وبعــد:
فسنتحدث إن شاء الله في هذه الليلة عن قصة رواها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخيه وأفضل الأنبياء بعدَه: إبراهيم عليه السلام.
هذه القصة رواها البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين منها في ذات الله، قوله: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63]، وواحدةً في شأن سارة، فإنه قد قَدِم أرض جبارٍ ومعه سارة ، وكانت أحسن النساء، فقال لها -إبراهيم يقول لزوجته سارة -: إن هذا الجبار -هذا الملك الكافر الطاغية في هذا البلد- إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، أتاه -هذا القريب للجبار أتى الجبار- فقال له: لقد قدم أرضَك امرأةٌ لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فأُتي بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبِضت يده قبضةً شديدة، فقال: ادْعِي الله أن يُطْلِق يدي ولا أضرك، ففعلت، فعاد، فقبِضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت، فعاد، فقُبِضت أشد من القبضتين الأولَيَين، فقال: ادعِي الله أن يطلق يدي، فلكِ الله ألا أضرك، ففعلت وأُطْلِقت يده، ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان، فأخْرِجْها من أرضي وأعطها هاجر ، قال: فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف، فقال: مَهْيَمْ؟ قالت: خيراً، كف الله يد الفاجر، وأخدم خادماً قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا ثلاث كذبات ...).
قال في الحديث عن الكذبة الأولى حين دُعِي إلى آلهتهم: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] وذلك أنه لم تكن به علة ولا مرض؛ ولكنه كان سقيم النفس، كاسف البال، حزيناً على شرك قومه؛ لأنهم لم يلبوا نداءه، ولم يطيعوه في دعوته.
فإذاً عندما قال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] لم يكن في الحقيقة كذاباً، وإنما استخدم التورية، ويقصد بالمرض (المرض النفسي) أنه مريض النفس، اعتلت نفسه من إصرارهم على الشرك والكفر، قال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] لما دعوه للخروج معهم إلى عيدهم، وكانوا يخرجون إلى عيد خارج البلد، قال لهم: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، وقبل أن يقول لهم: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] نظر نظرة في النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] وكان هؤلاء القوم كفاراً عبادَ الكواكب والنجوم، ويعتقدون أن النجوم لها تأثير في الحوادث الأرضية، وفي مرض الناس، والإنجاب، والرزق.. ونحو ذلك، فأراد إبراهيم الخليل أن يقيم عليهم الحجة، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89] عاملهم من حيث كانوا؛ لئلا يُنْكِروا عليه فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [الصافات:90] تركوه وذهبوا إلى عيدهم خارج البلد.
لما خلت البلد وصار معبد الأصنام فارغاً دخل إبراهيم على الأصنام، فكسَّرها، ثم وضع القدوم (الفأس) في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار غِيْرةً لنفسه، وأنف أن تُعبد معه الأصنام الصغار، فقام عليها وكسرها.
فلما رجعوا من عيدهم وجدوا أصنامهم مكسَّرة، قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:62] لأنه لم يتخلف عن حضور العيد غيره، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63] وأشار بإصبعه قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63] أي: غضب من أن يعبد معه الصغار وهو أكبر منها فكسرها.
ماذا أراد إبراهيم من هذا الكلام؟
أن يقيم عليهم الحجة، ولذلك قـال لهم: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:63] حتى يخبروا من فعل ذلك بهم، اسألوا الأصنام المكسرة، حتى يخبروكم من كسرها، إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:63] .
فلما قال لهم ذلك رجعوا إلى أنفسهم، وعرفوا أنها لا تنطق، نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ [الأنبياء:65] رُدُّوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم.
لما قال لهم: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:63] رجعوا إلى أنفسهم، قالوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ [الأنبياء:64] كيف تعبدون أشياء لا تسمع ولا تبصر.
لكن لما كان القوم على فسادٍ في الطريقة أجيالاً استمرءوا الكفر، وأصروا على الباطل، وعاندوا وتعصبوا لمبدئهم، ورفضوا الحق ورجعوا مرة أخرى، ثُمَّ نُكِسُوا [الأنبياء:65] هذا معنى: ثُمَّ نُكِسُوا [الأنبياء:65] رجعوا إلى الكفر مرةً أخرى بعد أن لاح لهم الحق، وأقنعهم إبراهيم، وتبينت لهم القضية بالحجة؛ لكنهم رجعوا، نكسوا على أنفسهم، مثل المريض إذا صارت له صحوة ثم انتكس مرة أخرى ورجع إلى المرض، لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ [الأنبياء:65] كيف نسألهم وهم لا ينطقون؟
فانتهز إبراهيم الخليل الفرصة، وقال لهم: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ [الأنبياء:66-67] تباً لكم وهلاكاً لكم، وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:67] .
وجمعوا الحطب -فيما قيل- شهراً، ولما جمعوا ما أرادوا أشعلوا في كل ناحية من الحطب النار، واشتدت النار، وعلت في السماء حتى أن الطير ليمر بها فيحترق من شدة وهجها، فأوقدوا عليها سبعة أيام، حتى إذا اشتدت لم يعلموا كيف يلقوا إبراهيم فيها، فأتاهم إبليس بفكرة المنجنيق على ما ذكر بعض أهل التفسير، فوضعوه مقيداً مغلولاً، وأطلقوه بالمنجنيق مِن بُعد على هذه النار؛ لأنهم لا يستطيعون الاقتراب منها من شدتها، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] والله تعالى له الأمر من قبل ومن بعد، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] وهو الذي خلق النار فسلب منها خاصية الإحراق، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً [الأنبياء:69] لو لم يقل: سَلاماً [الأنبياء:69] لربما مات إبراهيم من شدة البرد وتجمد، كُونِي بَرْداً وَسَلاماً [الأنبياء:69] حتى لا تؤذيه بالبرد.
وقال إبراهيم كلمة واحدة فقط وهو في الهواء، يلقى بالمنجنيق إلى النار، في اتجاه النار، ذاهبٌ في الهواء، قال: حسبي الله ونعم الوكيل؟
قال ابن عباس كما في صحيح البخاري : [حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار] .
وقال محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما قيل لهم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] بعد غزوة أحد، قيل لهم: لقد عاد المشركون مرةً أخرى لاستئصالكم، إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] .
كل الدواب كانت تنفخ -بأمر الله- النار عن إبراهيم إلا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم، ولذلك أمرنا بقتل الأوزاغ إحياءً لذكرى أبينا إبراهيم، وإظهاراً للكراهية لهذا الحيوان الدابة الذي كان تنفخ النار على إبراهيم، كما جاء في الحديث الصحيح: (وقالت
وأخبرنا في الحديث الصحيح: (أن من قتل وزغاً من أول ضربة فله مائة حسنة، ومن قتلها من الضربة الثانية فله خمسون حسنة نصفها) .
وورد في بعض الآثار: [أنه لم يبق يومئذٍ نار في الأرض إلا طفئت، فلم ينتفع في ذلك اليوم بنارٍ في العالَم].
وقيل: إنه استخدم التورية أيضاً، قال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء:63] وأشار إلى إصبعه.
وعلى أية حالٍ كانت من إبراهيم الخليل عليه السلام طريقة لإقناع قومه ومحاجتهم.
نعود إلى قصتنا:
- بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63] .
- إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] .
- وكذلك عندما قال عن زوجته: إنها أخته.
قال النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه الثلاث الكذبات: (ثنتين منهن في ذات الله) ما معنى في ذات الله؟ مع أن قول إبراهيم عن زوجته: هذه أختي، أيضاً فيها معنى من جهة الدفاع عن عرض زوجته وتخليص زوجته في سبيل الله أيضاً؛ لكن خص هاتين بقوله: ( في ذات الله ) مع أن الثالثة في ذات الله أيضاً؛ لكن الثنتين الأوليتين ما تضمنتا حظاً لنفسه، بخلاف الثالثة، فإن فيها حظاً له وهي: نجاته ونجاة زوجته.
الثالثة التي هي في ذات الله؛ لكن فيها فائدة له أو حظاً له، وسعيه لتخليص زوجته، وهو مقصد شرعي مباح لا غبار عليه على الإطلاق؛ لكن امتدح الثنتين الأوليتين؛ لأنها لله محضة ما فيها حظ لنفس إبراهيم وشخصه أبداً.
وإبراهيم تزوجها لَمَّا هاجر من بلاد قومه إلى حران، قيل: إنه تزوجها في ذلك الوقت، ولما دخل بها مصر وكان على مصر ذلك الملك الطاغية بعض أقرباء الملك، كما ورد في الحديث رأى إبراهيم ورأى معه سارة ، وكانت قد أوتيت من الحسن شيئاً عظيماً، وقال له: إني رأيتها تطحن، وإنها في غاية الجمال، فالملك كان لا يدع شيئاً مثل هذا يفوته من ظلمه وعسفه وبغيه، فأرسل إلى إبراهيم وإلى سارة وجيء بها، وجيء معه، فسأله عنها، فقال: من هذه المرأة التي معك؟ قال: أختي، ظاهر الحديث أنه أتي بإبراهيم أولاً وسأله من هذه؟ قال: هذه أختي، رجع إبراهيم إلى زوجته، قال: يا سارة ! ليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيركِ، ثم طلب منها، إذا سألها الملك عن قرابتها منه مَن تكون بالنسبة له أن تقول له: إنها أخته؛ حتى لا يتناقض كلامه مع كلامها؛ ولئلا يظهر بمظهر الكاذب، فقال: فصدقيه إذا سألك عني، فقولي: هذا أخي؛ لأنني قلت له: إنك أختي، يقصد إبراهيم أختي في الإسلام.
فلعل إبراهيم أحس مسبقاً أن الملك سيطلبها، فأوصاها بما أوصاها به، ولما وقع ما كان يظنه أعاد عليها الوصية لما استدعاه الملك، وقال: من هذه المرأة التي معك؟ قال: أختي، رجع إليها، وقال: إذا سألك فاصدقيني إذا سألك فقولي له: أنك أختي، ولا تكذبيني.
ما هو السبب؟ لماذا لم يقل: إنها زوجتي؟ ولماذا لم يخبر بالحقيقة؟
قيل: إن الملك إذا عرف أنها زوجته لا يمكن أن يصل إليها إلا بالتخلص من زوجها، فيَقْتُل إبراهيم للوصول إلى المرأة؛ لكن لو عرف أنها أخته ربما وصل إليها بطريقة أخرى كالزواج أو غيره، وإن كان رجلاً رَكَّاباً للحرام، كما يتبين من القصة؛ لكنه كان ظالماً يريد اغتصابها، فلعله كان إذا عرف أن المرأة متزوجة قتل الزوج أولاً، فأراد إبراهيم أن يدفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما، بين أن يكذب أو يخبر بالحقيقة، ويُقْتل، فارتكب أدنى المفسدتين، وأخبر بتلك الكلمة، وقال لها: (ليس على وجه الأرض مؤمنٌ غيري وغيرك).
لو قال قائل: ولوط عليه السلام؟!
فيمكن أن يقال: إن إبراهيم يقصد الأرض التي هو فيها الآن، دخلنا بلد مصر، لا يوجد مؤمن غيري وغيرك، أما الأرض الأخرى ففيها لوط، فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26] وقال إبراهيم: إِنِّي مُهَاجِرٌ [العنكبوت:26] وهاجر إبراهيم، إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [العنكبوت:26].
لما أُخِذَت سارة من إبراهيم قام إبراهيم يصلي، ولما أدخلت سارة على الملك لم يتمالك أن بسط يده إليها من شدة جمالها، لأنه لم يستطع أن يقاوم نفسه فقبِضَت يده قبضة شديدة، وفي رواية: (فقام إليها فقامت تتوضأ وتصلي -أي: تدعو- فغُـطَّ) وفي روايـة: (رُكِض برجله) يعني: اختنق، كأنه مصروع، والغط: صوت النائم، من شدة النفخ، غطيط.
فمجموع الروايات يؤخذ منها:
أنه عوقب أولاً بقبض يده؛ أي: شُلَّت يده ولم يستطيع أن يحركها، وثانياً: أنه صُرِع.
جاء في رواية الأعرج : أن سارة توضأت ودعت الله عز وجل قائلةً: (اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط علي الكافر) هي تعلم أنها آمنت به لكن تواضعاً قالت هذا الدعاء.
ولما شلت يد هذا الملك وصرع قال: (ادعي الله لي ولا أضرك) وفي رواية مسلم : (ادعي الله أن يطلق ففعلتْ) قال أبو سلمة : قال أبو هريرة : قالت: (اللهم إن يمت يقال: هي التي قتلته) إن يمت الآن من هذه الصرعة يقول قومه: هي التي قتلته، فربما قتلوها، فدعت الله له فأرسلها، لما تحرر الرجل ورجع إلى حاله الأولى هل توقف؟ أبداً.
تناولها الثانية، ثم قام إليها فقامت تتوضأ وتصلي ودعت الله عز وجل فأخذ مثلها أو أشد، أشد من القبضة الأولى.
وفي المرة الثالثة دعا الرجل الذي جاء له بـسارة وقال له: إنك لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان، ما أرسلتم إلي إلا شيطانة أرجعوها، ولعله لما صُرع ظن أن الشيطان هو الذي تدخل، وكانوا قبل الإسلام في الجاهلية يعظمون أمر الجن جداً، ويرون كل ما وقع من الخوارق من فعل الجن؛ لما رأى الملك نفسه مصروعاً مشلولاً قال: هذا من فعل الجن، هذا شيطان، هذا ليس بإنسان.
أطلق سراح سارة وقال: أعيدوها إلى إبراهيم، وزيادة على ذلك: أعطاها خادمة وهي هاجر وهبها لها لتخدمها، لأنه سمع أنها كانت تعجن العجين أو تخدم نفسها، قال: هذه لا يليق أن تخدم نفسها، فأعطاها خادمة وهي: هاجر .
فلما أطلق سراحها ومعها هاجر أتت سارة إلى إبراهيم وكان يصلي، فقال إبراهيم بعدما انصرف من صلاته: (مَهْيَمْ-أي: ما الخبر؟- فقالت
أبو هريرة ماذا قال عن هاجر في آخر القصة؟
قال: [ تلك أمكم يا بني ماء السماء ] يخاطب أبو هريرة العرب يقول لهم: [تلك أمكم ...] هذه هاجر الـتي كانت خادمة وأُعْطِيَت خادمةًَ وجاريةً لـسارة ، ثم وهبتها لزوجها إبراهيم، قال: [فتلك أمكم يا بني ماء السماء] لماذا يطلق على العرب (بني ماء السماء)؟
لكثرة ملازمتهم للفلوات والصحاري؛ لأن فيها مواقع القطر وهو الماء النازل من السماء، يغشون البراري لأجل رعي أغنامهم، ولذلك سُمُّوا ببني ماء السماء؛ لأن عيشهم على ماء السماء.
وقوله: [تلك أمكم يا بني ماء السماء] قيل: إن العرب كانوا من ولد إسماعيل، وهناك عرب قبلهم؛ لكن هؤلاء العرب المتأخرون كانوا من ولد إسماعيل.
فمن الفوائد:
قد تقاوم وتقتل وتذل وتهان، وهنا رخصة في أن المرأة إذا أجبرت بالقوة على الانقياد إلى ظالم، فإنها إذا لم تجد طريقة للهرب ولا للتخلص، وقِيْدت بالقوة، فإنها تكون معذورة بهذا.
ثالثاً: يؤخذ من الحديث: قبول هدية المشرك؛ فإنه لما أعطاها هاجر قَبِلَت الهدية وأقرها إبراهيم، وهو نبي يأتيه الوحي، فأُخِذَت هدية المشرك.
وهكذا المرأة المسلمة والرجل المسلم إذا وقع في ضرورة.. في ورطة.. في أزمة فتوجه إلى الله بالدعاء فإن الله سبحانه وتعالى يخلصه إذا كانت نيته حسنة.
وهذا دليل آخر، فإنها قالت: (اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر) فتوسلت إلى الله تعالى بالإيمان وبالعفة، (وأحصنت فرجي إلا على زوجي) وهذه من الأعمال الصالحة، امرأة عفيفة تقول: ما مسني أحد من الأجانب أبداً ( أحصنت فرجي إلا على زوجي ) التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة، وأن الله سبحانه وتعالى يقبل الدعاء بالأعمال الصالحة، وأنه عز وجل يستجيب.
ويلجأ إلى من؟
الذي خصمه الآن أكبر سلطان في البلد وهو الملك، أخذ زوجته، يشتكيه إلى مَن؟
لا يوجد حل إلا من الله سبحانه وتعالى، فتوجه إلى الله تعالى وقام يصلي.
وهكذا كـان النـبي عليه الصـلاة والسـلام إذا فزعـه أمر صلى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153] .
ولما أخبر ابن عباس أن أخاه قد توفي وهو في طريق السفر، نزل عن دابته إلى جانب الطريق فصلى ركعتين وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153] .
فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أو كربه أمر صلى، وهكذا إبراهيم الخليل لما حصل له ما حصل فزع إلى الصلاة، قام إبراهيم يصلي، طيلة فترة غياب الزوجة عنه وهو في صلاته، هذه من أسوأ الفترات التي يمكن أن تمر بالإنسان، الزوج إذا أُخِذَت زوجته إلى مكان مجهول، ولا يدري ماذا يُفعل بها، وليس عنده قوةً ليس عنده جيشٌ يحارب به، ولا قوة يستطيع أن يقتحم قصر الظالم ويستخرج زوجته، أو أنه يهرب بها، لا يستطيع، دخل في سلطان هذا الفاجر.
فإذاً كان يأوي إلى ركنٍ شديد وهو الله عز وجل.
ثامناً: من فوائد هذه القصة أيضاً: أن الوضوء كان مشروعاً للأمم من قبلنا، وليس خاصاً بهذه الأمة ولا بالأنبياء؛ لأن ذلك ثبت عن سارة أنها قامت تتوضأ، وجمهور العلماء على أن سارة ليست بنبية وإنما هي من أولياء الله.
وقد اختلف في هذا الشيء أصناف من الناس:
- فذهب الأشاعرة إلى أن كلما كان معجزةً لنبي جاز أن يكون كرامةً لولي، فسوَّوا بين الكرامة والمعجزة.
- وذهبت المعتزلة إلى النقيض من ذلك، فأنكروا كرامات الأولياء، وقالوا: ليست هناك كرامات، لأنهم عقلانيون، فالقضايا الغيبية لا يؤمنون بها.
- وتوسط أهل السنة والجماعة فقالوا بإثبات كرامات الأولياء؛ ولكن كرامة الولي لا يمكن أن ترقى إلى درجة معجزة النبي، فمعجزة النبي أعظم لا شك في ذلك؛ لأنه مؤيد من الله بمعجزات لبيان صدقه وإقامة الحجة على قومه، أما الولي فقد تقع له الكرامة وهو في الصحراء فمفرده، فيعطش مثلاً وليس عنده زاد، فالله سبحانه وتعالى ينزل عليه شيئاً أو طعاماً أو شراباً، أما معجزة النبي فيراها الناس؛ لأنه مؤيد من الله والمعجزة تكون لأجل أن يؤمن الناس ليقيم الله الحجة عليهم.
فإذاً عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات كرامات الأولياء إذا ثبتت، وإلا فإن الصوفية وغيرهم ادَّعوا كرامات كثيرة، وكذب كثيرٌ من الناس في الكرامات، كل أحد يدعي كرامة من جهة، لكن إذا ثبتت الكرامة فإن عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات كرامات الأولياء، ولكنها مقام دون مقام معجزات الأنبياء ولا شك.
فـأهل السنة والجماعة وسطٌ بين الأشاعرة والمعتزلة في هذا المقام.
تاسعاً: من الفوائد: أن الكذب في ذات الله تعالى لإعلاء شأن الدين جائزٌ ولا حرج فيه.
عاشراً: أن على الإنسان أن يكون حكيماً يحسب للأمر حسابه، فهذا إبراهيم عليه السلام يقول لزوجته: (إذا سألك فأخبريه أنك أختي) حتى لا أكون كذاباً عنده، ولا تتناقض الأقوال.
فالمرأة إذا تبرجت صارت نهباً وعُرضة لكل فاسق وفاجر؛ لأنها تصبح مجالاً للإغراء والفتنة، ويطمع فيها الطامعون، وأما إذا احتشمت وتحجبت ولم يظهر منها شيء فلا يطمع فيها أحد؛ لأنها ليست مغرية -عند الحجاب ليست مغرية- لكن المتبرجة تغري بنفسها، هذه المتبرجة سفيهة؛ لأنه لسان حالها يقول للناس في الشوارع: تعالوا ورائي، الذي يريد أن يلمسني، يلمسني؛ والذي يريد أن يعطيني رقماً، يعطيني؛ والذي يريد أن يجيء ورائي، يجيء، هذه الفاجرة، المرأة التي تتبرج ما معناها الآن؟
إذا تبرجت امرأة في الشارع؛ مكياج، وزينة، وحسرت عن وجهها وشعرها، وخرجت تمشي في السوق بين الرجال الأجانب، ما معناها؟
معناها دعوة للفحشاء، تلم الناس تقول: تعالوا ورائي، الذي يريد أن يجيء، هذا معناه أن تلفت إليها الأنظار، فهي المجرمة الأولى، والفاجر الذي وراءها المجرم الثاني.
ولذلك النساء اللاتي يتبرجن في الأسواق لا يعلم الإثم الذي عليهن إلا الله عز وجل، لأنها لا تفتن واحداً ولا اثنين ولا عشرة، طيلة مشيها في الشارع تفتن الناس، والناس أكثرهم فيهم ظلمٌ وفجور، ينظرون ولا يتورعون، يطلقون البصر ويلحقونها؛ ولذلك تجد أحياناً امرأة في الشارع يسير وراءها ثلة من الفجرة؛ لأنها كلما تبرجت تبرجاً ملفتاً للنظر مثيراً، كلما زاد عدد الأتباع الذين يتبعونها، وبعض النساء تريد هذا أن يتبعها أكبر عدد من الشباب.
ولذلك يا إخوان، الله سبحانه وتعالى حكيم عندما قال: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] ، ويَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:31] .
ولما قال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31] .
ولما قال: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] .
ولما قال: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] .
ولما قال: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] .
ولما قال: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31] .
كل هذه إجراءات للعفاف وتطهير المجتمع المسلم، ولما خالفت النساء هذا، انتشرت الفاحشة في المجتمع، ورأيتَ الآن رمي الأرقام وهذا شيء مشاهَد، لا يحتاج إلى زيادة تدقيق وأصبح شيئاً عادياً، وتجد المسألة عادية، والعياذ بالله، وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى لا يسامح فيه، الله يغضب لحرماته، وإذا أصبح المجتمع فاجراً فإن الله عز وجل ينزل بأسه وسطوته وعذابه انتقاماً من هذا المجتمع.
ولذلك لا بد من الحذر الشديد في هذه القضية، وأن يقوم كل إنسان على زوجته، وبنته، وأمه، وأخته، بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجار ينصح جاره في زوجته، والقريب ينصح أقرباءه في زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم، لا نترك أحداً؛ لأن المسألة عامة، والعذاب عام؛ إذا نزل عمَّ الجميع، ثم يبعثون على نياتهم، لا ينجو من العذاب إلا الذي كان ينهى عن السوء أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ [الأعراف:165] .
ثاني عشر: من فوائـد هذه القـصة: تواضع سارة لما قالت: (كف الله يد الفاجر) ما قالت: بصلاحي.. بدعائي! لا، قالت: (كف الله يد الفاجر) الفرج من عند الله (وأخدم خادماً) .
وعند هذا سنقف وقفةً أخيرة في هذه القصة بين الكذب والتورية.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والكذب، فإن الكذاب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار -فالكذب طريق مباشر إلى جهنم- ولا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً) .
وكذلك من صفات المنافق أنه (إذا حدث كذب) فالكذاب فيه صفة من صفات المنافقين.
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت كأن رجلاً جاءني فقال لي: قم، فقمتُ معه، فإذا أنا برجلين: أحدهما قائم والآخر جالس، بيد القائم كلُّوب من حديد يلقمه في شدق الجالس فيجذبه حتى يبلغ كاهله) يشرشره من الجنب إلى القفا، ويرجع يأخذ الجنب الثاني إلى القفا، يعود إلى الجنب الأول سليماً، يشرشره إلى القفا، كلاليب من حديد، (فقلت للذي أقامني: ما هذا؟ قال: هذا رجلٌ كذاب، يعذب في قبره إلى يوم القيامة)، وفي رواية: (هذا رجل يكذب فتبلغ كذبته الآفاق) يكذب كذبة وتنتشر، كأن تنتشر الآن عبر القنوات الفضائية، كذبة تنتشر في الآفاق في المشرق والمغرب، فهؤلاء هذا عذابهم في القبر، غير عذاب النار، وسيأتي عذاب جهنم بعد عذاب القبر.
إذاً: الكذب لا شك أنه كبيرة من الكبائر، ومُتَوعد عليها باللعن، أما الكذب على الله وعلى رسوله فهذا أسوأ أنواع الكذب، لأن الكذب درجات، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم مَن فعله فإنه يتبوأ مقعده من النار مباشرةً، ومن استحل الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام فإنه يكفر ولا شك.
والكذب على الله مثل أن تخبر عن الشيء الحرام أنه حلال، كما يفعل بعض المفتين، ينتقد البنوك الربوية؛ لأنها تفتح فروعاً إسلامية، يقول: لماذا تفتحوا فروعاً إسلامية، أنتم إذا فتحتم فروعاً إسلامية معناها كأنكم تقولون للناس: إن شغلكم الآخر حرام، فأنتم لا يجب أن تفتحوا فروعاً إسلامية؛ لأنه أصلاً كله حلال جائز؛ لماذا تفتح فرعاً إسلامياً، ألا لعنة الله على الكاذبين، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13].. وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25] والعامة الذين يتبعونهم كلهم أوزارهم فوق ظهر هذا الكذاب.
فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم أخوف ما خاف على أمته: (الأئمة المضلين الذين يضلون بأهوائهم) ، وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116] .
فيأتي يقول على الربا: إنها حلال، لعنة الله على مَن قال ذلك، وهذا غيض من فيض.
المهم: الكذب على الله وعلى رسوله أسوأ أنواع الكذب، والكذب العام الذي يبلغ الآفاق هذا، أو الشائعة التي تنشر، أو الخبر الكذب الذي ينشر هذا عقوبته في القبر مرت معنا وعرفناها.
والكذب على أفراد الناس لا شك أنه محرمٌ أيضاً، الكذب مراتب ودرجات.
نعم، قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول: خيراً وينمِي خيراً) ولم أسمعه يُرَخَّص في شيء مما يقول الناس (رخص النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الكذب في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها).
فإذاً: الكذب في الحرب جائز؛ لأجل مخادعة العدو، والحرب خدعة، مثل أن يقول: إن جيش المسلمين كثير، عشرة آلاف، وربما هم لا يتجاوزون الألفين أو الثلاثة، فيكذب على العدو بإعطائهم أخباراً عن جيش المسلمين أنه كثير لأجل إخافة العدو، هذا ماذا؟ كذب مشروع، ولا حرج فيه، ويُتَقَرَّب به إلى الله.
كذلك الكذب للإصلاح بين متخاصمَين، كأن يقول: يا فلان! لم لا تكلم فلاناً، فيقول: هذا عدوي يتكلم علي، هذا بلغني أنه تكلم علي في المجلس الفلاني، فيقول: أنا كنت حاضراً ولم أسمعه يتكلم، وهذه إشاعة، ولا تصدق هذا الكلام؛ لأجل الإصلاح بينهما.
أو يقول: إنني سمعته يثني عليك وهو لم يسمعه يثني عليه، ولكن لأجل الإصلاح بين المتخاصمَين، فهذا لا حرج فيه.
أما حديث الرجل لزوجته: لو قال إنسان لزوجته: أنتِ أجمل امرأة رأيتها في حياتي، ومن المؤكد أنها ليست أجمل امرأة؛ لكن من باب التحبب إليها.
أو يقول: هذه الطبخة أحسن طبخة أكلتها في حياتي، ما أكلت ألذ منها، من باب التلطف مع الزوجة وحسن المداعبة والمعاشرة، مع أنه ربما أكل في مطعم أحسن منها، لكنه يقصد التقرب إلى الزوجة، والحديث معها ليس حديثاً يأكل به حقها ولا مهرها ولا يعتدي عليها أو يهضم شيئاً من حقوقها، لا يقول مثلاً: أنا ما أخذت ذهبك وهو الذي أخذه، كذاب.
وكذلك المرأة لا تقول: إنني ما أخذت مالك، وهي التي أخذت ماله، وإنما الكذب الذي يكون من نوع المِلْح الذي تُحَسَّن به المعيشة.
وكذلك من الكذب الواجب: ما لو قصد إنسان ظالم قتل رجلٍ مختفٍ عندك وجب عليك أن تكذب؛ لئلا يعلم أين هو، فلو قال: هو عندك؟
تقول: لم أره جاز ذلك.
مثلاً لو أن ظالماً يريد أن يأخذ مال واحد قال: هل مال فلان عندك؟
قال: لا. لم يضع عندي ولا قرشاً، بالعكس أنا لي عنده فلوس، فالكذب لإنقاذ روح إنسان معصوم الدم، أو لتخليص مال مسلم من الهلاك، هذا مشروع.
ونَظَم أحد الشعراء المسلمين أقسام الكذب فقال:
لِخَمْسَةٍ ينقسم الكذب فما لا نفع شرعاً فيه قطعاً حُرِما |
وما لوالدٍ لجبر خاطرهْ أو خاطر الزوجة دعه فكُرِهْ |
وهو لإرهاب العدو يندبُ للمسلمين إن هم تأهبوا |
وإن تخلص مسلماً أو مالَهُ به فعلت واجباً تجزى لََهُ |
ولصلاحٍ بين ناسٍ قد أبيحْ وقيل: إن الكذب كله قبيحْ |
فإذا كان الكذب لتخليص مسلم أو ماله من الهلاك فإنه يكون واجباً.
وإذا كان لإرهاب أعداء الدين كأن يخبرهم بكثرة عدد المسلمين، وأنهم آتون، وأنهم قريبو المجيء، فهذا أيضاً مشروع ومستحب.
قيل: إن الإصلاح بين الناس من قسم المباح، ولا يبعد أن يكون من قسم المشروع.
وقيل: ما كان جبراً لخاطر، فإنه مكروه، وما لا نفع فيه شرعاً فإنه محرم.
ولا شك أنه إذا كان مضراً فهو محرم، مثلك أن يكذب ويقول: سآتيك بالمال، وهو كذاب لن يأتيه به، مالك عندي وجاهز متى تريد أعطيك حقك، وهو كذاب ما عنده المال.. ونحو ذلك، فهذا الكذب أكثره محرم، وقسم قليل هو الذي يكون جائزاً.
إذا احتاج إلى الكذب استخدم التورية، فما هي التورية؟
بعد أن عرفنا أن الكذب حرام ومرت معنا قصة إبراهيم الخليل، وأن الأنبياء لا يحوز الكذب في حقهم مطلقاً في قضية تبليغ الشريعة والوحي، وأنهم معصومون من الكذب في تبليغ الشريعة قطعاً، والكذب في غير ذلك من الصغائر، المسألة فيها قولان مشهوران للسلف والخلف:
- أما منصب النبوة فلا يمكن أن يكذبوا فيه مطلقاً، والله سبحانه وتعالى يبعث الصادق، حتى في الجاهلية كان النبي صلى الله عليه وسلم معروفاً بالصدق.
ينبغي على الإنسان إذا احتاج للوقوع ليخبر عن شيء بخلاف الحقيقة أن لا يكذب وإنما يستخدم التورية فما هي التورية؟
التورية: أن تأتي بكلامٍ له معنيان؛ معنى قريب، ومعنى بعيد، فالسامع يتوهم أنك تقصد المعنى القريب، وفي الحقيقة أنك تقصد المعنى البعيد، هذه قضية المعاريض.
والأصل في مشروعيتها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب) .
وهذه المعاريض لا تجوز مطلقاً في ظلم الناس أو إسقاط حقوق الخلق أبداً.
لنأخذ شيئاً من معاريض النبوة حتى يتبين لنا ما هي المعاريض:
النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله، بعض العرب في غزوة ما، ولم يتعرفوا من هو، وأرادوا أن يعرفوا شـخصيـته، فقالوا: (من أنتم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نحن من ماء) ويقصد بذلك الماء الذي خلق منه الإنسان؟
وقال أيضاً: (لا يدخل الجنة عجوز!) ما المعنى القريب الذي فهمته المرأة وبكت؟
أن العجائز لا يدخلن الجنة.
لكن المعنى الآخر: أن الله عز وجل لا يُدخل العجوز على هيئة عجوز، وإنما يغير هيئتها وتعود شابة إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً [الواقعة:35-36] وليس المعنى أن العجوز التي في الدنيا عجوز لا تدخل الجنة، وإنما المقصود أنها عند دخولها الجنة لا تكون عجوزاً؛ بل تنقلب إلى بكرٍ شابة في سن الثالثة والثلاثين.
لما قال للمرأة: (زوجك الذي في عينه بياض) والبياض يفهمون أنه العمى، لكن كل واحد منا في عينه بياض وسواد.
فالمعرِّض يقصد معنىً بعيداً، اللفظ يحتمله، ولو أن اللفظ لا يحتمله يكون كذباً، والسامع يفهم المعنى القريب لهذا اللفظ.
ولا يجوز استعمال التورية مطلقاً في إسقاط حق.
مثال: يقول القاضي لرجل: أنت أخذت مال فلان؟
فيقول: لم آخذ ماله، وهو يقصد مال رجل آخر، فهذا لا يمكن؛ لأن معنى ذلك: أن يسقط حقاً، وهذا حرام ولا يجوز.
شهدتُ بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا |
وأن العرش فوق الماء طافٍ وفوق العرش رب العالمينا |
وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا |
فقالت: آمنت بكتاب الله وكذَّبتُ بصري، وهذه طبعاً القصة في إسنادها شيء، ولها طرق لكنها لا تخلوا من ضعف، وهذه المرأة يمكن أن يكون فيها غفلة، لأنها لم تعرف أن تميز بين الشعر والقرآن.
لكن نأخذ أمثلة أخرى:
دُعِي أبو هريرة إلى طعام فقال: (إني صائم -ما أراد أن يأكل من هذا الطعام- فرأوه يأكل بعد ذلك، فقالوا: ألم تقل إنك صائم؟ قال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، فأنا أصوم ثلاثة أيام من كل شهر) .
وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم ولا شيء معه، مثلاً: أعطاه رجل مالاً وجاء يريد المال، وهو مسكين ليس عنده شيء، وهو لا يريد أن يُذهب أموال الناس، يقول: [أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله] فالسامع يفهم؟ أنه يطيه المال غداً أو بعده، وهو يقصد يومي الدنيا والآخرة، أحد اليومين، إما في الدنيا أعطيك، أو في الآخرة تأخذه.
وكذلك أبو بكر الصديق لما هاجر مع النبي عليه الصلاة والسلام وسئل: (من هذا الذي معك؟ -كانت خطورة أن يخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه معه- فقال: هذا رجلٌ يهديني الطريق) ماذا يقصد؟ ماذا يفهم العربي والبدوي في الصحراء؟
أي: هذا دليل، أنا مسافر وهذا دليل في السفر، بينما هو قصد (هذا رجلٌ يهديني الطريق) يعني: طريق الإسلام.. طريق الخير؛ حِفاظاً على حياة النبي عليه الصلاة والسلام، هذه تورية واضحة ومشروعة، ما أراد أن يكذب لم يقل: هذا فلان الفلاني، جاء بأي اسم كذب، قال: (هذا رجلٌ يهديني الطريق) .
وقال حماد عن إبراهيم أنه سئل عن رجل أخذه رجل فقال: إن لي عندك حقاً، فقال: لا. فقال: احلف بالمشي إلى بيت الله فقال له إبراهيم : احلف بالمشي إلى بيت الله واعنِ مسجد حيك؛ لأن المساجد كلها بيوت الله، وذاك سيفهم بيت الله أي: بيت الله الحرام.
وذكر هشام بن حسان، عن ابن سيرين، أن رجلاً كان يُصِيْب بالعين فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها، كان شريح ذكي رحمه الله وكان عنده بغله حسنه، فرأها أحد العيانين الحساد الذي كان إذا أصاب شيئاً بالعين لا يخطئ كأشعة الليزر، وهذه نوعية موجودة في البشر، فلما رأى بغلة شريح أراد أن يعينها، ففطن له شريح قبل أن يعينها فقال: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تُقَام -قال: هذه إذا جلست لا تقوم حتى تقام- قال الرجل: أفٍ أفٍ. فزهد العائن فيها فما حسدها، وإنما أراد أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها، أي: لا تقوم حتى يقيمها الله سبحانه وتعالى، كما يأمر كل شيء فيكون.
وكذلك قال أبو عوانة، عن أبي مسكين: كنت عند إبراهيم وامرأته تعاتبه في جارية له - إبراهيم النخعي كان عنده جارية والمرأة تغار من الجارية جداً- وكان بيد إبراهيم مروحة يروح بها في الصيف ... فلما جاءت المرأة، وأكثرت عليه الكلام عند الناس والضيوف، قال: أشهدكم أنها لها -لتسكيت المرأة- فلما خرجنا قال: علام شهدتم؟
قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها، قال: لا، أما رأيتموني أشير إلى المروحة، إنما قلت: اشهدوا أنها لها، وأنا أعني المروحة.
وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به من بعض مضيعي الأوقات كان يضع يده على ضرسه، ويقول: ضرسي.. ضرسي.. ويمشي، ضرسي.. ضرسي.. وهو لا يكذب؛ لأن كل واحد عنده ضرس.
وأُحْضِر الثوري إلى مجلس المهدي، فأراد أن يقوم، وكان المهدي متمسكاً به يريد أن يجلس عنده، والثوري رحمه الله يريد الذهاب، فمُنع من القيام فحلف بالله أنه يعود، وعلى هذا الأساس تركه الخليفة يمشي، فترك نعله ومشى ثم رجع فلبس نعله وأخذها ولم يعد، فقال المهدي : ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا: إنه عاد فأخذ نعله.
وكان المروزي من أذكى أصحاب الإمام أحمد وأنجبهم، فجاء واحد يسأل عن المروزي يريد أن يأخذه من مجلس أحمد فأراد الإمام أحمد ألا تفوت المروزي الفائدة من الدرس، فقال الرجل: المروزي موجود عندك؟
فوضع أحمد إصبعه في كفه وقال للسائل ينظر إليه: ليس المروزي هاهنا، وما يفعل المروزي هاهنا؟ يقصد أحمد رحمه الله في كفه ليس المروزي هاهنا، ما يفعل المروزي هاهنا؟ وهذا كله من أجل التوقي من الكذب وعدم الوقوع فيه.
فهذه أمثلة على التورية نلاحظ منها أن الذين فعلوها كانوا يقصدون إما جبر خاطر، أو تحقيق مصلحة مثلاً، أو تخلصاً من موقف محرج، وحفاظاً على وقتهم.
ولذلك فإن هذه التورية مباحة وتغني عن الكذب، إذا احتاج الإنسان أن يتكلم بكلام لا يكذب يمكن أن يستخدم التورية ويحصل على مقصودة.
أما استخدام التورية لبيان المهارة وخداع الناس، لكي يثبت الإنسان أنه أذكى من الآخرين، فهذا مزلق شيطاني، وتجد بعض الناس يفعلون التورية بحاجة وبغير حاجة، ولذلك يقعون في الكذب.
وكذلك فإن كثرة استخدام التورية تؤدي إلى الوقوع في الكذب في النهاية، ولذلك فإننا عندما نتكلم عن التورية لا نقصد التوسع بها وأن يجرب الإنسان مهاراته على الآخرين، إنما نقصد أنك إذا احتجت أن تتكلم بكلام تتخلص به من موقف فهناك مجالات أخرى غير الكذب وهي التورية.
هذا ما تيسر ذكره من فوائد هذه القصة.
والله تعالى أعلم.
.
الجواب: الأجر المقصود ليس أجر الصحبة، ولكن أجر التمسك بالدين؛ لكثرة الفتن والمنكرات في هذا الزمان.
الجواب: من أرض العراق، وهو من ذرية نوح.
الجواب: لا، لم يرد في الشريعة أن من نواقض الوضوء نزع الجورب.
الجواب: ذكرنا قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة) ، وقول عائشة : (عندما جاء
الجواب: أن تُذْبَح في اليوم السابع، شاتان متشابهتان في السن والحجم قدر الإمكان، عن الذكر، وواحدة عن الأنثى.
الجواب: لا أعرف حديثاً صحيحاً في هذا، ولكن ورد عن بعض السلف هذا الكلام، (السابع) و(الأربعون).
الجواب: لو وزعتها على اليوم لا بأس.
الجواب: ينبغي أن نعرف الأشياء التي يمكن أن تخرج من الإنسان:
أولاً: المني: وهو أصل خلقته، ويجب منه الغسل، وهو طاهر، ورائحته كقرع النخل أو خميرة العجين، وله أثر إذا يبس معروف.
الثاني: المذي: وهو يخرج عند الشهوة، من نظر، أو تقبيلٍ، أو تفكيرٍ، وهو ماءٌ رقيق شفافٌ، إذا يبس لا يترك أثراً، وهو نجس، ويجب منه الوضوء، وغسل الأنثيين، أسفل الذكر.
الثالث: البول: وهو معروف.
الرابع: الودي: وهو ماءٌ ثخين يشبه المني، يخرج بعد التبول، وهو نجس، ويجب منه الوضوء.
الخامس: ما يخرج من المرأة من الإفرازات مثل: العرق، الرطوبة التي تكون في موضع خروج الولد، تخرج باستمرار، والصحيح أنها طاهرة، ولا تنقض الوضوء.
فبعد ذلك تبين ما هو نوع هذا وبناءً عليه يُعرَف الحكم.
الجواب: إذا كان غلب على ظنك أن هذه الشركة لن تجدد العقد، وأنك إذا نزلت سينقطع عملك فيها فابْقَ، وإذا غلب على ظنك أن هذا الاحتمال ضعيف، وأن لك مكاناً إذا أردت أن تعود، فاستخر الله تعالى واذهب.
الجواب: من أكبر الجرائم توجيه الأطفال الصغار لتعلم اللغات الأجنبية، وخلط اللغات يسبب ازدواجية عند الولد تضر بتربيته ومهاراته وتفكيره وتؤثر على نبوغه؛ لأن الولد إذا أصبح يفكر بلغتين ويتكلم بلغتين من أول الأمر لا لحاجة ولا لضرورة، فإن هذا الحال يؤدي إلى تأخر.
لقد أثبت التربويون أن ابتداء تعلم الولد للغتين في أول أمرة يسبب بطئاً وتأخراً عنده في مهاراته ونموه العقلي، حتى تفكيره واستنباطه؛ لأن عنده حيرة في استخدام أي اللغتين، ولذلك ترى بعض الذين درسوا في الخارج أولادهم لا يجيدون اللغة العربية ولا الانجليزية وربما يتكلم بالإنجليزي أكثر من العربي، وتصبح مواقف مخجلة وأيضاً فصاحة اللغة العربية تتأثر بتعلم لغات أخرى من البداية، فلو قلنا: بعدما تمكن من اللسان العربي أصبح عنده سليقة جيدة، وصار عنده موسوعة من كلمات اللغة العربية الكثيرة، بعد ذلك لا مانع أن يتعلم اللغة الأجنبية للفائدة كما تعلم زيد بن ثابت السريانية في ستة عشر يوماً، لكن هذا يتكلم من أربع سنين على لغتين، هذا أمر مضر، ومع ذلك تراهم يتباهون، روضة لتعلم الإنجليزي، ما شاء الله.
الجواب: لا. لا يتكلم ولا يقل: سنسجد سنسجد، لأن هذا ليس هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب: نعم، لا بأس.
الجواب: إذا كذب وهو صغير معنى ذلك أنه سيتعود الكذب، وفي المستقبل يبلغ وهو كذاب.
الجواب: يرفع يديه ويدعو الله ويؤمِّن مع الإمام في الدعاء، وإذا مر بشيء فيه تسبيح لله سبح.
الجواب: هذه مصيبة، وهذا أكيد أنه يقع في الكذب (100%)، وربما يصاب بشيء من التباهي والفخر بنفسه، يعني: أنه كيف خدع الناس واستطاع أن يفهمهم شيئاً وهو يقصد شيئاً آخر، ثم مع كثرة التورية الناس لا يثقون بكلامه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر