أما بعد:
فالحمد لله الذي جمعنا في هذا البيت من بيوته، ونسأله عز وجل أن يجمعنا في جنات النعيم، وأن نكون إخواناً على سرر متقابلين، وفي الغرفات من الآمنين.
حديثنا عن العقيدة؛ هذه العقيدة التي أنزل الله بها كتابه وعلمنا إياها نبيه صلى الله عليه وسلم، هذه العقيدة التي تصوغ شخصية المسلم لتجعله خلقاً آخر، فقد كان يرجو ويرهب الدنيا، وأهل الدنيا وأصبح لا يرجو إلا الله ولا يخاف إلا الله.
إنها عقيدةٌ أيها الإخوة تجعل الإنسان يستمد من أسماء ربه وصفاته ما يتعامل به مع سائر الناس من حوله، فهو يطلب المغفرة من الله إذا أذنب، لأنه يعلم أن ربه غفورٌ رحيم تواب، وهو يطلب العفو من الله، لأنه عفوٌ كريم يتجاوز، وهذا من شأن الكريم، والمؤمن كذلك بعقيدته يسأل الله الرزق ولا يسأله غير الله: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17] فهو الذي يرزق، فلا يخشى هذا المسلم أن يقطع رزقه أحد، وهؤلاء الناس أسباب قد يأتي الرزق عن طريقهم، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فالذي ينفع هو الله، ولئن اجتمع الإنس والجن على أن يضروا إنساناً لم يكتب الله الضرر عليه ما استطاعوا.
فهذه العقيدة تصوغ شخصية المسلم، تجعله سلماً لأولياء الله، حرباً على أعداء الله، موالياً لأولياء الله، معادياً لأعداء الله، وهكذا تتميز فيه هذه العقيدة بمظهر الولاء والبراء من خلال هذا الكتاب العزيز وهذه السنة النبوية.
أيها الإخوة: هذه العقيدة التي تشتمل على العلاقة بالله والإيمان به: بربوبيته، بألوهيته، بأسمائه وصفاته، بقضائه وقدره، بأنبيائه وكتبه ورسله وباليوم الآخر الذي يحاسبنا فيه، هذه العقيدة المشتملة على أبواب الإيمان: قولٌ وعمل، وعلى الموقف من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى غير ذلك من أمور؛ تحتاج إلى صيانة، وتحتاج إلى حفاظ عليها.
فمن أنواع الجهاد المهم جهاد الحجة والبيان، نكافح فيه عن عقيدتنا التي تتعرض لأخطار من قبل المشركين ومن قبل المبتدعين ومن قبل الغلاة ومن قبل المرجئة .
واليوم هناك أعداء كثر ومنحرفون ومبتدعة يشنون الغارات على العقيدة، ويشككون الناس فيها، ويدعون الناس إلى عقيدة غير العقيدة الصحيحة، ويهاجمون العقيدة الصحيحة، ويهاجمون الناس حتى في مصادر التلقي، ويجعلون لهم مصادر تلقٍّ غير المصادر الشرعية، غير الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ويريدون أن ينسفوا ثوابت هذه العقيدة، وأن يجعلوا مكانها أسساً مبتدعة من عندهم.
العقيدة تتعرض لأخطار كثيرة، وواجبنا هو الدفاع والمنابذة والجهاد بالحجة والبيان، كما أن الجهاد يكون بالسيف والسنان أيضاً.
قال أحد الخلفاء وعنده السيف والسلطان: غلبة الحجة أحب إلي من غلبة القدرة؛ لأن غلبة القدرة تزول بزوالها، وغلبة الحجة لا يزيلها شيء.
ولذلك لو قيل: المسلمون اليوم في هزائم، لقلنا: نعم، لكن أهل التوحيد منهم في علو شأن بالحجة، لا يمكن أن يهزم الموحد المسلم صاحب العقيدة الصحيحة أحد، بل إن العامي من الموحدين يمكن أن يهزم ألفاً من علماء المشركين.
قال لنا أحد الأفاضل: إن طفلاً سمع آية من كتاب الله تتلى عن اليهود: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] والطفل عمره خمس سنوات، فلما سمع الآية قال: فمن أغناهم؟!
واليهود يقولون: ( يد الله مغلولة ) ويقول أحدهم وهو عوفادا يوسف الحاخام الأكبر لليهود الآن: إن الله ندم على خلق الفلسطينيين، يسبون الله والرب، يسبون الإله عز وجل.
لكن لا يمكن أن يأتي منهم أو من أهل العقائد الزائفة المنحرفة وأهل البدع ويغلب موحداً صاحب عقيدة صحيحة، فالغلبة دائماً لـأهل السنة بالحجة والبيان، دائماً على مر العصور وتوالي الدهور الغلبة لـأهل السنة.
لقد قام أهل السنة بالصدع بالحق والرد على أهل البدعة من قديم، وأهل الباطل من كفار قريش قالوا: لو شاء الله ما أشركنا، وجلسوا يجادلون في قضية المشيئة، فغلبتهم حجة أهل الإيمان، وعبد الله بن سبأ وأذنابه من اليهود الذين جاءوا بعقائد البداء والإمامة والرجعة وغير ذلك والقدرية والجبرية والمعطلة والمشبهة والجهمية أصولهم ترجع إلى اليهود فهم الذين أثاروا الفتن بين المسلمين، وهؤلاء النصارى يثيرون الشبه، وبعضهم وضع كتباً بعنوان: كيف تناقش مسلماً ، والاختلاط بالأمم الأعجمية سبب إثارة شبهات، وشيوع العجمة كذلك سبب أشياء كثيرة، وكذلك ظهور علم الكلام والفلسفة من خزائن من الكتب التي كانت عند الكفار؛ فكتب المأمون إليهم لما وجد الترف، وقال: أرسلوا لنا ما عندكم من الخزائن، فامتنع ملك الكفار عن إرسالها في البداية حتى قال له واحد عنده: يا أيها الملك إن أجدادنا وقعت بينهم مقتلة عظيمة بسبب هذه الكتب ثم دفنوها وحفظوها في الخزائن، وأقفلوا عليها بالمفاتيح، فإذا أردت أن تثير على هؤلاء المسلمين شراً وتنتقم منهم فأرسل لهم خزائن كتب علم الكلام والفلسفة.
ثم قام المأمون بحركة ترجمة واسعة لهذه الكتب، وكان يعطي على الكتاب وزنه ذهباً، وانتشرت جدليات وبدع جديدة.
تصوروا أن نصير الشرك الطوسي الذي يسمى: بـنصير الدين الطوسي -وهو بريء من اسمه واسمه منه بريء- بنى داراً تسمى دار الحكمة تدرس فيها الفلسفة وعلم الكلام؛ التي يجيد أهلها الشبهات والشكوك، وجعل للطالب في هذه المدرسة ثلاثة دراهم في اليوم، بينما صرف لأهل الحديث لكل محدث -لا كل طالب- نصف درهم.
عُربت الكتب اليونانية في حدود المائة الثانية كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، ودخل على المسلمين بسببها شرٌ كبير؛ ظهرت الفرق، وظهرت البدع في أوائل هذه الأمة، الشيطان يثير وساوس وشبهاً، كل ذلك كان مدعاةً لظهور مواجهات وفتح جبهات على المسلمين قاموا بالتصدي لها.
أول ما سمع عمر رضي الله عنه بهذا الرجل، استدعاه وقد أعد له عمر عراجين النخل، قال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ ، قال: وأنا عبد الله عمر ، ثم أخذ العراجين، وأخذ يضرب بها على رأس صبيغ ضرباً متوالياً شديداً مبرحاً حتى سال الدم على وجهه ورأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فوالله لقد ذهب الذي كنت أجد في رأسي؛ كل الشبهات تبخرت مع هذه العقوبة وهذا الضرب، ولم يكتف بذلك بل نفاه ومنع المسلمين أن يكلموه في المنفى حتى مرض الرجل نفسياً وتأزم، وكتب إلى عمر خطاب استرحام فأذن عمر للناس أن يكلموه ويكلمهم، من كان إذاً يتجرأ أن يرفع رأسه ببدعة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه؟
ولما دخل الضعف على المسلمين بدأت بدع القدرية وبدع الخوارج ، هذه العوامل أدت إلى ظهور مناقشات ومناظرات، وقام أهل الحق يردون على أهل الباطل، وألفت الكتب وعقدت المجالس، فنريد أن نعرف كيف ندافع عن عقيدتنا، خصوصاً الآن، إذ يوجد -كما قلت لكم- أناس يريدون اللعب بثوابت الأمة ومصادر تلقي الأمة، يريدوننا أن نتحاكم إلى العقل ونترك النص، والنص إذا لم يجئ على مزاجهم نسفوه، ولو كان في صحيح البخاري ، ويقومون بليِّ أعناق النصوص لتوافق ما عند الغربيين، ويضعفون أشياء صحيحة، ويصححون أشياء ضعيفة، وربما لم يأخذوا بالحديث أصلاً، وهكذا قام من يشكك بأحكام ثابتة في الشرع كالربا والحجاب وتعدد الزوجات، ويثيرون الشبهات على المسلمين، نريد أن نعرف كيف ندافع، فما هو وضع المنهج؟ وما هي الأصول؟ ما هي الآداب في المناظرة؟ وما هي الأحوال التي يمكن أن تقع فيها؟ ما هي طرق المناظرة؟
فالجهاد بالحجة والبيان قضية في غاية الأهمية، خصوصاً في هذا العصر الذي كثر فيه الرماة على العقيدة والدين وعلى المسلمين، مقالات تكتب، وأشياء تقال في الهواء والفضائيات، وأمور تثير الشبهات، ونحن لا يصح أن نسكت إطلاقاً، بل يجب أن نقوم لله بالواجب، وأن نرد، وأن نعرف كيف نرد، وأن نكون أصحاب علم وحجة وبيان وبلاغة، ويتكلم منا القادر بعلمه وبيانه، فيسكت أهل الباطل ويقمعهم، وسنعرف أمثلة كثيرة لهذا إن شاء الله من خلال هذا الدرس.
وهكذا قام الأنبياء بواجب المجادلة بالحسنى والدفاع عن العقيدة، هذا إبراهيم يدافع عن عقيدته في الله وأنه يحيي ويميت، ويرغم أنف النمرود ويسكته، وينتقل من موضوع إلى موضوع إفحاماً له.
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78] لما خلقناه من العدم، ما هو الأصعب: الخلق من العدم أو الإحياء بعد الموت؟
الخلق من العدم هو الأصعب، ولكن الله عز وجل لا يصعب عليه هذا ولا هذا، وإذا كان قادراً على الإيجاد من العدم، فهو من باب أولى -عز وجل- يحيى العظام وهي رميم، قال تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79].
وضرب مثلاً آخر في نقاش منكري البعث فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:80-83].
انظر الحجة بالتاريخ، جادلهم بالتاريخ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ كيف تدَّعون أن إبراهيم لكم؟ كيف يصير إبراهيم يهودياً أو نصرانياً والتوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده؟ واليهودية والنصرانية ما ظهرت إلا من بعده؟!! مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:67-68].
لما حرموا هذه الأشياء على غير دليل ولا برهان، قال: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ [الأنعام:143-144] هذا الاحتمال الثالث: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:144].
هذه طريقة السبر والتقسيم كما يسميها العلماء، فالله عز وجل خلق من كل زوجٍ ذكراً وأنثى، فلم حرمتم يا أيها العرب ويا كفار الجاهلية هذا المولود المعين؟! لماذا حرمتوه؟! ألأنه ذكر أم لأنه أنثى أم لأنه ذكر وأنثى؟!
أنت تقول يا أيها المشرك العربي: إن أول بطن للناقة لا نستعمله إطلاقا،ً فلماذا؟ ألأنه ذكر أم لأنه أنثى أم لأن في بطن الناقة ذكراً وأنثى أم أن لديك دليلاً من رب العالمين على التحريم؟!
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا [الأنعام:144] إذا كانت العلة في التحريم عندكم هي الذكورية، فحرموا كل الذكور، لماذا تحرمون أول نتاج فقط؟! وإذا كانت العلة هي الأنوثة، فحرموا كل الإناث، وإذا كانت العلة أنهما جميعاً، فحرموا الزوجين كليهما، وإذا كان عندكم من الله دليل على التحريم فهاتوه: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا [الأنعام:144] فماذا يملكون إلا الاستسلام أمام الحجج الدامغة!
قالوا: ما جاء بقربان تأكله النار، ونحن عندنا في كتابنا المقدس أن النبي يأتي بقربان فتنزل نار من السماء تأكله فنعرف أنه نبي، وهو لم يأت بذلك، فما هو الرد؟
قال الله عز وجل: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمران:183] جاءت نار وأكلت القرابين فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183] هناك أنبياء من قبلي جاءوا بالذي تقولون وتصفون وتشترطون، لكنكم قتلتموهم: فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:183] هذا يدل على أنكم لا تريدون الإيمان، وأن الحجة التي أتيتم بها حجة تافهة، فقد قتلتم من جاء بهذا الوصف الذي ذكرتموه.
يحاصر الملحد فعلاً فلا يستطيع أن يجيب، إذ ليس عنده حجة، فيستسلم رغم أنفه.
وكان من حكمة النبي عليه الصلاة والسلام في الدعوة أنه حبس أسرى بدر بقرب المسجد يستمعون القرآن، فلما سمع جبير بن مطعم هذه الآيات: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ [الطور:35-37] فلما سمع سورة الطور بجمال صوت النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (كاد قلبي أن يطير) رواه البخاري.
لو كان هناك أكثر من إله في العالم مثلما يقول الآن المجوس وغيرهم -عندهم عدة آلهة- فماذا كان سيحدث في السماوات والأرض؟
ستفسد وتضطرب، هذا يقول: أنا أحرك الساكن، وهذا يقول: أنا أسكن المتحرك، وهذا يقول: أنزلوا المطر هنا، وهذا يقول: لا بل أنزلوه هنا، وهكذا ستفسد السماوات والأرض.
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91] وصارت حروب بينهم ومنافسات عظيمة: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:91-92] فلو فرض وجود صانعين متكافئين لفسد العالم، ولو كان واحد أقوى من غيره، فهو الرب والبقية ليست آلهة: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً [الإسراء:42-43] فلو كان يوجد آلهة أخرى، لكانت لجأت إليهم إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً [الإسراء:42] وهذا من طرق المناظرة، يقول: لنفرض أن كذا وكذا قد تحقق فماذا كان سيحدث؟ سيحدث كذا وكذا، فيظل الشرك ممتنعاً.
وكذلك فإنه سبحانه وتعالى قرر المشركين بتوحيد الألوهية عن طريق توحيد الربوبية: قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ [المؤمنون:84-89].
تعبدون اللات والعزى وهبل ومناة، تعبدون الأصنام والأحجار والأشجار، وربكم خالق السماوات والأرض؟! بالربوبية يستدل على الألوهية ويفرضها عليهم ويلزمهم بها: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87].. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الأنعام:101-102] لماذا تشركون به؟
ثم أخبر الله عنهم بقوله: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة:95] فهم ظلمة كفرة فجرة فسقة، كيف يتمنون الموت والحياة كل همهم وكل أملهم، وهم يعرفون أنهم بعد الموت سينتقلون إلى عذاب النار؟!
وقال عنهم في سورة الجمعة: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الجمعة:6] ثم قال الله: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [الجمعة:7] ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: [لو تمنى يهود الموت لماتوا] كما جاء في الحديث الصحيح عنه رضي الله عنه، قال: لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، لكنهم لا يتمنونه أبداً، وإلى الآن يزعمون أنهم أحباب الله، ولا يمكن أن يتمنوا الموت إطلاقاً.
وقال الله عنهم: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111] أماني كاذبة قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].
وهكذا استمرت الآيات في جدال هؤلاء وإفحامهم ودمغهم بالحجج البينات والرد عليهم، وفي ادعائهم أن لله ولداً وأن له صاحبة، وقام أنبياء الله يجادلون الكفار.
فهذا موسى يجادل فرعون قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:104] فماذا كان رد فرعون؟ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الأعراف:106-108].
وكان المفترض في فرعون أن يستسلم، ويقول: إني اقتنعت لأني رأيت أشياء ما يقدر عليها البشر، فهي آيات من رب العالمين، لكنه ظل يجادل في الله قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه:49] أعاده موسى إلى حلبة الصراع قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] لماذا لم يقل موسى: ربنا الله؟ بل قال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى؛ أي: يا فرعون أنت لا تخلق ولا تهدي المخلوقات، والله يخلق وأنت لا تخلق فكيف تكون إلهاً؟
وفرعون مرة ثانية يحول الموجة ويريد أن يخرج من المأزق، يقول: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى [طه:51] فما دخل القرون الأولى، نحن نناقشك حول ادعائك للألوهية أنت تقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] وتقول: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29] وتقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] فنقاشنا معك في هذه القضية فلماذا تزوغ وتروغ، وتقول: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى؟!
أعاده موسى إلى الحلبة مرة أخرى، انظر سبحان الله! كيف يكون استخدام الحجج؛ الأنبياء مؤيدون من الله، فلا تضييع وقت ولا لف ولا دوران، مرة ثانية بقوة يقول موسى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] يقول له: أنت يا فرعون لا تعرف لكن الرب الإله يعرف من خلق ويعرف الأول والآخر والمتقدم والمتأخر كما قال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ [الحجر:24] كلهم علمهم في كتابٍ لا يضل ربي ولا ينسى.
هكذا أفحمه ودمغه، وجحد فرعون ولم يذعن وهو مستيقن بالحق، قال تعالى حاكياً لنا ذلك عن موسى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102] في البداية كان الكلام ليناً كما أمره الله هو وهارون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] لكن بعد ذلك لما تولى فرعون قال له موسى: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:102] أي: هالكاً، وهدده بعذاب الله عز وجل.
وحكى الله لنا كيف يحيد فرعون عن النقاش: قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشعراء:18] ما دخل هذا في النقاش؟ النقاش الآن في الربوبية، وفرعون يعدد صنائعه مع موسى: قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الشعراء:18-19] وعملت لك جريمة وقتلت وهربت.
فرد موسى: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء:20] قبل أن يهديني ربي فعلتها، تلومني على شيء قبل الهداية، ثم تقول: أعطيناك ملابس وتمراً وأعطيناك أكلاً وشرباً وأعطيناك: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ [الشعراء:22] يعني: تمنُّ علي لأنك أطعمت واحداً وكسوته، وشربت واحداً، وأذللت أمةً بأسرها؛ تقتل أبناءهم وتستحيي نساءهم وتجعلهم عبيداً وتذلهم، وتمنُّ على واحد، فهل هذه نعمة تمنها علي أن عبدت قومي كلهم وأذللتهم، أهذه مِنَّة يا فرعون؟! وهكذا لم يجد عدو الله مهرباً، والمغلوب ماله إلا استعمال البطش، وتلك حيلة العاجز، فهزم فرعون هزيمة شنيعة في المناظرة.
يقول ابن عباس : قلت: يا أمير المؤمنين! أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم، ثم لبس أحسن ثيابه، ودخل على الخوارج وهم في القيلولة، فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر، متغيرة من كثرة قيام الليل وصيام النهار، الرسول عليه الصلاة والسلام قال للصحابة: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم) والخوارج لهم عمل عظيم كثير، لكن على أساس باطل، ما فائدة العبادات إذا كانت العقيدة زائغة؟!
وبعض الصوفية يمكن أن يعبد الله الساعات الطويلة جداً جداً، وهو على منهج شركي، ما هي الفائدة من قيامه بالليل وصيامه بالنهار وهو مشرك بربه؛ يصرف أنواع العبادة للولي المقبور؟! ما الفائدة؟ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] هؤلاء الخوارج.
فرأى ابن عباس وجوههم مسهمة من السهر، قد أثَّر السجود في جباههم، كأن أيديهم ثفنات الإبل -خشنة من كثرة السجود- عليهم قمصٌ مرحضة مغسولة، قالوا: ما جاء بك يا بن عباس؟ وما هذه الحلة عليك؟
انظر إلى ابن عباس فقد تعمد لبس الحلة، وهو زاهد في الدنيا، لكن النقاش مع الخوارج له عدة، لبس أحسن الثياب وجاء، قال: ما تعيبون مني، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أحسن ما يكون من الثياب اليمانية؟! لماذا تحرمون الطيبات؟! هذه واحدة انبخعوا فيها، ثم قرأ هذه الآية: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32].
قالوا: ما جاء بك؟
فقال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أعلم بالقرآن وأبلغ.
فقال بعضهم: لا تخاصموا هذا فإنه من قريش والله قال فيهم: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58] وقال بعضهم: فلنكلمنه ونسمع ما عنده.
قال ابن عباس : فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة، قلت: ماذا نقمتم عليه؟ -تريدون الخروج على علي ، ماذا نقمتم عليه؟- قالوا: ثلاثاً، قلت: وما هن؟ قالوا: حكم الرجال في أمر الله ورضي بكلامهم والله يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57] قلت: هذه واحدة.
وهذه اسمها عملية استفراغ ما عند الخصم من الشبه، تسمع كل حجج الخصم، ثم ترد عليها واحدة واحدة، قالوا: فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم؛ قاتل وحضر موقعة الجمل، ومن قاتله من المسلمين ما سبى نساءهم ولا أخذ أموالهم غنائم، فلئن كانوا مؤمنين فلا يحل قتالهم، وإن كانوا كافرين فلقد حل قتالهم وسبيهم، قال: وماذا أيضاً؟ قالوا: ومحا عن نفسه صفة أمير المؤمنين في الكتاب الذي كتبه مع معاوية ، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، انظر منطق الخوارج الأعوج!
فقال ابن عباس : أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما ينقض قولكم هذا أترجعون؟
قالوا: ومالنا لا نرجع؟!
فقال: أما أنه حكم الرجال في أمر الله، فإن الله قال في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95] وقال في المرأة وزوجها: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35] فقد رضي الله بالتحكيم في الخصومة الزوجية وفي جزاء الصيد، فصير الله ذلك إلى حكم الرجال، فنشدتكم الله أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم أفضل أو في حكم أرنب ثمنها ربع درهم صادها رجل محرم جاء يسأل ويقول: ما علي من الجزاء؟ قالوا: نعم.
قال: فأما قولكم قاتل فلم يسب ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة؟! لأن عائشة كانت في الجيش المقابل فإن قلتم: نستبيح منها، فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا فقد كفرتم، فأنتم تتردون بين ضلالتين، أخرجتم من هذه؟ قالوا: بلى.
وأما قولكم: محا نفسه من إمرة المؤمنين، فإني آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو ، قال: اكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو : لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، قال: اللهم إنك تعلم أني رسولك، امح يا علي ، واكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله.
ونتيجة للنقاش والرد المفحم من ابن عباس رجع منهم أكثر من النصف وبقي بقيتهم، فخرجوا على علي رضي الله عنه فقاتلهم فقتلهم، وهكذا كان ذلك النقاش العظيم.
ووجد الدهرية الذين يقولون: ما يهلكنا إلا الدهر، وليس هناك بعث ولا خالق.
فقام أبو حنيفة رحمه الله يقول لبعضهم: أخبروني عن سفينةٍ في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها وتعود بنفسها فترسي بنفسها وتفرغ وترجع كل ذلك من غير أن يدبرها أحد، سفينة تحمل وتسير وتفرغ وترجع بدون ربان ولا قبطان ولا عمال.
فقالوا: هذا محال لا يمكن أبداً!!
فقال أبو حنيفة : إذا كان هذا محالاً في سفينة، فكيف بهذا العالم كله علويه وسفليه؟ فبهتوا لما قال لهم: أنتم ما قبلتم هذا في سفينة كيف تقبلون العالم بغير مدبر؟!
فقام أبو عبد الكريم المعصومي بعدما انتهى ذاك، فحمد الله على المنبر وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وذكر الأدلة على وجود الله من خلقه، ثم قال: أنا أسأل هذا الشيوعي المتكلم هل له روحٌ في جسده أو عقل في مخه أم لا؟ فإن قال: نعم، فنقول: روحك هل لمستها؟ هل رأيتها؟ هل شممتها؟ فهي غير موجودة على مذهبك يا جاهل، فانبخع وكبر المسلمون وسبحوا واستبشروا، وخجل الضالون الشيوعيون، وما كانت الحجة؟ قالوا: إن لنا أستاذاً بـموسكو يستطيع أن يجيب عليك، وهذه دائماً حجتهم.
وقلت له: لا زلتم تعيرون أباكم آدم في قضية الخطيئة، وقد تاب الله عليه، وأنتم إلى الآن تقولون: إن عيسى صلب من أجل خطيئة آدم، والبشر أخذوا خطيئة آدم وصاروا ملوثين، ولا بد من الصلب.
وقلت له: ألا يمكن أن يغفر الله لعباده بطريقة أخرى غير هذه الطريقة، وكيف يرضى الله أن يكون ولده -حسب زعمكم- مغلوباً مصلوباً يبصق عليه اليهود ويجرونه على الشوك ويربطونه ويقتلونه والله ينظر إليه وما منعهم، ألا توجد طريقة ثانية أسهل عند الله لمغفرة الذنوب من هذه الطريقة الشنيعة في قتل ولده -حسب زعمكم- لكي يغفر ذنوب البشرية؟!
واستمر مسلسل المحنة، وكان الإمام أحمد رحمه الله معذباً مضيقاً عليه، لا يؤذن له بحضور صلاة الجمعة، حتى مات المأمون ، وتولى بعده المعتصم ومات، وتولى بعده الواثق ، وفي آخر أيام الواثق حدثت حادثة سببت تغيراً في منهج الواثق تجاه هذه البدعة؛ وذلك أن رجلاً قد أتي به مقيداً بالأصفاد يرفض القول بخلق القرآن، وهو شيخ جليل مهيب في القيود دخل فسلم فما رد عليه، قال: يا أمير المؤمنين! ما استعملت معي أدب الله عز وجل ولا أدب رسوله، قال الله عز وجل: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86] فقال: وعليك السلام، مُر بقيودي تحل أنا محبوس مقيد، أصلي في الحبس بتيمم فقد منعت من الماء، فحلوا قيوده.
وبعد أن صلى أقبل على ابن أبي دؤاد يسأله، ويقول له: خبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، أشيءٌ دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة دعوا إلى القول بخلق القرآن؛ ابن أبي دؤاد لا يمكن أن يكذب فيها، لأنه لو قال: دعا، فسيقال له: هات الحديث الذي يدل على أنهم دعوا فيه إلى القول بخلق القرآن، قال: لا -اضطر أن يقول: لا- قال: أعلمه أم جهله؟ لو قال: علمه، لكانت مشكلة، ولو قال: جهله، فذاك أشد إشكالاً، فسكت.
فقال: شيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ، وأنت تدعو الناس إليه وتحملهم عليه بالقوة؟ إذا لم يكن علمه رسول الله وعلمته أنت، فهذه مصيبة، فهل أنت أعلم بأمر الدين من النبي عليه الصلاة والسلام، لأنك تقول يا بن أبي دؤاد : إن خلق القرآن مسألة دينية، فمعناها أن هناك شيئاً من الدين ما علمه رسول الله، وإذا قلت لي: علمه فكيف علمه وسكت عن تبليغه، والله أخذ العهد على نبيه أن يبين للناس، فمعنى ذلك أنك تتهم نبيك أنه ما بلغ وكتم الوحي.
وبعد ذلك النقاش اهتزت ثقة الواثق بتلك العقيدة، وجعل يردد: لا خير في شيء ما دعا الناس إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وخفت المحنة في آخر زمن الواثق حتى جاء المتوكل وأزال هذه الفتنة.
فكان أحد هؤلاء في مجلس أحد الخلفاء، فقام ثمامة بن أشرس رحمه الله إليه فلطمه لطمةً سودت وجهه، فقال هذا الرجل: يا أمير المؤمنين! يفعل بي هذا في مجلسك؟! فقال ثمامة : وما فعلت بك؟ قال: لطمتني، قال: لعلي إنما دهنتك البان! والبان شجر معروف شديد الخضرة يستخرج منه دهن البان، قال: أنت متوهم ما ضربتك، وأنما دهنتك بالبان، ثم جعل يقول:
ولعل آدم أمنا والأب حوا في الحساب |
ولعل ما أبصرت من بيض الطيور هو الغراب |
وعساك حين قعدت قمت وحين جئت هو الذهاب |
وعسى البنفسج زنبقاً وعسى البهار هو الشذاب |
وعساك تأكل من قفاك وأنت تحسبه الخضاب |
قال: إن الله قال عن عيسى: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171] وهذا يعني أنه جزء من الله، ونحن نقول: ابن الله، فلماذا أغير عقيدتي، وقرآنكم يقول هذا؟!
فقال العلماء في مجلس هارون الرشيد : يا أمير المؤمنين إن الله يعلم أن هذا سيقول هذا الكلام ويحتج بهذه الآية، فأنزل في كتابه رداً عليه، قال: وما هو؟ قال: يقول الله عز وجل: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية:13] الهاء تعود على الله عز وجل، فهل السماوات والأرض هذه جزء منه؟
هل (مِن) لا تفيد إلا التبعيض، أو لها وظائف أخرى في اللغة غير التبعيض؟ إذا قلت: جئت من المدرسة هل يعني ذلك أنني جزء من المدرسة وبعض من كل؟
لا، وهكذا، فقال: هذا عيسى من الله، أي: هو الذي خلقه، مصدر خلق عيسى من الله، فعيسى روحٌ منه وليس من العدم ولم يخلقه غير الله، إنه من الله عز وجل.
وهذا جعل النصارى يثورون، وقالوا: وقر كبيرنا، كيف تقول له ذلك؟ وذلك لأن الرهبان لا يتزوجون ولا لهم أولاد، لأن الزواج عليهم حرام، ولا يتلاءم مع مكانتهم ولا يليق بهم، فقالوا: وقر كبيرنا، أما علمت أننا ننزه هذا عن الأهل والأولاد.
قال أبو بكر الباقلاني رحمه الله: فأنتم تنزهون هذا المخلوق عن الزوجة والولد وتعتبرون ذلك عيباً في حقه ولا تنزهون خالقكم وربكم عن الزوجة والولد فانبخعوا.
قال: وما ذاك يا أبا سعيد؟
قال: بلغني أنك تتكلم في الرب عز وجل وتصفه وتشبهه ؛ تقول: يد الله مثل يد المخلوقين، ووجه الله مثل وجه المخلوقين.
قال: نعم.
قال: ولم؟
قال: لأننا نظرنا في المخلوقين فما وجدنا مخلوقاً أجمل ولا أحسن ولا أزكى من الإنسان، فقلنا: هو يشبه الإنسان.
قال: رويدك يا بني حتى نتكلم في المخلوق قبل أن نتكلم في الخالق، اجعلنا نتكلم في المخلوق، أخبرني عن حديثٍ حدثنيه شعبة عن الشيباني ، قال: سمعت زراً قال: قال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18] قال: رأى جبريل له ستمائة جناح -والحديث في صحيح البخاري- قال عبد الرحمن بن مهدي : يا بني صف لي خلقاً له ستمائة جناح حتى نشبه جبريل عليه! فكر وفكر فما وجد مثله، فما تكلم.
قال: يا بني إني أهون عليك الأمر وأضع عنك خمسمائة وسبعة وتسعين جناح، فأخبرني عن مخلوق له ثلاثة أجنحة، وقل لي: أين يركب الجناح الثالث؟
فسكت وقال: يا أبا سعيد نحن قد عجزنا عن صفة المخلوق ونحن عن صفة الخالق أعجز وأعجز، أشهدك أني رجعت وأستغفر الله.
فانظر كيف تقام الحجة وكيف يكون البيان، وهكذا حصل النقاش بين أهل السنة والجهمية والأشاعرة الذين اقتبسوا من المعتزلة قضية نفي علو الله على خلقه.
فهذا الرجل بدأ يتخبط في الكلام أمام الناس، فقام له رجل من أتباع عقيدة السلف يقال له: أبو جعفر بن أبي علي الهمداني ، قال: يا إمام رويدك، الآن عندي شيء أريد أن تجيبني عنه: ما ضرورةٌ يجدها الواحد منا في نفسه إذا رفع يديه يقول: يا رب، أن يتجه بنفسه إلى العلو؟
لماذا الواحد لا يضع الكفينعلى اليمين، أو على اليسار ويقول: يا رب؟ لماذا الناس ترفع أكفها وتقول: يا رب، ونفس الداعي والمصلي والطفل والمرأة والكبير والصغير والعالم وغيره كلهم إذا دعوا الله بالاضطرار يرفعون إليه أيديهم، نبئنا نتخلص من الفوق والتحت.
فضرب الأستاذ بكمه على السرير وصاح: نجلس نجلس الكرسي، وقال: يا للحيرة، خرت الأوراق وقامت القيامة في المسجد ونزل ولم يجبني، وقال: الحيرة الحيرة الدهشة الدهشة.
بعد ذلك قال: حيرني الهمداني ، لأن الاتجاه إلى الله من جهة العلو بالفطرة، ماذا نجيب عن هذا؟ شيء فطري في نفوس الناس حتى الكفار، وهذا فرعون لما جاء يزعم أنه إله، ما قال لهامان: احفر لي نفقاً، إنما قال: ابن لي سلماً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [غافر:36-37] حتى فرعون لما ذهب يبحث عن الله بزعمه اتجه إلى جهة العلو.
وعن الذين ينكرون رؤية الله في الآخرة قال الشافعي : فلما أن حجب هؤلاء في السخط كان في ذلك دليلٌ على أنه يرى في الرضا، فإنه تعالى يقول: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] ما هي ميزة المؤمنين إذاً إذا كانوا يحجبون أيضا؟! لا بد لهم من ميزة، ولما علمنا أن الكفار محجوبون عرفنا أن المؤمنين غير محجوبين، وأنهم ينظرون إلى الله عز وجل في الجنة، وهم على الأرائك وعلى السرر.
ولذلك قال نصراني لمسلم يسأله: ما تقول في عيسى؟ فالمسلم فطن قال: أتقصد عيسى الذي بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: هو رسول الله نعرفه ونؤمن به، فسكت.
عجبي للمسيح بين النصـارى وإلى أي والدٍ نسبوه |
أسلموه إلى اليهود وقالوا إنهم بعد قتله صلبوه |
النصارى تقول عن اليهود: إنهم قتلوا عيسى.
فإذا كان ما تقولون حقاً وصحيحاً فأين كان أبوه |
ينظر إليهم وهم يذبحون ولده وما يفعل شيئاً، ما هذا الأب الذي ما فيه رحمة، قلبه قاسٍ، ولا يغير ساكناً ولا يمنعهم.
حين حل ابنه رهين الأعـادي أتراهم أرضوه أم أغضبوه |
يقول: هل اليهود لما صلبوا ولده أرضوه أم أغضبوه؟
فلئن كان راضياً بأذاهم فاحمدوهم لأنهم عذبوه |
يا نصارى قوموا قبلوا رءوس اليهود، لأنهم فعلوا شيئاً يرضي إلهكم.
وإذا كان ساخطاً فاتركوه واعبدوهم لأنهم غلبوه |
وإذا كان ساخطاً على قتل الولد، فاعبدوا اليهود لأنهم غلبوا الأب حسب زعمكم.
قام أحد الدكاترة ممن تخرج من بلاد الغرب يتكلم أمام الطلاب المسلمين، وقال: إلى متى تبقى هذه الخيمة وهذا الحجاب وهذه التقاليد البالية، متى تخلع وترمى وتطلع المرأة للنوادي وتعمل ما تشاء أمام الناس كما تقتضي الحضارة؟
فوقف أحد الطلاب موقفاً عظيماً والله، وقال له: يا دكتور، قال: نعم، قال: أنا عندي سؤال، قال: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140]؟ وهذا السؤال جزء من آية، ما استطاع الدكتور أن يقول: أنا أعلم، لأنه لو قالها لضرب بالنعال، قال: الله أعلم مني، فقال له: لقد قال الله الأعلم: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59] وقال الله عز وجل: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] وهو الأعلم نسمع كلامه أو نسمع كلامك؟! فبهت الذي كفر.
أقول: نحن في عصر كثر فيه العدوان على العقيدة والدين والأحكام الشرعية، وما أنزله الله، فوجب علينا أن نقوم ونرد ونحاج وندمغ الباطل بالحق، فإننا بالعلم الشرعي وبالحجة وبالقوة والجرأة نسكت هؤلاء الأعادي وهؤلاء المنافقين الذين يريدون أن يحرفوا الدين وأن يقصقصوه، وأن يجعلوه شيئاً مشوهاً لا علاقة له بالشريعة التي أنزلها رب العالمين، لا ينبغي لك أن تقرأ أو تسمع باطلاً وتسكت، وخصوصاً في المجالس، والعتب الشديد واللوم العميق على بعض الناس، ممن يكون في مجلس يهاجم فيه الدين ويهاجم حكم شرعي، وهو ساكت لا يرد شيئاً.
والقصد من هذا الموضوع إيقاظ الحمية للدفاع عن العقيدة والأحكام الشرعية في نفوس المسلمين، وأن يكون عندهم جرأة وقوة وعندهم علم وعندهم أسلوب.
جاءني واحد قال: أنا أشتغل في شركة مع النصارى، وهم يثيرون الشبهات، وأنا لغتي الإنجليزية ضعيفة، وهم يتكلمون ويتكلموا وأنا لا أعرف إلا كلمتين، فقلت: يا أخي لا يصلح أن تناقشهم إطلاقاً، إذا لم يكن عندك لغة فكيف تناقش؟ لو جئت تناقش فسيغلبونك بالصوت وباللغة، ولذلك امتنع عن النقاش وائت بغيرك ممن يعلم لسان القوم ليفحمهم، لا يصلح لواحد أن يدخل في معركة وليس معه سلاح يقاتل به.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هداة مهتدين ومن الذين قضوا بالحق وبه يعدلون، وأن يرزقنا الحجة والغلبة على أعداء الدين.
وأما بالنسبة للقواعد فهي كثيرة فمنها:
أولاً: إذا كنت مدعياً فهات الدليل لأن الله قال: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ [النمل:64].
ثانياً: أثبت صحة ما تنقل: لأن بعض الناس قد يأتون بأدلة لكنها غير صحيحة.
ثالثاً: لا تبتر الدليل وائت به كاملاً: هذه قواعد يلتزم بها كل الأطراف في المناقشة والمناظرة؛ لا يجوز أن تقول: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] وتقف أو تقول: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ [النساء:43] وتقف، بل ائت بالدليل كاملاً، ولذلك غيلان الدمشقي الضال لما جاء عند عمر بن عبد العزيز يحتج عليه بآية: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3] في قضية القدر، قال له عمر بن عبد العزيز : اقرأ آخر السورة ففيها إثبات المشيئة للعبد مع مشيئة الرب، قال: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] إذن للعبد مشيئة: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [الإنسان:30-31].
رابعاً: الحق لا يعرف بالرجال: اعرف الحق تعرف أهله، بعض الناس يقولون: هذا الكلام صحيح، لأن فلاناً قاله، ودليلهم أنه قال.
خامساً: الحق واحدٌ لا يختلف: من عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى الآن الحق في المسائل واحد لا يختلف إلى أن تقوم الساعة.
سادساً: وجوب عرض أقوال الناس على الشرع؛ هذا يقول وأنت تقول وأنا أقول، لكن في النهاية نعرف صحة الأقوال من عرضها على الشرع.
سابعاً: السكوت عما سكت الله عنه ورسوله؛ مثلما تقدم في قضية المحاجة في مسألة القرآن.
ثامناً: الباطل لا يرد بالباطل؛ القدرية قالوا: العبد يخلق فعل نفسه، فجاءت الجبرية وقالت لهم: العبد ليس له مشيئة أصلاً مجبور ضلال بضلال.
جاء أهل الرفض سبوا الصحابة وألهوا آل البيت، فجاء الناصبة وسبوا أهل البيت بالمقابل، فردوا بدعة ببدعة، كقول القائلين: سبوا أئمتهم كما سبوا أئمتكم، ويمكن أن تكون أئمتهم أئمة لنا أهل السنة ، فلا يجوز رد البدعة بالبدعة ولا رد الباطل بالباطل.
تاسعاً: عدم العلم بالدليل لا يعني عدم وجود الدليل: فأثناء النقاش يأتي أحدهم ويقول: لا يوجد هذا الكلام، ولم أسمعه، فيقال له: لم تسمعه لكنه موجود فكونك لم تعرفه لا يعني أنه غير موجود.
عاشراً: الاستدلال على المسألة المختلف فيها إنما يكون بالدليل المتفق عليه: ولذلك لو بدأت مع يهودي أو مع نصراني أو مع ملحد أو مع مبتدع في نقاش فلابد أن تأتي بدليل متفق عليه أولاً، قل: أليس أنا وأنت نتفق على هذا الشيء، ثم تتوصل من هذا الاتفاق إلى إثبات الأشياء التي يختلف معك فيها.
الحادي عشر: الحجة الصحيحة لا يقدح فيها عجز صاحبها عن تقريرها: الحجة الصحيحة لا يقدح في صحتها أن صحابها عاجز عن التعبير، ولذلك بعض الناس يستغل أن صاحب الحق ما عنده لسان مضبوط، ويقول: أنت مهزوم وأنت ضعيف، مع أن هذا فقط عسرٌ في اللسان، وإلا فحجته صحيحة، فيجب أن يكون عند الإنسان تجرد وعدم اتباع للهوى.
أولاً: الإخلاص لله تعالى: وهذا أصل الأصول؛ وعند الله لا يبقى إلا ما أريد به وجهه.
ثانياً: البدء بذكر الله والثناء عليه.
ثالثاً: التأدب في الجلوس.
رابعاً: اجتناب الهوى: قال الشافعي : ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ؛ سبحان الله! تجرد عن الهوى.
خامساً: الرجوع إلى الحق إذا تبين: ذكر علي رضي الله عنه في مسألة من المسائل جواباً، فقام رجلٌ ورد عليه بالدليل، فقال علي : [أصبتَ وأخطأتُ وفوق كل ذي علم عليم، أرجع إلى الحق صاغراً] اعتراف كامل وصريح وواضح، وما وجد أن الاعتراف سينقص من قدره، بالعكس كبر علي رضي الله عنه في أعيننا لما نقلت القصة أكثر وارتفع شأنه أكثر بهذا.
سادساً: التحلي بالحلم والصبر.
سابعاً: التريث: فقد يتراجع المجادل أو ينتقل إلى دليل آخر ويترك هذا، لأنه تبين له فساد الاستدلال به، أو يخطر أنت ببالك دليل آخر أو تكتشف خللاً فيما كنت تريد أن تقوله.
ثامناً: التزام الصدق: فلا نكذب، وهناك من يقول: في الكتاب الفلاني، وهو ليس موجوداً في الكتاب الفلاني، لماذا الكذب؟
تاسعاً: الترفق بالخصم: لأن المقصود إقناعه وهدايته، وليس فقط تحطيمه، فبعض الناس يحرص على كسب الموقف، والأهم من هذا كسب الرجل نفسه، كسب الرجل الآخر أهم من أنك تكسب الموقف وتظهره في مظهر العاجز، هذا يكون مع المعاندين الرافضين للحق تماماً فهذا يفحم أمام الناس حتى لا يغتروا به، لكن ابتداءً عندما نناقش من يخالفنا في شيء فينبغي أن نكسبه إلينا ولا نحطم رأسه أو نذله.
وعاشراً: حسن الاستماع لكلام الخصم، وأن تمهله حتى يفضي إليك بحديثه.
الحادي عشر: الإنصاف: شيخ الإسلام ابن تيمية عندما تكلم في بعض الأشخاص مثل: الجويني والباقلاني والمتكلمين قال: ثم ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة وحسنات مبرورة، ولهم في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم وتكلم فيهم بعلمٍ وصدقٍ وعدلٍ وإنصاف، فهو رحمه الله ينصف المخالفين.
فإذا كان عند المخالفين مواقف مشكورة، نقول: عندهم أعمال مشكورة، أو كان لهم مواقف مبرورة، نقول: عندهم مواقف مبرورة، نقول عن أحدهم مثلاً: عنده أخطاء مثلاً في الصفات فهو مؤول، لكن عنده ردود جيدة على النصارى والملاحدة مثلاً، الإنصاف مهم، الإنصاف هو الذي يجعل الخصم يتبعك، وأتباع الخصم يسلمون لك، لكن عندما يرونك تتهجم على شيخهم بدون أدب، وتخطئه في كل ما يقول، لا يقبلون قولك.
الثاني عشر: إصلاح المنطق: أقصد بالمنطق الألفاظ والكلام والأسلوب والبيان والبلاغة، وهناك علم مهم جداً اسمه علم البيان، يعلمك كيف تعبر عن المعنى التي في نفسك بعبارة صحيحة، وهناك كتب له، وهو من علوم الآلة المهمة وبه ترى أشياء كثيرة من عظمة كتاب الله تعالى وإعجاز هذا الكلام الذي تكلم به سبحانه وتعالى: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [القصص:34].
والجواب في الأسد لا في الأشد، بعض الناس يظنون أن رفع الصوت هو الذي يفحم، والذي يفحم هو العبارة القوية الصحيحة المتينة في مكانها المناسب، الجواب في الأسد لا في الأشد.
الثالث عشر: تجنب المماراة وهذه لها منزلة في الجنة.
الرابع عشر: أن اختلاف الرأي لا يوجب فساد الود بين الإخوان، نحن الآن نتناقش في مسألة فقهية ليس فقط في مسائل عقيدة مع الضالين، حتى مع إخواننا في الله نتناقش في مسائل فقهية؛ قراءة الفاتحة للمأموم خلف الإمام في الصلاة الجهرية هل تشرع أو لا تشرع، الزكاة في ذهب الحلي هل هي واجبة أو غير واجبة، مسائل خلافية كثيرة ومناقشات، ينبغي أن تكون مناقشتنا العلمية بأسلوب مؤدب ولا تفسد ما بيننا من العلاقات، ولذلك يقول يونس الصدفي : ما رأيت أعقل من الشافعي ، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في المسألة؟!
وكذلك يقول العباس العنبري : كنت عند أحمد بن حنبل وجاء علي بن المديني وهو على دابة، فتناظرا في مسألة وارتفعت الأصوات حتى خفت أن يقع بينها جفاء، فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه؛ أخذ بركاب الدابة وكرمه وعززه وهو ينصرف، الاختلاف الفقهي ليس معناه فساد العلاقة الأخوية، يبقى الأدب والاحترام والحشمة للأخ المسلم وإن اختلفنا معه في مسائل فقهية علمية.
وهذا من أدب السلف المفقود بين كثيرٍ من الذين يعيشون من الخلف.
السادس عشر: تجنب ما يشوش الفكر أثناء النقاش: ألا يكون مثلاً محصوراً، أو فيه جوع، أو فيه تخمة.
السابع عشر: نصب حكم يحكم بينكما: لأن بعض الأطراف قد تنكر ما تقول، يقول أحدهم: ما قلت هذا القول وأنت تقولت علي، تقول له: قبل قليل قلت، والآن تراجعت، يقول: أنا ما قلت أصلاً، إذاً ضع مسجلة، أو من يكتب.
الثامن عشر: لا بأس باستعمال الأمثال: خصوصاً عندما تناقش بعض المبتدعة تقول في النهاية إذا انقطع: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [الإسراء:81].. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ [الأنبياء:18] يأتي لك بحجة ضعيفة متهافتة تقول له: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت:41] وحجتك مثل بيت العنكبوت وكسراب بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً، فلا بأس باستعمال الأمثال من القرآن والسنة وكلام العرب.
والتاسع عشر: تجنب مناظرة السفيه والجاهل، لأنه لا توجد فائدة من مناظرة السفهاء.
العشرون: ملخص لهذه الآداب أسوقها إليكم من نونية الشيخ/ أبي محمد عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني ، النونية معروفة بـنونية القحطاني من أحلى وأعذب ما قيل:
لا تفن عمرك في الجدال مخاصماً إن الجدال يخل بالأديان |
واحذر مجادلة الرجال فإنها تدعو إلى الشحناء والشنآن |
وإذا اضطررت إلى الجدال ولم تجد لك مهرباً وتلاقت الصفان |
فاجعل كتاب الله درعاً سابغاً والشرع سيفك وابد في الميدان |
والسنة البيضاء دونك جنةً واركب جواد العزم في الجولان |
واثبت بصبرك تحت ألوية الهدى فالصبر أوثق عدة الإنسان |
واطعن برمح الحق كل معاندٍ لله در الفارس الطعان |
واحمل بسيف الصدق حملة مخلصٍ متجردٍ لله غير جبان |
واحذر بجهدك مكر خصمك إنه كالثعلب البري في الروغان |
أصل الجدال من السؤال وفرعه حسن الجواب بأحسن التبيان |
أحياناً تبدأ النقاش فتوجه إلى الخصم سؤالاً.
لا تلتفت عند السؤال ولا تعد لفظ السؤال كلاهما عيبان |
وإذا غلبت الخصم لا تهزأ به فالعجب يخمد جمرة الإحسان |
فلربما انهزم المحارب عامداً ثم انثنى قصداً على الفرسان |
واسكت إذا وقع الخصوم وقعقعوا فلربما ألقوك في بحران |
ولربما ضحك الخصوم لدهشة فاثبت ولا تنكل عن البرهان |
فإذا أطالوا في الكلام فقـل لهم إن البلاغة لجمت ببيان |
لا تغضبن إذا سئلت ولا تصح فكلاهما خلقان مذمومان |
واحذر مناظرة بمجلس خيفـةٍ حتى تبدل خيفةً بأمان |
ناظر أديباً منصفاً لك عاقـلاً وانصفه أنت بحسب ما تريان |
ويكون بينكما حكيمٌ حاكماً عدلاً إذا جئتاه تحتكمان |
في صحيح البخاري عن حذيفة قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، فقال أحدهما لصحابه: لا تفعل فوالله لئن كان نبياً فلاعناه، فلن نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، والنبي عليه الصلاة والسلام خرج مع الحسن والحسين وفاطمة كما أمر الله: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ [آل عمران:61] فما استطاعوا أن يباهلوه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر