بمثل هذه الكلمات -أيها الإخوة- أسلم صحابيٌ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قادماً من اليمن ، فأوحى إليه كفار قريش أن محمداً صلى الله عليه وسلم رجلٌ مؤذٍ لكي يتجنبه، ولكنه خطر بباله أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسمع منه، فأتاه وعرض عليه أن يساعده إن كان به مرض أو كان به رئي من الجن، فتلا عليه صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات من أوائل خطبة الحاجة، فكان هذا سبباً في إسلامه رضي الله عنه.
إخواني! يُسرني أن ألتقي بكم في هذا المكان، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لنا الأجر العظيم في هذا اللقاء، وأن يجعل حضورنا للقاء بعضنا لقاء الإخوة في الله عز وجل.
والموضوع الذي أريد أن أتحدث به إليكم هو (سمات رجل العقيدة) ونعلم جميعاً -أيها الإخوة- بأن الدين الذي ندين الله به يتعرض في هذا الزمان إلى هجمات شرسة، وأن المسلمين في هذا العصر في غاية الضعف والهوان، وليس العيب من الإسلام، ولكن العيب من المسلمين أنفسهم، فإن هذا الدين دين كامل، ليست المشكلة في هذا الدين، ولكن المشكلة في الناس الذين من المفترض أن يحملوا هذا الدين على أكتافهم، ولذلك لما فكر أحد المستشرقين في هذا الدين فتجلت له بعض جوانب عظمة الإسلام قال: يا له من دينٍ لو كان له رجال.
فهذا المستشرق أدرك عظمة هذا الإسلام، فقال: يا له من دين عظيم لكنه يحتاج إلى رجال يحملونه، إن هذا الدين يحمل في طياته عوامل استمراريته وهيمنته على سائر الأديان، ونحن في عصر الذل الذي يعيش فيه المسلمون، لا بد أن نضع أمام أعيننا عدة اعتبارات:
الاعتبار الأول: عدم اليأس واستمرارية العمل لنشر هذا الدين.
الاعتبار الثاني: أن التركيز لا بد أن يتم ويستمر في بناء الشخصيات التي تحمل هذا الدين.
المشكلة هي مشكلة عدم وجود الرجال، لو كان هناك رجال لانتهت المشكلة، وعندما تمنى بعض الصحابة أماني، قال عمر : [أتمنى أن يكون لي ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال
نتعرّف في هذا المقام على بعض السمات التي تتكون منها الخطوط العريضة في نفس صاحب العقيدة ورجل العقيدة:
والأدب مع نصوص الكتاب والسنة من حيث مراعاة الألفاظ في بيان العقيدة، وعدم الدخول إلى القرآن والسنة بمقررات عقلية سابقة، وترك الخوض في علم الكلام والفلسفة من حيث أنه علم لا ينفع، وكما ورد في الدعاء: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) وأن نؤمن إيماناً تاماً بأنه لا يُوجد شيء اسمه فلسفة إسلامية، ورجل العقيدة كما أنه يعتقد بهذه العقيدة، فإنه يُربي الناس عليها، ويبينها بالوحي حتى تمتلئ قلوب الناس بعظمة الله وبعظمة نصوص القرآن والسنة، ويحرص رجل العقيدة على أن يربي نفسه ويربي الشباب بالذات على هذه العقيدة وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمرو بن حبيش رضي الله عنه: [إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه -توقع منه الخير- وإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه، فإن الشاب على أول نشوئه].
ولذلك الآن لو وُجدت هناك الأوعية التربوية الصحيحة المستمدة من عقيدة أهل السنة والجماعة فانضوى وانضم إليها شباب الأمة، لخرجت نوعية عظيمة من الرجال، ولكن المشكلة أن شباب الأمة الإسلامية تتخطفهم الشهوات والشبهات وطرق الزيغ والضلال، والطرق التي يُخلط فيها الحق بالباطل في كثيرٍ من الأحيان، ولذلك لا تجد النوعيات التي تحمل هذا الدين، وإنما تجد عقليات مشوشة ومضطربة لا يمكن أن تفهم نصوص الكتاب والسنة فهماً صحيحاً وتنطلق بها لتطبقها تطبيقاً صحيحاً، فأنى لهؤلاء أن يحملوا هذا الدين.
وقال عبد الله بن شوذب رحمه الله: "إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك -إذا اهتدى وسلك الطريق المستقيم- أن يوافي صاحب سنة يحمله عليها"، وهذا الكلام يشمل النساء أيضاً، ولذلك يجب أن تنتبه المرأة المسلمة إلى دعاة الضلال الذين يريدون أن يؤثروا عليها بالبدعة مثل دعاة التصوف.
والعقيدة الصحيحة إذا استقرت في نفس رجل العقيدة فإن لها أثراً عظيماً في حياته، بل وحتى على فراش الموت يكون لها أثر، مثال: عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شابٍ وهو يحتضر، فقال: كيف تجدك؟ فقال: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبدٍ في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف).
سبحان الله ما أعظم فريتهم! رموا صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم جهلوا علم الكلام؛ لأنهم كانوا منشغلين بالجهاد، وهل يفوت الصحابة رضوان الله عليهم علم نافع، لأنهم كانوا منشغلين بالجهاد؟!! كل الصحابة غاب عليهم هذا العلم التافه، والحمد لله أنه غاب عنهم.
وكذلك يأخذ بطريقة جمع النصوص في المسألة الواحدة وعدم الاقتصار على بعضها دون بعض كفعل أهل البدعة، نأخذ مثالاً -أيها الإخوة- لو أن شخصاً أخذ بحديث: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) ولم يأخذ بغيره، هذا النص قد يُوهم عند البعض بأن مجرد التلفظ باللسان يكفي في دخول الجنة، ولكنه عندما يأخذ بالنصوص الأخرى، ومنها -مثلاً- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) وقوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة..) إلى آخر الحديث.
إذاً: تتكامل النصوص وتجتمع لتكون العقيدة الصحيحة من جميع جوانبها، أما أن نأخذ بعض النصوص ونترك بعضها، فإننا سوف نقع في بدعة وضلال ولا نفهم العقيدة الصحيحة.
والاقتصار على الكتاب والسنة في مقارعة المبتدعة أمر مهم يدل على فقه صاحبه، وإليكم هذا المثال: قال صالح بن الإمام أحمد رحمه الله: جعل ابن أبي دؤاد ينظر إلى أبي كالمغضب، قال أبي: وكان يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين! هو والله ضال مضل مبتدع، فيقول الخليفة: كلموه.. ناظروه، فيكلمني هذا فأرد عليه، ويكلمني هذا فأرد عليه، فإذا انقطعوا يقول المعتصم : ويحك يا أحمد ما تقول، فأقول: يا أمير المؤمنين! أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به، لا زال الإمام أحمد على هذه الحالة حتى قال أحمد بن أبي دؤاد وقد نفذ صبره: أنت لا تقول إلا ما في الكتاب والسنة! وهذا الكلام اعتراض صريح يُدين ذلك المبتدع إدانة كاملة.
ورجل العقيدة يقف أمام محاولات تهوين العقيدة؛ الذين يهونون من شأن العقيدة ويقولون: هذه أمور جانبية، هذه أمور تافهة، هذه أمور لا تقدم ولا تؤخر، وماذا يعني: إذا اعتقدنا أن لله يداً أو وجهاً؟! تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، لم يعرفوا ربهم ثم يريدون أن يدعوا إليه وإلى سبيله.
بعض الناس يتبجحون، فيقولون: أين الذين يقولون بعلو الله من الغزو الفكري؟
أين الذين يقولون بعلو الله من التيارات العلمانية؟
أين الذين يقولون بعلو الله من قضايا الجهاد؟ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف:5].
أي: لا يمكن أن يجتمع الإيمان بعلو الله والجهاد في سبيل الله؟! لا يمكن أن يجتمع الإيمان بعلو الله ومقاومة الغزو الفكري؟! لا يمكن أن يجتمع الإيمان بعلو الله والرد وفضح التيارات العلمانية؟! أين التكامل؟! لماذا نقتصر على جانب من الدين ونترك الجوانب الأخرى؟!
هذا الرجل لما علم أنه سيدفع دية الجنين اعترض على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: كيف تريدوني أن أدفع دية جنين؛ والجنين لا أكل، ولا شرب، ولا نطق ولا صرخ ولا استهل؟! فمثل هذا الكلام يسقط عني لا شأن لي به.
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام قال عبارة نقضت كلام الرجل من أصله، وبينت عيبه وزيفه، فقال: (إنما هذا من إخوان الكهان).
هذا الرجل من إخوان الكهان، هذا المنطق تقديم العقل على النقل والاعتراض على نصوص الشريعة؛ لأنها لا توافق عقل الشخص من الكهانة (إنما هذا من إخوان الكهان).
وبعض نصوص العقيدة يكذبها بعض الناس؛ لأنها لا توافق عقولهم، فمثلاً: لما سئل الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله لما روى حديث نزول الله عزوجل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، سأله إنسان في المجلس، قال: كيف ينزل؟ فأجاب عبد الله بن المبارك: "ينزل كيف يشاء سبحانه وتعالى". وفي رواية: "إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخضع له".
كان هارون الرشيد رحمه الله مرة من المرات في مجلس، وكان يحدثه بالأحاديث رجل من الصالحين يسمى أبو معاوية الضرير ، فحدثه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتج آدم وموسى..) إلى آخر الحديث، فقال عيسى بن جعفر -أحد الحاضرين-: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟!! -أي: من القرون- ما هو خطأ الرجل؟ أنه قدم عقله على النص، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (احتج آدم وموسى..) وهذا يقول: كيف التقوا؟ وأين التقوا وبينهما سنين طويلة؟
هذه جريمة يا إخوان!! هذا العقل المحصور الضيق نحكمه في النصوص الشرعية وننفي النصوص، فوثب هارون الرشيد رحمه الله تعالى، وقال: يحدثك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعارضه بكيف؟!
وفي رواية: أن هارون الرشيد رحمه الله -وكان شديداً على المبتدعة- قال: النطع -السيف- زنديق يطعن في الحديث.
فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول: بادرة منه يا أمير المؤمنين! بادرة منه يا أمير المؤمنين! حتى سكت.
وفي رواية: أنه حبسه ولم يُطلقه حتى حلف بالأيمان المغلظة أنه ما سمعه من أحد؛ أي: ما تلقى الشبهة هذه من أحد.
لا يجوز أن نروي حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولسنا متأكدين من صحته، فضلاً عن أن نكون متأكدين من ضعفه أو كذبه: (من حدَّث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبِين، أو الكاذبَين) لا يجوز لك أن تحدث بحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأنت لم تتأكد من صحته، هذا فضلاً عن أن تحدث به وأنت تعلم أنه ضعيف أو موضوع؛ هذه جريمة أكبر من الأولى.
والآن لا يخلو واعظ أو خطيب أو محاضر إلا وتجد في ثنايا كلامه أحاديث ضعيفة أو مكذوبة، يقولون: ترقق قلوب الناس.. تؤثر في الناس.. نستغلها لصالح الرسول الله صلى الله وسلم!
كذبوا والله، وافتروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذباً، نحن لسنا يهوداً، والغاية عندنا لا تبرر الوسيلة، وإنما الوسائل لها حكم المقاصد، إذا كان مقصدك صحيح لا بد أن تكون وسيلتك صحيحة.
بعض الناس يأخذ أحاديث مثل: (إذا دمعت عيني اليتيم، وقعت دموعه في كف الرحمن فيأخذها، ويقول: من أبكى هذا اليتيم؟ أعطيت الجنة من أسكته) كلام مؤثر، لكن الحديث لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يجوز لنا أن نأخذ به؟!!
ولذلك قام رجال الأمة الذين قيضهم الله لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فما تركوا شيئاً إلا بينوه، فجردوا أسماء الضعفاء، وأسماء الثقات، وبينوا درجات الأحاديث، وبينوا ثقة الرجال من ضعفهم، وجردوا الأحاديث المكذوبة والمصنوعة في الكتب حتى تبين للناس ما هو الحق، ولا زالت الأمور في تنقيح واجتهاد يتوالى عليه الناس المجتهدون منهم في هذا الأمر جيلاً بعد جيل، دلالةً على أن الله يحفظ هذا الدين بحفظ القرآن والسنة.
وكذلك من حق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل العقيدة: أنه يقدم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلام كل أحد، وإذا تعارض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كلام البشر يقدم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويترك كلام ذلك الشخص.
عن وبرة قال: كنت جالساً عند ابن عمر، فجاء رجل، فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ فقال: نعم. فقال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف، فقال ابن عمر : (فقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تأخذ أو بقول
والاهتمام بالسنة من مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله، بعض الناس يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وهو يُهمل السنن ولا يطبقها، وإذا جاءت سنة يقول: هذه أشياء تافهة، وهذه قشور، وهذه أمور جانبية، اتركنا من اللحية، واتركنا من إسبال الثوب، ودعنا من تحريك الإصبع في الصلاة ووضع اليدين على الصدر؛ هذه قشور، لا ينبغي أن نشتغل بها، سبحان الله العظيم! ماذا كان يفعل الرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
إذا كان كلام هؤلاء المجرمين صحيحاً فمعناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كوم السنن الصغيرة حتى إذا كانت آخر دقائق من حياته قال: يا مسلمون! إني كنت أشغلكم بالجهاد وبالأمور الكبيرة، وأنا الآن سوف أذكر لكم السنن الصغيرة في آخر عمري؛ لأني ما أردت أن أشغلكم بها من البداية، ثم مات. هذا معنى كلامه.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم الناس الأمور الصغيرة والكبيرة بالتوازن.
لو كان عندك كافر تطبق عليه حديث معاذ: (فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -هذا أول شيء- فإن هم أطاعوك لذلك فأعلموهم بأن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم..) الحديث.
فلو أسلم الكافر فيجب أن نعلمه جميع الدين، يجب أن نكون أمناء في تقديم الدين، لا نقول: نقدم بعضه للناس ونترك بعضه، وبعد عشرين سنة نبدأ نعلمهم هذه الأشياء الصغيرة، سبحان الله! هذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
ومن المسائل الخطيرة التي تحدث في هذا العصر وتخرج بها كتب جديدة إلى الأسواق، هذه المسألة من مذهب المعتزلة في تقديم العقل على النقل، وربما تظنون أن هذا الكلام نظري وصعب، لكن لو أخبرتكم أن رجلاً من المسلمين قد أخرج كتاباً في هذه السنة (1409هـ) يقول فيه: إن حديث موسى أنه لطم عين ملك الموت ففقأها، مع أنه صحيح وثابت لكنه غير معقول؛ لأن موسى لا يلطم عين ملك الموت فيفقأها، فالحديث لا نقبله، وببساطة شطَّب الحديث.
حديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري.
يقولون: هذه أشياء وعادات وتقاليد، ونحن لسنا مكلفين أن ننقل تقاليد عبس وذبيان إلى أمريكا واستراليا.
قالوا: والرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث لما سمع أن بنت كسرى تولت زمام الملك، لكن لو رأى جولدا مائير لقال غير هذا الكلام!
سبحان الله! كبرت كلمة تخرج من فمه، اللهم لا تسلطه على أحد من المسلمين، وامحقه وأفكاره التي يريد أن يسمم بها عقول المسلمين.
اللهم قاتل معتزلة القرن العشرين، وامحقهم يا رب العالمين، ولا تجعل لهم سناناً ولا لساناً مسلطاً على المسلمين.
أيها الإخوة! نحن نعيش في أخطار.. الكتب والأشرطة تُقذف إلينا سموم من هذا المنهج الرديء.. تقديم العقل على النصوص الشرعية.. كقولهم: صحيح البخاري لا نأخذ به، وإذا كان هناك حديث ثابت لم يعجبهم يقولون: هذا لا يُوافق طبيعة العصر الذي نعيش فيه.. أين الإسلام؟! أين الاستسلام لله بالطاعة والانقياد له؟! اللهم اهد من كان ضالاً من المسلمين.
إذاً: المسلمون يجمعهم طريقٌ واحد ليس له ثانٍ؛ طريق أهل السنة والجماعة وهو طريق أهل الحديث سماهم أئمة السلف هكذا، سموهم أهل السنة والجماعة تمييزاً لهم عن أهل البدعة، وسموهم بأهل الحديث تمييزاً لهم عن الذين يحكمون عقولهم وآراءهم في النصوص.
قال الإمام أحمد عن الطائفة المنصورة: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم.
كل تسمية مخترعة مهما كان الذي اخترعها، ومهما كان عدد الذين ساروا عليها، فكلها تسميات مبتدعة، يُقصد منها تفريق صفوف المسلمين؛ المسلمون ليس لهم جماعة إلا جماعة واحدة وهم أهل السنة والجماعة ؛ عقيدتهم معروفة لم تختلف على مرَّ العصور، وأعمالهم وأخلاقهم معروفة، وطريقتهم في الدعوة معروفة، ومفاصلتهم للكفار معروفة، وكل شيء واضح في القرآن والسنة، وعلماء المسلمين يوضحون هذا الطريق لمن يسير إليه فقط، ليست هناك تسميات وأحزاب وطوائف، وإلا فقل لي: ما الذي أخر مسيرة الدعوة الإسلامية الآن إلا هذه التحزبات والتفرقات؟! هذا من الطائفة الفلانية، وهذا من الطائفة الفلانية.
يا أخي! أين أنت من جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ماذا كانوا يسمون أنفسهم؟! ليس لهم إلا أوصاف: الطائفة المنصورة، الفرقة الناجية، لكنهم هم أهل السنة والجماعة الذين اجتمعوا على هذه السنة فقط، ولذلك فإن من المدهش أحياناً أنك تجد اثنين من المسلمين ليس بينهم فرق في التصورات، لكن هذا يطلق على نفسه اسم كذا، وهذا يطلق على نفسه اسم كذا، وهذا موجود -فقط الاسم- هذا رافع لشعار، وهذا رافع شعار.. لماذا يا أخي؟ ألسنا أمة واحدة؟!! أليس إبراهيم سمَّانا المسلمين؟!! لماذا نتفرق؟!!
ما هي المشكلة؟ أن كل أحد ينتسب إلى طائفة يسميها بأسماء ليست شرعية، فيوالي لها، ويعادي عليها، ويتعصب لها، ويدافع عنها بالحق والباطل.
كان نعمان بن محمود الآلوسي رحمه الله جوزي زمانه في الوعظ والتذكير، فكان في كل سنة يجلس في شهر رمضان للوعظ في أحد المساجد الواسعة، فيُقصد من أطراف الأماكن حتى يغص المكان بالمستمعين، فاتفق له في رمضان سنة (1305هـ) أن استطرد في مجلسٍ من مجالسه بحث سماع الموتى، فذكر ما قاله أهل العلم في كتبهم الفقهية من عدم سماع الموتى كلام الأحياء، فقام حشوية بغداد وأنكروا عليه هذا العزو، وأثاروا أفراد جهلة العوام كما هي عادتهم في كل زمان ومكان، وكادت تقع فتنة تسود وجه التاريخ، ولكنه بدهائه وحلمه سكن ثائرتهم، فجمع في اليوم الثاني كل ما لديه من كتب المذاهب الأربعة وارتقى كرسي الوعظ، وقد احتشدت الجموع، فأعاد البحث وصدع بالبيان، ثم أخذ يتناول كتاباً كتاباً فيتلو نصوص العلماء ثم يرمي بها إلى المستمعين ويصرخ: هؤلاء علماؤكم، فإن كنتم في ريبٍ فدونكموهم وناقشوهم الحساب.
حتى إذا فرغ نهض واخترق الجموع الثائرة غير وجلٍ ولا هياب، فأقبلوا عليه يقبلون يديه ويعتذرون إليه من قيامهم بتحريك المرجفين وفريق المقلدة الجامدين، فكان ذلك سبب تأليف رسالته المشهورة: الآيات البينات في حكم سماع الأموات.
وفي الوقت الذي ندعو فيه إلى عدم التعصب لأحدٍ أياً كان، فإننا في ذات الوقت ننكر على أولئك النفر الذين وضعوا أنفسهم في رتبة الاجتهاد ولما يحصّلوا العلم الشرعي بعد أو قواعده الأساسية، كيف يطيرون ولم ينبت لهم الريش في أجنحتهم؟ كيف يحلقون في سماء العلم؟ هؤلاء الناس الذين يظنون أنه بمقدورهم وهم العاجزون القُصر أن يستنبطوا الأحكام الشرعية لوحدهم، وبعضهم يزعم أن علماء الحديث عنده كعمال الخدمات يقدمون له الحديث الصحيح وهو الذي يتولى فهمه وشرحه؛ هؤلاء أساءوا العلم والأدب وهم من المغرورين.
وفي ذات الوقت عليكم أن تنتبهوا من خلال قراءتكم وسماعكم لهذه الأشياء المسجلة المنتشرة إلى ألفاظ الغمز واللمز في أهل السنة الذين تجردوا عن التعصب، وهناك من يلمزهم وينبزهم ويغتابهم ويستهزئ بهم، فترى أحدهم يقول: هذه سلفية مزعومة، والآخر يقول: هذا فقه بدوي، وثالث يقول: فتيان سوء يتطاولون على أئمة العلم؛ ومقصودهم تنفير الناس من اتباع الدليل، يريدون التعصب والتقوقع.
وبعض طلبة العلم يقولون: لا نريد دليلاً إلا من القرآن أو من السنة، وغير ذلك نرمي به عرض الحائط، فكيف إذا كان إجماعاً صحيحاً، أو إذا كان قياساً صحيحاً مستنبطاً من القرآن والسنة، وهل متابعتهم للعلماء أولى أم متابعتهم لآرائهم الشخصية؟!!
ويجب على رجل العقيدة: أن يعمل الدروس النافعة للعامة والخاصة، للبسطاء والمثقفين، لمن له تعمق في الفهم ومن هو بسيط في الفهم.
قال ابن حجر رحمه الله في ترجمة أحد العلماء في كتابه إنباء الغُمر: "وكان يعمل المواعيد النافعة للعامة والخاصة، حتى إن كثيراً من العوام انتفعوا به، وصارت لديهم فضيلة مما استفادوا منه".
وقال ابن حجر رحمه الله: "أحمد بن محمد الصفدي كانت له عناية بالعلم، وكان يعرف بشيخ الوضوء". لماذا كان يعرف بشيخ الوضوء؟ لأنه كان يعلم الناس الوضوء، كان يتعاهد المطاهر فيعلم العوام الوضوء، فلذلك سمي شيخ الوضوء.
إذاً: علينا أن نعلم العامة والخاصة، بعض الناس يقصرون جهودهم التعليمية على فئة معينة من الناس؛ على الشباب دون الشيوخ، أو على الرجال دون النساء، أو على الكبار دون الصغار؛ هؤلاء ما عندهم تكامل في خطتهم التربوية التعليمية، ويجب أن يكون التعليم عاماً شائعاً في الناس؛ في الصغار والكبار، والرجال والنساء، والشباب والشيوخ، حاول ألا تخص أحداً دون أحد.
بعضهم تقول له زوجته: علمني شيئاً، وهو مُنشغل مع إخوانه أو يُعلم نفسه، ويتعلم مع إخوانه، زوجته التي في البيت لا تعرف أشياء كثيرة من الأحكام؛ هذا غير صحيح.
أيها الإخوة: يجب أن تكون لدينا نظرة شمولية في قضية الدعوة والتعليم، لو رأيت منكراً في الشارع أنكر عليه، ولو كنت بجانب شخص في الطائرة علمه شيئاً فإنك لن تخسر شيئاً، اصرف جهودك في الأماكن العامة لتعليم الناس، أئمة المساجد يقيمون الدروس لتعليم الناس، المدرسون في المدارس يعلمون الطلاب، ويبذلون العلم للجميع وينصحون الكل، وبهذه الطريقة نصل إلى منع المنكرات بأقصر وقت ما أمكن، أما الانزواء والتقوقع في بيئات معينة منغلقة ونمنع الخير عن الناس فهذا غير صحيح.
الرسول صلى الله عليه وسلم لماذا منع في بادئ الأمر كتابة شيء غير القرآن؟ لأنه يريد أن ينصب اهتمام الناس على القرآن، ينطلقون منه ويسيرون عليه، وبعض الناس يتصورون أن القرآن لا يوفي جميع الأشياء، وهذا غير صحيح، فالقرآن كتاب أحكام، وكتاب تربية، وكتاب أخلاق، والقرآن يجمع أشياء كثيرة، وإذا أردت التربية فستجد هناك التربية بأنواعها.. بالقصة، وبالموعظة، وبالقدوة، وبالعقوبة.. إلى آخره.
ينبغي أن تكون دراسة رجل العقيدة للقرآن الكريم دراسة وافية عامة.. يدرس قصص القرآن وأمثاله، والعلاقة بينه وبين أسباب نزوله، وتسلسل الأحداث بالمكي والمدني؛ ليعرف مسيرة القرآن في تربية المسلمين، وما هي الأولويات؟ وبماذا يبدأ؟ وبماذا يتوسط؟ وبماذا انتهى؟ وأساليب الجدل والمناظرة في القرآن لمعرفة كيفية إفحام الخصوم وإقامة الحجة عليهم.
وكذلك دراسة نواحي الإعجاز في القرآن حتى يعظم في النفس، وكل علم قد يتندم الإنسان على الاشتغال به إلا دراسة القرآن والسنة.
كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين |
وكذلك فإن تدبر القرآن الكريم مهم.
يزيدك وجهه حسناً إذا ما زدته نظراً |
فعليك بالنظر في هذا القرآن الكريم، والقراءة للكتّاب الذين يأخذون من القرآن ويستشهدون بالقرآن كثيراً، مثل: كتابات ابن القيم رحمه الله، فإنك تُحس أن العبارات حية، كثير الاستشهاد بالآيات والأحاديث، هذا الإمام العالم الرباني الذي يربط الناس بالقرآن والسنة، وليس أن تقرأ كتاباً فيه عشر صفحات ليس فيها آية ولا حديث.
ورجل العقيدة يُقارع الكفار والمبتدعة والفجار بالقرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم كما حدث لـابن عباس رضي الله عنه مع الخوارج ، فإنه أول ما أتاهم أثنى على عبادتهم وعلى حسناتهم، ثم استفرغ ما لديهم من الحجج حجة حجة، وبعد أن قال: أفرغتم، وتأكد أنه ما بقي لديهم شيء بدأ يجيب عليهم ويرد على كل شبهة بدليل؛ يأخذ شبهتهم ويردها بدليل.. آية بآية.. حديثاً بحديث، وسيرة بسيرة.. وهكذا، ولم يَسْتَسِر ولم ينفعل لما انتقدوا شخصيته، بعض الخوارج لما رأوا ابن عباس قالوا: لا تناظروه فإنه من قريش، الذين قال الله فيهم: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58]، فلم يغضب ابن عباس ويتركهم ويذهب، وإنما تحمل حتى أبلغهم الحق كاملاً.
قال الشافعي رحمه الله: قال رجل من الخوارج لـعلي رضي الله عنه وهو في الصلاة: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] فقرأ علي : فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60].
وهذا الإمام أحمد رحمه الله لما سأله المبتدع: ما تقول في القرآن؟ قال الإمام أحمد : ما تقول أنت في علم الله؟ فسكت المبتدع؛ لأنه يعلم ما وراء السؤال. قال الإمام أحمد : فقال لي بعضهم: أليس الله تعالى يقول: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] والقرآن شيء، قال الإمام أحمد: قال الله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الأحقاف:25] ألم تبق أشياء لم تدمر.
قال المبتدع: أليس قد قال الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً [الزخرف:3] أفيكون مجعولاً إلا مخلوقاً؟ فقال الإمام أحمد : فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:5] أي: خلقهم؟! وأنت تعلم أن من معاني كلمة جعل: صَيَّرَ.
ورجل العقيدة صاحب عبادة، إيمانياته قوية، متصل بربه عزوجل، نأخذ مثالاً واحداً فقط: عثمان رضي الله عنه؛ لأن حياة عثمان رضي الله عنه لا يُهتم بها كثيراً مثلما يُهتم بغيرها من الخلفاء، مع أنه رجل عظيم رحمه الله، قال عثمان رضي الله عنه: [لو طهُرت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي عليَّ يومٌ لا أنظر فيه في المصحف، وما مات
وعن محمد بن سيرين قال: قال أنس : [ قالت امرأة عثمان يوم الدار: اقتلوه أو دعوه فوالله لقد كان يحيي الليل بالقرآن ].
وكان رضي الله عنه لا يُوقظ أحداً من أهله إذا قام من الليل يُعينه على وضوئه إلا أن يجده يقظاناً، وكان كثير الصوم، وكان يُعاتب، فيقال له: لو أيقظت بعض الخدم يساعدوك في الوضوء في قيام الليل، فيقول: [لا. الليل لهم يستريحون فيه].
وكان إذا اغتسل لا يرفع المئزر عنه، وهو في بيت مغلق عليه من شدة حيائه رضي الله عنه.
وتأمل في كلام ابن القيم رحمه الله وهو يُعبر لك عن نفسية شيخ الإسلام ابن تيمية، وعن اتصال ذلك الرجل بالله عزوجل، قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنةً من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرةً: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شُكر هذه النعمة.. أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير.. ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
وقال لي مرة: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل إلى القلعة وصار إلى سورها نظر إليه، وقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13].
وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نظرة النعيم على وجهه.
إن جوانب تربيته لنفسه كاملة، وإنه يعلم أن التربية الإيمانية في غاية الأهمية، وأنه مهما بلغ من الشأن والعلو فإنه لا بد أن يهتم بقلبه، وهذا خلاف ما يعتقده بعض المتكبرين الذين يرون أن التربية الإيمانية مهمة للناشئة فقط، مع أنها مهمة للمتقدمين والمتأخرين، وأنه مهما قطع الإنسان مشواراً طويلاً في التربية، فإنه لا يزال يحتاج إلى تقوية قلبه.
ورجل العقيدة يُركز على بناء الأوساط الإيمانية التي من خلالها يتربى الناس، وعلى تنشئة القدوات التي من خلالها يتأثر الناس، وقته مملوء بطاعة الله عزوجل (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال
من ذا الذي يستطيع أن يجمع عيادة مريض وشهود جنازةٍ وصيام يومٍ في يوم واحد؟! أليس يدل ذلك على أن رجال العقيدة في ذلك الوقت كان يومهم مليئاً بأصنافٍ من الطاعات؟!
لو قيل لـحماد بن سلمة : إنك تموت غداً؟ ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً؛ لأنه مُشَبّع بالأعمال الصالحة، لا يستطيع أن يزيد؛ لأنه عد نفسه أنه سيموت غداً.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبدأ بالأهم فالأقل أهمية في الإنكار، ويُقدم الأمر بفعل الواجبات على النهي عن المحرمات إذا استوى الواجب والمحرم، وإلا فإنه يبدأ بالأعلى رتبة، والأكثر خطراً، والأعلى شراً وأشد انتشاراً بين الناس، وهو كذلك يتدرج في الإنكار يداً ولساناً، وإنكاره بقلبه لا يفارق جميع الحالات.
يجب على الإنسان أن يفارق المجلس إن لم يستطع الإنكار، ولا يأمر بمعروف إذا علم أنه سيؤدي إلى منكر أكبر منه، ولا يأمر بمعروف إذا كان سيؤدي إلى فوات معروف أكبر منه، ولا ينهى عن منكر إذا كان سيؤدي إلى منكر أكبر منه، ولا ينهى عن منكر إذا كان سيؤدي إلى فوات معروف أكبر منه، وتفصيل هذه الحالات وغيرها في محاضرة بعنوان: (ضوابط في إنكار المنكر).
وهو صاحب هيبة بين أهل المنكر، ولو رأوه لهابوه، عن سعيد بن جبير قال: مرَّ ابن عمر رضي الله عنه بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه بالنبل، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: (من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضه).
ورجل العقيدة يهتم بإنكار المنكر حتى آخر لحظة من حياته، ألم تر أن عمر رضي الله عنه نهى ذلك الشاب المسبل عن الإسبال وهو على فراش الموت، فقال: [يا بن أخي! ارفع ثوبك؛ فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك].
وأوصى أبو موسى رضي الله عنه حين حضره الموت، فقال: [إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا بي المشي، ولا تجعلون على لحدي شيئاً يحول بيني وبين التراب، ولا تجعلون على قبري بناءً، وأشهدكم أني بريءٌ من كل حالقة، أو سالقة، أو خارقة، قالوا: سمعت فيها شيئاً؟ قال: نعم. من رسول الله صلى الله عليه وسلم].
ورجل العقيدة يُضحي بنفسه في سبيل الدين؛ لأن هذا الدين لا يقوم بغير تضحيات، وبعض القاعدين الكسالى، يظنون أن الدين سيقوم بمجرد التعلم النظري لهذا الدين، حتى لو لم يؤدوا إليه أي خدمة أو لم يضحوا في سبيل الدين بأي شيء؛ وهذا خطأ.
والقرآن مليء بالآيات الدالة على العمل، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:25]. إذاً: فمجرد الاعتقاد لا يكفي، وإنما يجب العمل.
عن أبي برزة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان في مغزىً له، فأفاء الله عليه -غَنِمْ- فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم. فلان وفلان وفلان، ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا. قال: لكني أفقد
جليبيب قتل سبعة في سبيل ماذا؟ ثم قتل في سبيل ماذا؟
عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: [هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى ولم يأحذ من أجره شيئاً، منهم:
مصعب بن عمير أسلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ، وجاهد والديه، وجاهد المجتمع، وأوذي في سبيل الله وناله من الأذى شيئاً كثيراً، ثم يُهاجر مصعب إلى المدينة بسبب اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم له، وذلك لميزات في شخصيته، فكان سفره من أقوى الأسباب التي أدت إلى انتشار الإسلام في المدينة ، وقد أسلم على يديه سادات الأنصار، ثم يخرج في معركة بدر ويقاتل، ويخرج في معركة أحد ويحمل اللواء، فيُقتل رضي الله عنه.
ماذا جاءه من نعيم الدنيا؟
لما مات ياسر وقتلت زوجته أم عمار ماذا نالت من الدنيا؟ ماذا نالت من المغانم؟ لا شيء، مات هؤلاء في مقتبل الأمر.. مات هؤلاء والمسلمون في مرحلة استضعاف، ضحوا ولم يروا نتائج التضحية، بعض المسلمين يستعجلون يريدون أن يروا نتائج العمل في أقرب وقت.
يا أخي! ربما لا ترى النتيجة إلا بعد أجيال وربما لا تراها أنت أصلاً، ربما لا يراها إلا حفيدك أو حفيد حفيدك، وماذا يُضِيرك لو تعمل للإسلام؟ ولو رأى غيرك النتيجة؛ لأنك لست مكلفاً إلا بالعمل (قتل
لكن الصحابة حتى بعد أن فُتح عليهم وجاءتهم الأموال، يجلس الواحد منهم يحاسب نفسه ويبكي ويقوم ويترك طعام الإفطار، يقول: ومنا من أينعت ثمرته، هو الآن يتنعم، يحاسب نفسه فيبكي ويقوم ويترك طعام الإفطار.
إن لديه إلماماً بالتيارات التي تواجه المسلمين بأخطارها، مثل: التيارات الإلحادية الصريحة كـالشيوعية والقومية وغيرها، وكذلك تيارات الباطنيين كـالقاديانية والبهائية وغيرها، وتيارات القوميين والعلمانيين الذين قال بعض قادتهم:
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم |
هؤلاء الذين لا يرفض بعضهم الإسلام صراحة، ولكنهم يجعلونه ضمن دوائر خاصة.. يجعلونه جزءاً من التراث بحيث يشمل كل الفلسفات والأفكار والتقاليد والنظم مما قبل الإسلام أو بعده، سواء كان موافقاً للإسلام أو مخالفاً له، يريدون أن يحصروا الدين في الشعائر التعبدية والأحوال الشخصية، والتزام الفرد بالأخلاق والآداب فقط.
وكذلك يدركون تيارات التبشير النصراني، وعبادة الفرد من دون الله، ويدركون جيداً تيارات أهل البدع من أهل الاعتزال والكلام، وأخطر من يواجه المسلمين في هذا العصر من أهل البدع من جهة العقيدة غير النصارى والعلمانيين والناس الذين ذكرناهم فيما سبق، الصوفية بفرقها، والأشاعرة من ناحية الامتداد والتمركز، وذلك من خلال جامعاتهم في العالم الإسلامي، ودروس مشايخهم وطبع كتبهم وتقريرها وتوفيرها والترابط بين مذاهبهم.
ورجل العقيدة علمه بالواقع يُؤدي إلى عِظم شعوره بالمسئولية تجاه الواقع.
ما فائدة المعرفة بالواقع؟
إنه يؤدي إلى الشعور بالمسئولية للتغيير، ويعلم بأن هناك أكثر من ألفي مليون من البشر يعبدون آلهة وثنية من دون الله، ويعلم بأن هناك أكثر من ستمائة مليون إنسان في الهند يُقدسون البقر، ويقولون: نموت فداءً للبقر، ويعلم بـالشيوعية وأهدافها وأحزابها ودولها وهيئاتها التي تعمل ليكون العالم كله شيوعياً، ويعلمون عن اليهود وعقائدهم الذين أخبر القرآن عنهم أنهم سبوا الله، فقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64].
وهم الذين قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السبت.
وهم الذين يقولون: إذا احتدم الخلاف بين الله والحاخاميين فإن الحق مع الحاخاميين.
وهم الذين يقولون: إن الأديان بغير اليهود كلاب، يحل غشهم والمنافقة معهم عند اللزوم.
ويعلم رجل العقيدة بمؤامرات اليهود في العالم، وكيف تنطلق أنشطتهم من البنوك والمصارف والاحتكار والمسارح والسينما والمطابع، ودور النشر التي تُصدر كتبهم وصحفهم ومجلاتهم، ويعلم بأن الغرب مشتغل بعبادة المال وتجارة الرقيق الأبيض والمخدرات والتمييز العنصري، وأن الغرب تنتشر فيه تيارات الهيدية والسادية واللواط وعبادة الشيطان، وأن أولئك الكفار لا يعلمون شيئاً اسمه الخوف من الله، وأن الحضارة الغربية والتقدم العلمي ما هو إلا من قول الله عزوجل: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] وصدق من قال: لقد تعلم الإنسان كيف يطير في الهواء ولكنه لا يدري كيف يمشي على الأرض.
ورجل العقيدة: يعلم بوعيه أن هناك مؤامرات تُدبر في بلاد المسلمين ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ويعلم مثالاً جيداً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أولئك المنافقين الذين بنوا مسجداً ليكون ظاهر الأمر أمام المسلمين أنه شيء طيب، ولكنه في الحقيقة يخفي وراءه عذاباً ونكالاً ومؤامرة على المسلمين.
ولذلك يقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:107-110].
ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهدمه وحرقه مع أنه مسجد حتى قال بعض السلف: "فهو الآن مزبلة"؛ لأن هذه المؤامرات وهذه الدسائس لا تنطلي على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وليس كل شيء ظاهره الطيبة أنه خير للمسلمين، بل إنه قد يكون وراءه شر مستطير، والمسلم ينفذ بعين بصيرته ما وراء تلك الجدران فيعلم ماذا يدور؟ وماذا يخبأ للمسلمين؟
وقازان الذي انتحل شخصية رجل الدين، وجاء معه بإمام وقاضٍ ومؤذن، لم ينطل أمره على شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه وعى الأمر على حقيقته، وفتوى شيخ الإسلام في قتال التتر معروفة، وفي العصر الحديث جاء نابليون إلى مصر ، فلبس الجبة، وحضر مجالس العلماء، وصلى في الأزهر، وأفطروا على مائدته، وانطلى أمره على كثير من المسلمين.
وفي المواقف الصعبة يظهر دور رجل العقيدة في تثبيت الناس، ويظهر دور تلك الشخصيات العظيمة في إشاعة أجواء الإيمان والطمأنينة في جنبات تلك النفوس المزلزلة، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه صار ملجأ الناس لما تزلزلوا عند موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكشفت تلك الحادثة عن قدرة الرجل وإيمانه وعلمه، قام بدور لم يقم به بقية الصحابة، فتشهد أبو بكر فمال إليه الناس وتركوا عمر ، فقال: [أما بعد.. من كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، قال: والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر ، فتلقاها منه الناس، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها] في طرق المدينة وهم خارجون كأنهم لم يشعروا أن الآية نزلت إلا في ذلك الوقت، مع أنها نزلت من قبل، وهكذا كان دور الإمام أحمد رحمه الله في تثبيت الناس يوم المحنة.
إذاً: هذا دور طالب العلم مع العالم، محمد بن نوح ماذا كان بالنسبة للإمام أحمد ؟ علمه قليل، وسنه صغير، أين دور طلبة اليوم مع العلماء في تثبيتهم وتوعيتهم، وإمدادهم بالمعلومات عن الواقع، إن طلبة العلم قد يكونون في تقصير عظيم تجاه العلماء.
فالله الله يا طلبة العلم بالقيام بأدواركم مع علمائكم، وانظروا إلى دور الرجل الذي يثبت الآخرين في كلام ابن القيم رحمه الله عن شيخه: وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله عنا، وينقلب انشراحاً وقوةً ويقيناً وطمأنينة، فسبحان الله من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها.
إذا ضاق الأمر بتلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية وكاد لهم أهل البدعة ضاقت عليهم الأمور، فكانوا يأتون شيخهم، ما أن يسمعوا كلامه حتى يزول الهم والغم وينقلب انشراحاً وطمأنينة.
إن رجل العقيدة يدعو إلى الله في كل وقت حتى لو كان في السجن.. انظروا إلى يوسف عليه السلام: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]. وانظر إلى دور الإمام أحمد في السجن وكذلك ابن تيمية وغيرهم، حتى أن بعض المساجين ممن قد انتهت مدتهم كانوا يختارون البقاء في السجن مع أولئك العلماء القدوات من رجال العقيدة ليواصلوا تعلمهم.
ورجل العقيدة: يكون حيث تكون المصلحة لا يتطلع إلى أشياء من الدنيا، ويقول: ضعوني هنا ولا يُعجبني هذا المكان، إنه يكون حيث تكون مصلحة الإسلام (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة).
قال ابن كثير رحمه الله في البداية: "كتب الصديق إلى عمرو بن العاص يستنفره إلى الشام، فقال له: إني كنت قد رددتك على العمل الذي ولاك رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه لك مرة، وقد أحببت يا أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك، إلا أن يكون ما أنت فيه هو أحب إليك". انظر الأسلوب التربوي في تحويل الأشخاص من مكان إلى آخر، فماذا قال عمرو بن العاص ؟
"كتب إلى أبي بكر : إني سهم من سهام الإسلام، وأنت عبد الله الرامي بها والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها فارم بي فيها". أي: ضعني حيث تريد فأنا مستعد أن أعمل، وبعض الناس كونه يوجد في هذا المكان ويسد هذه الثغرة يعترض ويقول: لا أريد أن أكون فيها، لأن هذه الثغرة ما فيها إلا قلة، ولا يوجد أحد يعرفني فيها ولا يحترمني، فأنا أريد أن أكون هناك حيث تشرأب إليَّ الأعناق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الإخوة! إن الله يحاسب الناس على قدر طاقاتهم، فالله لا يحاسب الذكي مثل البليد، ولا يحاسب القوي مثل الضعيف، ولا يحاسب الشاب مثل الكهل الكبير، ولا يحاسب صاحب النفوذ والسلطان مثل الرجل المسلوب السلطان الذي ليس له قوة، ولا يحاسب الرجل الذي عنده قدرة على التداخل في نفوس الناس وإيصال الإيمان والدعوة إليهم، مثل الرجل الذي ليست عنده تلك القدرة.. انظر إلى مصعب بن عمير كيف استغل ذلك؟!
ورجل العقيدة يستغل منصبه ونفوذه وسلطانه في دعم الدين.. انظر إلى عمر بن عبد العزيز ، وحتى إذا آتاه الله موهبة قرض الشعر فإنه يكتب الشعر لينافح عن دين الله عزوجل، ويهتك أستار أهل الباطل.. انظر إلى حسان رحمه الله.
وإليك -يا أخي- هذا المثال العظيم الذي سطَّره التاريخ الإسلامي لرجلٍ من رجال العقيدة استغل موهبته في خدمة الدين، قال القاضي ابن شداد رحمه الله في سيرة صلاح الدين الأيوبي في إحدى الوقعات يقول: ومن نوادر هذه الوقعة ومحاسنها أن عَوّاماً مسلماً يقال له: عيسى كان يدخل إلى البلد بالكتب والنفقات على وسطه ليلاً على غرة من العدو، وكانت بلاد المسلمين محاصرة، فكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر من مراكب العدو.. رجل من المسلمين ليست عنده موهبة إلا القدرة على الغطس والعوم، فكان يستغل قدرته على الغطس والعوم في أن ينزل قبل مراكب العدو بمسافة ومعه هذه الأحمال إلى البلد المحاصرة، وكان ذات ليلة قد شد على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار، وكتب للعسكر، وعام في البحر، فجرى عليه من أهلكه ومات هذا العوّام، وأبطأ خبره، فاستشعر الناس هلاكه، وبينما الناس على طرف البحر في البلد وإذا البحر قد قذف إليهم ميتاً غريقاً، فرأوه فإذا هو عيسى العوام، ووجدوا على وسطه الذهب وشمع الكتب، وكان الذهب نفقة للمجاهدين، فما رُؤي من أدى الأمانة في حال حياته -وقد أداها بعد وفاته- مثل هذا الرجل، وكان ذلك في العشرة الأيام الأخيرة من شهر رجب.
رجل العقيدة يعمل ولو كان غير معروف، ولو كان يجهله الناس، ولكنه يعمل لا يبتغي الشهرة أو المعرفة أو يُشار إليه بالبنان، قال ابن كثير في البداية : ولما أُخبر عمر بمقتل النعمان بكى، وسأل عمن قتل من المسلمين؟ فقال: فلان وفلان وفلان، ثم قال: وآخرون من أصناف الناس ممن لا يعرفهم أمير المؤمنين من البلاد المتفرقة والقبائل المتفرقة، فجعل عمر رضي الله عنه يبكي، ويقول: [ما ضرهم ألا يعرفهم أمير المؤمنين، لكن الله يعرفهم وقد أكرمهم الله بالشهادة وما يصنعون بمعرفة
رجل العقيدة إذا تعرض لاستمالة من قبل أهل الضلال، فإنه يأبى أن يترك الصف الإسلامي وينحاز إلى صفوف أهل الفجور والبدعة والمعاصي الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأنت تسمع قصة كعب بن مالك وترى عظمة ذلك الصحابي رضي الله عنه، لما فاضت عيناه؛ لأن الناس ما كلموه بناءً على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول كعب : [فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، فإذا بنبطي من نبطي أهل الشام يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون إليّ حتى جاءني، فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً، فقرأته فإذا فيه: أما بعد! فإنا قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك قال: فقلت حين قرأتها -النفوس لا تظهر إلا عند مواضع الاحتكاك والفتنة؛ وهنا تظهر المعادن- وهذا أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور وسجرته بها].
رجل العقيدة صاحب نفس طويل في متابعة المهمات.. انظر إلى سلمة بن الأكوع رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية ثلاث مرات، ولما نادى منادي المسلمين: يا للمهاجرين في الغزوة بعد الصلح قفز فجأة، لأن الحال خطير، فوجد أربعة من المشركين فألقى القبض عليهم وأخذ أسلحتهم وجاء يقودهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.. رجل واحد يأسر أربعة فجأة وفي طريق الرجوع أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصعد أحد الصحابة إلى الجبل المرتفع ليكون الطليعة فينظر هل وراء الجبل أحد من المشركين، فصعده سلمة رضي الله عنه مرتين.
ولما قدموا المدينة أغار أناس على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوا الراعي وأخذوا الإبل، واستُنفر الناس، فكان أول رجل نفر هو سلمة بن الأكوع فجرى سلمة وراءهم وانتزع إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً واحداً وانتزع منهم كذلك متاعاً لهم، وظل يطاردهم بالنبل وجرحهم وأجلاهم عن الماء وتركهم عطاشى حتى وصل فرسان الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذوا المال كله، وهو في الرجوع جاء رجل وقال: من يسابق إلى المدينة؟ فسابقه سلمة رضي الله عنه إلى المدينة فسبقه. كل هذا فعله في فترة واحدة، أشياء متتابعة تأخذ مجهوداً، لكن رجل العقيدة لا يعرف الكلل والملل، بل إنه لا يعرف إلا المتابعة والاستمرارية في العمل.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم اهتم بامرأة عجوز من المسلمين، وبعض الناس الآن لا يهتمون بالعجائز، يموت العجوز وقد لا يُدرى عنه، وقد تتغير جثته في بيته ولا أحد يعلم بموته.
أحدهم يقول لجاره: هؤلاء أولادك الآن تركوك في البيت وذهبوا واشتغلوا، وبينما هو باقٍ في البيت ومن البيت إلى المسجد، افتقده أهل المسجد فبحثوا عنه، وفي الأخير ذهبوا إلى البيت فوجدوه مغلقاً فحطموا الباب ودخلوا، فوجدوا رائحة الرجل متغيرة ثلاثة أيام لم يسأل عنه أحد لماذا؟
أين الاهتمام بعامة المسلمين؟! أين الاهتمام بالضعفاء؟! أين الاهتمام بمن لا أهل لهم، ولا أناس يسألون عنهم؟!
وفي جنازة المساكين لا تجد إلا أناساً قليلين جداً، لكن لو مات رجل عظيم لوجدت الناس كلهم قد اجتمعوا.. هل هذا عدل؟!
انظر إلى هذه الحادثة العجيبة في الحديث الصحيح في وفاة أبي طالب يقول: (لما توفي يقول مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم-: إن عمك الشيخ الضال قد مات فمن يواريه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اذهب فواريه ثم لا تحدث شيئاً حتى تأتيني، فقال علي رضي الله عنه: إنه مات مشركاً، فيعود عليه السلام ويقول: اذهب فواريه. قال: فواريته ثم أتيته، قال: اذهب فاغتسل ثم لا تحدث شيئاً حتى تأتيني، قال: فاغتسلت ثم أتيته، قال: فدعا لي بدعوات ما يسر أن لي بها حمر النعم
ورجل العقيدة له موقف من الكفار في الصدع بالدين وإعلان الإسلام، وأنتم تعرفون قصة أبي ذر في الصحيحين ، تعرفون أنه لما قال له النبي عليه الصلاة والسلام بعدما أسلم: ارجع إلى قومك، قال: لا. سأذهب إلى كفار قريش ولأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فثار إليه القوم فضربوه حتى أضجعوه على الأرض، فأتى العباس فأنقذه، وفي اليوم التالي يرجع أبو ذر ويعاود نفس العملية؛ لأنه يريد أن يُعلن العقيدة على ملأ الكفار.
رجل العقيدة ليس بخب ولا يخدعه الخب، ليس غادر لئيم مكّار وفي نفس الوقت لا يسمح لمخادع مكّار لئيم خبيث أن يلعب عليه ويخدعه.
ورجل العقيدة رجل نبيه، لما سار عمرو بن العاص رضي الله عنه بجيشه إلى الرملة وجد الروم عليهم الأرطبون، وكان أدهى الروم، وقد وضع بالرملة جنداً عظيماً، فأقام عمرو رضي الله عنه مع الجيش بأجناده، لا يقدر من الأرطبون على سقطة ولا تشفيه الرسل؛ يُرسل الرسل لكي يأتون له بالأخبار عن ملك الروم، لكن الأخبار التي يأتون بها غير كافية، فقرر عمرو بن العاص رضي الله عنه أن يذهب بنفسه وهو أمير الجيش على أنه رسول إلى ملك الروم يدخل في عسكرهم ويرى، فدخل على أنه رسول وبلغ الرسالة لملك الروم، وسمع كلامه وتأمل حضرته، وعرف ماذا يدور، فقال الأرطبون في نفسه وكان داهية: والله إن هذا لـعمرو ، أو أنه الذي يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمر هو أعظم من قتل هذا الرجل، لأن بعض الكفار عندهم خبرة، فنادى هذا القائد حرسياً قال: تعال، وهمس في أذنه قال: إذا مر بك هذا الرجل -رسول المسلمين- فاذهب واختبئ في الموضع الفلاني، فإذا مرَّ بك فاقتله، فعلم عمرو رضي الله عنه أن المسألة فيها خديعة، فماذا قال للأرطبون؟
قال: أيها الأمير! إني قد سمعت كلامك -أي: المراسلة التي كلمتك عنها وسمعت كلامي- وإني واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنكون مع هذا الوالي -أي: عمرو بن العاص - لنشهد أمورهم، وقد أحببت أن آتيك بهم ليسمعوا كلامك ويروا ما رأيت أنا، فقال الأرطبون: نعم. فاذهب فأتني بهم، ودعا رجلاً، وقال: قل للحرسي لا يقتل هذا الرجل.
فخرج عمرو بن العاص وسرى من الجيش، ولما وصل إلى جيشه دخل فيه، ثم تحقق الأرطبون أن هذا هو عمرو بن العاص، فقال: خدعني هذا الرجل، والله إنه أدهى العرب.
وبالنسبة لإرهاب الكفار والكذب عليهم في الحرب، فيقول ابن كثير رحمه الله في البداية : قال خالد لـماهان ؛ في مقابلة جرت بينهما: إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنا قومٌ نشرب الدماء، وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك، فقال أصحاب ماهان : هذا والله ما كنا نُحدث به عن العرب.
هذا الكلام مهم جداً أن نعلم أن المستقبل للإسلام، لماذا؟
لأن الناس يقولون: مستحيل أن يخرج اليهود من فلسطين ؛ لأن عندهم القنابل والطائرات وعندهم السلاح وعندهم وعندهم، لكن أريد أن أسألكم سؤالاً، كم مكث النصارى -الروم- في القدس في الماضي؟
قرابة تسعين عاماً، ثم أخرجهم المسلمون في النهاية، واليهود كم مدة احتلالهم لـفلسطين ؟ قرابة أربعين سنة.
وكان المسلمون أيام الاحتلال الصليبي في ضعف، ثم قيض الله للأمة صلاح الدين فأخرجهم وليس بعزيزٍ على الله أن يُخرج رجلاً في الأمة يجتمع عليه المسلمون، فيخرجون اليهود، وكذلك مر في التاريخ الإسلامي أحداث سوداء جداً، المسلمون في غاية الضعف، كيف كان التتر والمغول يفعلون بالمسلمين في البداية قبل أن يدخل فيهم الإسلام؛ كان الجندي من التتر يدخل الحي من أحياء المسلمين، ولا يتكلم أحد من المسلمين؛ لأنهم في ذل، فيقول: اجتمعوا يا أهل الحي، فيجتمعون كلهم ولا يتخلف منهم رجل واحد، فيقول لأحدهم: ضع رأسك على الصخرة، فيضع رأسه على الصخرة، ويقول لرجل آخر من المسلمين: خذ هذه الصخرة ورض بها رأس صاحبك، فلا يملك ذلك المسكين إلا أن يأخذ الصخرة ويرض بها رأس صاحبه.. وهكذا يفعل بهم واحداً واحداً حتى يفنيهم وهو واحد؛ لأن الذل عم المسلمين، ولكن مع ذلك صد المسلمون بعد مدة حملات التتر.
إذاً أيها الإخوة: مهما كاد الكائدون فالمستقبل للإسلام، ومهما حاول أهل الشر والبغي، ومهما خطط المخططون فإن المستقبل للإسلام.
انظر إلى التاريخ الإسلامي المعاصر، كم ضربة وجهت للإسلام والمسلمين؟ كم خطة أعدت؟ كم محاولة جرت؟ ومع ذلك الصحوة الإسلامية في ازدياد، وهذا دليل على أن ديننا دين عظيم؛ فهو يحمل في طياته عناصر استمراريته وهيمنته: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32].
وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر