يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعـد:
فإن يوم القيامة يوم عظيم.. يوم كان شره مستطيراً، وكان يوماً عبوساً قمطريراً، وطول ذلك اليوم خمسون ألف سنة، ذكره الله لنا في كتابه لنحذر شره، وذكَّر عباده به ليستعدوا لذلك اليوم لئلا يقول أحد: يا رب! لم تخبرني بما يكون فيه، فقد أخبرنا الله بالتفصيل في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن ذكرنا في خطبة ماضية الحشر وبعض ما يكون فيه، وسنذكر في هذه الخطبة -إن شاء الله- أمراً واحداً من الأمور التي تكون في ذلك اليوم، وهو الصراط.. ولا شك أن التفكر في أهوال الآخرة هو الضامن لإصلاح النفوس وتغيير الحال إلى الأفضل.
العظة باليوم الآخر هي التي تغير سلوك الناس.. توقظ الغافلين، وتنبه السادرين في غيهم.
عباد الله: إذا جمع الله الأولين والآخرين، وحُشِرَ الناس، وأخذ بالكفار إلى النار، يبقى من ينتسب إلى الإسلام ينتظرون الله تعالى، فيأتيهم الله عزَّ وجلَّ في صورة غير صورته -كما جاء في صحيح البخاري- يمتحنهم، والمؤمنون يعرفون ربهم، فإذا جاء في صورته سجد المسلمون الذين كانوا يسجدون لله في الدنيا؛ لأنهم عرفوا ربهم، وأما المنافقون الذين كانوا يسجدون رياءً يجعل الله ظهر الواحد منهم طبقاً واحداً فلا يستطيع السجود، وهذا الامتحان لكشف المنافقين من المؤمنين، ثم إن الله تعالى يدعوهم فيتبعونه، فيأخذهم الله عزَّ وجل إلى شفير جهنم، ويستشفع النبي صلى الله عليه وسلم، فيأُذن بضرب الجسر على متن جهنم، وهو الصراط.
فالصراط: هو الجسر الممدود على متن جهنم، وهو الطريق الذي سيعبر عليه الناس، والصراط حتم واجب الإيمان به، قامت الأدلة عليه من الكتاب والسنة، قال الطحاوي رحمه الله في عقيدة أهل السنة والجماعة: ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان، فالميزان من عقيدة أهل السنة والجماعة لا بد من الإيمان به.
فالصراط: هو جسر جهنم الذي سيعبر عليه الناس، وتكليفهم بعبوره هو اضطرارهم إليه حيث لا خيار لهم فيه، بل لا بد لهم من عبوره، فالأوامر يوم القيامة ملزمة للجميع لا يستطيع أحدٌ أن يتخلف عن تنفيذ أمر الله أبداً، فإذا شق عن قبورهم دعاهم الداعي إلى أرض المحشر مرغمين، يجب عليهم أن يجتمعوا إلى ذلك الموقف، وإذا ناداهم الله إلى الجسر اتبعوا ذلك مرغمين لا خيار لهم، وإذا أمروا بعبور الصراط فهم مرغمون على ذلك لا خيار لهم.. الأوامر يوم القيامة لا مجال للنكوص عنها أو التلكؤ عن تنفيذها.
أولاً: أنه زلقٌ؛ فقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قلنا: (ما الجسر يا رسول الله؟ قال: مدحضة مزلة) ومعنى مدحضة: أي: تزلق فيه الأقدام.
ومزلة أي: تسقط فيه الأجساد والأرجل.
إذاً: أول صفة للصراط أنه مضروب على متن جهنم من الطرف إلى الطرف.
أتدرون -يا عباد الله- ما سعة جهنم؟ يؤتى بها ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، وعمقها إذا رمي الحجر من شفيرها لا يصل إلى القعر إلا بعد سبعين عاماً.. وإذا كان الواحد من أهل النار ضرسه كالجبل، وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعين سنة من الدم والقيح، فكيف سيكون سعة جهنم؟
يانياً: أ،ه دحض مزلة.
ثالثاً: أن له جنبتين وحافتين كما جاء في حديث أبي بكرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل الناس على الصراط يوم القيامة، فتتقادع بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار)، وهذا حديث حسن، أخرجه ابن أبي عاصم رحمه الله تعالى وغيره.
ومعنى: تتقادع بهم جنبتا الصراط: أي: يسقط بعضهم فوق بعض.
وإذا جاء في بعض صفات هذا الصراط أنه أدق من الشعر فهل يكون لبعض الناس دون بعض؟ أو يكون في مرحلة دون مرحلة؟ أو هو من علم الله بالغيب الذي لا يمكن أن ندركه؟
كيف يكون له جنبتان وهو أدق من الشعرة؟
نقول: إن الله على كل شيءٍ قدير، فتتقادع جنبتا الصراط بالناس تقادع الفراش في النار، تسقطهم فيها بعضهم فوق بعض؛ تتلاعب بالناس تلاعباً.
رابعاً: أن له كلاليب على حافتيه؛ فقد روى مسلم -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به)، وفي حديث أبي سعيد : (قلنا: يا رسول الله! ما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء، تكون بـنجد يقال لها: السعدان) رواه مسلم.
وفي البخاري عن أبي هريرة : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة الصراط: (وبه كلاليب مثل شوك السعدان.. أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير ألا يعلم قدر عظمها إلا الله).
قال الشراح: الكلاليب: جمع كلوب، وهو حديدة معطوفة الرأس يعلق عليها اللحم.
والخطاف: الحديدة المعوجة كالكلوب يختطف بها الشيء.
والحسكة: شوكةٌ صلبةٌ معروفة؛ وقيل: نبات له ثمر خشن يتعلق بأصواف الغنم.
والمفلطحة: العريضة.
والعقيفاء: المعوجة.
وشوك السعدان: نبات ذو شوك يَرعى البدو إبلهم عنده، وهو مشهور بـنجد ، يقال: مرعى ولا كالسعدان.
أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرب لهم كيف تعلق هذه الكلاليب بأجساد الناس، وكيف تتخطف هذه الخطاطيف الناس، وتعلق بأجسادهم مثل شوك السعدان الذي يعلق، وإذا نشب لا يخرج.
خامساً: أن حده مثل حد الموسى أو حد السيف؛ كما جاء في حديث سلمان رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من يجيز على هذا؟ فيقول الرب عزَّ وجلَّ: من شئت من خلقي. فيقولون: ما عبدناك حق عبادتك) أخرجه الحاكم وإسناده صحيح.
وفي حديث ابن مسعود الطويل: ) والصراط كحد السيف دحض مزلة ).
إذاً: هو حاد جداً مثل حد السيف أو الموس، وبه خطاطيف وكلاليب تنهش الناس يميناً وشمالاً، ومن أسفل حدٌ كحد السيف يقطع من يمر عليه، وهو يروغ بالناس تتقاذفهم جنبتاه، فيتساقطون في جهنم إلا من شاء الله.
أما المرتدون والكفرة فقد أُخذ بهم إلى جهنم من قبل، فلا مرور لهم على الصراط.
وفي حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فيعطون نورهم على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه يضيئ كل ما أمامه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه؛ يضيء مرة ويطفئ مرة، إذا أضاء قدَّم قدمه وإذا أطفئ قام) لا يستطيع أن يمشي لأنه نور في تلك الظلمة، فإذا أضاء له مشى، وإذا أظلم قام واقفاً؛ لأنه إذا غامر بالمشي ربما يسقط؛ فيقوم على حد السيف والكلاليب من حوله، يطفأ نوره مرة ويوقد مرة بحسب العمل، أما أولياء الله فنورهم فوق الجبل، وفي ذلك الموقف الرهيب ينطفئ نور المنافقين فيسقطون -كما تقدم- وينجو المؤمنون.
جاء في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويمرون على الصراط؛ والصراط كحد السيف دحض مزلة، فيقال لهم: امضوا على قدر نوركم؛ فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب) هناك أناس يمرون على الصراط من الجهة إلى الجهة الأخرى كانقضاض الكوكب.. هل رأيت النجم عندما يرمى به في السماء بغاية السرعة مع المسافة الشاسعة؟ كذلك هم.
وجاء في صحيح مسلم في صفة سرعة هؤلاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيمر أولكم كالبرق)، ولذلك لا يتأثر هؤلاء بجهنم مطلقاً؛ لا بخطاطيف، ولا بكلاليب، ولا بحسك، ولا بحد السيف، ولا بلهب النار، وهؤلاء هم أولياء الله، وكبار الصالحين، والعلماء العاملون.. (قلت: بأبي أنت وأمي! أي شيء كمر البرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح، ثم كمر الطير وشد الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً) زحف على حد الموسى، أو حد السيف، مع الخطاطيف من أول جهنم إلى آخرها، هكذا جزاء الله تعالى.. هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60]، ويقول الله في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، يكفي هذا الموقف.. موقف الصراط حتى نغير كل الطريقة التي نسير عليها، ومن كان يراوغ في الدنيا فليعتدل، ومن كان يعصي الله فليتب، والله لو عقلنا الصراط فقط من دون عذاب جهنم لاعتدل سلوكنا وتغير.
ثم يمر آخر واحد ويزحف زحفاً، جاء في حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يرد الناس كلهم النار، ثم يصدرون منها بأعمالهم، فأولهم كلمع البرق، ثم كمر الريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب، ثم كشد الرجال، ثم كمشيهم) وهذا على حسب الأعمال، فكلما كانت حسناتك أكثر كلما كان مرورك أسرع، وكلما كانت حسناتك أقل كلما كان مرورك أبطأ.
وهكذا تكون السرعة على متن جهنم حسب أعمال العباد، حتى يكون آخر الناس مروراً على الصراط بعد الزاحف رجل آخر هو المسحوب؛ كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حتى يمر آخرهم يُسحب سحباً) رواه البخاري ، يسحب على حد السيف سحباً حتى يجاز به إلى الطرف الآخر على متن جهنم.
وجاء في وصف آخر رجل في حديث ابن مسعود، قال: (ثم يكون آخرهم رجلاً يتلبط على بطنه، يقول: يا رب! لم أبطأت بي؟ فيقول: إنما أبطأ بك عملك) وهو صحيح عن ابن مسعود ، وهذا لا يقال: إنه من جهة الرأي، فله حكم الرفع.
وهذا الأخير مع ما لقي من العذاب الأليم إذا جاز الصراط عدَّها نعمة ما بعدها نعمة، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آخر من يدخل الجنة رجلٌ يمشي على الصراط، فينكب مرةً ويمشي مرةً، تسفعه النار مرةً، فإذا جاوز الصراط التفت إليها -إلى جهنم- فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله -انتبهوا لعبارة الرجل؛ عبارة آخر واحد يجوز جهنم مع ما لاقاه من العذاب الأليم ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين)، إلى هذه الدرجة يستشعر الرجل النعمة، ويظن أنه ما أحد أعطي نعمة مثله من الأولين والآخرين من الأهوال التي رآها، فكيف بالذين يسقطون في النار؟!
قال العلماء: لعظم شأنهما عند الله، وضخامة أمرهما، وعظم حقهما، يوقفان هناك عن يمين الصراط وعن شماله؛ لأجل أن تكونا شاهدتين للأمين وعلى الخائن، وللواصل وعلى القاطع.. يحاجان عن المحق فينجو، ويشهدان على المبطل فيهلك؛ فكل من خان في أمانة فليحذر، وكل من هو قاطع للرحم فلينتبه.
وفي رواية أبي هريرة عند مسلم : (إلى أن تمر أمتي كلها، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم)، وهذا من شفقته عليه الصلاة والسلام على أمته، وكذلك الأنبياء كما جاء في رواية أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والأنبياء بجنبتي الصراط، وأكثر قولهم: اللهم سلِّم سلِّم).
نسأل الله تعالى أن يجعلنا في ذلك اليوم من الناجين، اللهم ثبت أقدامنا يوم تزل الأقدام، اللهم ثبت أقدامنا على الصراط يوم تزل الأقدام، وعافنا في الدنيا والآخرة يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله: أما حال الناس على الصراط فهم بين ناجٍ وهالك.
ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في نتيجة مرور الناس، فقال: (فناجٍ مسلم، ومخدوش مكلَم، ومكردس في النار)، وجاء في حديث أبي سعيد عند ابن ماجة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تصنيف العابرين على الصراط: (فناجٍ مسلم، ومخدوجٌ به ثم ناجٍ، ومحتبسٌ به ومنكوس فيها)، وفي رواية البخاري (فناجٍ مسلم، وناجٍ مخدوش، ومكدوس في نار جهنم)، فاتضح أن الذين يمرون على الصراط ينقسمون إلى أقسام:
أولاً: ناجٍ بلا خدش؛ لا تمس منه الكلالبيب والخطاطيف شيئاً، ولا تصيبه النار مطلقا؛ قال الله تعالى: أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101]، وقال تعالى: لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [الأنبياء:102]، وذلك من سرعة المرور لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء:102-103]، وأي فزعٍ أكبر من فزع ذلك اليوم؟!!
أولاً: ناج بلا خدش.
ثانياً: هالكٌ من أول وهلة، ساقط في النار.
ثالثاً: متوسط بينهما، يصاب ثم ينجو، وكذلك جاء في رواية ابن ماجة: المحتبس به؛ أي: يحبس على الصراط حتى يطلق سراحه.
وأما الناجي بلا خدشٍ، فقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ناجٍ مسلَّم) وهؤلاء الذين يعطون نوراً عظيماً لأجل أعمالهم، فينجون ويجوزون، قال صلى الله عليه وسلم في حديث جابر : (ثم ينجوا المؤمنون، فتنجو أول زمرةٍ وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفاً لا يحاسبون)، وهؤلاء هم أولياء الله الذين تعبوا في الدنيا.. قاموا الليالي، وصاموا الأيام، وعفوا عن الحرام، وعملوا لله، وجاهدوا في سبيل الله، بوارق السيوف على رءوسهم، فهؤلاء لا يفوت أجرهم عند الله.. وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء:13].
قال (ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء)، وأما الهالك من أول وهلة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصفهم بأوصاف، فقال: ( مكردس في النار )، وقال: (منكوس فيها )، وقال: ) مكدوس في نار جهنم )، ومن هؤلاء المنافقون، والناس الذين زادت سيئاتهم على حسناتهم، فهؤلاء يسقطون في النار ويعذبون حتى يأتي فرج الله، أما المنافقون فهم في الدرك الأسفل من جهنم.
قال العلماء: المكردس الذي جمعت يداه ورجلاه وألقي إلى موضع.
والمنكوس: المقلوب على رأسه؛ فرأسه إلى أسفل، ورجلاه إلى أعلى في نار جهنم.
والمكدوس هو من تكدس الإنسان إذا دفع من ورائه فيسقط.
والمكدوش: الذي يساق سوقاً شديداً حتى يوقع فيها.
هؤلاء الذين أوبقتهم أعمالهم.
أما الصنف الثالث؛ الذي يصاب ثم ينجو: فهؤلاء وصفهم بقوله: (مخدوش مكلم)، وفي رواية: (مخدوج به)، وفي رواية: (ومنهم المجازى حتى ينجى) رواه مسلم .
ومعنى ذلك: أن هذا الصنف الثالث تتخطفهم الكلاليب، فتجرح أجسادهم، ثم ينجون بعد ذلك.
ومعنى مخدوشٌ مكلم: خدش الجلد قشره.
ومعنى مخموش: ممزوق، والمخدوش هو المخمش الممزق، والخمش تمزيق الوجه بالأظافير، والمكلم أي: المجروح.
ومخدوجٌ به: من الخداج وهو النقصان؛ ومعنى ذلك: أن كلاليب الصراط والخطاطيف تجرحه وتنهشه يميناً وشمالاً، فتنقص من جسده، ويجرح طيلة الطريق وهو يعبر من أول جهنم إلى آخرها، جراحٌ وخدشٌ وخدج، أي: نقصان ينقص من جسده بحسب ما يسحب الخطاطيف والكلاليب من أجسادهم، فإذا نجوا بعد ذلك يقولون كما مر في الرواية: (الحمد لله الذي نجانا منكِ بعد أن أراناكِ، لقد أعطانا الله ما لم يعطِ أحداً) هذا كلامهم إذا نجوا.
وقد نصب الصراط لكي يجوزوا فمنهم من يكب على الشمال |
ومنهم من يسير لدار عدن تلقاه العرائس بالغوالي |
يقول له المهيمن يا وليي غفرت لك الذنوب فلا تبال |
قال القرطبي رحمه الله: فتفكر الآن فيما يحل بك من الفزع بفؤادك، إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها، وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك، واضطراب قلبك، وتزلزل قدمك، وثقل ظهرك بالأوزار المانعة لك من المشي على بساط الأرض فضلاً عن حدة الصراط، فكيف بك إذا وضعت عليك إحدى رجليك فأحسست بحدته، واضطررت إلى أن ترفع القدم الثاني، والخلائق بين يديك يزلون ويعثرون، وتتناولهم الخطاطيف والكلاليب، وأنت تنظر إليهم كيف ينكسون فتسفل إلى جهة النار رءوسهم، وتعلوا أرجلهم، فياله من منظرٍ ما أفظعه! ومرتقىً ما أصعبه! ومجازٍ ما أضيقه!.. وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة:197].
عباد الله: إن الورود على الصراط هو المقصود بقوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72] فما من أحدٍ منا إلا وهو سيمر على جهنم؛ فإن نجا عرف نعمة الله عليه، وإن هلك ففي النار، فليس لأحدٍ -حتى الأنبياء- إلا وهم يمرون على جهنم ولا بد؛ لأن الله قال: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً [مريم:71] فلا بد من الورود على جهنم؛ وقد فسر كثيرٌ من العلماء الورود بالمرور على الصراط، وقال بعضهم: بالدخول ولكنها لا تؤذي المؤمنين فينجيهم الله تعالى.. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72].
عباد الله: من أراد النجاة فلينجُ من الآن قبل أن يندم حين فوات الأوان.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا في ذلك الموقف من الناجين، وأن يرزقنا شفاعته عند الصراط؛ فإن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قلت: يا رسول الله! فأين أطلبك؟ -هؤلاء الأولون والآخرون أين أجدك وسط هؤلاء؟- قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط. قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: فاطلبني عند الميزان. قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: فاطلبني عند الحوض فإني لا أخطئ هذه الثلاثة المواطن) رواه الترمذي وهو حديث حسن. فمن وفقه الله بمحبته للنبي عليه الصلاة والسلام، ومتابعته لسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وإيمانه بما جاء به صلى الله عليه وسلم، فإن الله يرزقه شفاعة نبيه في تلك المواطن العظيمة.
فهانحن قد عرفنا حال الصراط فقط، ولا نتكلم الآن عن عذاب جهنم بل عن الصراط فقط، فماذا أعددنا لذلك اليوم يا عباد الله؟ ماذا أعددنا للجواز على الصراط؟
نسأل الله تعالى أن يردنا إلى الدين رداً جميلاً، اللهم عافنا واعف عنا، نحن عبادك المقصرون المحتاجون إلى رحمتك فلا تحرمنا من رحمتك يا رب العالمين، وأنقذنا على الصراط يا أرحم الراحمين، وارزقنا الفوز بجنات النعيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر