وهذا الشرك -أيها الإخوة- له صورٌ كثيرة: ومن صور الشرك، ومن أنواع الشرك ما يكون جلياً واضحاً ومنه ما يكون خفياً، كما أنه ينقسم إلى شركٍ أكبر وأصغر فلذلك ينقسم إلى شركٍ جليٍ وخفي، فالشرك الجلي واضح يعرفه كل أحد، والشرك الخفي: الذي يخفى على كثيرٍ من الناس، أما المؤمنون فإن الدافع عندهم للشرك الجلي لا يكاد يوجد، لكن الخطورة والمصيبة في الشرك الخفي -بالنسبة للمؤمنين- أما المشركون فهم واقعون في أنواع الشرك، جليها وخفيها.
موضوعنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن شهوةٍ خفية في النفس تقدح في الإخلاص وتخالف التجرد لله سبحانه وتعالى، وهي حب الرئاسة وحب الشهرة، وهما موضوعان متقاربان، بينهما كثيرٌ من الارتباط ولعلنا نتحدث عن هذين الموضوعين -إن شاء الله- في هذه الليلة ونسأل الله الإخلاص والقبول والسداد، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم هذه المزالق، وأن يطهر نفوسنا من أنواع الشرك جليه وخفيه.
أما حب الرئاسة فهو: حالقةٌ تحلق الدين، ومزلقٌ عظيمٌ من المزالق التي يفنى فيها الإخلاص ويذوب، بل إن خطورته على الدين أشد من خطورة الذئب الذي يترك في زريبة غنم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).
ذئبان جائعان: الحرص على المال ذئب والحرص على الشرف شبهه بذئبٍ آخر، إذا أرسل الذئب في الغنم ماذا يفعل؟ فكذلك يفعل الحرص على الشرف والحرص على الجاه والحرص على الرئاسة كذلك تفعل في الدين، تفسد الدين إفساداً عظيماً، والحرص على الرئاسة وحب الرئاسة والسعي لها، شهوةٌ خفيةٌ في النفس ولا شك، والناس عندهم استعداد للزهد في الطعام والشراب والثياب لكن الزهد في الرئاسة هذا نادر.
قال سفيان الثوري رحمه الله: ما رأيت زهداً في شيءٍ أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب فإن نوزع الرئاسة تحامى عليها وعادى.
وقال يوسف بن أسباط : الزهد في الرئاسة أشد من الزهد في الدنيا، ولذلك كان السلف رحمهم الله يحذرون أتباعهم وأصحابهم من ذلك، كتب سفيان إلى صاحبه عباد بن عباد رسالةً فيها: إياك وحب الرئاسة، فإن الرجل تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو بابٌ غامضٌ لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة فتفقد نفسك واعمل بنية.
إذاً: هو خفي جداً إنه شهوة خفية في النفس، وقال أيوب السختياني رحمه الله: ما صدق عبدٌ قط فأحب الشهرة، وقال بشرٌ: ما اتقى الله من أحب الشهرة، وقال يحيى بن معاذ : لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة، وقال ابن الحداد: ما صدّ عن الله مثل طلب المحامد وطلب الرفعة: المنصب، والرياسة.
وقال بعض السلف موضحاً مظاهر حب الرئاسة: ما أحب أحدٌ الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب، فهذه أيضاً من علامات حب الرئاسة، ما أحب أحدٌ الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص والعيوب ليتميز هو بالكمال، ويكره أن يذكر الناس أحداً عنده بخير، ومن عشق الرئاسة فقد تودع من صلاحه.
وكذلك من مظاهرها: ألا يدل على من هو أفضل منه في الدين أو العلم والخلق ويحجب فضائل الآخرين، ويكتم أخبارهم حتى لا يستدل الناس عليهم فيتركوه ويذهبون إلى الأخير، أو يخشى أن يقارن الناس بينه وبين الأفضل فينفضوا عنه أو ينزل في أعينهم ويقل مقداره عندهم.
وكذلك من مظاهر حب الرئاسة الحسرة إذا زالت أو أخذت منه، تأمل لو أن إنساناً كان في قريةٍ أو مدرسةٍ أو بلد، فالتف الناس حوله يعلمهم، ثم جاء من هو أعلم منه، فسكن البلد، ونزل فيها، فماذا يحصل؟
سيتركه الناس ويذهبون إلى الأعلم، فهذا السؤال الآن: هل يفرح الرجل أو يحزن.؟ هل يفرح لأنه قد جاء من هو أعلم منه يحمل عنه المسئولية ويرفع عنه التبعة؟ ويفيد الناس أكثر.؟ أو أنه يغتم ويخزن لأنه قد جاء من خطف منه الأضواء وبهت نجمه بقدوم غيره؟
هب أن شخصاً في مجلس فجاء من هو أعلم منه في المجلس، أو أقدر منه، فهل يفرح لمجيء من هو أعلم منه، ويفسح له المجال في الكلام، أو يغتم لحضور شخصٍ سيتصدر المجلس وتلتفت إليه الأنظار ويسعى إليه الناس الجالسون بأسئلتهم؟!
لو أن شخصاً في منصب فنقل إلى دائرته أو القسم الذي هو فيه شخصٌ أقدر منه، وشهادته عالية ويرجح أنه يرشح للمنصب بدلاً منه، فكيف يكون عمله في هذه الحالة؟! هناك يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، إن هذا خطر عظيم أيها الإخوة.
التحرر من سلطة الآخرين، يريد أن يكون هو رئيساً، لا يريد أحداً فوقه، لو أن الذي فوقه كافرٌ أو فاسقٌ أو خائنٌ، لقلنا: نعم. ينبغي إزاحته، لكن لو كان الذي يرأسه تقياً مسلماً أميناً عارفاً، فما هو المبرر للتحرر من هذه السلطة والرئاسة التي فوقه؟
وكذلك من أسبابها: الرغبة في التسلط على الآخرين، النفس جبلت على التسلط والسعي للتحكم والسيطرة والنفوذ، ولذلك ترى الذين يحبون هذه يريدون التسلط على الآخرين، ويتلذذون بإعطاء الأوامر، هو يصدرُ أمراً وعلى من تحته أن ينفذ، وربما كان عنده ظلمٌ وبغي فيتلذذ بتعذيب غيره، أو أن يسوم من تحته ألوان العذاب بأوامره الجوفاء.
ومن أسبابه كذلك، من أسباب حب الرئاسة وعدم التورع عن السعي إليها: عدم تقدير عواقب التقصير في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: ( ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ فما فوق ذلك ) انتبه يا أيها الأب في البيت! ويا أيها الرئيس في القسم والدائرة! ويا أيها الصاحب للعمل وتحته عمال! ( ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ فما فوق ) وانتبه يا طالب العلم الذي تعلم من تحتك، وانتبه يا أيها المربي الذي تدرب من عندك وتسوسهم وينبغي أن تسوسهم بأمر الشريعة: (ما من رجلٍ يلي أمر عشرةٍ فما فوق ذلك، إلا أتى الله مغلولاً يده إلى عنقه، فكه بره أو أوثقه إثمه)، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزيٌ يوم القيامة أولها ملامة: تتوجه إليه سهام الانتقادات، وأوسطها ندامة: إذا نحي عن منصبه، أو خرج عليه فخلع، وآخرها: خزيٌ يوم القيامة بما يلقى الله عز وجل من الخيانة أو عدم القيام بالمسئولية وأداء الأمانة.
ومن الأمور والآثار المترتبة على هذا كذلك: الحرمان من التوفيق، قال النبي عليه الصلاة والسلام لـعبد الرحمن بن سمرة : (يا
وكذلك من آثار حب الرئاسة السلبي: الوقوع في البدع والضلال، كما قال أبو العتاهية رحمه الله:
أخي من عشق الرئاسة خفت أن يطغى ويحدث بدعةً وضلالة |
فهو يزين الذميم ويقمع المخالف بأي وسيلة، يترتب عليه ظلمٌ كثير إذا لم يخش الله، فيمنع غيره من الأكفاء من الوصول إلى مثل منصبه ويعرقلهم ويضع العوائق في طريقهم، كيف وقد تلبس الشيطان بداخله وزين له أمره؟! هذه لذة لا يتخلى عنها لمن هو أفضل منه إلا من عصمه الله ليس الأمر سهلاً..
وكذلك: إذا لم يكن على أهلية، افتضح وظهر أمره وتقصيره وأنه عاجز ليس بأهل، ولا يستطيع حل المشكلات، فإما أن يعاند ويستمر وينجرُّ عليه من الإثم، أو يتخلى مع ما حصل له من الفشل وهذا أيضاً أمرٌ مر، ولكنه أهون، لكن السؤال لماذا تصدر وليس بأهل لذلك؟!!
قد يجلس في مجلس علم يتصدر، ويجمع الناس حوله ليعلمهم ثم يظهر من حاله وفي جلسته وحلقته وإجابته عن الأسئلة لا يفضح حاله ويبين جهله، فيتركه الناس ويقومون عليه، هو الذي تصدر؛ [تفقهوا قبل أن تسودوا].
فالمنصب له أحكام، والمسألة تحتاج إلى علم، ولا يجوز لإنسان أن يتقدم بدون علم وأهلية، هو الذي اختار ذلك وسعى إليه، فأكلَ النتيجة، كانت النتيجة مراً وعلقماً.
وكذلك من آثار الحرص على الرئاسة والسعي إليها: الابتلاء بالشحناء وتفرق الصف وحصول الصراعات الداخلية والتنافسات، وكلٌ من الحريصين عليها يتهم الآخر بأنه قاصر وعاجز، أو يتهم الواحد الآخر بأنه يريد إقصاءه ويتبادلون الاتهامات، يقول هذا: تريد أن تقصيني عن موضع التأثير والقيادة، وهذا يتهم الآخر في مثل ذلك فيفشل العمل، أي عمل تجاري دعوي أو أي عملٍ من الأعمال إذا حصل في هذا الأمر يفشل.
فلابد من الإخلاص لله سبحانه وتعالى, والتجرد عن النوازع الشخصية وتقديم مصلحة الإسلام والمسلمين قبل كل شيء.
محاسبة النفس في غاية الأهمية، فإذا عرف أنه ضعيف فلا يقدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر -وهذا حديث عجيب- فعلاً: (يا
ولذلك كان أحد الخلفاء يقول: [وددت أني خرجت منها كفافاً لا لي ولا علي] من عظم استشعار المسئولية، ولو حصل خطأ أو شيء جلس يبكى، كيف هو مقصر، كيف لم يعلم عن هذه الأمة، أو كيف لم يعلم عن هؤلاء الناس والأفراد، وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً خطورتها أيضاً: (لابد من العريف، والعريف في النار) أما العريف فهو: الذي يلي أمر القبيلة أو الجماعة من الناس.
رئيس الفوج من الجنود المتولي عليهم، المراتب العسكرية كل مرتبة تحته أشخاص، كلما ازدادت رتبته ازداد عدد الأفراد الذين يشرف عليهم، (لابد من العريف والعريف في النار) لابد من العريف لأنه لا يمكن أن يستقيم أمر الناس بدون عرفاء، لابد من وجود مسئولين ينظمون الأمور، والعريف في النار إذا لم يعدل، فهذا مقيد بعدم العدل وحصول الظلم منه يكون في النار، أما إذا عدل واستقام، فإن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل؛ تولى وعدل.
جاء في البخاري: أن عبد الله بن عمر حضر خطبة من تولى الملك في زمنه، قال الخطيب الذي تولى: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر -يعني: ينازعنا فيه- من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر، فليطلع لنا قرنه -فليظهر وليقف- فلنحنُ أحقُّ به منه ومن أبيه -نحن أحق بهذا الأمر منه ومن أبيه وعبد الله بن عمر جالس- قال عبد الله بن عمر : [فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام -لأنه كان متأخراً في الإسلام هو وأبوه -يقول
وكذلك حال الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، كيف كانوا يقولون، وعمر بن عبد العزيز بكى عدة مرات على المنبر، ويقول: يا أيها الناس: أنا أخلع نفسي ولا ألزم أحداً بطاعة، والناس هم الذين يصرون عليه ويقولون: بلى. أنتَ وتبقى، ويؤكدون له العهد، كذلك العلماء لما تهربوا من القضاء، القضاء مسئولية خطيرة جداً (قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار) كيف كان هروب العلماء من القضاء؟ القضاء منصب ومسئولية وسلطة، وكان القاضي من أعظم الناس في زمانه، وكلمته لا تنزل إلى الأرض؛ فقد كانت مسموعة، وكانوا يهربون ويضربون عن القضاء ولا يتولونه ويسجنون ولا يتولونه، يرغمون يدفعون ويأبون، وكانوا يهربون من منصب الفتوى، مع أنهم أهل، لكن الواحد يرد الفتوى إلى الآخر، يقول: اذهب فاسأل فلاناً؟ لا يريد أن يتبوأ منصباً ويتصدر في الفتوى، لا يتصدر الفتوى بل يحيلها على غيره، وكانت الفتوى تذهب تدور على نفر وترجع إلى الأول كل واحد يرحلها إلى صاحبه، فهربوا من المسئوليات والقضاء والمناصب والفتوى هربوا يريدون النجاة لأنفسهم، لا يريدون تبعات، لم يكن قصدهم التهرب من المسئولية، وإنما كان الابتعاد عن النار.
ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم أثنى على رجل وعلى صنف من الناس فقال عليه الصلاة والسلام: (طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٌ رأسه مغبرةٌ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة ) -إذا وضعوه يحرس حرس، وإذا وضعوه في مؤخرة الجيش في الساقة: بقي في المؤخرة، ما قال: لا. لابد أن أكون في المقدمة وفي الصفوف الأولى، أنا في آخر الناس لماذا؟ (إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة ) ما دام في ذلك مصلحة المسلمين، وما دام هذا الذي أمره به القائد المسلم الذي يحكم فيهم بشريعة الله يطيع وينفذ- (إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع) هذا الرجل من هوانه على الناس أنه إذا استأذن على إنسان لا يؤذن له، وإن شفع في شخص لا يشفع، مغمور مجهول ليس له قدر، فلذلك لا تقبل شفاعته عند الناس، لكن هذا عند الله شأنه عظيمٌ جداً.
وعن أبي موسى قال: دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل؟ اجعلنا أمراء على بعض ما ولاك الله عز وجل من المناطق، وقال الآخر مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه).
وكذلك على المربين مراقبة النوازع هذه عند من يربونهم، فلا يسمحون لمن طلب أمراً من هذه المسئوليات التي يتحملها إلا إذا كان عن شيءٍ شرعيٍ صحيح.
وعن أبي بردة قال: قال أبو موسى: (أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين) -وهذه الرواية الأخرى في مسلم أيضاً مع الرواية السابقة- (أحدهما عن يميني والآخر عن يساري فكلاهما سأل العمل -يعني: أعطنا ولاية- والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك بالسواك، فقال: ما تقول يا
في المجتمع الإسلامي الصحيح لا يحتاج الناس إلى تزكية أنفسهم -لا حظ معي- في المجتمع الإسلامي الصحيح، لا يحتاج الناس إلى تزكية أنفسهم، وعمل الدعايات لأشخاصهم ليختاروا للمناصب والوظائف.
أولاً: لأن أصحاب الفضل والأحقية معروفون عند الناس، والمجتمع يعلم عملهم وإخلاصهم، والمجتمع الإسلامي الصحيح يبرز بمسيرته الصحيحة الطاقات المخلصة، لكن عندما تكون هناك انحرافات في المجتمع يظلم الذكي وصاحب الطاقة وصاحب القدرة يظلم ويغمط حقه، ولذلك يقع هناك ظلمٌ كثير في تولي المسئوليات، وأما في المجتمع الإسلامي الصحيح فصاحب العلم معروف وصاحب العطاء معروف وصاحب الفضل معروف، فالمجتمع صحي فهو يبرز بطبيعته دون تكلف ودون تزكيات ودون دعايات يبرز أصحاب الطاقات المخلصة، تصور جيشاً إسلامياً من جيوش الفتح الإسلامي، قائده مخلص وجنوده مخلصون خلال القتال وخلال الحركة يتبين صاحب القدرة الذي يسد الثغرة وصاحب الطرح الوجيه وصاحب الخبرة، يتبين الجريء والفعال.
فحركة المجتمع الإسلامي الصحيح تفرز وتبرز الطاقات فلا تحتاج المسألة إلى تزكيات ولا إلى دعايات، وكذلك في المجتمع الإسلامي الصحيح المناصب والوظائف تكليفٌ ثقيل لا يغري أحداً من الذين يخافون الله بالتزاحم عليه، وفي المجتمع الإسلامي الأول تميز السابقون من المهاجرين ثم الأنصار، وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان ومن أنفق قبل الفتح وقاتل، حصلت فيهم وأبرزت الطاقات، فظهر هذا للأذان، وهذا لقيادة الجيش، وهذا للفتوى، وهذا للقضاء، وهذا للإقراء، وهذا للإمامة وهذا للإمارة، أفرز المجتمع أصحاب الطاقات، ولذلك ينبغي السعي إلى إقامة المجتمع الإسلامي للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ونشر الخير في الناس وتربية الناس عليه حتى يتم التخلص من كل هذه السلبيات والمعوقات والظلم الذي يمنع من ظهور أصحاب الطاقات.
هذا المجتمع الإسلامي الصحيح لا يبخس الناس بعضهم بعضاً، ولا ينكر الناس فضائل المتميزين وعندئذٍ تنتفي الحاجة إلى أن يزكي المتميزون أنفسهم ويطلبوا مراكز التوجيه والقيادة، ومهما كبر المجتمع المسلم واتسع، فإن أهل كل محلة متعارفون متواصلون يعرفون بأصحاب الكفايات والمواهب فيهم، كل دائرة، كل حارة، كل منطقة، كل مدرسة معروف صاحب الطاقة، صاحب القدرة على تحمل المسئولية، مهما كان المجتمع كبيراً، لكن المجتمع يتقسم مؤسسات وشركات ودوائر ومدارس ومجامع فإذا كان كل مجمعٍ فيها يسوده الشرع، أفرز وأبرز كل مجمع ٍفيها من هو قادرٌ ومن هو صاحب الموهبة والطاقة لتحمل المسئولية، فيوضع الرجل الصحيح في المكان الصحيح.
ينبغي لأهل الحل والعقد في المجتمع الإسلامي أن يكونوا متجردين لله من كل الانحرافات والأهواء عند ترشيح أحدٍ لمنصب من المناصب، ولو حصل اختلافٌ في الرأي في ترشيح شخصٍ، فينبغي سرعة الأوبة، لأننا نحتاج إلى الوحدة، ونحتاج إلى التكاتف والتعاون، كما جاء في صحيح البخاري في توضيح هذا المفهوم في هذه القصة: (قدم ركبٌ من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال
الخلاف حصل بين أعظم رجلين بعد النبي عليه الصلاة والسلام، الخلاف يمكن أن يحصل لكن كانوا يسرعون الأوبة، الفرق بيننا وبين الصحابة من الفروق العظيمة، ليس أنهم لا يخطئون ونحن نخطئ، لا. يمكن أن يخطئوا لكن سرعان ما يتدارك الخطأ ويرجع كل واحدٍ منهما يفيء إلى الحق ويرجع إليه.
وبعد هذا العرض لهذا المرض في بعض مظاهره وأسبابه وآثاره وعلاجه، قد يطرح سؤالٌ ويثار وهو: لماذا طلب يوسف عليه السلام المنصب؟ وقال: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ [يوسف:55]؟ وهل ينافي هذا ما تقدم ذكره من قضية ترك السعي إلى هذه المطامح؟ وما معنى قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74]؟
قال العلماء في هذه الآية وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] أي: واجعلنا أئمة يقتدى بنا من بعدنا، اجعلنا على درجة من العمل الصالح والخير حتى نكون قدوة للناس بأعمالنا، يكون واقعنا قدوة، يجذب الناس إلى الإسلام، ونكون نحن منارات لغيرنا، فهم لا يقولون للناس: يا أيها الناس! هلمُوا إلينا، يا أيها الناس! قلدونا، يا أيها الناس! اعملوا مثلنا، يا أيها الناس! انظروا إلينا، لا. وإنما يطلبون من الله، وليس من الناس: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] أئمة في الخير يقتدى بنا من بعدنا، وأنتم لا يخفى عليكم -أيها الإخوة- أن الذي يَسنُ سنةً حسنةً، يكون له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، وإذا اقتدى الإنسان بإنسان آخر في الخير، فيكون للمقتدى به من الأجر مثل المقتدي من غير أن ينقص من أجر المقتدي شيء.
فهذا مطلب عظيم أن الإنسان يدعو الله أن يجعله من أئمة المتقين، يعني: يطلب من الله أن يجعل له باباً من أبواب الأجر، وهو أن يكون هو على خيرٍ فيقتدي به الناس، وليس أن يرائي ويتمظهر، وأنه يقول للناس: انظروا إلي، تشبهوا بي، لا. بل يخلص في نفسه لله، والله يقيض من الناس من يشعر به وينظر إليه ويقتدي بفعله، الله الذي يقيض، وليس هو الذي يقول: يا أيها الناس! تعالوا وانظروا إلى حالي وامشوا ورائي.
يوسف عليه السلام يريد أن يجعل من هذا المنصب وسيلةً للدعوة إلى الله عز وجل، ثم يوسف يعلم أنه لا يوجد هناك من هو أفضل منه للقيام بهذا المنصب وتحمل هذه المسئولية، ولذلك لا توجد شبهة، فيقول الإنسان أراد المنصب بطمع شخصي ومطمح دنيوي، لا. لأن المسألة صعبة وشاقة ثم هؤلاء كفرة وهو يريد أن يدعوهم إلى الله ولا يوجد أكفأ منه، ثم إن العزيز أشعره: قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف:54] فانتهز اللحظة المناسبة وكان حصيفاً في اختيارها، لحظة يطلب فيها المنصب والقيام بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة وليكون مسئولاً عن إطعام شعبٍ كامل وشعوبٍ مجاورة، طيلة سبع سنوات لا زرع فيها ولا ضرع، وسبع سنوات من التدبير فهذا ليس ظلماً أن يطلبه لنفسه، ولا مغنماً شخصياً، وإنما هي تبعةٌ يهرب منها عظماء الرجال.
ولذلك قال العلماء: يجوز للمرء أن يطلب المنصب إذا رأى الأمر في يد الخونة أو اللصوص أو الضعفاء، فيجوز أن يتقدم هو وليطلب المنصب لإنقاذ الموقف، فإذا كان بيد من لا يؤدي أمانة، وعلم من نفسه الكفاية وأنه ليس هناك من هو أفضل منه، جاز أن يطلب، إذا كان يعلم لنفسه الأمانة والكفاءة وليس هناك من هو أفضل منه، وهذه الثغرة لا يوجد فيها من يقوم بحقها، ولا يوجد هناك من يلتفت إليه ليطلب منه هذا الطلب، يجوز له هو أن يتقدم.
بل لو كان هناك كافر في هذا المكان أو المنصب أو خائن، ربما يأثم لو لم يتقدم لإنقاذ الموقف، لأنه يريد مصلحة المسلمين، لا مصلحته الشخصية، وكذلك إذا كان مستعملاً على عمل، وهناك عملٌ آخر يرى أنه أنسب له، وأكثر إتقاناً في مجال الدعوة إلى الله أو غيره من الأعمال، أو يرى مصلحةً لم يرها غيره، فلا بأس أن يطلب ذلك إذا أمن الغرور والتطلع الشخصي، يطلب ذلك بتعريض وأدب وليس بفمٍ مفتوح وعنجهية، ويقول: أنا لها أنا لها، وإنما بتعريضٍ وأدب، فالإنسان قد يكون في موقع فيطلب الانتقال إلى موقعٍ آخر يسد ثغرةً أو يصلح خللاً لعلمه أنه ليس هناك من هو أكفأ منه، دون غرور، هذه هي الحقيقة التي يعلمها باجتهاده، هذا يختلف عن حال من لم يكن لديه عمل أصلاً، فهو يبحث عن عمل، -أقصد بالعمل: المنصب أي: الرئاسة أو من كان له مكانٌ صغير- فهو يقول: ولوني في المكان الأكبر، التهمة هنا موجودة وواضحة، ولذلك ينبغي على كل إنسان أن يتقي الله سبحانه وتعالى في هذا الأمر وليست المسألة سعياً للرئاسة والمسئولية، لا سعياً للرئاسة المهلكة والمطامع الشخصية الدنيوية، ولا تهرباً من المسئولية التي تستطيع أنت أن تقدم فيها ما تستطيع للإسلام والمسلمين.
وهذه خلاصة الموضوع وهذا هو القسم الأول من هذا الدرس.
عالم الشهرة الآن يدخل فيه كثيرٌ من أهل السوء والباطل كما هو معروف وواضح جداً.
وهؤلاء الذين يحبون الأضواء والكاميرات ويحبون أن تسلط إليهم الأنظار، كثيرٌ منهم تافهون جداً، إنما يعملون على الإضرار بالمجتمع ويعملون في حقل المعصية وخطوات الشيطان وسبيل إبليس، كثير من المشهورين الآن لاشك ولا يخفى عليكم هذا الحال فيه، وهؤلاء أمرهم واضح، ولا يحتاجون إلى تبيين لكن نحن نلتفت الآن إلى مسألة حب الشهرة وحب الصيت عند الأوساط التي يكون فيها شيءٌ من التدين أو الدين والعلم، فلا شك أنه يخترق هذه الأوساط شيءٌ من هذه النوازع، حب الشهرة وحب الصيت.
لاحظ الآن كم من رجل نطق بالحق وأمر بالمعروف فيسلط الله عليه من يؤذيه، لماذا؟ كيف هذا؟! كيف ينطق بالحق ويأمر بالمعروف والله يسلط عليه من يؤذيه؟!
قال الذهبي رحمه الله: لسوء قصده وحبه للرئاسة الدينية، فهذا داءٌ خفيٌ سارٍ في نفوس الفقهاء، كما أنه داءٌ سارٍ في نفوس المنفقين من الأغنياء، وأرباب الوقوف -الأوقاف الذين يعملون الوقف والترب المزخرفة وربما بنوا المساجد، وهو داءٌ خفي يسري في نفوس الجند والمجاهدين- أي: حتى المجاهدون الذين يقاتلون، فتراهم يلتقون العدو. فـالذهبي يصور حالة في عهده، نحن الآن عرفنا الشهرة هذه في أوساط أهل السوء لا تحتاج إلى بيان، لكن حب الشهرة في أوساط أهل الطاعة عند بعض طلبة العلم، أو بعض المنفقين يطبع اسمه على الكتب التي يطبعها، أو يكتب اسمه على مسجدٍ يبنيه، أو وقفٍ يعمره، أو نهرٍ يجريه، هذا يحب الصيت والشهرة، ليقال: فلانٌ بناه، وفلانٌ طبعه، ونحو ذلك وربما كتب المحسن على نفقة المحسن الكبير، ما هذا؟! حب شهرة وحب الصيت ينافي الإخلاص، أين إخفاء العمل، الذي يوفر الأجر؟ غير موجود؛ موجود بدلاً منه حب الشهرة، وحب صيت، يدمر العمل تدميراً ويفني الأجر إفناءً، فيأتي الله وليس له حسنة، قد استهلكت في الدنيا قالوا عنه: محسن وكريم، ويحب الخير، أخذها في الدنيا، قال الذهبي : ويصطدم الجمعان وفي نفوس المجاهدين مخبئاتٌ وكمائن من الاختيال وإظهار الشجاعة ليقال: فلان شجاع وفلان جريء والعجب، ولبس القراقل المذهبة، وهي نوعٌ من الثياب يستخدمها العسكر، والخوذ المزخرفة، والعدد المحلاة، على نفوسٍ متكبرة، وفرسانٍ متجبرة، ويضاف إلى ذلك إخلالٌ بالصلاة، وظلمٌ للرعية، وشربٌ للمسكر فأنى ينصرون وكيف لا يخذلون؟!!
الذهبي رحمه الله يقول هذا عن صورة في عهده، وأشياء موجودة، فإذاً حب الشهرة والصيت يمكن أن يتطرق إلى طلاب العلم وإلى الدعاة والمنفقين والمقاتلين في سبيل الله، يخرجون لقتال الأعداء والكفار، ولذلك هذا حب الظهور وحب الصيت والشهرة، مرض يقدح في الإخلاص ويجرح الإخلاص، بل هذا مرض ينافي الإخلاص من أساسه؛ ولذلك يقول الله عز وجل يوم القيامة: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه أحداً غيري تركته وشركه) ولذلك لاحظ وانتبه لهذه النقطة، الأعمال التي فيها شرك لا يثيب الله الشخص على المقدار الذي لم يشرك فيه، فأي واحد عمل عملاً فيه شيء لله وشيء لغير الله؛ في عمل واحد، لا يثيبه الله عن الجزء الذي له ويحبط الجزء من العمل الذي ليس له، وإنما يحبطه كله، بنص الحديث: (من عمل عملاً أشرك معي فيه أحداً غيري تركته وشركه) ويقال له يوم القيامة: خذ أجرك من الذين أشركت معي في هذا العمل، خذ أجرك منهم، الله لا يقبل إلا العمل الخالص لوجهه، يقول الله في الحديث القدسي: (أنا خير الشركاء) فيتركه يقول: أشركت معي فلاناً وفلاناً، هذا الشخص ما عملها لفلان عملها لله ولفلان، لاحظ، ليس له أجرٌ عليها مطلقاً، فإذا صلى إنسان لله لكن طول الركعات من أجل من يراه من الحاضرين، فليس له شيء أبداً، هو لا يقول: فلان أكبر، يقول: الله أكبر، لا يقول: سبحان فلان، يقول: سبحان الله، لكن لما طرأ الرياء عليه في الصلاة وما قاومه بل استمرأه واستمر معه، فذلك يحبط العمل، إذا كان العمل متصلاً أوله بآخره يحبط العمل كله، أما لو عمل عملاً لله وعملاً منفصلاً لغير الله، قبل الله العمل الذي له، وأحبط العمل الذي ليس له، كمن تصدق بخمسين ريالاً لفقير لله، ثم رأى الناس يخرجون من المسجد، فأحب أن يقال عنه كريم، فأخرج خمسين أخرى تصدق بها، يعني: لأي شيء للناس؟ فماذا يقبل الله منه؟ الخمسين الأولى هذه صدقة مستقلة، والخمسين الثانية حابطة وآثم عليها وليس فقط لا أجر له، يأثم إثم الشرك الذي حصل فيها، والشرك خطير؛ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] لا يغفر إلا بالتوبة، وخصوصاً هذا الشرك، سواء كان شركاً أكبر أو شركاً أصغر، ولذلك يجب على العبد أن يتوب من جميع أنواع الشرك: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] ما قال: أكبر أو أصغر: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] لابد أن يتوب منها، وإلا سيبقى عليه إثم شركه، لا يغفره الله، لا تكفره الحسنات، بل لابد من توبة.
ذكرنا نقلاً عن الذهبي رحمه الله شيئاً منها، ويدخل فيها الناس الذين يحبون أن يظهروا في المجامع والمحافل وحول المشايخ يقال: من طلاب فلان، ومن طلاب فلان، دون مناسبة، ويظهرون عند مكبرات الصوت، أو يرفعون أصواتهم، ويفعلون حركات استعراضية، وبعضهم عندما تأتي كاميرة تليفزيون لتصور تجد بعض الناس وضع وجهه أمام الكاميرا، ليقال ماذا؟ ليقال: ظهر في التليفزيون، هذا من حب الشهرة، هذا داء يمكن أن يولد للإنسان المهالك.
روي أن أعرابياً بال في ماء زمزم، فقام الناس عليه فأمسكوا به، وقالوا: ما حملك؟ قال: أحببت أن يذكرني الناس ولو باللعنات، يعني: المهم عنده الصيت، ولذلك هذا المرض الخطير يمكن أن يجعل الإنسان يعمل من البلايا ما الله به عليم، لأجل فقط أن يخرج صيته، يعمل أي شيء، له حاجة أوليس له حاجة، له داع أو ليس له داعٍ، يحرك ساكناً ويسكن متحركاً المهم أن يخرج صيته أمام الناس.
ويمكن أن يكون هناك عند بعض من يطلب العلم شيء من هذا، عنده دافع طلب العلم من أجل الشهرة، كيف؟ يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله في النار) فهو تعلم لأي شيء؟ ليقعد فيسأل فيجيب، فيقال: الله! فلان عنده جواب، أو ليتصدر فيتكلم ويدرس ويقال: فلان صاحب علم! قد لا يُظهر لنا نحن شيئاً، فنظن أنه إنسان يتكلم بكلامٍ طيب، ما هو الفرق بين إنسان يتقدم ليحمل الأمانة ويعلم الأمة؛ يتعلم العلم لأجل سد الفراغ، فالناس في جهل، والمسلمون يحتاجون إلى علماء وطلبة علم، وبين هذا الرجل المذكور في الحديث؟!
الفرق: (إنما الأعمال بالنيات) هذا نيته في التعلم إصلاح نفسه وإصلاح الخلق، أن يعبد الله على بصيرة ويعلم الناس، هذا مأجور مثابٌ على فعله، من ورثة الأنبياء، وهذا تعلم لكي إذا ناقشه عالم يأخذ ويبين له للعلم أنا اطلعت وقرأت كذا وقرأت كذا وعندي خبر من الذي تقوله، أو يماري به السفهاء، يجلس مع الناس ويماريهم ويتشاكس معهم ويتناقش، ويقال: فلان عنده ذخيرة وعنده اطلاع وعنده حصيلة.
أو يصرف به وجوه الناس إليه ويتصدر المجالس ويتكلم ويلعلع بصوته قصده الشهرة، والصيت، وقصده أن يرفع من نفسه.
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: من طلب العلم لله كان الخمول أحب إليه من التطاول؛ فإذا طلب الإنسان العلم لله فعلاً يكون الخمول عنده أحب إليه من التطاول.
ومن مظاهر حب الظهور أيضاً تصدر المجالس: العمل لكي يكون مشتهراً- كما قلنا- بكثرة الكلام والتسميع والتعليق والظهور أمام الملأ وتصدر المجالس، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اتقوا هذه المحاريب) يعني: صدور المجالس؛ فإذا جاء الإنسان يسلم على القوم فعليه أن يجلس حيث انتهى به المجلس، ولا يقيم إنساناً ويجلس مكانه، أما أن يقول: أنا بصدر المجلس، ما أجلس إلا في صدر المجلس، فهذه المحاريب مذابح، هذه مذابح تذبح الإخلاص وتذبح الدين، وتذبح العلاقة التي تكون بين الإنسان وربه؛ لأنه يجعلها حطاماً محطمة، من أجل أن يكون المكان عنده بين الناس.
وكثرة الكتابات والظهور في القنوات المختلفة، ومن مظاهرها الفرح بالمدح وإن كان باطلاً؛ الفرح بالمدح وإن كان باطلاً، هذا موضوع حب الظهور والسعي لنشر ذلك ونشر مناقبه أو ما تكلم الناس به عنه، والتألم لفوات المديح، لو فاته مدح، يتألم، والغضب من النصيحة، هذه من علامات الذين يحبون الظهور والغضب من النصيحة، فلو وجهت له النصيحة جادل وراءى وقال: ليس عندي هذا الكلام الذي تقوله وهذه الصفة والخصلة غير موجودة في نفسي ويدافع عن نفسه بالباطل.
وكثير من يسرقون مجهودات الآخرين، فهذا من المرض سرقة مجهودات الآخرين، عملية أو مشروع أو بحث كتاب أو رسالة، سرقة مجهودات الآخرين من قضية حب الشهرة، وحب الصيت، وهؤلاء من صفاتهم أنهم يتحرجون قولة لا أعلم، بل إنه لا يقولها أصلاً كلمة لا أعلم ليست واردة على لسانه.
أيها الإخوة، هذا من الأمراض الاجتماعية المنتشرة في المجتمع: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، يقول: كنت مع الشيخ فلان، وهو ما كان معه، وحصل لي الموقف الفلاني وهو ما حصل له، ويدعي بطولات زائفة.
قال شهر بن حوشب رحمه الله: من ركب مشهوراً من الدواب ولبس مشهوراً من الثياب أعرض الله عنه وإن كان كريماً. قال الذهبي رحمه الله معلقاً: من فعله بذخاً وتيهاً وفخراً أذله الله، وأعرض عنه، فإن عوتب ووعظ فكابر وادعى أنه ليس بمختال ولا متباهٍ فأعرض عنه فإنه أحمق مغرورٌ بنفسه، هذا لابس ثوب شهرة، وهذا في النساء كثير أن يقال عنها: صاحبة الثوب الفلاني، أو أنهم يعملون حفلة زفاف ما سمع بها الأولون والآخرون ليقال: إن هؤلاء عملوا، ليشتهر ذكرهم بين الناس.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أعلن النكاح) لكن ما قال: أسرفوا وابذخوا وارموا الطعام وغالوا في الملابس، والفقراء من المسلمين يموتون من فقرهم، لا. فلذلك هذه قضية الشهرة وأن يذيع صيتٌ بين الناس ويتكلمون عن حفلته وعن وليمته وما حصل فيها.
وكذلك من أسبابه: الرغبة في ثناء الناس، وإرادة المنزلة عندهم، ومن أسبابه أيضاً: التربية الخاطئة في البيت أو المجتمع كأن يُقَدِّم ويُثْنَى عليه في حضوره وليس بذاك، فيتوهم أنه فعلاً إنسان مهم، ويتصرف بناءً على هذا الأساس، ومن الأسباب القريبة من هذا أن يبتلى بأناسٍ أحداثٍ أغرار، يضعونه في غير موضعه ويرفعونه ويقولون: شيخنا المبجل، وقال شيخنا، وهو ليس بشيخ.
والواقع -أيها الإخوة- الواقع السيئ يساعد على الشهرة والرئاسة، الناس إذا جهلوا العالم والعلماء الحقيقيين، فالعلماء العارفون ندرة.
خلا لك الجو فبيضِي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري |
ويتكلم أي واحد من الدهماء والرويبضة ينطق في أمور العامة، والواحد يبرز بسرعة من الجهال، ويدرس ويجلس إليه ويستفتى ويفتي، والناس في حاجة، المجتمع أحياناً يساعد على بروز هذه النوعية، ويقال: فلان والمحاضر فلان المؤلف فلان وكثيرٌ منهم أئمة ضلالة، فما أسهل مهمة الأعور الدجال في هذه الأمة!
أن يسعى الإنسان يسعى إلى إخفاء عمله، وإخفاء ذكره، ومحو اسمه فلا تبقى إلا عبوديته لله، عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن حوضي من عدن إلى عمان البلقاء ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربةً لا يضمأ بعدها أبداً، أول الناس وروداً عليه فقرءا المهاجرين، فقال عمر بن الخطاب : من هم يا رسول الله؟ قال: هم الشعث رءوساً، الدنس ثياباً، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب السدد) قال ابن الأثير رحمه الله في شرح العبارة الأخيرة في حديث واردي الحوض: (هم الذين لا تفتح لهم السدد) أي: لا تفتح لهم الأبواب، لو جاء إلى مكان، طردوه، قالوا: هذا فقير هذا مسكين ليس له مكانٌ عندنا، لا تفتح لهم الأبواب هؤلاء والوعد الحوض حوض النبي صلى الله عليه وسلم، حديثٌ صحيح.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (رب أشعث مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره) هذا الشخص الذي يظهر أمام الناس أنه مهين وذليل ليس له قيمة، لو جاء إليهم دفعوه عن الأبواب وقالوا: اذهب عنا، هذا الرجل ربما لو أقسم على الله لأبره.
ومن أعظم من كان يمثل هذا المعنى أويس القرني رحمه الله تعالى، هذا الرجل عجيب وسيرته عجيبة! ومع إخفاء الرجل لنفسه إلا أن الله أبقى لنا ذكره، فنحن نقتدي به ونتأثر من سيرته، قال عليه الصلاة والسلام: (إن خير التابعين رجلٌ يقال له:
وفي روايةٍ لـمسلم : (له والدةٌ هو بها بر) من أسباب سعادة الرجل هذا بره بأمه لو أقسم على الله لأبره، هذا الرجل من أهل اليمن ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، قال عمر لـأويس : فاستغفر لي، فاستغفر له، قال عمر : أين تريد؟ -هو خارج من اليمن مع الأمداد إلى الجيوش الإسلامية في الشمال في الشام والعراق- قال عمر : أين تريد؟ قال: الكوفة ، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها -وصية أعطيك توصية- قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، قال: فلما كان العام المقبل حجّ رجل من الناس من تلك الناحية التي ذهب إليها أويس ، فسأله عمر عن أويس قال: تركته رثَّ البيتِ قليل المتاع، ثم جاء الرجل هذا إلى أويس -ذهب إلى أويس - فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدثُ عهدٍ بسفرٍ صالح، فاستغفر لي أنت، فـأويس يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال عنه: (يا أيها الناس اطلبوا من
وفي رواية للحاكم : لما أقبل أهل اليمن جعل عمر رضي الله عنه يستقرئ الرفاق - عمر حافظ للحديث فمنذ زمن والحديث في ذهنه، عمر يريد أن يعرف الرجل- فيقول: هل فيكم أحدٌ من قرن، حتى أتى عليه قرن، فقال: من أنتم؟ قالوا: قرن، فرافع عمر بزمامٍ أو زمام أويس فناوله عمر ، فعرفه بالنعت - عمر كان فطناً وكان عنده فراسة لا يقول لشيء هو كذا إلا كأنه- فقال له عمر : ما اسمك؟ قال: أنا أويس ، قال: هل كان لك والدة؟ قال: نعم. قال: هل بك من البياض؟ قال: نعم. دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي -الله أبقى موضع درهم في سرة أويس من البرص ليتذكر نعمة الله عليه، أبقاه في موضعٍ خفي لنعمة الله عليه ليس في وجهه عيبه بل في سرته- دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي، فقال له عمر : استغفر لي؟ قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنتَ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فقال عمر : (إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن خير التابعين رجلٌ يقال له
قال: فاستغفر له، قال: ثم دخل في أغمار الناس فلا يدرى أين وقع -ذهب أويس واختفى- قال: ثم قدم الكوفة ، فكنّا نجتمع -راوي القصة عند الحاكم أسير بن جابر- قال: كنا نجتمع في حلقة فنذكر الله في الكوفة ، وكان يجلس معنا أويس ولا يدري أحد أنه أويس ، فكان إذا ذكّرهم، وقع حديثه من قلوبنا موقعاً لا يقع حديث غيره، ففقدته يوماً، فقلت لجليسٍ لنا: ما فعل الرجل الذي كان يقعد إلينا؟ لعله اشتكى -أي: مريض- فقال رجلٌ: من هو؟ فقلت: من هو وصفه؟ قال: ذاك أويس القرني ، فدللت على منزله فأتيته فقلت: يرحمك الله، لماذا تركتنا؟ فقال: لم يكن لي رداءٌ فهو الذي منعني من إتيانكم، قال: فألقيتُ إليه ردائي، فقذفه إلي -رفض أن يأخذه- قال: فتخاليته ساعة، يحاول في أخذ الرداء، ثم قال أويس : لو أني أخذتُ رداءك هذا فلبسته فرآه علي قومي قالوا: انظروا إلى هذا المرائي لم يزل في الرجل حتى خدعه وأخذ رداءه، لو أخذت رداءك سيتهموني بهذا، فلم أزل به حتى أخذه، فقلتُ: انطلق، فقال الرجل -هذا أسير بن جابر -: انطلق اسمع ما يقول الناس عنه، فلبسه -لبس أويس الرداء- فخرجنا فمر بمجلس قومه، فقالوا: انظروا إلى هذا المرائي لم يزل بالرجل حتى خدعه وأخذ رداءه، فأقبلت عليهم فقلت: ألا تستحيون عندما تؤذونه، والله لقد عرضته عليه فأبى أن يقبله، قال: فوفدت وفودٌ من قبائل العرب إلى عمر فقال: فكان فيهم سيد قومه، هذا الوفد الذي جاء إلى عمر ، فقال له عمر بن الخطاب : أفيكم أحدٌ من قرن؟ فقال له سيدهم: نعم أنا، فقال له: هل تعرف رجلاً من أهل قرنٍ يقال له أويس ، من أمره كذا ومن أمره كذا، فقال: يا أمير المؤمنين! ما تذكروا من شأن ذا، ومن ذاك؟! فقال له عمر : ثكلتك أمك، أدركه أدركه -مرتين أو ثلاثة- ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: إن رجلاً يقال له أويس القرني من أمره كذا ومن أمره كذا، فلما قدم الرجل هذا الذي تحدث مع عمر لم يبدأ بأحد، لما قَدِم على بلدة أويس لم يبدأ بأحدٍ قبله، فدخل عليه، فقال: استغفر لي، فقال: ما بدا لك؟! قال: إن عمر قال لي كذا وكذا، قال: ما أنا بمستغفرٍ لك حتى تجعل لي ثلاثة؟ قال: وما هن؟ قال: لا تؤذيني فيما بقي، ولا تخبر أحداً بما قال لك عمر ، ونسيت أنا الثالثة -الراوي- قال الذهبي : إسناده على شرط مسلم.
روى الإمام أحمد وهو حديثٌ صحيح، قال: (ليدخلن الجنة بشفاعة رجلٍ ليس بنبيٍ مثل الحيين ربيعة ومضر) قبيلة ربيعة كلها عن بكرة أبيها وقبيلة مضر كلها عن بكرة أبيها، كم عددهم؟ هناك واحد من أمة محمد ليس بنبي، سيدخل بشفاعته عدد مثل عدد ربيعة ومضر يدخلون الجنة بشفاعة هذا الرجل يوم القيامة، انتهى الحديث بقول عليه الصلاة والسلام: (إنما أقول ما أقول).
قال الحسن البصري : إنه أويس القرني ، وقد ورد في رواية أنه أويس ، لكنها ضعيفة، هؤلاء الناس إذا فقدوا طلبوا، وإذا طلبوا هربوا.
وقال محمد بن سيرين لـثابت : يا أبا محمد ! لم يكن يمنعني من مجالستك إلا مخافة الشهرة، فلم يزل بي البلاء حتى قمت على المصطلة، قال معمر : كان في قميص أيوب بعض التذييل -يعني: فيه طول قليل فقط ولكن ليس بمسبل- فقيل له: ما السبب وأنت قدوة؟! فقال: الشهرة اليوم في التشمير؛ اليوم صارت الشهرة أنهم يحسرون يعني: ليقال هؤلاء يتبعون السنة.
وعلينا أيها الإخوة بالتواضع، فإن الله مع المتواضعين، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد ملك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفع حكمته، وإذا تكبر قيل للملك: دع حكمته) فإذا تواضعت يرفعك الله بين الناس، وإذا تكبرت يذلك الله بين الناس.
ولابد أن يكون عندنا من يعطينا النصيحة من المخلصين، عمر بن عبد العزيز قال لغلامه: إن الولاة قد جعلوا العيون على العامة، وإني جعلتك عيني على نفسي، ما ترى عيباً علي إلا وتنبهني عليه، وينبغي أن ننظر في قصور أنفسنا وأن نجالس المتواضعين والعلماء الصالحين؛ لأن الإنسان يعرف قدره عند ذلك، وأن نحاسب أنفسنا بالكلمة والحركة، وإذا عوتبنا في شيء، لا ننفي عن أنفسنا التهمة، وإنما نسأل الله السداد.
وينبغي علينا أن نمنع المداحين الذين يمدحون في وجوهنا ونسكتهم ولا نرضى بمدحهم، وينبغي أن نربي الناس على هذا المفهوم، وأن نضع الشخص المناسب في المكان المناسب.
ونسأل الله سبحانه وتعالى في الختام أن يرزقنا الإخلاص..
اللهم اجعل عملنا خالصاً لوجهك، ولا تجعل لأحدٍ من الناس فيه نصيباً يا رب العالمين، اللهم عظم أجورنا واغفر زلاتنا، اللهم إنا نستغفرك لما لا نعلم من الشرك، ونعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر