثوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد اللهم فشتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل دائرة السوء عليهم يا رب العالمين!

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    766672257